فالفتنة: هي كل ما أدى إلى الفرقة بين المسلمين في دينهم أو في دنياهم، وليس من شروط الفتنة أن يصل الأمر فيها إلى القتال.
فما أدى إلى الفرقة في الدين فهو فتنة، وما أدى إلى مفارقة جماعة المسلمين فهو فتنة، وما أدى إلى الخروج على ولاة المسلمين وطاعتهم وترك البيعة والسمع والطاعة فهو فتنة، وما أدى إلى الإخلال بمصالح الأمة العظمى كالإخلال بالأمن أو تضييق المعايش على الناس أو الوقوع في الظلم الظاهر بين العباد؛ فإن ذلك كله فتنة.
إذاً: فالضابط في الفتنة هو الإضرار بالدين أو الدنيا.
يقول: (فإذا وقعت الفتنة فالزم جوف بيتك) هذا هو الأصل في كل مسلم إذا رأى الفتنة أن يلزم جوف بيته؛ لأن كثيراً من الذين يقعون في الفتن يقعون فيها بسبب ولوجهم أو تساهلهم في المشاركة فيها، وأعني بذلك أن كثيراً ممن يقعون في الفتنة قد لا يقصدون الباطل أو لا يريدونه؛ فمجرد المشاركة تتعقد عليهم الأمور، وتصرفهم الخطوب، وأيضاً قد تعمى بصائرهم عن الحق حتى يقعوا في الباطل من حيث لا يشعرون والفتنة تدع الحليم حيراناً، والمتأمل لحال الفتن في تاريخ الإسلام يجد كثيراً ممن وقعوا فيها لم يكونوا يقصدون الفتنة وليسوا أهل فتنة؛ لكنهم تساهلوا بأن شاركوا مع أحد أطراف الفتنة وبقصد الإصلاح أحياناً، لكن الأمر يفوت على الشخص؛ لأن الفتنة لا تكون فيها القيادة والريادة لأهل العلم، ولا لأهل الحلم، ولا لأهل الحكم، ولا لأهل الحل والعقد، بل تكون القيادة والريادة في الغالب لأهل الفساد في الأرض، أو الدهماء والرعاع الذين لا عقول لهم ولا دين.
وينقاد العالم الحليم الحكيم إلى الفتنة مع الرويبضة، ومع الرعاع والدهماء رغم أنفه، إلا إذا لزم بيته، هذا على العموم لكن قد يتعين على بعض الناس مثل ولاة الأمر والعلماء أهل الحل والعقد المطاعين في عشائرهم أن يسعوا إلى الإصلاح لكن لا يكون لهم انحياز مع أحد أطراف الفتنة؛ لأن الانحياز يؤدي إلى إيقاد الفتنة.
قال: (وفر من جوار الفتنة وإياك والعصبية) هذا أيضاً دليل فقه الشيخ رحمه الله، فإن الفتنة غالباً تثير العصبية، وما من فتنة إلا وتثور مع العصبية؛ لأن الفتنة تقرب ضعاف الإيمان والعقول الذين تجرهم العصبيات، وتبعد أولي الفقه والحلم، ومن هنا تدخل العصبية للبلاد، العصبية للشعار، العصبية للحزب، العصبية للجماعة، العصبية للقبيلة، لأن الذي يقود الناس في الفتن هو من لا يخاف الله عز وجل، أو يقودهم الرعاع أو أصحاب الظلم والجور أو طلاب الدنيا وطلاب السلطان وهؤلاء هم أصحاب العصبية.
قال: (وكل ما كان من قتال بين المسلمين على الدنيا فهو فتنة).
هذه قاعدة عظيمة أيضاً، إذا كان النزاع على دنيا فهو فتنة في العموم.
(فاتق الله وحده.. إلى آخره) يكفي ما ذكره الشيخ؛ لأن ما ذكره هو أعظم الأصول التي تتعلق بالفتن، وإلا فالكلام في الفتن مهم لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الرايات وكثرت فيه الشعارات والانتماءات، ووصلت إلى حد الظلم والتجاوز بين فئات المسلمين، لكن لا يتسع المقام الآن.
قال رحمه الله تعالى: [ وأقل من النظر في النجوم إلا بما تستعين به على مواقيت الصلاة، واله عما سوى ذلك فإنه يدعو إلى الزندقة ].
يقصد بالنظر إلى النجوم ما هو مشهور عند الفلاسفة وعند بعض الفلكيين وعند كثير من الأمم والطوائف والديانات الذين يتعلقون بالنجوم تعلقاً بدعياً أو شركياً، ولا يقصد مجرد النظر بالعين الباصرة فإن النظر في النجوم وهي تتلألأ والتفكر فيها على أنها من آيات الله وخلقه من المطلوب.
ولذلك ينبغي لأي واحد منا إذا خرج إلى البرية وابتعد عن أضواء الكهرباء أن يعطي نفسه فرصة للنظر والاعتبار في هذه النجوم، فإن فيها عبرة؛ لكن الشيخ قصد النظر المحرم الذي اعتادته كثير من الأمم والملل والديانات والطوائف مثلما يفعل الصابئة وفلاسفة اليونان القدامى الذين يزعمون أن النجوم فيها أرواح الملائكة، أو أنها آلهة، أو أنها مدبرة للكون أو غير ذلك، ومن هنا يتعلقون بها تعلق عبادة وتقديس وتعظيم، أو الذين ينسبون بعض الأحداث الكونية العالمية أو المحلية أو غيرها إلى النجوم، أو الذين يربطون مصائر الأفراد بالنجوم مثل أصحاب الطوالع، يقول طالع فلان سعيد وطالع فلان شقي، فلان ولد في البرج الفلاني فهو إذاً سعيد، وفلان ولد في البرج الفلاني فهو إذاً شقي.. إلى آخره.
فهذا كله من باب التعلق البدعي والتعلق المحرم بالنجوم.
إذاً: فكل نظر في النجوم يؤدي إلى الاعتبار في خلق الله عز وجل، أو يؤدي إلى الفائدة الدنيوية كمعرفة الصيف والشتاء وتقلبات الجو التي عرفت بمسارات النجوم ونحو ذلك جائز؛ لأنه تتعلق به مصالح العباد في معاشهم خاصة في الزراعة والبذور والأحوال الجوية.
أيضاً هذه قاعدة معروفة ومن أعظم القواعد عند السلف تجاه الأهواء وأهلها فإن من أعظم أسباب الأهواء هو الكلام، والمقصود بالكلام هو التحدث في أسماء الله وصفاته وأفعاله والغيبيات الأخرى والأخبار وما لا طاقة للبشر به بغير علم، حتى أمور الدنيا؛ لكن الغالب أن علم الكلام يتعلق بأمور الدين, وبخاصة في أسماء الله وصفاته وأفعاله والسمعيات الأخرى التي ورد بها الشرع، فإن تلاميذ الفلاسفة من الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية خاضوا في الأمور الغيبية وأمور العقيدة بأسس عقلانية أو مقاييس مادية، وحكموا عقولهم ومقاييسهم في أمور الدين أو في أمور العقيدة، فقالوا على الله بغير علم، وتأولوا ما ثبت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم تأولاً لا يصح، وأنكروا ما وردت به النصوص أو حرفوه وأدخلوا على الدين ما ليس منه، ونفوا ما هو من الدين أو حرفوه، وكل ذلك ناتج عن علم الكلام.
إذاً: فعلم الكلام من العلوم المذمومة باتفاق السلف، ولا يمكن لسلفي خالص أن يمدح علم الكلام أو يثني عليه أو يستسيغ تعلمه ودراسته والنظر فيه والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر