والسمع والبصر كذلك مما تقر به العقول، وقد جاء به السمع، وإن كان بعض أهل العلم يرى أن السمع والبصر موقوفان على الوحي لأنهما سمعيان فقط؛ لكن الصحيح أن العقول السليمة تقتضي إثبات السمع والبصر لله عز وجل كإثبات العلم.
أما اليد واليدان فإنما تثبت بالخبر فقط فهي سمعية؛ لأنها لا تدخل في مدارك العقل ولا يد للعقل في إثباتها قبل أن تثبت في السمع وترد في الخبر الصحيح، فلما وردت بالخبر الصحيح فلابد أن يقر بها العقل؛ لأن إدراك العقل على نوعين:
النوع الأول: ما يدركه العقل ابتداء، وهذا يشمل جميع صفات الكمال لله عز وجل على جهة الإجمال، وكثير من صفات الكمال على جهة الإفراد.
النوع الثاني: ما لا يستطيع العقل أن ينفيه، وإذا ثبت فإنه يؤيده، وهي الصفات الخبرية مثل الاستواء والنزول والمجيء والرضا والغضب واليد، فهذه الصفات خبرية لا ينفيها العقل، ولا يستطيع أن يثبتها استقلالاً لو لم ترد بالكتاب والسنة؛ لأنها خبرية بحتة تتعلق بالأفعال التي لا يمكن استنباطها بالعقول ابتداء، أو تتعلق بالصفات الذاتية التي لا يمكن استنباطها بالعقول ابتداء، لكن إذا ثبتت فإن العقل يؤيدها ولا ينفيها.
ولذلك لما لم يوفق أهل الأهواء من المعتزلة والجهمية ومتكلمة الأشاعرة إلى هذا التصور وقعوا في الخلط، فإنهم ظنوا ألا يثبت لله عز وجل إلا ما أثبته العقل استقلالاً، وأن ما لم يثبته العقل استقلالاً فإنه لابد له من تأويل. وهذا غلط! فإننا نقول: ما يدخل في مدارك العقل على نوعين: نوع يثبت ابتداء كالعلم والحكمة والإرادة لله عز وجل، ونوع لا يثبت ابتداء لكنه إذا ورد لا يملك العقل أن ينفيه، أي أنه ليس في إثباته ما يناقض العقل، وهذا كالصفات الخبرية.
ثم قال: (علمه نافذ فيهم، فلم يمنعه علمه فيهم أن هداهم للإسلام ومن به عليهم كرماً وجوداً وتفضلاً).
يشير بهذا إلى أن الله عز وجل حينما قدر الهداية للمهتدين فذلك لسابق علمه بأنهم سيسلكون طريق المهتدين، وكذلك العكس؛ فإن الله عز وجل حينما قدر الشقاوة على أهل الشقاوة فإن ذلك راجع إلى علمه عز وجل السابق بما هم فاعلون، فقدر مصائرهم بنتائج أعمالهم التي يعلم أنهم سيعملونها.
يقال: أبشر يا حبيب الله برضا الله والجنة.
ويقال: أبشر يا عدو الله بغضب الله والنار.
ويقال: أبشر يا عبد الله بالجنة بعد الإسلام. هذا قول ابن عباس ].
يظهر لي والله أعلم أنه يقصد انقسام الناس في مصائرهم يوم القيامة وأنها على ثلاثة أقسام: الأول أهل الجنة الذين يدخلون الجنة ابتداء برحمة الله وفضله، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.
والقسم الثاني: الذين يهلكون فيدخلون النار نسأل الله أن يعيذنا من النار.
والقسم الثالث هم أهل الكبائر الذين يستحقون العذاب بأعمالهم ثم يطهرهم الله عز وجل في النار ويخرجون بشفاعات الشافعين التي يأذن الله بها وبرحمته عز وجل.
فالعبارة فيها نوع من اللبس في الصنف الثالث أو البشارة الثالثة، قال: (ويقال: أبشر يا عبد الله بالجنة بعد الإسلام) فالعبارة فيها اضطراب وركاكة.
ولذلك لا يستبعد ما ذكره المحقق في كلمة الإسلام قال: وبدل كلمة الإسلام كلمة (الانتقام) وإن كانت (الانتقام) غير لائقة لكنها واردة في الشرع، أي: فيقال: أبشر يا عبد الله بالجنة بعد التطهير في النار، فهي تناسب الانتقام، فإذا كانت كلمة الانتقام لها أصل في المخطوطات فربما تكون هي الأصح، والله أعلم.
مسألة الرؤية من أصول الدين الكبرى؛ لكن هذا التفصيل لم ترد به نصوص صحيحة، أعني قوله إن أول من ينظر إلى الله عز وجل هم الأضراء -أي: المؤمنون الذين كانوا مكفوفين في الدنيا- ثم الرجال ثم النساء، فهذا ليس عليه دليل صحيح، وما ورد فيه من آثار فهي ضعيفة أو موضوعة.
أما أصل الرؤية فلا شك أنه من قواطع الدين ومما تواترت به النصوص، وصار من الأصول الكبرى الفوارق بين أهل السنة وأهل الأهواء والبدع؛ ولا شك أن الإيمان بها واجب وإنكارها كفر، لا إنكار ما ذكره المؤلف من الترتيب.
التسليم والكف والسكوت هو الأصل والمراء محرم، لكن بين الأمرين ما يباح عند الحاجة وما يلزم عند الضرورة، وهو الجدال بالتي أحسن، وبشروط الجدال التي سبق الإشارة إليها في درس ماض، فإن هذا يجب عندما يحتاج الدين إلى دفاع، ويحتاج الحق إلى نصر والباطل إلى رد، فإذا ظهرت البدعة واستشرى أمرها واستفحلت شعارات أهل الأهواء والبدع، فلابد من المجادلة بإقامة الحجة عليهم.
وكذلك الجدال في الاجتهاديات يجوز ما لم يصل إلى المراء وذلك للوصول إلى الحق الذي يقتضيه الدليل والشيخ في إشارته القوية إلى تحريم المراء والخصومة والجدل يقصد الخصومة التي تصل إلى المراء.
وقوله: (واعلم رحمك الله أنها ما كانت زندقة قط ولا كفر.. إلا بالكلام والجدال والمراء والخصومة)، فهذا في الجملة صحيح لكن لا يدل على حصر وجود هذه الضلالات على هذا السبب، فإن أسباب وجود الزندقة والكفر والشك والبدعة والضلالة والحيرة في الدين كثيرة، لكن أعظمها وأشدها وأنكاها وأبغضها إلى يومنا هذا هو الجدل والمراء والخصومات في الدين، وقد يكون بعضها أقرب إلى الجدل من بعض، فالزندقة لاشك أنها ما دخلت على المسلمين إلا بعد انتشار الجدل وكذلك الكفر، أما البدعة فقد بدأت قبل وجود الجدال وقد اندست بين المسلمين بسبب الجهل وتقليد الأمم الأخرى وبسبب الأهواء، فبدع الخوارج الأولى بدأت شرارتها صامته همساً لم يكن فيها جدال ظاهر، ثم توسعت بالجدال وتعمقت وتجارت بأهلها كما يتجارى الكلب بصاحبه، وشرارتها الأولى كانت شبهات يقذفها شياطين الإنس والجن في آذان ضعاف الدين وضعاف العقول.
وكذلك بدع الشيعة الأولى ظهرت بالجدال، وكانت قد بدأت بهمسات من شياطين الجن والإنس في قلوب العجم، وبعد أن ظهرت استفحلت وانتشرت وعمت بها البلوى بالجدال، فالجدال مرحلة تالية من بداية الأهواء، وبعض الأهواء نشأت بسبب الجدال استقلالاً، مثل مذهب القدرية.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية سبباً ظريفاً يؤيد القول بأن الجدل سبب لظهور بعض البدع والفرق، فذكر أن أكبر سبب لظهور القدرية هو جدال الناس في احتراق الكعبة ما بين سنة ستين إلى أربعة وستين تقريباً، فلما احترقت بدأ الناس يتكلمون بعلم وبغير علم: هل احترقت بتقدير من الله أو بغير تقدير من الله؟ فخاض العوام في هذه الأمور، فأدخلت النصارى واليهود شبهاتهم من خلال هذه القصة على الناس!
فهذا يدل على أن من الفرق ما كان سبب ظهوره الجدال والخصومات والمراء في الدين.
ومن ذلك أيضاً المشبهة، لا شك أنه ما ظهرت المشبهة والمجسمة إلا من المراء والجدال الذي حصل مع الجهمية.
هذه من جرأة أهل الأهواء على الكلام في الأمور الغيبية بغير علم وبغير برهان والجرأة في القول على الله بغير علم، فالأصل في الأمور الغيبية أن نقف على ما ورد به النص ولا نزيد ولا ننقص، فكون الله عز وجل يعذب من شاء في النار، وأن النار فيها أغلال وأنكال وسلاسل وأنها أيضاً تمس أجوافهم وأنها من فوقهم ومن تحتهم؛ هذا كله ثبتت به النصوص في القرآن والسنة، أما فلسفة الجهمية أو بعض الجهمية من قولهم: إن الله يعذب عند النار لا منها فهذه فلسفة جر إليها التلقي عن غير الكتاب والسنة والإمعان في تحكيم العقول فيما لا تدرك، والتمادي مع الأوهام والخيالات والوساوس، ثم إن هذا راجع إلى أصول فلسفية موجودة عند الفلاسفة القدامى الذين هم خصوم الأنبياء، وكل الفلاسفة الإلهيين خصوم للأنبياء، فعندهم مواقف غريبة تجاه الأمور الغيبية بما في ذلك اعتقاداتهم عن النار وعن الجنة أنها مجرد أمور تمس الأرواح وليس الأجسام وأن ما لا يقر به العقل في الدنيا فلا يجوز إقراره ولو عن الآخرة فهم يقولون: النار التي وصفت لا يمكن أن يتحملها جسم الإنسان قياساً على الدنيا، فإذاً: يكون العذاب عند النار لا فيها، وغير ذلك من الشبهات.
فلا شك أن هذا رد للحق ورد -كما قال الشيخ- على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قول على الله بغير علم، ولأنه حيدة عن الحق البين في أن الله يعذب أهل النار في النار فهم أهلها خلقت من أجلهم وتمتلئ بهم، نسأل الله العافية.
فالقول بأن الله يعذب أهل النار عند النار فيه عدول واضح عن الحق، وفيه تحكيم لأوهام العقول.
والزكاة من الذهب والفضة والتمر والحبوب والدواب على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قسمها فجائز وإن أعطاها الإمام فجائز ].
وإشارته إلى أن الصلوات خمس لا تزيد ولا تنقص يقصد بذلك الرد على كثير من الدجالين المتنبئين الكذابين الذين ظهروا على مدار التاريخ، فإن أكثرهم -خاصة من العجم- يميلون إلى التخفيف عن الناس، فيخفف الصلاة فيجعلها ثلاثاً.
فأغلب المتنبئين الذين ظهروا من الباطنية والرافضة يميلون إلى تخفيف الصلاة، وبعضهم قد يزيد فيها، ولا يزال كثير ممن يصابون بهذه اللوثة يحدث عندهم شيء من ذلك، كما حدث لـمحمود طه في السودان قبل سنين فإنه ألغى الصلاة وقصرها على أوقات معينة، واعتبر الصلاة لا تليق بهذا العصر إنما تكفي الصلاة القلبية وقال: إن الصلاة وأركان الإسلام بشكلها الظاهر إنما فرضت لأناس بسطاء سذج يحتاجون إلى الترويض في الأمور العملية الظاهرة؛ لكن في عصر المدنية يكفي أن نصفي قلوبهم؛ لأن أعمالهم منسجمة مع المعيشة ومع واقع الحياة، فلا نحتاج إلى أن نروضهم على الأمور العملية فاختصر في الصلاة وألغى الصلوات الخمس وجعلها مقصورة على أوقات محددة.
هذا كله مما يحدث على مدار الزمان من المتنبئين الكذابين ومن غيرهم من أصحاب الدعاوى الباطلة، فلا يظن أن الشيخ قال قولاً غريباً؛ لأن مثل هذا -بحمد الله- ليس بمعروف عندنا ولم نسمع به في بيئاتنا القريبة، لكنه يوجد ما بين وقت وآخر على مدار التاريخ، وأظنه في وقت الشيخ البربهاري وجدت بعض ظواهر المتنبئين الكذابين من الباطنية التي تدعو إلى مثل هذه الأشياء.
لكن قد تظهر أصناف لم تكن تعرف في ذلك الزمان وتلحق بأجناسها مثل الأرز.
والزكاة يجوز صرفها من قبل الشخص نفسه، وصرفها من قبل ولي الأمر، ولا ينبغي للمسلم أن يتحرج إذا صرفت الزكاة من قبل أهل الحسبة الذين يعينهم ولي الأمر أو من قبل الجهات المعنية التي تتولى هذا الأمر، فإذا أدى المسلم زكاته من خلال الجهات المعنية فقد برئت ذمته ولا يسأل عما يكون بعد ذلك، ومن أداها بنفسه استقلالاً برئت ذمته، ومن أدى بعضها على هذا الوجه وبعضها على هذا الوجه فكل ذلك جائز، وهو من المناهج التي تميز أهل السنة عن غيرهم.
كثير من أهل الأهواء والبدع لا يجيزون صرف الزكاة من خلال ولاة الأمر أو من خلال السلطان، وهذا راجع إلى أنهم لا يعتقدون للسلطان بيعة ولا يعتقدون له ولاية، كالرافضة وكثير من الخوارج وبعض فرق المعتزلة والجهمية وسائر الفرق ما عدا المرجئة فيما يظهر لي، فإن أكثر الفرق لا تعتقد ولاية السلطان ما دام من أهل السنة والجماعة، ولذلك قد لا تؤدي الزكاة إلا من باب المجاملة لا تديناً، وربما يؤدي بعضهم الزكاة للإمام ويصرفها احتياطاً كما تفعل الرافضة من باب التقية، والله أعلم.
الجواب: الأشاعرة ما أنكروا الرؤية، لكنهم أثبتوها إثباتاً فيه نوع بدعة، قالوا: يرى إلى غير جهة، فهم يعتقدون الرؤية، ولا أعرف في الرؤية مؤولاً، ليس فيها إلا مثبتة ونافية؛ لكن بعض المثبتة عندهم نوع من الابتداع في إثبات الرؤية وهو إثبات الرؤية إلى غير جهة هروباً من إثبات العلو الذاتي والاستواء والفوقية، وهروباً من إثبات الصفة الفعلية والذاتية فقط، وإلا فالأشاعرة يثبتون الرؤية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر