وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ) ].
بدأ في أول هذه الفقرة عن مسألة متفرعة عن أصل من أصول العقيدة عند السلف، وهي ما يتعلق بالقرآن، فأولاً نحن نعرف أن الله عز وجل موصوف بأنه متكلم، وكلامه على ما يليق بجلاله عز وجل، وأن القرآن الكريم كلام الله منزّل غير مخلوق، وأن هذا مما أجمع عليه سلف الأمة؛ لأنه اقتضته النصوص وقواعد العقيدة ولم يخالف في ذلك إلا الجهمية ومن سلك سبيلهم، من المعتزلة وبعض أهل الكلام والفلاسفة والباطنية وبعض المتصوفة وغيرهم، فإنهم زعموا أن القرآن مخلوق، وبذلك كفّرهم السلف لأنهم أقاموا عليهم الحجة، وبيّنوا لهم الآيات البينات من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف.
فالقرآن كلام الله منزّل غير مخلوق، فلما قالت الجهمية بأنه مخلوق وحاورها السلف وأقاموا عليها الحجّة، تبيّن عنادها، وأنها حكّمت العقل فيما لا طاقة له به، وحكّمت أصول الفلاسفة وقواعد المتكلمين فزعمت أن القرآن مخلوق، فمن هنا حكم السلف بكفرية هذا القول، فتفرع عن هذا مسائل أخرى منها: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق.
والأصل أن الناس في عافية من هذا الأمر، وكذلك يجب أن يكونوا، ومن هنا فهذه المسألة ينبغي ألا تثار عند الناس إذا لم يكن الكلام فيها مشتهراً.
فمنذ عهد الإمام أحمد وقبله من منتصف القرن الثاني الهجري إلى نهاية القرن الثالث تقريباً أو قبل نهايته بقليل والجهمية يرفعون شعارهم بذلك، خاصة في عهد المأمون في بداية القرن الثالث الهجري إلى منتصفه فإنهم زعموا أن القرآن مخلوق، ورفعوا ذلك على المنابر وأشهروه في المناظرات والكتب، وفتنوا الناس به، فاضطر السلف إلى أن يتكلموا في هذه المسائل، ثم حينما انهزمت الجهمية والمعتزلة على يد الإمام أحمد وتبين الحق وانجلت الفتنة ولم يبق إلا المعاند ظهر بعض ضعاف الجهمية بقول يظنون أنهم يرضون به السلف، وقالوا: نحن لا نقول: القرآن مخلوق، لكن نقول: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة! ويقصدون بذلك القرآن، فهي حيلة على البدعة.
فلما تفطن السلف لهذه الحيلة بدّعوا من قال بهذا القول سواء بنفي أو إثبات؛ لأنه أولاً: ذريعة إلى الخوض في هذه المسألة الخطيرة، وثانياً: مدخل للجهمية بأن يتأولوا من خلاله لقولهم المبتدع الكفري، وثالثاً: لأن الناس قد تتفاوت مفاهيمهم ومداركهم لهذه الكلمة.
فالقول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق فيه شبهة، فبدّع السلف من قال به، ولذلك وجد من السلف من قال بهذا القول على مقصد صحيح، وهو قوله بأن ألفاظنا وأصواتنا بالقرآن التي خرجت عن ألسنتنا وحلوقنا وشفاهنا مخلوقة، وهذا صحيح، لكن المبتدع لا يقف عند هذا الحد فيقصد اللفظ والمعنى، وإن قال لفظي بالقرآن مخلوق فإنه ربما يقصد القرآن أيضاً ويتأوّل.
فمن هنا أقول: إن هذه المسألة محل نزاع بين السلف، لكن أئمة السلف كرهوها وبدّعوا من قال بها لأنها ذريعة إلى القول بالبدعة، سواء بالنفي أو الإثبات.
والتفكير في الرب عز وجل لا طاقة للبشر فيه ولا للمخلوقات، والتفكر إنما هو في مخلوقات الله وفي آلائه ونعمه، وفي حكمه وخلقه، لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله.
ويجب على المسلم أن يقف عند ألفاظ الشرع ومعانيها ولا يتجاوز ذلك إلى الكيفيات، أو إلى الحقائق الغيبية، فإن الحقائق الغيبية غير معلومة، هذا هو الأصل، والجهمية تجاوزت هذا الأصل وفكّرت في ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله على الحقيقة الغيبية، أو فكّرت في الحقيقة الغيبية بالكيفيات، فمن هنا وقعت فيما وقعت فيه بعد ذلك، حيث أعملوا عقولهم فيما لا طاقة لها به من أمور الغيب، وبخاصة ما يتعلق بالله عز وجل، فنشأ عن ذلك الأصل الباطل الثاني عند الجهمية، وهو أنهم لما أعملوا عقولهم وردت عليهم أسئلة وشبهات لِم وكيف؟ يعني: لِم فعل الله كذا؟ لِم وصف الله نفسه بكذا؟ لِم لم يصف الله نفسه كذا؟ وكيف كان كذا؟ وكيف تكون صفته؟ وكيف يكون اسمه؟ إلى آخره..
ثم نشأ عن ذلك أصل ثالث، وهو أنهم حينما وجدت عندهم هذه الشبهات لم يعالجوها بالأثر، والأثر هو الكتاب والسنة وما ورد عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف.
وكأن الشيخ يقول: لما فكّروا في الرب عز وجل وأخطئوا في ذلك ثم دخلوا في الشبهات بكيف ولِم، كان المفروض أن يزيلوا هذه الشبهات والشكوك بالرجوع إلى الكتاب والسنة الذي هو الأثر، والرجوع إلى آثار السلف الصالح، لكنهم لم يفعلوا فتركوا الأثر، فنتج عن ذلك أصل رابع، وهو أنهم حينما خاضوا وفكّروا في الرب عز وجل وأدخلوا لِم وكيف، ولم يحكّموا الكتاب والسنة اضطروا لوضع أصول من عندهم على القياس.. أي: قياس الغائب على الشاهد، وأعظم الغيب وأوله وأعلاه وأجله ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، فقاسوا الغيب على عالم الشهادة فقالوا: لا يكون موجود إلا جسماً، ولا يكون جسم إلا مركّباً من أجزاء، ولا يكون مركّب من أجزاء إلا مفتقراً إلى أجزائه، ثم قالوا: هذه الأمور لا تليق بالله عز وجل، فنفوا عن الله الأسماء والصفات والأفعال..
ولما وضعوا القياس وقاسوا الدين على رأيهم، نتج عن هذا نتيجة وهي الأصل الخامس، وهو أن جاءوا بالكفر عياناً، فأنكروا ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله إنكاراً صريحاً، حتى أنهم لم يثبتوا لله عز وجل إلا الوجود المطلق أو مطلق الوجود، أو الوجود المجرد، أو الوجود الذهني، أو الوجود العقلي.. على اختلاف بينهم.
فنتج عن ذلك أن خالفوا الأمة، فلما خالفوها وقالوا بالكفر اضطروا لنتيجة وهي الأصل السادس، وهي تكفير من خالفهم.
فالجهمية تكفّر من خالفها من المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة.
وكما قلت: إنه في مثل هذا المقام إذا تكلمنا عن الجهمية نقصد بهم العموم إلا إذا دلّت القرينة على أن المقصود طائفة منهم، فالجهمية هم كل من أنكر الصفات أو أوّلها، فعلى هذا فالجهمية الخالصة جهمية، والمعتزلة جهمية، ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية جهمية، ومتكلمة الكلابية جهمية.. وهكذا، لكن الذين وقعوا في الكفر هم الجهمية الأصلية، وطوائف من المعتزلة.
ثم وقعوا في الأصل السابع عندهم وهو القول بالتعطيل..
أولاً: أنهم أعملوا العقول في الغيب في الله عز وجل وفكّروا في الله ولم يفكّروا في خلقه وآلائه.
ثانياً: أدخلوا الشبهات لِم وكيف.
ثالثاً: أعرضوا عن الأثر ليحلوا مشكلاتهم بقولهم ولم يوفقوا لتحكيم الكتاب والسنة فنتجت النتيجة الرابعة.
رابعاً: وضعوا القياس وقاسوا الغائب بالشاهد، فترتب على هذا النتيجة الخامسة.
خامساً: جاءوا بالكفر عياناً، ثم بعد ذلك ترتب عليها القاعدة السادسة أو الأصل السادس وهو..
سادساً: أنهم كفّروا المخالفين، ثم انتهى بهم الأمر إلى..
سابعاً: التعطيل المطلق.
والرسم وأعلام الضلالة قد بقي منهم قوم يعملون بها ويدعون إليها، لا مانع يمنعهم، ولا حاجز يحجزهم عما يقولون ويعملون ].
هذا كلام عظيم، ويمثل خلاصة وصف الجهمية المعتزلة على وجه الخصوص، ووصف أهل الأهواء على وجه العموم وسماتهم في كل زمان، وهذا أشبه بكلمات الإمام أحمد وإن لم يجزم أنه من كلامه، لكنه فيه عبارات هي من كلام الإمام أحمد ؛ لأن الإمام أحمد يتميّز منهجه بالتأصيل وانتخاب العبارات الجامعة المانعة في التعبير عن أصول الاعتقاد وأصول المخالفين، ولا يحب الحشو من الكلام ولا الاستطراد.
وهنا أشار الشيخ إلى سبعة عشر أصلاً من أصول الجهمية ثم عرّج على سمات الجهمية التي كانت تتميز بها في ذلك العصر، بل وفي كل عصر، وهذا الكلام الذي سأذكره وهو قواعد الجهمية يشمل الجهمية والمعتزلة في ذلك الوقت؛ لأن الجهمية في ذلك الوقت تتمثّل بالمعتزلة، وانطوت تحت لوائها، وصارت المعتزلة هي التي رفعت لواء التجهّم في القرن الثالث، فلا فرق بينهما في هذه الفترة التي عبّر عنها الإمام أحمد والأئمة من بعدهم، والتمييز الفني أو التمييز التخصصي بين الجهمية والمعتزلة إنما يأتي عند الكلام المفصّل عنهما، أما عند الكلام عن مفردات مقولاتهما فإنه لا فرق بينهما إلا في أمور قليلة، لا سيما في الأصول، فإن أصول الجهمية والمعتزلة واحدة، إنما الاختلاف في بعض التفريعات والتفصيلات، فمن هنا الكلام عن الجهمية يشمل المعتزلة ويشمل الفرق التي أخذت بأصول التجهم والاعتزال في ذلك الوقت، وهي الرافضة والخوارج.
فإن الرافضة والخوارج في ذلك الوقت أخذوا بأصول التجهّم والاعتزال، حتى أنه من المشهور الذي ينبغي أن يعلمه أيضاً كل طالب علم، أن الذين رفعوا لواء الفتنة من المعتزلة الجهمية في القرن الثالث كان أغلبهم رافضة لكن شعار التجهّم غلب عليهم، ومنهم شيعة غير رافضة.
فعلى هذا نقول: إن الكلام هنا يشمل جميع أهل الأهواء في ذلك الوقت، وإن كان موجهاً إلى الجهمية والمعتزلة.
قال الشيخ: (وقال بعض العلماء منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الجهمي كافر)، يقصد بذلك الجهمي الخالص، أو الجهمي الذي أصر في ذلك الوقت على القول بخلق القرآن؛ لأنها قضية الساعة في ذلك الوقت.
ومن هنا نستفيد فائدة في منهج تقرير الدين والدفاع عنه، وهو أنه كلما اشتهرت مسألة من المسائل التي تخالف الحق سواء كانت من بدع العقائد أو بدع العادات أو بدع العبادات أو بدع الأعياد أو بدع الأحوال.. أو غيرها، فإنه يسع طلاب العلم أن يكثروا من الكلام عنها، ولا يكون ذلك مخالفاً للمنهج؛ لأن كل شيء له مناسبته، فإذا بُلي الناس ببلية من البلايا فلا بد من كثرة الكلام عنها، فإذا ابتلي الناس مثلاً بالطعن في العلماء فلا بد من التركيز على هذه القضية، ولا يعتبر ذلك خروجاً أو مبالغة.. وإذا ابتلي الناس بعدم النصح للولاة، فلا بد من التركيز على هذه القضية؛ لأنها قضية خطيرة إذا تُركت فتكت بالأمة، وإذا ابتلي الناس بالكلام عن إنكار الشفاعة مثل ما ظهر في الآونة الأخيرة عن بعض المفتونين، فيسع طلاب العلم أن يشهروا القضية ويتكلموا فيها، وإذا ابتلي الناس بأعياد بدعية فيسع طلاب العلم أن يتكلموا عن هذه الأمور ويحذّروا منها، أو مسايرة أهل الكتاب في أعيادهم كما يحصل في مثل هذه الأيام وما بعدها، فينبغي التركيز على هذه القضية لأنها فتنة الساعة وهكذا..
فأقول: إننا نستشهد على هذا بكلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة في تفصيلات كانت في وقتهم لم توجد في أوقات من قبل، وربما خفّت من بعد.
ثم إن أغلب رافع رايات الجهمية في ذلك الوقت إما خوارج وإما رافضة أو شيعة، وهؤلاء كلهم معروف رأيهم في الجمعة والجماعة والعيدين والصدقة، هذا من جانب.
من جانب آخر يشير والله أعلم إلى أن الجهمية مرجئة خالصة لا ترى للأعمال وزناً، فتستهين بالجمعة والجماعة والعيدين والصدقة، وكلا الاحتمالين وارد، بل أظن الاحتمالين مجتمعين في أهل الأهواء الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم.
ومعنى هذا أنهم كفّروا المسلم، وهذا يقتضي كفرهم هم بناء على الحديث: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما).
هذا كله تبرير لقوله بأنهم كفار ليسوا من أهل القبلة، حلال الدم ولا يرثون ولا يورثون.
واستحلال السيف على الأمة سمة عامة للمبتدعة، وهو الخروج على الولاة، والخروج عن جماعة المسلمين، واستحلال دماء المخالفين، لكن هذه السمة تتفاوت بينهم من مقل أو مكثر، فمنهم من هو صريح يُعلن ذلك ويرفعه كالخوارج، ومنهم من هو جبان منافق كالرافضة، فيرون أن ذلك لا يُعلن إلا إذا ظهر إمامهم الموهوم الخرافة.
ولعل من حظ المسلمين أن الرافضة يعلقون خروجهم على المسلمين بظهور هذه الخرافة التي ينتظرونها، ونعلم أنه لن يظهر إلا إن كان على صورة الدجال ، ولا أستبعد أنهم إذا ظهر الدجال يعتقدون أنه مهديهم؛ لأنا نعرف أن عامة أهل البدع والأهواء يفتنون بـالدجال وأولهم الرافضة، ويخرج من بلادهم أيضاً.
فعلى هذا يظهر أن السلف أجمعوا واتفقوا على أن من سمات أهل الأهواء والجهمية استحلال السيف، ومن استحل السيف على الأمة سواء فعل أو لم يفعل فهو كافر؛ لأن بعض الناس يظن أن استحلال السيف هو رفعه! وليس كذلك، بل المعنى أنهم يستبيحون قتل المسلمين لو تمكنوا، لكن ليس منهم من فعل ذلك إلا الخوارج، وكذلك المعتزلة حينما تمكنت في عهد المأمون .
والدليل على استحلالهم السيف أنهم استحلوا دماء الناس حتى الأئمة، كان ابن أبي دؤاد رأس الجهمية في ذلك الوقت يحرّض أحد الولاة ولا أدري هل هو المأمون أو الواثق أو المعتصم على الإمام أحمد في أثناء المناظرة ويقول: اقتله ودمه في ذمتي، فهذا من استحلال السيف، أما الإمام أحمد فما قال هذه الكلمة، ولا حرّض على الجهمية وقد عايش غلاتهم الذين أعلنوا الزندقة.
أوقعوا الناس في حرج في دينهم، وألزموهم بأن يقولوا الكفر، فكانوا لا يولون قاضياً حتى يقول بكفرهم، ولا يولون محتسباً ولا والياً ولا أميراً ولا خطيباً للجمعة حتى يقول بقولهم، حتى قالت بعض كتب التاريخ: إنهم وضعوا المتاريس على الأسواق فلا يعبرها إلا من يقول بكفرهم وإلا يُحبس في بيته ويموت، ووضعوا السياج والحراس في أبواب المساجد فلا يدخل أحد يصلي ولا يخرج حتى يقول بكفرهم، وهذا لم يفعله أهل الحق الذين هم على السنة، فيكون هذا من باب الإكراه الذي لم يأمر الله به، فامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، امتحنوهم بالصفات، وامتحنوهم بالأسماء، وامتحنوهم بالقول بخلق القرآن، وامتحنوهم بأشياء كثيرة.
ويقصد بذلك أن منهجهم هذا يؤدي إلى تعطيل المساجد والجوامع؛ لأنهم من جانب أعلنوا الجبر والإرجاء الكامل الذي جعل الناس يعرضون عن شرع الله فلا يعتادون المساجد، وجعلوا المعرض عن المسجد والمصلي كليهما كاملي الإيمان، فهذا أدى إلى تساهل الناس في الدين، كما أنهم أرادوا تعطيل المساجد بمنع الناس أن يدخلوها إلا على مذهبهم، وأيضاً لا يرون مشروعية ما عليه السلف من إقامة الجمع والجماعات كما سبق، وهذا راجع إلى ما ذكره في الفقرة الأولى.
أولاً: حطّموا العقيدة في قلوب الناس، وهذا أعظم وهن في الدين، ثم بعد ذلك أشاعوا الزندقة والإلحاد والإعراض عن الدين في السلوك، وأشاعوا الفلسفات والأمراض العقلية والثقافية والعقدية، ثم بعد ذلك أوهنوا المسلمين بما ذكره فيما بعد من تعطيل الجهاد، وشغلوا المسلمين عن مكاسب الحياة وعمارة الأرض بالفلسفة والمناظرات والمجادلات، وهذا من أعظم المشغلات عن الجد في حياتهم.
وأعظم من هذا أشغلوا بعض المسلمين ببعض عن الجهاد جهاد العدو، ولذلك لا أعرف أنه قام جهاد ضد الأمم المشركة والضالة على يد أهل الأهواء والافتراق والبدع، وصلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان قائداً يحترم السنة والجماعة ويحترم السلف، وإن كان ينتسب للأشاعرة لكن ليس أشعرياً خالصاً فيما أعلم، ولو كان من المتكلمين لما استطاع أن يرفع راية الجهاد ولكان جهاده ضد أهل السنة والجماعة، لكن هو ليس بمتكلم وكذلك من كان مثله من الأتراك الأولين، فهؤلاء يرفعون شعار السنة ويوقرون السنة ويوقرون السلف، لكن لا أعرف أنه قامت معركة حاسمة بين المسلمين والكفار على يد رافضي أو خارجي أو نحوهم.
وينطبق على جميع أهل الأهواء الخارجين عن السنة وصفهم الذي أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أدري عن مدى صحته عن الخوارج بأنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، فهم عطّلوا الجهاد فعلاً وجعلوا الجهاد جهاد المسلمين ولم يجاهدوا الكفار، أو صرفوا الجهاد إلى المراء والجدل الذي حرمه الله عز وجل.
أي خالفوا ما جاء في الكتاب والسنة وآثار السلف بأصولهم الفاسدة.
وهذا دليل على جهلهم وانحراف مناهجهم، ربما استدلوا بالمنسوخ على الناسخ، فوقعوا في الخلط والخبط في الاستدلال.
حقيقة حالهم أنهم اختصموا في الله، والله عز وجل أعفاهم من ذلك، فالله عز وجل قرر لنا ما لا حاجة إلى البشر بعده من ذكر عظمته وجلاله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله على جهة التفصيل، وكل ما يحتاجه البشر مما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله جاء في الكتاب والسنة، لكنهم ذهبوا يخاصمون في ربهم، والله عز وجل يقول: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:10].
وهذا يسمى إنكار السمعيات، وهذا يقع من الجهمية الخالصة وبعض المعتزلة.
هذه عندهم شبه عقلية يقولون: إذا كانت قد خلقت فأين تكون، وهي لا تستوعبها السماء والأرض؟! يعني فقط مجرد عقول، مع أن أحوال الجنة والنار والغيبيات، وأحوال البرزخية وأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا أبداً.
(فدرس علم السنة) يعني انقرض أو ضعف (والجماعة، وأوهنوهما وصارتا مكتومتين لإظهار البدع والكلام فيها ولكثرتهم، واتخذوا المجالس، وأظهروا رأيهم)، وهذا دليل على أنه في الفتن تكون الغوغاء والكثرة مع الباطل لا مع الحق، وهذا موطن عبرة يجب أن نستفيد منه، أنه في الفتنة لا نقيس بالكثرة؛ لأن هذا الوصف وصف صحيح فإنه في عهد المأمون بالذات جعجعت العامة والغوغاء والرعاع والهمج مع الجهمية إما خوفاً وإما رجاءً أو جهلاً، وظنوا أن السلطان لا يكون إلا مع الحق، ربما يكون أكثر عامة المسلمين على ذلك.
قال: (ووضعوا فيه الكتب)، يعني ألّفوا في الباطل، (وأطمعوا الناس)، وهنا وقفة عظيمة جداً.
طبعاً هو هنا نسيت أن أقول لكم أنه منذ أن انتهى الأصل السابع عشر وهو رد الكتاب والأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ذلك كفر، بدأ يذكر السمات وانتهى من الأصول، والسمات التي هي الخصائص وإن لم تكن أصولاً.
فمن سماتهم أنهم تمكنوا في عهد الإمام المأمون ومن بعده، وأنهم أيضاً استعدوا السلطة حتى وجدوا منها معونة، وأنهم أيضاً يضعون السيف والسوط على الأمة، وأنهم يحرصون على اندراس علم السنة والجماعة لا كما يدّعون أنهم يرفعون السنة والجماعة.
ومن سماتهم إخفاء السنة ومحاولة إماتتها وإيهانها، وطمس معالم السنة وكبت أهل السنة.
قال: (وصارتا مكتومتين لإظهار البدع ولكثرتهم).
وأيضاً من سماتهم أنهم يستثيرون الغوغاء إذا تمكنوا من ذلك حتى يكثروا من سوادهم، وأنهم يتخذون المجالس، بمعنى أنهم يثرثرون في قضايا الدين الخطيرة في المجالس كما يحصل من بعض المفتونين الآن بين المسلمين، ويتخذون الثرثرة في هذه القضايا الخطيرة في المجالس العامة والخاصة ومجالس الأدباء الكُتّاب والمفكرين، والمعجبين بهم والمبهورين، ويظهرون رأيهم، ويضعون في ذلك كتباً ومؤلفات.
ثم قال: (وأطمعوا الناس)، وهذه إشارة إلى أن من سمات أهل الأهواء استعداء العامة واستثارتها، وأيضاً دغدغة مشاعر الناس بالكلام فيما يحلو لهم.
ومن مسائل الأهواء في كل عصر أنهم يلتمسون حاجات الناس فيرفعون شعارات دفع الظلم عنهم والاهتمام بشئونهم والعطف عليهم إلى آخره.
وأطمعوا الناس في الكلام الدين، وأطمعوا الناس في السلطان، وأطمعوا الناس على العلماء، وأطمعوا الناس بالجرأة على أن يتكلموا بما ليس لهم بعلم، أطمعوهم في الأهواء أطمعوهم في الشبهات والشهوات.
(وطلبوا لهم الرياسة) كما يكون من بعض الدعاة الآن في الحزبيات والشعارات السياسية وغيرها، وهذا يختلط فيه الطمع.
قال: (وطلبوا لهم الرياسة فكانت فتنة عظيمة لم ينج منها إلا من عصم الله، فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم أن يشك في دينه أو يتابعهم)، هذا إشارة إلى أن مجالستهم خطيرة، وهذا ينسحب على الأولين والآخرين، كجهمية اليوم، ومعتزلة اليوم وعقلانية اليوم التي ابتلي بها كثير من شبابنا اليوم بسبب المجالسة في الجلسات العامة وفي الديوانيات والاستراحات وغيرها، وهذا مسلك خطير يجب أن يبتعد منه من يريد أن يحافظ على دينه، ولا يقول: إنه درس العقيدة وعرف وعرف..! فهؤلاء شياطين يلبّسون على الناس، ويموّهون على الأئمة فكيف بطلاب العلم أمثالنا وعندنا من التقصير الشيء الكثير، فيجب أن نحمي أنفسنا ونحمي من له علينا حق النصح من مجالسة أهل الأهواء.
فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم أن يشك في دينه أو يتابعهم، أو يرى رأيهم على الحق، ولا يدري أنه على الحق أو على الباطل، بمعنى أنهم على الأقل يلبّسون عليه.
(فصار شاكاً فهلك الخلق حتى كانت أيام جعفر الذي يقال له: المتوكل )، هذا أشبه بكلام الإمام أحمد والله أعلم، وكنت أود لو أني تمكنت من الرجوع إلى المصادر، لكن لعل أحد الإخوان إن شاء الله يتطوع ويوثق لنا هذا الكلام، فلعله موجود في بعض المصادر عن الإمام أحمد ؛ لأن قوله: الذي يقال له المتوكل ، كأنه يرى أن وصف الرجل لنفسه بـالمتوكل نوع تزكية.
قال: (فأطفأ الله به البدع، وأظهر به الحق، وأظهر به أهل السنة، وطالت ألسنتهم مع قلتهم وكثرة أهل البدع إلى يومنا هذا).
ثم قال، وكأنه يقول: ومع نصر السنة على يد المتوكل وقمع أهل البدع والأهواء إلى أن الرسم وأعلام الضلالة قد بقي منهم قوم، وهذه سنة الله في خلقه، فالابتلاء باق، ولذلك ما من فرقة من الفرق الكبرى انقطعت في التاريخ أبداً..
كلها بقيت إلى يومنا هذا، لكنها قد تتلون، قد تدخل في فرق أخرى، قد تظهر شعارات جديدة، لكن قال: (ومع أن السنة ظهرت وأبطل الله البدع إلا أنه بقي الرسم)، يعني: بقيت أصول البدعة وعلامة ضلالة الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم، فقد بقي منهم قوم يعملون بها من الرافضة والخوارج ويدعون إليها، (لا مانع يمنعهم ولا أحد يحجزهم عما يقولون ويعملون).
لكن مع ذلك فإن الأيام دول، والأمر سجال، والحق لا بد أن ينتصر بإذن الله، ومهما انتفخ الباطل وانتفش، إلا أن الحق باق، والسنة ظاهرة على يد طائفة -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة المتواترة- على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.
الجواب: شيخ الإسلام ابن تيمية إذا تكلم عن خصومه أو عن خصوم السنة فإنه يبين ما يذكر لهم من خصال، فقد ذكر عن ابن أبي دؤاد أنه رجل كريم، وأنه صاحب شفاعات يشفع للناس، وقال: إنه بعد إصابته بالفالج وانقطاع الناس عنه تراجع ورقَّ له الناس.
فشيخ الإسلام ابن تيمية يذكر محاسن الرجل ويذكر علمه وجاهه وكرمه، وأن الرجل وجيه وقوي في الوزارة.. إلخ.
وهي جوانب إنسانية في البشر، وجوانب محاسن، وما زكاه في عقيدته، وهذه عادة شيخ الإسلام ابن تيمية ، فعندما تكلم عن الرازي ذكر الجوانب الجيدة فيه، وعندما ذكر أبا المعالي الجويني أثنى على جوانب جيدة فيه، وعندما تكلم عن خصومه الذين آذوه كان يثني عليهم خيراً، وكان يقول فيهم كلاماً لا يقوله بعضهم في بعض، وهذا في جوانب تتعلق بما عندهم من خصال، فالعالم يعترف له بعلمه، والشجاع يعترف له بشجاعته، والقاضي العادل في قضائه يعترف له بعدله، وإن كان من خصومه.
الجواب: ما أدري كيف نحمل تأولهم، هل هم يتأولون أم يستبيحون الكذب؟
إن استباحوا الكذب فلا شك أن هذا كفر، لكن أحياناً يكون من باب التقية ومن باب النفاق، أو تأول أنه من باب دفع الأذى عنهم، لكنهم يكذبون حتى في دينهم، يكذبون على أئمتهم، فيبدو لي أن الكذب ينصرف إلى من تعمد الكذب منهم، ومع ذلك فالمسألة تحتاج إلى شيء من البحث، فما عندي فيها قول.
نعم، فيهم شيعة رافضة وفيهم شيعة، الشيعة الأوائل منذ أن ظهروا وهم منقسمون، كان الناس يسمونهم شيعة كلهم، الغلاة الذين قالوا بإلهية علي ، أو قالوا بتقديم علي على جميع الصحابة حتى أبي بكر وعمر ، وهم الذين نسميهم المختارية، وضربهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل الأوائل.
وأما الشيعة المفضلة الذين يفضلون علياً على عثمان فقط، أو على بعض الصحابة، أو على كل الصحابة، لكن يقولون بصحة إمامة الشيخين أبي بكر وعمر كالزيدية، هؤلاء كلهم يسمون شيعة، لكن عندما تميزوا في سنة (120)أو (121) على عهد زيد بن علي شيخ الزيدية المعتزلي المشهور؛ خرجت المعتزلة الشيعة مع زيد بن علي ، فظهر عموم الشيعة المعتزلة وغير المعتزلة؛ لأن زيداً معتزلي، وأكثر شيعتها معتزلة، لكن معه عموم الشيعة، فلما نما إلى علم الرافضة الغلاة أن زيداً يقول بإمامة أبي بكر وعمر ويترحم عليهما اغتاظوا وقالوا: هذه تقية، فقالوا: نختبره، فسألوه في مجلس خاص بهم؛ لأنهم يرون أنه إذا لم يكن مجلس خاص بهم فإنه يجب على الإمام أن يكذب ويقول غير الحق من باب التقية.
فلما سألوه في مجلس خاص فيما تذكر بعض الروايات، فسألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر ؟
فقال فيهما خيراً وترضى عليهما ولم يسبهما؛ فانفضوا من حوله فقال: رفضتموني؛ فسموا الرافضة.
فالرافضة زائدة على الشيعة، بقيت الشيعة هي الزيدية والمفضلة إلى يومنا هذا، سواء كانوا جماعات أو أفراداً، فمن فضل علياً على عثمان فهو شيعي مفضل، ومن فضل علياً على جميع الصحابة فهو شيعي زيدي ، أو شيعي بمعنى شيعي خالص.
ومن سب الصحابة ولم يترض عنهم، أو وقف الموقف المشين الذي تقول به الرافضة؛ فهو رافضي.
إذاً فالرافضة هي فرقة خرجت عن مقتضى التشيع، فهي شيعة وزيادة، فيصح إدخالها ضمن عموم الشيعة وإفرادها بالرفض.
الجواب: النهي يترتب على أن الجهمية تتحيل في قولها بخلق القرآن بأن تلفظ بمقولة: لفظي بالقرآن مخلوق؛ حيلة، وإلا فاللفظ إن قصد به حركات الإنسان التي خلقها الله عز وجل من خلال جوارحه؛ فلا شك أنها مخلوقة، ولذلك قال بهذا الإمام البخاري وحصل له ما حصل، وضيق عليه، واتهم؛ لأنه قصد معنى صحيحاً عنده، لكن الأئمة الآخرين احترزوا؛ لأن الجهمية يقصدون بذلك معنى آخر، وهو الحيلة على القول بخلق القرآن.
الجواب: تشمل كلمات الله في القرآن وغير القرآن، أي: كلماته الشرعية والكونية، فكلها كلمات الله عز وجل، كلمات الشرع وكلمات القدر.
الجواب: ليس من هذا الوجه على إطلاقه، فالحديث القدسي اختلف فيه، هل هو مما تكلم الله به، أو هو مما عبر به جبريل عما فهمه عن الله عز وجل؟ هذا محل خلاف ليس فيه قطع، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر