إسلام ويب

شرح السنة [15]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد مات عثمان رضي الله عنه والدين واحد والأمة مجتمعة، ثم حدثت الفرقة والاختلاف بعد موته، فظهرت الفتن، وتقاتلت الأمة، وتجارت بها الأهواء، وظهرت البدع والمحدثات، والنجاة من هذا كله هو باتباع الكتاب والسنة على ما كان عليه الصدر الأول من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الدين العتيق ما كان قبل الفرقة والاختلاف

    قال أبو محمد بن الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [ واعلم أن الدين العتيق ما كان من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان قتله أول الفرقة وأول الاختلاف، فتحاربت الأمة وتفرقت، واتبعت الطمع والأهواء والميل إلى الدنيا، فليس لأحد رخصة في شيء أحدثه مما لم يكن عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون رجل يدعو إلى شيء أحدثه من قبله من أهل البدع فهو كمن أحدثه، فمن زعم ذلك أو قال به فقد رد السنة وخالف الحق والجماعة، وأباح البدع، وهو أضر على هذه الأمة من إبليس.. ].

    اتفاق الأمة إلى مقتل عثمان

    في هذا المقطع ذكر بعض الأصول:

    أولها: تقرير أن الدين ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وسماه العتيق بمعنى الأصل الأول الذي تركنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقد كمل الدين، فالعتيق هنا تعني المنسوب إلى الزمن الأول أي: إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو زمان قديم بالنسبة إلى عصر المؤلف وما بعده.

    ثم ذكر أصلاً آخر، وهو أن الأمة كانت متفقة، وإجماعها معتبر، وأصولها واحدة، وجماعتها واحدة إلى مقتل عثمان رضي الله عنه، فبعد مقتل عثمان لم يستتب الأمر لـعلي رضي الله عنه، ولم تتم الجماعة على الوجه الكامل، خاصة فيما يتعلق بالشغب الذي حدث من السبئية الخارجين على عثمان ، والذي انبثق عن الافتراق الحقيقي افتراق الخوارج وافتراق الشيعة، فعلى هذا لا اعتبار للخلاف بعد هذه الفتنة، أي لخلاف السنة، فقد انتقضت قاعدة أن المسلمين كانوا كلهم على سمت واحد وهدي واحد في الدين، وفي الإمامة، والخلافة، وفي سائر الأمور، والجماعة كانت جماعة واحدة إلى أن حدث هذا الحدث العظيم، وانبثق عنه خروج الفرق الأولى التي خرجت عن المسلمين.

    إذاً: كان قتل عثمان رضي الله عنه بداية شرارة الفرقة، وإن كانت لم تحدث إلا بعد قتله بثلاث أو أربع سنوات.

    وأول افتراق ظاهر أعلن سنة (37هـ)، لكن هذا من حيث الإعلان، أما من حيث الوقوع فإن مجرد وجود الاحتشاد من قبل أهل الفتنة كان بداية ظهور الافتراق، أو بداية تقرير الافتراق وإن لم يظهر.

    أهل الأهواء يستميلون الغوغاء بالدنيا

    وقوله: (فتحاربت الأمة)، يقصد: طوائف من الأمة، وذلك أن الذين خرجوا على الأمة أوقعوا الأمة في الحرج، فحدثت الحرب بين الفرقاء المختلفين.

    (وتفرقت) بمعنى أنها ظهرت الفرق التي فارقت الجماعة وإن كانت قليلة ومغمورة إلا أنها حدثت بها الفرقة، (واتبعت الطمع والأهواء)، أي طوائف من المنتسبين لهذه الأمة استهوتهم الأطماع والأهواء فكانوا ضمن من خرجوا على الجماعة فيما بعد، (والميل إلى الدنيا)؛ لأن البواعث على الفتنة التي أثارها ابن سبأ والزنادقة، واستمالوا فيها الغوغاء والرعاع أغلبها بواعث مادية، كانوا يقولون -زعماً- بأن عثمان رضي الله عنه لما فتحت الدنيا عليه أغدق على الصحابة حتى قعدوا عن الجهاد، وجلسوا في الضيع والبساتين، وتركوا الأمة، وهذه شبهات انطلت على ضعاف العقول وضعاف العلم، وعلى حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام.

    وقالوا أيضاً بأن عثمان رضي الله عنه ولى أقاربه، وأنه لم يعدل في القسم، وأنه حابى أناساً وترك أناساً.. إلخ.

    إذاً: المنشأ والمطمع والباعث لتحريك العواطف هو أمور الدنيا، والكلام في الأثرة، وهذه السمة هي سمة أهل الأهواء في كل زمان، أول ما يبدءون في دغدغة عواطف العوام وأشباه العوام من الرعاع والدهماء والنساء والأحداث بهذه الأمور، ويبطنونها بدعاوى الدين، لابد أن يظهروا أن ما حدث من مظالم ضد العدل وضد ما أمر الله به، ومجاوزة لدين الله، ومجاوزة للشرع، في حين أنهم يسيلون لعاب هؤلاء بالدنيا؛ ولذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر على الظلم والصبر على الأثرة في أحاديث كثيرة، ولا شك أن هذا من تشريع الله عز وجل للأمة؛ فإن ذلك لعلم الله عز وجل بأن هذه الأمور من بواعث الفتن عند الناس، وأنه أكثر ما يفرق بين المسلمين ويفتت جماعتهم، وهذا ما حدث في عهد عثمان كما تعلمون، وكما قلت هذه سمة غالبة في سائر أهل الأهواء في كل زمان ومكان.

    قال: (فليس لأحد رخصة في شيء أحدثه ما لم يكن عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هذه أيضاً قاعدة ترجع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

    (أو يكون رجل يدعو إلى شيء أحدثه من قبله من أهل البدع فهو كمن أحدثه)، بمعنى أن داعية البدعة كمؤسسها وقائلها الأول؛ لأنها في سبل الغواية وسبل الشيطان.

    (فمن زعم ذلك أو قال به فقد رد السنة وخالف الحق والجماعة، وأباح البدع، وهو أضر على هذه الأمة من إبليس)، من وجه وليس من كل الوجوه؛ لأن غالب أهل الأهواء تلبيسهم على الناس بحكم أنهم يظهرون بمظاهر التقوى والصلاح.

    أما إبليس فمعلوم شره، ومعلوم أنه شر من كل وجه.

    1.   

    ما لم يكن عليه عمل الصحابة فلا خير فيه

    قال رحمه الله تعالى: [ ومن عرف ما ترك أصحاب البدع من السنة وما فارقوا فيه فتمسك به؛ فهو صاحب سنة وصاحب جماعة، وحقيق أن يتبع، وأن يعان وأن يحفظ، وهو ممن أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ].

    أيضاً هذا أصل من الأصول، وهو أنه لا خير فيما لم يكن عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما تركوه من المحدثات والبدع فالأولى والأجدى بغيرهم أن يتركه.

    ولأن أصول البدع ظهرت لها مظاهر في عهد الصحابة رضي الله عنهم فنفوها وأبوها، وردوا على أصحابها ونكَّلوا بهم.

    وجميع البدع التي حدثت فيما بعد حدث في عهد الصحابة نماذج منها، وإن كانت نماذج صغيرة، لكنها تمثل هذه القاعدة، وهو أن الصحابة نفوا البدع، وميزوها بسرعة وبحذر شديد، فلذلك حدث في عهد الصحابة القول بالقدر، لكنهم نفوه وردوه وعنفوا أصحابه، وحدث في عهد الصحابة نزعة التنطع والتشدد في الدين والغلو كما حدث من الخوارج، وحدث في عهد الصحابة الغلو في الأشخاص، وهو باب واسع من أبواب الفتنة، حدث من السبئية الرافضة في عهد الصحابة، فأبوا ذلك ونفوه، ووقفوا منه الموقف المعلوم.

    ثم حدث أيضاً في عهد الصحابة الكلام في الدين والمراء والجدل الذي هو أصل الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم، فنفاه الصحابة وردوه.

    حدث في عهد الصحابة بذور التصوف والبدع الظاهرة.. بذور البدع المقابرية والبدع العملية كما يسميها الناس، فقد حدثت في عهد الصحابة كما حصل في عهد ابن مسعود وأبي موسى الأشعري في العراق التسبيح بالحصى، وحدث الذكر الجماعي، والعزلة عن جماعة المسلمين، واتخاذ مساجد خاصة دون بقية المسلمين، والظهور بمظهر في العبادة فيه تنطع مثل الغشي والصعق والصياح والصراخ عند سماع القرآن، وعند سماع القصائد الزهدية، كل هذا حدث في عهد الصحابة فنفوه بشدة.

    فإذاً قد يقول قائل: إن أصول ما وجدت في عهد الصحابة، ولم يكن لهم فيها موقف، وهذا خطأ.

    أما الأصول فأظن أن أصول البدع الأولى أو أصول الفرق الكبرى كلها حدث لها نماذج في عهد الصحابة؛ لأنهم عايشوا أمماً مختلفة في ديانتها ومللها ونحلها، وكل أمة حاولت عن جهل أو عن تجاهل أو عن خبث من بعض الأشخاص أن تظهر ديانتها بين المسلمين، فصارت هذه المظاهر في عهد الصحابة فنفوها.

    1.   

    أصول البدع أربعة أبواب

    قال رحمه الله تعالى: [ واعلموا -رحمكم الله- أن أصول البدع أربعة أبواب انشعب من هذه الأربعة اثنان وسبعون هوى، ثم يصير كل واحد من البدعة يتشعب، حتى تصير كلها إلى ألفين وثمانمائة وكلها ضلالة، وكلها في النار إلا واحدة، وهو من آمن بما في هذا الكتاب، واعتقده من غير ريبة في قلبه ولا شكوك، فهو صاحب سنة، وهو الناجي إن شاء الله.. ].

    هذا الكلام امتداد للفترة السابقة؛ لأنه عندما ذكر أن مما يميز صاحب السنة: تركه لما عليه أصحاب البدع، فذكر بعد ذلك أن أصول البدع أربعة، يعني: أن الأصول الكبرى التي انبثقت عنها البدع الأولى أربعة أبواب، ولم يذكرها على التفصيل لكنه أشار إليها إشارة، ويبدو لي أنه يقصد بذلك:

    أولاً: الغلو في الأشخاص الذي هو التشيع.

    ثانياً: الغلو في الدين والعبادة الذي هو مذهب الخوارج.

    ثالثاً: القدر الذي هو مذهب القدرية.

    رابعاً: الخلل في مسألة الإيمان الذي هو مذهب المرجئة.

    هذه الأصول الأربعة هي أصول البدع الأولى.

    الشيعة انبثقت عنها فرق كبيرة وأصول كبيرة جداً إلى يومنا هذا: الرافضة.. الزيدية.. الشيعة المفضلة.. الشيعة المفترية.. الإسماعيلية.. وفرق الباطنية ومن سلك سبيلها، كل هذه انبثقت عن التشيع من الباب الأول وهو باب الغلو في الأشخاص وباب الشيعة.

    ثم بعد ذلك التنطع في الدين والتشدد، وعبادة الله على جهل، هذا من أصول الخوارج وعليه كثير من الفرق أيضاً؛ لأن هذه الأصول ليست خاصة بالخوارج، فنزعة الخوارج موجودة في غالب الفرق، لكنها تختلف في التعبير عنها وربما يأخذون أصلاً ويتركون أصولاً.

    وكذلك أصول القدرية تعتبر من أعظم أبواب الابتداع؛ لأن الكلام في القدر فتق الكلام في جميع قضايا الاعتقاد، فأصول الجهمية والمعتزلة أول ما بدأت في الحديث عن القدر، فالقدرية تجرءوا على الكلام في أقدار الله عز وجل وفي تقديره للعباد.

    وتجرءوا على الكلام في علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه، وتجرءوا بأن يعارضوا النصوص الشرعية بعقولهم وأهوائهم؛ فجرهم ذلك إلى الكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله.

    فأصول القدرية تعتبر هي المرتكزات الأولى لظهور المعتزلة والجهمية والفرق الكلامية التي تلت، فيعتبر هذا الباب الثالث.

    والباب الرابع: الإرجاء، وهو ما يتعلق بالحديث عن الإيمان، سواء ما يتعلق بتعريف الإيمان.. حقيقة الإيمان.. دخول الأعمال في مسمى الإيمان.. زيادة الإيمان ونقصانه.. الاستثناء في الإيمان.

    أيضاً لوازم ذلك مما يسمى بالأسماء والأحكام، والحكم بالكفر والإسلام والإيمان والفسق والظلم والشرك، كل ذلك انبثق عن قضايا الإيمان والتي أخلت بها المرجئة، فظهرت لها وتشعبت لها مقالات، وظهرت لها ردود فعل من المذهب المقابل وهو مذهب القدرية.

    أما ما ذكره الشيخ من أن هذه الثنتان وسبعون فهو من باب الظن، وليس من باب اليقين، وهو يشير بذلك إلى الفرق الثنتين والسبعين التي فارقت الجماعة، فهو يقول: إن هذه الفرق الثنتين والسبعين انشعبت من الأربع.

    قال: (ثم يصير كل واحد من البدعة ينشعب حتى تصير إلى ألفين وثمانمائة قالة)، كأنه وزع المقالات على هذه، وهذا أيضاً من باب التقريب والظن، لا من باب الجزم، فإنا لا نستطيع أن نجزم أن هذا العدد منضبط، قد يكون الأمر أكثر أو أقل، لكن كما قال: (كلها ضلالة، وكلها في النار إلا واحدة)، أي: الفرق التي خرجت عن الجماعة كلها متوعدة بالنار، فهم من أهل الوعيد إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة.

    أنا ذكرت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة؛ بناء على تقسيم الشيخ، وذكرت أن القدرية هي أصل ظهور علم الكلام.

    وظهور علم الكلام نتجت عنه المعتزلة والجهمية، ثم الفرق الكلامية التي تلت.

    حتى المشبهة في الحقيقة هي فرق كلامية، وليست فرقاً مستقلة، بل فرق كلامية عندها ردود فعل ضد الجهمية والمعتزلة، وكذلك الكرامية، وكذلك الأشاعرة والماتريدية والكلابية، كل هذه امتداد للنزعة الكلامية التي بدأت شرارتها في القدر؛ ولذلك كل فرق أهل الكلام عندها خلل في عقيدة القدر، فتشترك في هذا القاسم المشترك، يقل أو يكثر.

    1.   

    الوقوف عند السنن وعدم التجاوز منجاة من البدع

    قال رحمه الله تعالى: [ واعلم -رحمك الله- لو أن الناس وقفوا عند محدثات الأمور ولم يتجاوزوها بشيء، ولم يولدوا كلاماً مما لم يجئ فيه أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه؛ لم تكن بدعة.. ].

    أي: لو أن الناس وقفوا على التزام شرع الله عز وجل، وحذروا المحدثات، بحيث لم يفعلوها ولم يصدقوها ولم يتبعوا أهلها، ولم يتجاوزوها بشيء، ولم يولدوا كلاماً مما لم يجئ فيه أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه لم تكن بدعة، بمعنى أن الناس لو تعلموا الدين وأخذوا به لم تكن بدعة؛ لأن هذا الكلام الذي قاله الشيخ لا يمكن أن يتأتى بمجرد الدعوى، أو بمجرد دعوى العلم اللدني، أو دعوى الحصانة كما يقول بعض الجهلة الآن، يقول: أجيالنا محصنة، نحن بيئة صالحة وأجيالنا نشأت على الفطرة؛ فنحن في مأمن من الأهواء والبدع لأن أجيالنا محصنة من العقائد الفاسدة.

    أقول: هذا تهور وتفريط وجهل مطبق!

    فإنه ليس هناك من المسلمين من يعتبر محصناً إلا إذا بذل الأسباب، ونحن إذا لم نستمر على النهج الذي كنا عليه، وورثناه عن السلف الصالح، فأجيالنا معرضة للأهواء، وقد بدأت قرون الأهواء تظهر بين أجيالنا بعنف، فلا ينبغي أن نتساهل في الأمر، بل لا بد أن نقف عند الحد الذي أوقفنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين ونحذر المحدثات، وذلك لا يتم إلا بتربية أجيال المسلمين على النهج السليم من حيث تلقين العقيدة تلقيناً جيداً وحازماً، ومن حيث تلقين أصول الإسلام وآدابه ومنهج السلف في العلم والعمل والتعاون، ومن حيث الأخذ بأصول التلقي على نهج سليم، ومن الأخذ بأصول العلم الشرعي على نهج سليم.

    ما لم نلقن أجيالنا بهذا الأسلوب السليم، ونربيهم على العقيدة الصحيحة، ونحذرهم مما ينافيها على جهة الإجمال؛ فإنا معرضون للفتن قطعاً، لأنه ليس بيننا وبين الله عز وجل إلا أن نتمسك بدينه، وما لم نتمسك فالعصمة منتفية.

    قال رحمه الله تعالى: [ واعلم -رحمك الله!- أنه ليس بين العبد وبين أن يكون مؤمناً حتى يصير كافراً إلا أن يجحد شيئاً مما أنزله الله تعالى، أو يزيد في كلام الله أو ينقص، أو ينكر شيئاً مما قال الله عز وجل، أو شيئاً مما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتق الله رحمك الله! وانظر لنفسك، وإياك والغلو في الدين؛ فإنه ليس من طريق الحق في شيء.. ].

    هنا أشار الشيخ أيضاً إلى نواقض الإسلام، وأشار أيضاً إلى أمر مهم، وهو أنه ليس بين العبد وبين الكفر إلا أمور قد يستصغرها أغلب الناس، وهي أحياناً أمور قلبية أو لسانية أو عملية غير ظاهرة، وأن الكفر لا يعني أن الإنسان يمر بمراحل وأحوال وتقلبات ظاهرة، أو يمر بأشياء لا بد أن تترتب بعضها على بعض! لا، فأحياناً يحدث الكفر في لحظة، بحالة القلب، أو بكلمة من اللسان، أو بعمل مكفر، وهذا أمر خطير ينبغي أن نتنبه له، بعض الناس يظن أن الكفر أمر صعب، وأنه بعيد عن المسلم إلا بأحوال وإجراءات قد لا يقع فيها المسلم إلا عمداً، بينما الصحيح أنه قد يقع في قلبه أشياء توقعه في الكفر، لكن الحكم بكفره هو الذي يحتاج إلى شيء من التأني، أما الوقوع في الكفر فإن المسلم يخشى عليه ما لم يتعاهد نفسه بفهم العقيدة الصحيحة، وبالاستعانة بالله عز وجل والتوكل عليه والخضوع له، وبالحذر من فلتات اللسان وخطرات القلب التي ربما تخرجه من الدين، فليكن المسلم حذراً من أن يحدث له ما يخرجه من الدين، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بقوله: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك)، وأشار إلى أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

    فالمسألة خطيرة جداً، فما بين الكفر والإيمان إلا شعرة، ذكر الشيخ نماذج منها قال: (ما بين العبد وما بين أن يصير كافراً إلا أن يجحد شيئاً مما أنزله الله تعالى).

    الجحد أيضاً أحياناً يحدث من الإنسان وهو غافل، لكن لا يحكم بكفره، كمن يسمع نصاً من النصوص الشرعية يظن أنه ليس بصحيح فيجحده، فهذا قال الكفر لكن قد لا يكفر لأنه جاهل، وأعظم من هذا من يسمع بأمر من أمور الدين فينكره؛ ظناً منه أنه ليس من أمور الدين، وهو من أصول الدين ومن قطعيات الدين، فقد يجحده ظناً منه أنه ليس من الدين.

    أما إذا جحد لهواه أو استناداً على مقاييس ومصادر تلق من غير الدين؛ فإنه يكفر كفراً صريحاً.

    وكذلك قال: (أو يزيد في كلام الله عز وجل)، هذا أيضاً من بواعث الكفر، وهو أن يدخل في الدين ما ليس منه، سواء زاد آية أو زاد حديثاً، أو لم يزد آية ولا حديثاً لكنه جعل شيئاً من البدع من الدين وليس من الدين.

    (أو ينقص) أي: ادعاء أن هناك أموراً من أمور الدين الأصلية يمكن أن يستغنى عنها، أو لا نحتاجها، أو ليست من الدين؛ فهذا أيضاً من النقص، وربما يقع به الإنسان في الكفر، أما الإنكار فهو يرجع إلى الجحود، لكن الجحود أشد من الإنكار؛ لأن الإنكار يدخل فيه الإنكار باللسان، بينما الجحود جحود اللسان والقلب، أو جحود القلب، فهو أشد من الإنكار.

    1.   

    كل ما ورد في كتاب شرح السنة للبربهاري مأخوذ عن الكتاب والسنة أو عن السلف أو عن أحدهم

    قال رحمه الله تعالى: [ وجميع ما وصفت لك في هذا الكتاب فهو عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه وعن التابعين، وعن القرن الثالث إلى القرن الرابع؛ فاتق الله يا عبد الله! وعليك بالتصديق والتسليم والتفويض والرضا لما في هذا الكتاب، ولا تكتم هذا الكتاب أحداً من أهل القبلة؛ فعسى يرد الله به حيراناً عن حيرته، أو صاحب بدعة عن بدعته، أو ضالاً عن ضلالته فينجو به، فاتق الله! وعليك بالأمر الأول العتيق، وهو ما وصفت لك في هذا الكتاب، فرحم الله عبداً ورحم والديه قرأ هذا الكتاب وبثه وعمل به، ودعا إليه واحتج به؛ فإنه دين الله ودين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه من استحل شيئاً خلاف ما في هذا الكتاب فإنه ليس يدين الله بدين وقد رده كله، كما لو أن عبداً آمن بجميع ما قال الله تبارك وتعالى إلا أنه شك في حرف؛ فقد رد جميع ما قال الله تعالى، وهو كافر.

    كما أن شهادة أن لا إله إلا الله لا تقبل من صاحبها إلا بصدق النية وإخلاص اليقين، كذلك لا يقبل الله شيئاً في ترك بعض، ومن ترك من السنة شيئاً فقد ترك السنة كلها؛ فعليك بالقبول، ودع المحك واللجاجة؛ فإنه ليس من دين الله في شيء، وزمانك خاصة زمان سوء فاتق الله! ].

    هذا الكلام فيه شيء من التزكية والمبالغة لما كتبه الشيخ عن نفسه، لكن يظهر لي أنه يقصد مجمل ما ورد في الكتاب؛ لأنه لا يتصور أن مثل البربهاري يعتبر كل ما قاله من القطعيات، ومن هنا يكون هذا الوعيد على من خالف أو التأكيد على التمسك به، وقوله: (وجميع ما وصفت لك في هذا الكتاب فهو عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه أو عن التابعين)، يقصد هنا التنويع، أنه إما أن يكون عن الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة أو عن التابعين، أو عن القرن الثالث إلى القرن الرابع، وهو قد عاش في القرنين الثالث والرابع.

    فيبدو لي أنه إذا عبرنا بـ(أو) فالكلام صحيح، أما أن ينسب جميع ما قاله عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ففي هذا نظر؛ لأن هناك أشياء اجتهد فيها رحمه الله ليست ثابتة عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي محل نظر عند أئمة العلم، لكن السياق يتحمل أن يقصد التنويع، أن كل ما ذكره إما عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة، أو عن التابعين، أو عن القرون الثلاثة المفضلة، وهذا صحيح، فكل ما ذكره مما قاله أئمة السلف أو بعضهم أو أحدهم، أما الباقي فهو أشبه بالموعظة والوصية، وهذا لا حرج عليه فيه حينما أمر بتوزيع هذا الكتاب ونشره والاهتمام به؛ لأنه يمثل خلاصة أصول أهل السنة والجماعة، وأظن -والله أعلم- أنه في وقته يندر أن يوجد مثل هذا الكتاب الجامع الموجز.

    صحيح أن أئمة السلف في وقته كتبوا مطولات في العقائد، لكنها كانت إما ضمن كتب الحديث، أو كانت مفردة في العقائد لكنها طويلة ومسندة تصل إلى مجلدات، أو أنها في بعض قضايا العقيدة: إما في الإيمان أو في أفعال العباد، أو في قضية بدعة خلق القرآن، أو في مسائل القدر وغيرها.

    فيندر في وقت المؤلف رحمه الله أن يوجد كتاب موجز يذكر أصول السلف على هذا النحو بجميع ما يرى أنه من الأصول، فهو من الكتب المبكرة جداً التي على هذا النحو، فيبدو لي أنه أوصى بالكتاب لأنه على هذا النحو الذي ذكرته لك، وإلا فهو يعلم أن للأئمة كتباً ومؤلفات فيها أصول الدين، وفيها ذكر هذه الأصول أو بعض هذه الأصول.

    ثم ضمن هذه الوصية بعض الأشياء، مثل: (عليك بالأمر الأول العتيق) هذا سبق الكلام عنه.

    وكذلك قوله: (فإنه من استحل شيئاً خلاف ما في هذا الكتاب فإنه ليس يدين الله بدين)، يقصد قضايا أصول الدين التي ذكرها، ما أظن أنه يقصد جميع ما ورد فيه؛ لأن بعض ما ورد فيه جزئيات وفرعيات، لكن يقصد جملة الأصول، فلا شك أن من استحل شيئاً من هذه الأصول التي اتفق عليها السلف فإنه ليس يدين الله بدين.

    وقوله: (وقد رده كله) لأن من رد شيئاً من أصول الدين فقد رد الباقي.

    ثم ذكر ما يؤيد ذلك، وذكر أيضاً مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، (كما أن شهادة أن لا إله إلا الله لا تقبل من صاحبها إلا بصدق النية وإخلاص اليقين، ولا يقبل الله شيئاً في ترك بعض هذه الأصول، ومن ترك من السنة شيئاً فقد ترك السنة كلها)، يعني: من الأصول القطعيات، لا يقصد السنة المفهومة عند الفقهاء التي هي بمعنى المستحبات وما دون الواجب ونحو ذلك، إنما يقصد بالسنة العقيدة، كما هو معروف عند السلف.

    قوله: (فعليك بالقبول، ودع عنك المحك)، أي: المماحكة، وهي المغالطة والمراء والجدال، وهي أيضاً ترادف اللجاج، (فإنه ليس من دين الله في شيء).

    (وزمانك): يقصد الزمان الذي كان فيه بداية القرن الرابع الهجري، وفعلاً تميز ذاك القرن برواج البدع وعنفها على السنة، وشدة وطأتها على المسلمين؛ بسبب وجود دويلات الرافضة، ودويلات الفلاسفة، الدويلات التي نشرت البدع، ومع ذلك كان زمانه من أفضل الأزمنة بعد القرون الثلاثة الفاضلة، والله أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    حصر الكفر في الاعتقاد فقط

    السؤال: هل القول بأن الكفر لا يكون إلا باعتقاد من أقوال أهل السنة والجماعة؟

    الجواب: القول بأن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد -أي: بالأمور الاعتقادية- قول لبعض أهل السنة، لكنه قول مرجوح، ويخالف قول الجمهور، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، وذكره عن أئمة كبار من أئمة الدين المعدودين من أئمة السنة.

    لكنه كلام غير مفسر؛ لأنهم قالوا: إن الكفر الاعتقادي لا بد أن ينبثق عنه عمل، فكأنهم جعلوا الكفر العملي من لوازم الكفر الاعتقادي.

    فعند التفصيل نجد أنهم يتفقون على أن الكفر ليس الكفر الاعتقادي فقط، بل وفيه العملي، لكنهم يقولون بأنه لا يمكن أن يكون هناك إخلال عملي إلا وهو ناتج عن فساد الاعتقاد، وإن اختل شيء من ذلك فهذا من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، لكن نحن نحكم بقرائن الأحوال.

    فالشاهد أن هناك من أئمة السلف من قال بأن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد، لكنه كما قلت كلام مجمل يفسره قول من فصلوا، ومع ذلك فهذا القول مرجوح، والذي عليه جمهور السلف أن الكفر يكون بالاعتقاد فقط، ويكون بالعمل فقط، ويكون بهما سواء؛ لأن الإعراض عن دين الله بالكلية كفر وإن لم يصحبه اعتقاد.. والشرك بالله عز وجل كفر ولو لم يصحبه اعتقاد؛ لأن مسألة الاعتقاد مسألة ليست حدية، أي: ليست ظاهرة، بل مسألة مجملة مبهمة، قد لا يفهمها كثير من الناس، فإن بعض الناس لا يستصحب الاعتقاد في الأعمال الشركية على الوجه الذي نتصوره نحن، قد يعمل الشرك بالتقليد، لكن مع ذلك يعد مشركاً.

    فأقول: إن هناك من الأعمال ما يقتضي الخروج من الملة ولو لم يصحبه اعتقاد في الظاهر لنا.

    وكذلك الاعتقاد قد يكون مخرجاً من الملة -وهذا متفق عليه- وإن لم ينبثق عنه عمل، وقد يجتمع العمل الظاهر والعمل القلبي في الكفريات، وهذا هو الغالب.

    التكفير بالجهل

    السؤال: ما حكم التكفير بالجهل؟

    الجواب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسائله وفي كتبه كفر الجاهلين أحياناً، ونفى عنهم الكفر أحياناً، وهذا صحيح وهذا صحيح.

    إذا قرأت ما قاله؛ فإنه لا يكفر الجاهل إذا وقع في الكفر عرضاً، هذا ظاهر ما تأملته من كلامه وكلام أئمة الدعوة، يرون أن الجاهل الذي يقع في الكفر عرضاً لا يكفر حتى نتثبت منه، لكن الجاهل الذي يقع في الكفر أصالة بالتبع، بمعنى أنه يمارس الكفر دائماً وهو ديدنه، كمن يطوف بالقبر يومياً أو كل أسبوع أو كل سنة، ويستمر على هذا، أو يسجد للصنم دائماً وإن ادعى الإسلام، لأنه يعمل الكفر بشكل دائم، والأصل فيه الكفر.

    أما الكفر العارض فهو ينفى عن الجاهل حتى تتبين حاله، فالمسلم الذي الأصل فيه أنه على السنة، فإذا وقع في كفر يحمل على الجهل فنتثبت من حاله.

    أما من كان الأصل فيه البدعة المغلظة والكفرية وهي ديدنه؛ فهذا الأصل فيه الكفر حتى يتبين لنا ما يعارض ذلك.

    هذا الظاهر من كلام الشيخ.

    الطحاوي ممن يقول: لا كفر إلا باعتقاد

    السؤال: الطحاوي هل هو ممن يقول بالقول الأول: لا كفر إلا باعتقاد؟

    الجواب: هذا الظاهر، الطحاوي رحمه الله مال في هذه المسألة إلى قول المرجئة في قوله: إنه لا كفر إلا باستحلال، أو بالاعتقاد، فقوله أميل إلى قول المرجئة، لكن في عباراته اضطراب، فهو عندما أجمل ذكر قول المرجئة أنه لا يكفر أحد بذنب ما لم يستحله، وهذا غير صحيح، فهذه ليست عبارة السلف، فيبدو لي -والله أعلم- أنه أقرب إلى قول المرجئة، لكن إذا نظرنا إلى عبارته عند التفصيل نجد أنه يحاول أحياناً أن يقول بقول أهل السنة والجماعة، ولا يستبعد أنه في هذه المسألة على مذهب شيوخه من مرجئة الفقهاء، وإن كان رحمه الله من أئمة السنة في سائر أصول الدين.

    أحسن الكتب التي ترد على الفكر الإرجائي

    السؤال: بدأ ينتشر في الآونة الأخيرة وعلى شاشات الفضائيات الفكر الإرجائي، ونريد مرجعاً شاملاً عن هذا الفكر وهذا الاعتقاد..

    الجواب: لقد كتبت عدة كتب في الإرجاء والمرجئة، وهي متوفِّرة في الأسواق، لكن من أراد التأصيل العلمي لمثل مستويات الذين يحضرون الدروس الشرعية فكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية مؤصل، وذكر هذه الأمور تفصيلاً.

    وعلى سبيل الإيجاز، من الكتب القديمة:

    أحسن من ناقش هذه القضية أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان، رسالة موجزة، لكن في الحقيقة تقصي أقوال المرجئة وأدلتهم بعبارة سهلة موجزة، وليس فيها استطراد، وبالدلالة الشرعية الظاهرة القوية.

    أما انتشار الفكر الإرجائي في الفضائيات فهو راجع إلى أن أغلب الذين يسهمون في البرامج الإسلامية في الفضائيات أشاعرة ماتريدية، وعقلانيون عصرانيون، وهؤلاء مرجئة في الأصل، لا نتوقع منهم غير ذلك، إلا من وفقه الله عز وجل للقول بقول أهل السنة والجماعة.

    علاقة المسلمين بنهاية الألف عام أو بدايته

    السؤال: هل للمسلمين علاقة بالألفية؟

    الجواب: مسألة الألفية لا علاقة للمسلمين بها، أعني التعلق بنهاية الألفي عام، بعض الناس يظن أن الألفية هي نهاية عام (1999)، وليس كذلك بل بعد (1999) تدخل السنة الأخيرة من الألف الثانية من ميلاد المسيح إن صح تاريخ هذا الميلاد، مع أن فيه نظراً كبيراً؛ ولذلك مما يحتج عليهم بتنبؤاتهم الكاذبة أن الميلاد بهذا التاريخ فيه شك كبير.

    لكن على أي حال أقول: إنه لا علاقة للمسلم بهذه الألفية إطلاقاً، فالمسلم لا يتعلق دينه ولا مصيره ولا مصائر الأمم عنده بشيء من الأرقام أو الحسابات أو السنين أو المئات أو الألوف، وكل من يتعلق بالألف أو المائة أو العشرة هم الأمم الهالكة التي ليست على دين صحيح، فهي تعيش أوهاماً، خاصة اليهود والنصارى والرافضة الآن كلهم متعلقون بالألفية.

    الرافضة سمعت لهم أشرطة في تعلقهم بهذا الألف الذي نحن فيه لا يقل عن تعلق اليهود والنصارى الذين صنعوا دين الرافضة والمجوس.

    فالشاهد أن المسلم ليس له علاقة ولا ينبغي أن يتعلق قلبه وتوهماته ولا مصيره ولا اهتماماته بالألف الذي نحن فيه ونهايته، أو بداية الألف القادم.

    أما اليهود والنصارى والأمم الأخرى فلهم اعتقادات، هذه الاعتقادات كانوا يرحلونها، ففي فترات قديمة من الزمان كانوا يعتقدون أنه بعد مائة سنة من موت المسيح سيحدث شيء، وبعد المائتين، وبعد الثلاث، وبعد الأربع، وبعد الخمس، وبعد الست ما حصل شيء، ثم تعلقوا بالألف الأول، وجاءهم شيء عظيم من الإرجاف والدجل والكذب في الألف الأول من التاريخ الميلادي السابق، وعلقوا به آمالاً أشد من تعليق المعاصرين؛ لأن أولئك كانوا أكثر تديناً، ولكن تبخرت آمالهم.

    وهؤلاء أيضاً ستتبخر آمالهم بإذن الله جزماً في هذه الألفية، فهم يعتقدون أن في نهاية هذا الألف ستحدث أحداث جسام تغير معالم الدنيا وتغير العالم تكون في صالحهم، واليهود يجزمون بأن الأحداث ستكون في صالحهم، والنصارى يجزمون بأن هناك أحداثاً كونية ستحدث وأنها في صالحهم، يعتقدون أنه سيخرج مهدي أو رسول أو نبي أو مصلح.. إلى آخره، أو ملك بالنسبة لليهود من نسل داود يتوج ويحكم مملكة إسرائيل العظمى، ويحكم العالم، والنصارى كذلك، ولذلك كل نبوءاتهم متعلقة بأجزاء من فلسطين، وبدءوا يمهدون للاحتفالات بهذا.

    لكن في الحقيقة هم يذكرون الشيء الذي يعجبهم ولا يذكرون ما لا يعجبهم، فيجاريهم ضعاف المسلمين خاصة بعض المثقفين والمفكرين، وبعض المؤسسات الغوغائية جارتهم في مثل هذه التوقعات والتوهمات.

    العجيب أن لهم نبوءات من عشر سنين، (91) و(92) و(93) و(94) و(95) و(96) و(97) بالذات و(98) و(99) التي نحن فيها، فهذه الثلاث علقوا بها أشياء كثيرة ما حدث منها شيء بحمد الله، بل الذي يحدث عكسها، لكنهم لا يعلنون ما يسوءهم، وأكثركم ربما سمع بنبوءاتهم عن شهر إبريل الماضي، وأنه يحدث فيه حدث عالمي عظيم، حتى إن بعضهم عطل حياته وعطل وظيفته وترك البناء وهجر بيته.

    فالشاهد أن التعلق بالألفية من خرافات الأمم الوثنية، وما يقولونه من نبوءات تتعلق بأحداث كبرى هم متخرصون كاذبون، وقد يحدث الله عز وجل شيئاً، لكن لا يحدث ما يوافق نبوءاتهم.

    فلذلك أقول: لا نبالغ في النفي ولا الإثبات، نحن نجزم بأن ما يقولونه لن يكون، لكن لا نبالغ بأنه لن يحدث من العوارض الكونية شيء؛ لأن الله عز وجل يتصرف في خلقه كما يشاء، فقد تحدث فيضانات أو زلازل، كما يحدث في سائر السنين، فلذلك لو حدث شيء لا قدر الله؛ فيجب أن لا نربطه بتوهماتهم.

    مثلاً: هذه السنة كثرت الزلازل، لكن كثرت لأنها سنة من السنين التي قدر الله فيها الزلازل، لا لأنها نهاية الألفين.

    ويجب أن نعتقد هذا جازمين بأنه لا علاقة لما يمكن أن يحدث بنبوءاتهم إن حدث، وإلا فأنا متفائل أن الله عز وجل سيخيب آمالهم، ولن يحدث شيء على الأقل من باب ألا تكون نبوءاتهم فتنة للناس، إلا أن يعاقبنا الله عز وجل بسبب التعلق بأذيالهم.

    فالشاهد أن التعلق بالألفية من خرافات الأمم ولا علاقة لها بالإسلام، وأن الإسلام لم يعلق مصائر الأمة ولا مصير أحد من الناس ولا شيء من الأحداث بهذه السنين، والسنين كلها واحدة يقدر الله فيها ما يشاء، فيجب على المسلمين أن يتنبهوا ولا يجاروا ما يحدث في الإعلام وما يشيعه ضعفاء النفوس، وما يحدث من الأمم الآن من التهيب والتحفز والاستعدادات الضخمة التي يستعدون بها.

    وينبغي أيضاً إشاعة هذا الأصل بين الناس اليوم؛ لأن الهواجس والوساوس قد انتشرت بين أبناء المسلمين، وقد قال لي أحد الشباب: إنه ذهب ليشتري جهازاً من الأجهزة فلقيه آخر فقال: لا تشتر حتى ينتهي عام (1999م) فقلت: لقد أخطأ في التقدير، وكان المفروض أن يقول لك: حتى ينتهي عام (2000) لأن الألفية الثالثة لا تبدأ إلا في بداية سنة ألفين وواحد.

    فهذا مسلم دخله الوهن الوسواس، ولو قدر أن قامت الساعة بعد مائة سنة أو ألف سنة فهل يعني هذا أن المسلمين يتواصون بعدم الاستمرار في عمارة الدنيا وعبادة الله عز وجل؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، فهذا الذي ينبغي للمسلم أن يعتقده.

    مع أننا نجزم أنها لن تقوم الساعة بتخرصاتهم، بل الله أعلم متى تقوم؛ لكن ما أظن أن الله عز وجل يسلم المسلمين لأوهام وتخرصات هؤلاء الكفار بحيث تصدق نبوءاتهم وتصدقها أخبار الله عز وجل، هذا بعيد في سنن الله وإن عاقب الله البشرية بعقوبة فليست متعلقة أو بعقوبات فليست متعلقة بالألفين، والله أعلم.

    السرية في الدعوة إلى الله بدعة

    السؤال: لقد ذكرت في إحدى المنابر الإعلامية أن السرية في أعمال الدعوة من سمات أهل الأهواء؟

    الجواب: السرية في الدين والنجوى في الدين من سمات أهل الأهواء؛ لأن الدين ليس فيه نجوى، والدعوة إلى الله عز وجل ليس فيها نجوى لكن أن يكون للناس أحوال في ترتيبهم لأمورهم وفي تقديرهم لمعاشهم في بعض أمور الدعوة إلى الله عز وجل بما تقتضيه المصلحة، ككتمان شيء من الأشياء التي في إشاعتها مضرة، هذا أمر راجع إلى القواعد الشرعية؛ لكن السرية في أمر الدعوة بمعنى أن يتفق أناس على تأسيس أمور دون جماعة المسلمين يسمونها مناهج في الدعوة أو نحوها، هذا هو المحذور.

    ولذلك قال كثير من السلف: إذا رأيت أناساً يتناجون من دون العامة فاعلموا أنهم على تأسيس ضلالة، أي: فلماذا يتهامسون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل في مناهجها وأصولها.

    أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد يحتاج إلى شيء من الكتمان، كما إذا أراد محتسب أن يقضي على منكر ويخشى في إشاعة عمله لإزالة هذا المنكر ما يسيء إلى سمعة الآخرين، أو يضر بأعراض الناس، أو يؤدي إلى قطع السبب؛ فهذا أمر آخر لا علاقة له بما أذكر، فأنا أقصد بالسرية في الدين والدعوة أن يكون هناك مناهج وأساليب يختص بها أناس عليها يوالون وعليها يعادون، ويكون لهم خصوصيات يعتزلون فيها عن جماعة المسلمين، وعن العلماء وطلاب العلم الآخرين، يكونون أصحاب شعار وتوجه خاص بهم؛ هذا هو الممنوع، وهو السرية التي هي بدعة وتؤدي إلى البدعة وإن صدق أصحابها في نياتهم فمآلها إذا لم يتركوها إلى البدعة، هذا ما أقصده، وفعلاً أنا كررت هذا في برنامج البدعة والسنة في إذاعة القرآن ولعل السائل يقصد ذلك بالمنابر الإعلامية، والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768031160