الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعل عملنا خالصاً لوجهك الكريم، وبعد:
فلعل من أهم الأمور التي ينبغي أن يعنى بها المسلمون جميعاً وطلاب العلم على وجه الخصوص في هذا العصر هو العناية بالعلوم الشرعية على أصول صحيحة سليمة، ونحن نرى بحمد الله بوادر التفات المسلمين إلى العلم الشرعي في جميع بقاع الدنيا ولا سيما الشباب، وهذا أمر يبشر بخير، ولا شك أنه إن شاء الله من علامات الخير لهذه الأمة ونهضتها على فقه من دينه.
ومع ذلك قد يعتري هذا التوجه شيء من الخلل والتقصير بسبب الفتور الذي حصل بين المسلمين في العصور الأخيرة في تحصيل العلم الشرعي، وبسبب استحداث وسائل لطلب العلم أكثرها مستمد عن غير المسلمين لا يخدم الفقه الشرعي ولا يؤدي إليه بطريق سليم، فمن هنا اختلطت على الناس الوسائل والمناهج والأساليب.
ولعل من أهم الأمور التي ينبغي أن أنبه لها بمناسبة هذه الدورة أن مما يجهله كثير من طلاب العلم الأسلوب الصحيح لطلب العلم الشرعي على أسس سليمة تؤدي إن شاء الله إلى ثمار طيبة وسليمة.
ومن هذه الأسس: أن العلم الشرعي الأصل فيه أن يُطلب على تدرج وأن يُطلب بالتلقي المباشر عن المشايخ الكبار ثم من دونهم ممن يتقنون ولو علماً من العلوم، ولا يشترط أن يتعلم جميع الشباب على الكبار؛ لأن هذا قد لا يتهيأ للجميع، المهم أن يُطلب العلم على أسس سليمة ومنها التلقي المباشر، ولا يُكتفى بمجرد الوسائل، أي الأخذ عن الكتب أو الأشرطة أو النشرات أو غيرها، فهذا لا يكفي، بل ربما يكون ضرره أكثر من نفعه، فعلى هذا لا بد من إعادة الأصول الصحيحة السليمة لتلقي العلم الشرعي.
ومما كثر الخلل فيه أن كثيراً من طلاب العلم لا يتلقونه على أسلوب صحيح من حيث التدرج، والأصل في العلم الشرعي أن يؤخذ تدرجاً، فتؤخذ الأوليات والأصول من المتون الأساسية حفظاً واستيعاباً وهو الأصل، وإن لم يتوفر الحفظ فعلى الأقل لا بد من الاستيعاب للمتون الأساسية في كل علم، بحسب توجه الشخص وميوله وبحسب قدرته واستعداده، فمن عنده استعداد كبير ومواهب فهذا يأخذ أصول العلوم الشرعية واللغوية كلها، ومن ليس عنده قدرة أو استعداد أو وقت فليأخذ ما يناسبه أو ما يرى أنه يحتاجه أو تحتاجه الأمة في وقته.
فعلى هذا لا بد من أخذ المتون أولاً، ثم بعد ذلك الشروح الوسيطة، ثم بعد ذلك الشروح البسيطة، وقد حرص كثير من طلاب العلم جزاهم الله خيراً في الآونة الأخيرة على أخذ هذا المنهج الذي كان عليه سلف الأمة، بمعنى أن يبدأ بالمتون حفظاً واستيعاباً، أو استيعاباً، ثم ما بعدها، ومن ذلك: هذه الدورة التي ستبدأ هذا اليوم إن شاء الله، ولا ننسى أن ندعو لمن تسبب في نشأتها وخروجها إلى حيّز التنفيذ، وعلى رأسهم إمام هذا المسجد جزاه الله خيراً، وجزى الله خيراً كل الإخوة والمشايخ الذين استعدوا لإلقاء هذه الدورة والإسهام فيها.
أما عن هذا الدرس فهو في متن لمعة الاعتقاد في التوحيد، واللمعة من الكتب أو المتون الشاملة التي ينبغي أن يُعنى بها طلاب العلم.
وعلم العقيدة توافرت له بحمد الله في هذا العصر مراجع ومتون وشروح كافية لمن أراد أن يطلبها، وهي متوفرة بأيدي طلاب العلم.
والمفترض في طلب العلم للعقيدة أن يبدأ بمثل هذا المتن أو ما يسبقه ككتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والأصول الثلاثة والمسائل الأربع، ونحوها من الكتب الموجزة، ثم مثل هذا المتن الجيد المركز، ومثله متن الطحاوية، ومثله أيضاً منظومة الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله التي شرحها بمعارج القبول ..
والمتون الشاملة أولى من غيرها، وأقصد بالمتون الشاملة المتون التي تشمل أصول عقيدة السلف الصالح من أولها إلى آخرها في الجملة، وذلك أن المتون على نوعين: متون تأخذ شعبة من شعب العلم، ومتون تكون شاملة، ومتون تكون في أكثر العلم أو بعضه أو نصفه أو ثلثه، ومتون تكون في جميع أصول العلم، ومنها هذا المتن لمعة الاعتقاد؛ فإنه في أصل علم العقيدة ويشمل الأصول المهمة جميعها، ومثله كما قلت متن الطحاوية ومنظومة الشيخ حافظ ، فإن هذه المتون الثلاثة من أحسن المتون التي ينبغي أن يبدأ بها طالب العلم في تحصيل العقيدة السلفية الصحيحة.
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.
قال الشيخ الإمام العلامة موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قدّس الله تعالى روحه.
الشيخ الإمام موفق الدين أبو محمد من أعلام السنة، ومن مشاهير أئمة السلف، عاش في قرنين: القرن السادس وفي القرن السابع، وهو من الأئمة المجتهدين الذين نفع الله بهم الأمة، وهو مقدسي دمشقي، مقدسي من حيث النشأة والمولد فكان من أهل فلسطين، ولد قرب بيت القدس، ثم الدمشقي لأنه هاجر وهو صغير بسبب ما حدث من فتن وحروب واستيلاء النصارى على بيت المقدس فهاجر مع أسرته إلى دمشق وتلقى العلم فيها وفي بغداد، ثم استقر في دمشق وتعلم وعلّم فيها.
وللشيخ رحمه الله جهود عظيمة في نصر السنة وفي التأليف، وكان مع علمه وفضله وإمامته في الدين كان مجاهداً في سبيل الله في حروب المسلمين ضد الصليبيين، كعادة العلماء الأئمة الأعلام.
والشيخ رحمه الله له مصنفات عظيمة نفع الله بها الأمة إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة، ومن أعظمها هذا الكتاب، وله كتب في الفقه ومن أشهرها وأعظمها كتاب المغني وهو مغن كاسمه، فهو موسوعة فقهية كبيرة وليس مجرد شرح، وهو صاحب روضة الناظر الكتاب المشهور في أصول الفقه الحنبلي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد لا تمثله العقول بالتفكير ].
(لا تمثله): بمعنى لا تتوهم له شبيهاً ولا مثيلاً، وهذا يعني أن العقول لا يمكن أن تحيط بكيفية ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأشار بهذا إلى أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، واختياره هذه العبارة دليل على التزامه لنهج السلف، بل هو من أئمة السلف.
قوله: (لا تمثله)، بمعنى أنها لا يمكن أن تحيط به ولا بمثله؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير ].
هنا ذكر الشيخ قاعدة ولعلنا نجعلها القاعدة الأولى؛ لأننا بإذن الله سنضبط أكثر القواعد التي أشار إليها الشيخ، بعضها ستأتي على شكل إشارات وبرقيات سريعة؛ لأن الإمام كان يكتب في وقته للناس وكانوا في استيعابهم للعقيدة أكثر من استيعاب المعاصرين، ونحتاج الآن في هذا العصر الذي كثر فيه تشقيق العلم وتفصيله إلى أن نيسر الانتفاع بهذه القواعد، ففي قوله: [ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] إشارة إلى القاعدة التي قررها الله عز وجل في كتابه الكريم، وهي قاعدة في أسماء الله وصفاته كلها، وهي قاعدة الإثبات والنفي، وهنا بدأ بالنفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لدفع توهم المشابهة قبل تقرير الإثبات، وهذا نهج تفرد به أهل السنة والجماعة والسلف عن بقية الفرق التي هلكت، بمعنى أنهم يقررون نفي المماثلة والمشابهة لئلا ينصرف الذهن عند سماع صفات الله وأسمائه وأفعاله إلى التشبيه والتمثيل، فإذا استقر في ذهن المسلم أن الله ليس كمثله شيء ثم سمع قوله عز وجل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]اندفع التشبيه واندفع التمثيل وتوهم ذلك.
فإذاً هذه قاعدة، وهي: أن الله عز وجل موصوف بالإثبات، أي إثبات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفي النقائص عن الله عز وجل جملة وتفصيلاً.
فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فيها نفي للنقائص، وفيها نفي للمماثلة والمشابهة.
وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]فيها إثبات، وهذه القاعدة الأساسية التي ينبني عليها توحيد الأسماء والصفات.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ له الأسماء الحسنى والصفات العلى ].
هذه قاعدة ثانية تتفرع عن الأولى، وهو أن الله عز وجل له الأسماء الحسنى مطلقاً، وله الصفات العلى مطلقاً، فيتفرع عن هذه القاعدة أصول سيذكرها الشيخ بعد قليل؛ لأن الأسماء الحسنى قد يدخل البعض فيها أشياء يرى أنها حسنى وهي لا تليق بالله عز وجل، أو ينفي أشياء يرى أنها غير حسنى، وهي من الكمال، إذاً هنا لا بد من ضابط يُضبط به معنى الحسنى ومعنى العلى، وستأتي الإشارة إلى هذه الضوابط إن شاء الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ له الأسماء الحسنى والصفات العلى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:5-7] أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً ].
قوله: (وقهر كل مخلوق عزة وحكماً) نرجعه إلى الأصل، وهو أن الله عز وجل موصوف بالكمال، وأن له الأسماء الحسنى وكذلك الصفات والأفعال، فكل شيء حسن وعلي وعظيم فالله عز وجل موصوف به، فمن هنا قوله: (قهر)، قد يتوهم بعض السامعين والقارئين أن القهر يراد به القهر الذي يكون فيه شيء من الظلم، والله عز وجل منزّه عن ذلك، فقهر الله عز وجل قهر ربوبية، وقهر العلم والعزة والحكم والكمال؛ لأن القهر الذي يتصف به المخلوق قد يكون فيه ظلم واعتداء، والله عز وجل ليس كالمخلوق بل له الكمال الكامل، فإذا جاءتنا مثل هذه العبارات التي يكون فيها عند المخلوق نوع من التفسير الذي لا يليق بالله عز وجل، فإذاً نحملها على معنى الكمال لله عز وجل، وأن قهر الله عز وجل قهر ربوبية، وهو مع ذلك رحيم ودود عليم حكيم.
الملقي: [ ووسع كل شيء رحمة وعلماً، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].
موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم ].
هذه قاعدة ثالثة في الأسماء والصفات: وهو أن الله عز وجل إنما يوصف بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح من السنة، وهذا يعني أنه سيأتي شيء منها وأشير إلى بعضها الآن تتميماً للفائدة، وهو أن ما جاء في كتاب الله عز وجل وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات والأسماء والأفعال لله سبحانه فهو الكمال المطلق الذي لا يمكن أن يأتي البشر بأفضل منه، وعلى هذا فإن أسماء الله وصفاته توقيفية، وعلى هذا فإن البشر لا يمكن أن يأتوا أو يتوهموا كمالاً إلا وفي الكتاب والسنة ما هو أعظم منه، فإذا نطق الناس بكمال أو تصوروا كمالاً من الكمالات فإنها لا بد أن تتضمنها أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، خاصة الأسماء الشاملة مثل اسم الجلالة الله، ومثل الحي القيوم، والعلي العظيم، والأحد، والصمد، فإن هذه تشمل كل كمال يمكن أن ينطق به بشر، بأي لغة وبأي زمان وفي أي مكان، وتشمل كل كمال يمكن أن يتصور.
بل يوجد مما حجبه الله على الخلق من أسماء الله وصفاته ما لا يمكن أن تتحمله عقول البشر، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فمعنى هذا أن الله استأثر في علم الغيب عنده من أسمائه وصفاته ما لم يخطر على قلب بشر، ولم يوح الله به إلى أحد من خلقه حتى أكمل الخلق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويتبين هذا فيما جاء في حديث الشفاعة العظمى أنه صلى الله عليه وسلم يسأل ربه بمحامد يلهمه الله إياها كان لا يعرفها في الدنيا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به ].
هذه قاعدة رابعة، وهي: كل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل في ذاته وأسمائه وأفعاله وجب الإيمان به، بمعنى التسليم والتلقي بالقبول كما شرحه الشيخ، ومعنى التسليم أن يستقر هذا في القلب تصديقاً وإيماناً وتعظيماً لله عز وجل، وعدم مناقشة ولا اعتراض ولا تأويل ولا تعطيل ولا غير ذلك مما يزيد عن اللفظ الوارد في الشرع، فإن هذا معنى التسليم؛ لأن أسماء الله وصفاته غيبية، والغيب لا يتم الإيمان به إلا بالتسليم به، وكل من ناقش بقصد الاعتراض أو التشكيك فإنه لم يسلم، وكل من جادل بعد أن يُنهى ويتبين له النهي عن الجدال فإنه لم يسلم.
إذاً: ما جاء في القرآن وصح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته وأفعاله وذاته فلا بد من الوقوف عنده إيماناً وتسليماً وقبولاً، ثم يترتب على ذلك ما سيقوله الشيخ رحمه الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل ].
وهذه قاعدة خامسة ترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل، وقصده بذلك أن ما ورد من أسماء الله وصفاته يمر كما جاء مع الإيمان بأنه حق على حقيقته كما يليق بجلال الله عز وجل، ولا يُتعرض لألفاظ أسماء الله وصفاته وأفعاله، لا بتشكيك ولا باعتراض ولا بسؤال تعنّت ولا بسؤال عن الكيفية، ولا برد للفظ ولا للفظ والمعنى، ولا للمعنى، الرد يشمل اللفظ، ويشمل المعنى، ويشمل المعنى واللفظ جميعاً.. فإن من رد اللفظ وآمن بالمعنى فقد اختل تسليمه كما يفعل المؤولة والأشاعرة الماتريدية، فمثلاً إذا جاء قوله: يَدُ اللَّهِ [الفتح:10] قالوا: المقصود به النعمة، إذاً فقد نفوا كلمة (يد) فهم يردون اللفظ ويثبتون المعنى وهذا خلل، والعكس عند المفوضة إذ يقولون: نؤمن بأن هذا اللفظ قاله الله عز وجل لكن لا نعرف أن له معنى ولا له حقيقة، وهذا تفويض بمعنى التعطيل، وقد قال السلف بأنه كفر، والأول ضلالة وخطأ، أي التسليم بالمعنى دون اللفظ.
إذاً: لا يُتعرض له برد، والرد -كما قلت- يشمل رد اللفظ، ورد اللفظ والمعنى، ورد المعنى.
وكذلك التأويل وهو نوع من الرد، والتأويل بمعنى العدول عن إثبات ألفاظ أسماء الله وصفاته ومعانيها إلى معان أخرى يتوهمها المتكلم أو يتوهمها المؤول، وسيأتي لهذا أمثلة لكن لا مانع من ضرب مثال الآن من أجل الإيضاح.
مثلاً: المؤولة لم يثبتوا أن الله عز وجل استوى على العرش، فإذا جاء قوله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] لا يثبتون الاستواء ويقولون: المقصود استولى، ويسمونه تأويلاً ويزعمون أنه لا بد منه، ولهم في ذلك شبهات، وما من صاحب ضلالة أثّرت في الأمة وبقيت في فرقة من الفرق إلا وله شبهة، بل أول معصية وقعت من إبليس لعنه الله كانت بشبهة، لكن الشبهة ليست حقاً، لكن بمعنى أنها تشتبه على خالي الذهن وعلى ضعيف العلم، وتشتبه على ضعيف الإيمان، وتشتبه على من ليس عنده ما يحصنه من عقيدة سليمة، فشبهتهم أنهم زعموا أن إثبات الاستواء يعني إثبات مماثلة المخلوقات، والله عز وجل ليس كمثله شيء، يستوي كما يليق بجلاله، المهم أنهم أولوا الاستواء إلى معان كثيرة، فمنهم من قال هو الاستيلاء، ومنهم من قال هو بمعنى الهيمنة، ومنهم من قال الاستواء بمعنى الحفظ والملك .. إلى آخر ذلك من معان لا تكاد تحصى.
فإذاً التأويل هو رد يخالف قاعدة السلف، والتشبيه والتمثيل معروف، وإن كان بينهما شيء من الفرق، فالتمثيل ادعاء أن الله يماثله شيء من مخلوقاته أو يماثل شيئاً من مخلوقاته، وهو أبلغ من التشبيه، وسيأتي الكلام على التمثيل والتشبيه في مقام آخر، على جهة التفصيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريق الراسخين في العلم ].
هذه قاعدة سادسة، وهي أن ما أشكل مما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله على السامع أو القارئ يرد إلى قائله، وإلا فالأصل في الدين أنه لا يُشكل على الراسخين في العلم كما أشار الشيخ بعد ذلك، لكن قد يُشكل لأن مفاهيم الناس وإدراكاتهم تتفاوت، وفهمهم للغة يتفاوت، واستحواذ الشبهات والوساوس تختلف من شخص لآخر، فقد يُشكل على بعض الناس معنى أو لفظ من أسماء الله وصفاته وأفعاله، أو ترد عليه خواطر لا يستطيع دفعها، فهذه قاعدة ..
فإذا أشكل أمر من هذه الأمور في أسماء الله وصفاته وأفعاله فلا بد من الرجوع إلى القاعدة الأصلية، وهي أن ما قاله الله عز وجل يُثبت على حقيقته كما يليق بجلال الله، فقوله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] نؤمن بأن هذا اللفظ حق لأن الله تكلم به، وأن معناه أيضاً حق.
والشيخ عبّر بتعبير فيه إيهام وسيأتي إيضاحه إن شاء الله، فقوله: (وترك التعرض لمعناه)، أقول يجب إثبات لفظ الله عز وجل أو فعله أو وصفه الذي يرد في الكتاب والسنة، ثم إثبات أن هذا اللفظ له حقيقة تليق بجلال الله عز وجل، وله معنى أيضاً يليق بجلال الله عز وجل.
اللفظ وحقيقته ومعناه لا بد من الإيمان بهما على ما يليق بجلال الله عز وجل مع استحضار القاعدة الأصلية وهي أن الله عز وجل ليس كمثله شيء سبحانه..
فقوله: (وجب إثباته لفظاً) أي: إقرار أن لفظه مقصود، وأن له معنى وحقيقة، لا كما يقول المؤولة بأن اللفظ غير مراد إنما هو من باب تقريب المعنى إلى الأذهان! فهذا غير صحيح؛ لأن الله عز وجل له الكمال المطلق، ويستطيع أن يعبّر لنا بتعبير لا يكون فيه هذا الإشكال الذي يرد ويوقع الناس في الحرج، ويوقعهم في تأويلات لا تنتهي، ويخرجون عن العقيدة السليمة إلى عقائد لا نهاية لها كما فعل المؤولة.
قوله: (وترك التعرض لمعناه) قصده هنا ترك التعرض لمعنى الكيفية، يعني التعرض للصورة والشبه والخيالات والتحديد والتشخيص واللون والشكل والبعد والمسافة.. هذه الأشياء يجب أن نبعدها عن الأذهان في حق الله عز وجل، هذا معنى التعرض لمعناه، أي المعنى الغيبي الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، أما المعنى بمعنى الحقيقة فإنه لا بد من إثباتها ..
لأن الله عز وجل لا يكلمنا إلا بحق، والقرآن حق، وكلام الله حق، وهو بلسان عربي مبين، يعني مبيّن، فلو كانت ألفاظاً ليس لها معان لما كان مبيناً ولا مبيّناً ولا يليق ذلك بكلام الله عز وجل.
ثم قال: (ونرد علمه إلى قائله)، وذلك إذا بقي الإشكال في الذهن، كإنسان أشكل عليه لفظ من أسماء الله وصفاته وأفعاله فتأمل ولم يجد جواباً، ولم يعرف ما يقوله أهل العلم، فإنه يبقى على الأصل فيقول: الله أعلم بمراده، وأن الله عز وجل متصف بهذا الوصف ومسمى بهذا الاسم، لكن المعنى أرده إلى قائله، يعني: أسلّم بأني عجزت أن أثبت هذا المعنى، فعلى هذا أسلّم بأنه حق وصحيح، وأنه يليق بجلال الله عز وجل حتى ولو لم أدرك معناه، هذا من جانب ..
من جانب آخر: رد العلم إلى القائل حتى عند الراسخين في العلم الذين يفهمون معاني أسماء الله وصفاته يردون العلم إلى عالمها من جانب الكيفية.. وذلك شامل لكل أصول الدين الغيبية، خاصة ما يتعلق بأسماء الله، وصفاته، وأفعاله، والقدر، وأخبار الغيب.. فالأصل فيها كلها أن ترد إلى عالمها، فإن كنا عرفنا حقائقها فلنؤمن بحقائقها، وإن لم نُدرك الحقائق نؤمن بأنها حق كما يليق، وأن الله ما أخبرنا إلا بشيء واقع ليس خيالاً ولا توهماً ولا مجرد تصورات تقريبية كما يقول الفلاسفة، إنما هي حق على مراد الله عز وجل.
وقوله: (ونجعل عهدته على ناقله)، هذا فيما يتعلق باللفظ المنقول، فإذا كان منقولاً في القرآن فلا يحتاج إلى أن نقول عهدته على ناقله؛ لأنه متواتر، والقرآن كلام الله؛ لكن هذا يتعلق بالسنة، فالسنة قد يرد في أسماء الله وصفاته بعض الأحاديث الحسنة والضعيفة، أو آثار لم نجزم بثبوتها فنترك العهدة على الناقل، أما ما صح من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يقال عهدته على ناقله، إنما العهدة على الأمة أن تؤمن به، فمن ثبت عنده شيء من الدين صارت عهدته عليه إن كان من الأمور العملية عمل بما يستطيعه، وإن كان من الأمور الاعتقادية وجب اعتقاده، ولا يسع أحداً أن يتخلص أو يتبرأ أو يتنصل مما ثبت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [ اتباعاً لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].
وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمّلوه وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]].
في هذا الكلام فائدة عظيمة أشار إليها الشيخ تتعلق بالتأويل وبأسبابه وبعواقبه.
أما ما يتعلق بالتأويل فإن الله عز وجل ذكر التأويل هنا على سبيل الذم، ووصف أصحابه بأنهم أهل زيغ، والزيغ هنا على درجات، فإن كان التأويل تأويل تعطيل وإنكار وجحد كتأويل غلاة الجهمية فهو كفر بإجماع السلف، وإن كان التأويل تأويل تحريف وعدول عن ألفاظ كلام الله عز وجل ومعانيها المباشرة إلى معان أخرى، فهذا يتراوح بين الكفر والبدعة والخطأ بحسب نية قائله.
الأول: لا يحتمل الخطأ ولا يحتمل أن يكون بدعة إلا بدعة الكفر.
الثاني: درجات، فمنه ما يكون كفر كتأويل كثير من المعتزلة الذين أصروا على نفي معاني أسماء الله وصفاته.
ومنه ما هو ضلالة وبدعة كتأويل المتكلمين الذين أُقيمت عليهم الحجة.
ومنه ما هو خطأ كتأويل بعض أئمة السنة الذين اشتبه عليهم الأمر.
هذا ما يتعلق بالتأويل، أما ما يتعلق بسبب التأويل فقد أشار الله عز وجل إلى أهم أسباب التأويل، وهي: ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله.. إما أحد الأمرين أو كلاهما، قد يكون بعض الناس قصده بالتأويل الفتنة فعلاً كالجهمية وغلاة المعتزلة والزنادقة الذين بدءوا التأويل على المسلمين كالرافضة والباطنية والفلاسفة وغلاة المتكلمين.. هؤلاء لا شك أنهم ممن يبتغي الفتنة، فهم ما بين زنديق كافر أصلاً يدّعي الإسلام ويريد أن يحرف الأمة ويضلها، وما بين إنسان يحب الشهرة ويحب الارتقاء ولو على حساب العقيدة، وما بين ضال يريد أن يضل الناس معه، وما بين صاحب هوى إلى آخره.. فهؤلاء صنف واحد.
ومنهم من يبتغي التأويل بمعنى أنه توهم أن التأويل ضروري، ويظن أنه لا يليق أن يوصف الله عز وجل بهذه الأسماء والصفات المباشرة، وأن الله يعني أمراً آخر تعبدنا بالبحث عنه، وهذه شبهة المتكلمين الذين ما كفّرهم السلف لكنهم بدّعوهم كمتكلمي الأشاعرة والماتريدية؛ فإنهم لا يبتغون الفتنة أصلاً في قصدهم والله أعلم، إنما يبتغون التأويل، يعني قصدوا التأويل إما تأثراً بالفلسفة والعقليات وهي تجر أصحابها إلى ويلات، وإما زعماً منهم أن ظاهر الألفاظ في الكتاب والسنة يقتضي المشابهة فأرادوا الخروج عن هذه الشبهة ..، وإما وإما إلى آخره من ابتغاء التأويل، ومنهم من يبتغي الأمرين، وهم غلاة المؤولة ما بين فلاسفة وما بين زنادقة، يبتغي الفتنة والتأويل جميعاً.
وعلى أي حال فإن الوقوع في التأويل في صفات الله وأسمائه وأفعاله من علامات الزيغ، سواء كان هذا الزيغ كفراً أو ضلالة أو بدعة أو خطأ.
الفائدة الثانية ما يتعلق بقوله: (ثم حجبهم عما أمّلوه)، فمن تأمل تاريخ المؤولة يجد أنهم قُطعوا عن مقاصدهم ورد الله كيدهم في نحورهم، سواء منهم من كان يقصد الفتنة في الإسلام أو من ضل عن حسن نية لكنه لا يصل إلى نتيجة إلا بالرجوع إلى الحق، أما الضالون الذين أرادوا الفتنة والتأويل فإنهم ما وصلوا بحمد الله إلى أن يؤثروا في عقيدة المسلمين، وهيأ الله لهم من أئمة الإسلام من تصدى لهم وكشف أساليبهم ووسائلهم وبين فضائحهم، وانجلى الأمر للأمة، وهلك من هلك عن بينة نسأل الله العافية، وحي من حي عن بينة نسأل الله أن يثبتنا على القول الثابت في الدنيا والآخرة.
النوع الآخر ممن حجبوا عما أمّلوه هم من لم يكونوا أهل كفر وضلالة ولكنهم ممن استهوتهم الكلاميات والعقليات من المتكلمين، فإنهم ظنوا أنهم بهذا الأسلوب بأسلوب التأويل سيصلون إلى نتيجة تنزيه الله عز وجل، لكن ما وصل واحد منهم إلى نتيجة، بل كل واحد منهم يُعلن الإفلاس خاصة الكبار الذين بُني على جهودهم علم الكلام المنحرف، فكلهم وصلوا إلى القناعة بأن أسلوبهم خطأ وأعلنوا ذلك، ولنأخذ نماذج من ذلك.
أبو الحسن الأشعري رحمه الله ولج علم الكلام وعايش المعتزلة ثم وجد أن هذا طريق مسدود لا يثبت تنزيهاً لله عز وجل، وأنه ليس هناك أفضل في تنزيه الله من الكتاب والسنة ومنهج السلف، ورجع إلى ذلك وصار حرباً على المؤولة حتى قال أئمة السنة: إنه الرجل الثاني في الحرب على المتكلمين والجهمية والمعتزلة بعد الإمام أحمد .
إذاً إمام المؤولة رجع عن التأويل وأوصى كل من جاء بعده بأن يتركوه، ثم جاء بعده من الأئمة كـالشهرستاني وأبي المعالي الجويني والرازي والغزالي والآمدي والإيجي وغيرهم، كلهم ما بين تائب تاب من علم الكلام وأعلن ذلك، ونصح قومه بألا يتمادوا في الكلام وهو شيخهم فيه، لكنهم لم ينتصحوا، وما بين إنسان أعلن الإفلاس وقال: ما وصلت إلى نتيجة، ومات حائراً ومات على حيرته، نسأل الله السلامة.
إذاً هذا معنى قوله: (ثم حجبهم عما أمّلوه) .. فالفريقان من أراد الزيغ وأراد حرف الأمة أرجع الله عز وجل كيده في نحره، وكذلك من تأول عن حسن نية فإن الله عز وجل ما أوصله إلى الحق عن طريق علم الكلام، إنما عرف أن الحق لا يكون إلا بالكتاب والسنة ونهج السلف، فسواء أعلن ذلك أو لم يعلنه إنما أعلن إفلاسه، وفي ذلك عبرة وعظة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) و(وإن الله يرى في القيامة) وما أشبه هذه الأحاديث: نؤمن بها ونصدق بها لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ].
هذه قاعدة ليست من القواعد الأولى لكنها قاعدة أخرى تتعلق بالسمعيات جميعاً، تشمل الأسماء والصفات وغيرها، فهي قاعدة عامة في الغيبيات والسمعيات.
والمقصود بالسمعيات هي الأمور التي أخبرنا الله بها ولا دخل للعقول فيها إثباتاً ولا نفياً لا يمكن للعقول أن يكون لها فيه قول؛ لأنها غيبية بحتة، جاءت وما عرفناها إلا من خلال الكتاب والسنة، وأكثر أمور العقيدة بهذه الصورة.
فالأصل في السمعيات والغيبيات ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل في هذه القاعدة، وهي الإشارة إلى النزول والرؤية، وهي أن الأصل فيها الإيمان بها أولاً، كما جاء في الكتاب والسنة، دون أي اعتبار لتوهم ولا لتصور ولا لشبهة، ولا التماس للمعاني البعيدة التي يرمي إليها أهل الشبهات والشهوات، فنقف عند حد النص ونقول: نؤمن بأن النزول حق فنؤمن به، ثم نصدّق بها، بمعنى ألا يرد مجال للتشكيك ولا للتكذيب ولا للشبهة ولا لأي معنى يلقيه الشيطان في قلوب مرضى القلوب.. نصدّق بأن كلام الله حق وأن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فلا ندع مجالاً يجعل القلب يروغ عن الحق.
ثم قال: (ولا كيف) وهذه مرحلة ثالثة بعد الإيمان والتصديق، فالإيمان والتصديق يشملهما معنى التسليم.
قوله: (ولا كيف)، بمعنى لا نسأل عن الكيفية، بل لا نعتقد الكيفية، ولا نتصورها ولا نتخيلها، ولا أقصد أننا نطردها من الأذهان، فالذهن لا بد أن يتخيل أو يتصور عند سماع النص، فهذا أمر لا ينفك منه عاقل، بل لا تستطيع أن تفهم كلام الله إلا بالتخيل، لكن العبرة فيما بعد التخيل، فإن الأصل في هذه الخيالات أنها مقربات للحقيقة، وإلا فالحقيقة غير ما تتخيله.
مثلاً: سمعت عن نعيم الجنة، فلا بد أن تتخيل عن هذا الخبر خيال، وما تتخيله حق وحقيقة لكن ليس كما تتخيله من أمور الدنيا التي انطبعت في ذهنك، ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإن تشابهت الأسماء والأشكال فإنها لا تتشابه الحقائق والطعوم والكيفيات.
إذاً: فالمقصود بعدم الكيف ألا تعتقد الصورة التي تنقدح في ذهنك، أما أن تتصور فلا بد أن تتصور، لكن اعتقد أن هذه الصورة ليست هي الحقيقة.
وفي أسماء الله وصفاته عندما تسمع نصوصها في القرآن وفي الحديث.. فلا بد أن يمر في ذهنك صورة، فاجزم أن هذه الصورة ليست الحقيقة التي عليها اسم الله عز وجل ولا صفته ولا فعله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وأن حقيقة أسماء الله وأفعاله أعظم من أن نتخيلها أو نتصورها.
إذاً (لا كيف( بمعنى أنك لا تحدد الكيفية في ذهنك، ولا في اعتقادك، ولا بكلامك، ولا تعتقدها، ولا تتكلم بها، ثم لا يسأل أيضاً عن الكيفية، فلا ينبغي لأحد أن يسأل كيف، فإن سأل الجاهل أعلم بالضوابط الشرعية، أما إن سأل المتعنت فيؤدب فإن أمكن تعزيره عزر، وإلا فعلى الأقل يؤدب بالكلام ..
فمن سأل عن كيفية أسماء الله وصفاته وأفعاله متعنتاً بعد بيان الحكم له ولا بد أن يؤدب، أما من سأل وهو جاهل فيعلم الأدب مع أسماء الله وصفاته وأفعاله، ويقال إن أفعال الله وأسماءه وصفاته تثبت بدون كيف لا بسؤال ولا بفعل ولا بتصور ولا بتوهم، ولا معنى، بمعنى ولا كيف فليس بينهما فرق، أي لا نكيف ولا نؤول.. فلا نكيف المعاني ولا نؤولها، وإلا فالمعنى العام لا بد أن نثبته، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) لا بد أن نثبت أن لها معنى، بمعنى أن الله ينزل كما يليق بجلاله، هذه حقيقة، فالمعنى أن الحقيقة تُثبت لكن الكيفية تُنفى.
ثم قال: (ولا نرد شيئاً منها)، أي لا نرد النصوص، ثم لا نرد معاني النصوص وحقائق النصوص، فلا نرد النصوص لمجرد أننا لا نعلقها كما فعلت المعتزلة والجهمية.. فالجهمية ردوا النصوص الصحيحة الصريحة رغم أنها متواترة، مثل حديث الرؤية وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة يوم القيامة، فقد روي عن أكثر من ثلاثين صحابياً بألفاظ مترادفة كلها تدل على المعنى الحقيقي كما يليق بجلال الله، لكن المعتزلة ردوها وقالوا: الصحابة بشر، ويعتريهم كذا وكذا، إلى آخره.. فردوا الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون أن يتحفظوا في الرد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ].
هذه القاعدة السابعة، وهي: أن الله عز وجل لا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، بمعنى: لا يأتينا متحذلق بألفاظ جديدة ويقول: هذه كمالات وأنا أثبت لله الكمالات، نعم الكمال يثبت لله لكن يرد إلى ألفاظ الشرع، ولنأخذ على هذا مثالاً: بعض المتكلمين زعموا أن من أسماء الله عز وجل الموجود، وزعموا أن من أسماء الله القديم، ونحن نقول: إن الله عز وجل موجود، لكن يُغنى عنها قوله عز وجل: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] فلا داعي لكلمة موجود لأنها لم ترد في ألفاظ الشرع.
كذلك القديم، والقديم ورد ما يغني عنها وزيادة وهو قوله عز وجل: هُوَ الأَوَّلُ [الحديد:3]، وشرحها النبي صلى الله عليه وسلم وفسّرها في حديث صحيح بمعنى الأول الذي ليس قبله شيء، فالأول تغني عن قديم؛ لأن كلمة قديم فيها معنى سلبي، فأحياناً يُطلق في لغة العرب على الشيء المتهالك المستخدم الذي تنتهي مدته، فلا يليق هذا.
فكلمة (القديم) إن كانت بمعنى شرح اللفظ فلا مانع، أما بمعنى إثبات الاسم فلا يجوز، والسلف الذين أطلقوها قصدهم شرح معنى قول الله عز وجل: هُوَ الأَوَّلُ [الحديد:3] فيقال: إذا قال إنسان: ما معنى الأول؟ نقول: هو القديم الذي ليس قبله شيء في معنى شرح لمعنى الأول، لكن لا نثبتها مستقلة.
إذاً: لا يوصف الله عز وجل إلا بما وصف به نفسه؛ لأن ألفاظ كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله كافية، وما ورد من ألفاظ أخرى تدل على الكمال تؤخذ معانيها وترد إلى ألفاظ الكتاب والسنة، والألفاظ الجديدة المستحدثة تُبعد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه لا نتعدى ذلك ولا يبلغه وصف الواصفين.
نؤمن بالقرآن كله مجمله ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن.
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ].
هذه قاعدة عظيمة عند الإشكال، فالإنسان إذا أشكل عليه معنى من معاني أسماء الله وصفاته وأفعاله، فليسلم على هذه القاعدة، آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، هذا هو التفويض الصحيح السليم، بمعنى أنك تفوض أمرك إلى الله عز وجل، وتؤمن بما جاء عن الله على مراد الله، فأنت تؤمن بالحق والحقيقة التي أرادها الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار، والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله، وقد أمرنا باقتفاء آثارهم والاهتداء بمنارهم ].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين.
السؤال: ما المقصود من قول المؤلف رحمه الله تعالى: (بلا حد ولا غاية)؟
الجواب: هذا من الكلام المجمل الذي فصّل فيه السلف، وهو نفي الحد والغاية وكانت هذه الكلمة لا تُعرف في العصور الأولى قبل ظهور فرق أهل الكلام كالجهمية والمعتزلة، لكن بعد كثرة البلوى بها تكلم فيها السلف على نحو يقصدون فيه التنزيه لله عز وجل، ونفي المعنى الباطل الذي أراده الذين أطبقوا على كلمة (حد وغاية).
فأول ما جاء الكلام عن الحد والغاية من الجهمية والمعتزلة، وكان ذريعة لنفي صفات الله عز وجل وأفعاله، فمثلاً قالوا في مسألة إثبات العلو الذاتي والفوقية والاستواء: إنها تقتضي الحد والغاية، وأن الله عز وجل محدود وله غاية، كذلك قالوا في الرؤية: إذا أثبتناها فإنها تعني أن لله عز وجل حداً وغاية، لأن الذي يُرى محدود! كذا زعموا، وزعموا أن الذي يستوي محدود، وأن الذي يكون في السماء محدود، وأن الذي ينزل يكون له حد وغاية إلى آخره..، فباسم نفي الحد والغاية نفوا الصفات.
ففصل السلف في معنى الحد والغاية، وقالوا: إن قصد بالحد ما يحد بالذهن والتصور من أن الله عز وجل يحيط به البصر، وأن من الممكن أن نصفه بنهاية كنهايات المخلوقات.. فهذا لا يمكن ولا يليق بالله عز وجل، وهذا هو الذي عناه ابن قدامة حينما قال: (بلا حد ولا غاية)، بمعنى أنه ليس للعقول أن تتصور لله حداً كما أن للمخلوقات حدوداً، ولا أن تتصور أن لله غاية ونهاية كما أن للمخلوقات غاية ونهاية، فإن الحد والغاية المفهومات في حق المخلوقات لا يليقان بالله عز وجل لأن الله ليس كمثله شيء وهو أعظم وأجل من أن تدركه أو تحيط به أو تحده العقول أو الأبصار.
فهذا هو المعنى الذي نفاه المؤلف؛ لكن أيضاً من أجل الإيضاح هناك معنى آخر للحد والغاية يدخل فيه الكمال، فهذا لا ينفى من أجل ألا يُنفى أسماء الله وصفاته، فيقال لمن نفى الحد والغاية من أهل التأويل والتعطيل: ماذا تقصد بالحد والغاية؟ إن قصدت بالحد والغاية أن الله عز وجل ليس مختلطاً بالمخلوقات، له حد يفصله عنهم أو للمخلوقات حد يفصلها عن الله، أو أن الله عز وجل ليس هو مخلوقاته، وليس ممتزجاً بها، وأنه سبحانه مستو على عرشه كما يليق بجلاله فهذا حق لا ننفيه، لكن لا نسميه حداً، وإن سميته حداً فأنت مبطل.
ويقال للنافي: وأنت إن نفيت هذه الأمور على أساس أنها حد وغاية فأنت ظالم ومبتدع وزائغ، فمن نفى الاستواء على أنه حد، ومن نفى الفوقية على أنها حد أو جهة أو غاية، ومن نفى كون الله عز وجل في السماء بمعنى أنه في العلو، ومن نفى أن الله يُرى يوم القيامة بدعوى أن هذه حدود وغايات، فهو مبطل ولا نوافق على كلامه..
هذا معنى قول الشارح (بلا حد وغاية)، بمعنى أن الله عز وجل ليس كالمخلوقات التي تحدها الحدود ولها نهايات كالنهايات التي ترى وتبصر وتلمس.
السؤال: ما هي أفضل الشروح على هذا المتن المبارك؟
الجواب: الشروح الميسورة الآن والمتبادلة في أيدي الناس أفضلها من حيث العنصرة والتبويب والترتيب، ومعالجة الكثير من القضايا التي يحتاجها طلاب العلم اليوم شرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، وهو بحمد الله متوفر.
السؤال: ما معنى قول الإمام أحمد رحمه الله: (لا كيف ولا معنى)؟
الجواب: يقصد أن أسماء الله وصفاته مثل النزول والاستواء وكون الله يُرى نؤمن بها بدون أن نعتقد الكيفية، والكيفية هي أن نتصور شيئاً ونعتقد أنه هو الحقيقة اللائقة أو التي عليها صفات الله عز وجل.. فالمقصود بلا كيف من حيث الاعتقاد ولا من حيث التصور ولا من حيث السؤال، فلا نقول: كيف ينزل؟ ولا نتحكم بعقولنا في تصوير الكيفية التي ينزل بها الله عز وجل، ولا نثير الإشكال في الكيفية ونطمح إلى معرفة تفاصيلها.
السؤال: ما القول الفصل في متقدمي ومتأخري الأشاعرة، وما أصابهم من خلط، نريد جواباً شافياً كافياً؟
الجواب: متقدمو الأشاعرة إذا قُصد بهم من قبل البغدادي والشهرستاني والجويني فهم في الجملة أقرب إلى السنة، وأغلبهم أهل سنة وأهل حديث.. لكن وقعوا في بعض التأويلات التي قل أن يسلم منها من يتعلم علم الكلام أو يبدأ به أو يتتلمذ على المتكلمين وإن كان صاحب سنة.
فمن بدأ حياته بكتب المتكلمين وما أشبهها من كتب التاريخ وكتب الفرق وكتب الأدب، فإنه لا يسلم في الغالب إلا النادر، والنادر لا حكم له، وكذلك من تلقى العلم في أول علمه وأول طلبه على غير أهل الاستقامة ففي الغالب أنه لا يسلم من الهفوات، وهذه قاعدة لا يستثنى منها إلا النادر والنادر لا حكم له.
فإذاً الأئمة الكبار الأوائل من أئمة الأشاعرة كالإمام أبي الحسن الأشعري الذي تابع الكلابية في بعض المسائل بعد رجوعه إلى السنة، وتلميذه الطبري وليس المقصود بـالطبري أبا جعفر الإمام، بل طبري آخر أظنه أبو الحسين وكـالبيهقي وابن فورك والباقلاني .. هؤلاء أئمة لهم اعتبارهم وإن كانوا يتفاوتون أيضاً، ولهم فضلهم وعلمهم وأغلب ما وقعوا فيه تابعوا فيه غيرهم ممن وقعوا في التأويل على غير قواعد، إنما نقلوه عن بعض الجهمية على سبيل الإعجاب بهذا الأسلوب، وظناً منهم أنه تنزيه لله عز وجل، وقد كان ابن الثلجي من أهل الحديث ثم أخذ ببعض تأويلات المريسي ولم يكن جهمياً خالصاً لكنه وقع في ذلك، ثم سار كثير من الكلابية والأشاعرة على نهج ابن الثلجي بسبب التمذهب أولاً لأن الأوائل منهم كلهم أحناف، ومنهم بعض الشافعية، هؤلاء الأئمة فيهم خير كثير، ومن الصعب أن نحكم عليهم بأنهم من الأشاعرة بالمعنى الجديد حينما ظهر أشاعرة المتكلمين، فنقول: إنهم أخطئوا وأولوا وهم أقرب إلى السنة منهم إلى أهل الكلام، بل إن أكثرهم لهم مؤلفات في ذم الكلام، مثل البيهقي فله كلام طيب في ذم الكلام ، والخطابي له كلام طيب في ذم الكلام، ومع ذلك وقعوا في بعض التأويلات، فهؤلاء الأصل فيهم أن يُترحم عليهم وأن يُدعى لهم بالمغفرة ولا يُعتدى عليهم، لكن لا يوافقون فيما خالفوا فيه السنة وخالفوا فيه السلف، ويقال: أخطئوا في كذا وكذا، يدخل معهم من جاء بعدهم أمثال النووي وابن حجر وغيرهم فإنهم أئمة سنة وأئمة هدى لكنهم وقعوا في بعض التأويلات يغفر الله لنا ولهم، وهي بمثابة زلات العلماء التي تُغتفر لهم ولا يُقدح فيهم بسببها.
الصنف الثاني: هم من أوائل الأشاعرة ويعتبرون من أهل الكلام ويذمون على كلامهم، ويقال: هؤلاء هم أصل الأشاعرة المتأخرين.
الذين بدءوا بالأسس من أمثال ابن فورك والباقلاني ؛ لكن الذين عمّقوا هذه الأسس وأصّلوا بعض المسائل الكلامية هم أمثال الشهرستاني والبغدادي وأبو المعالي الجويني والغزالي ويسمى بحجة الإسلام، والإيجي والآمدي فهؤلاء أساطين علم الكلام، والعجيب أنهم كلهم ما بين معلن لترك علم الكلام والإفلاس، وما بين متحير مات على حيرته.. وإن كان البغدادي لم يثبت عنه شيء بين، لكن ورد ما يدل على أنه اضطرب في آخر حياته، أما الشهرستاني فقد ثبت اضطرابه، وكذلك البقية كلهم ثبت ما بين رجوعهم إلى السنة وتسليم العجائز، وما بين إعلان الإفلاس، هؤلاء هم أهل الكلام وهم الذين أسسوا المذهب الكلامي الذي عليه الأشاعرة اليوم، والذي فتح باب التأويل على مصراعيه ووضع له قواعد كلامية مستمدة من قواعد الجهمية والفلاسفة والمعتزلة، وبعدهم سار الأشاعرة على هذا النهج إلى يومنا هذا.
السؤال: ما هو الرد على من استدل على التفويض المذموم بكلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى؟
الجواب: إن الإمام الشافعي من المثبتين للصفات على حقيقتها، وله في ذلك كلام، فيرد كلامه إلى كلامه.
الأمر الثاني: أنه من أئمة السلف الذين لم يُعرفوا بالتفويض السلبي المذموم، بل عُرف بالإثبات، وعلى هذا لا يمكن أن يكون قصده التفويض السلبي الذي هو بمعنى عدم اعتقاد المعنى والحقيقة؛ لأن الشافعي من أئمة السلف، ولو كان قصده المعنى الآخر لما ترك، فلا بد أن ينبهه الآخرون.
فإذاً: مراده مراد بقية السلف الذين قالوا هذا القول ويقصدون به على مراد الله من حيث الكيفية، ومن حيث الحقيقة الغيبية لا الحقيقة المعنوية.. بمعنى أنه يثبت المعنى والحقيقة على مراد الله عز وجل.
ثم إن الاستدلال به على العكس هو الصحيح، وذلك أن الشافعي قال هذه الكلمة لما شكك المؤولة بألفاظ كلام الله وزعموا أن الله لا يريدها، قالوا في قوله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] إن الله لا يريد اليدين، إذاً غيّروا مراد الله فأراد أن يثبت أنها على مراد الله، وحينما قالوا في قوله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] إن الله عز وجل لا يقصد معنى الاستواء الحقيقي إنما يقصد معنى آخر عبّر عنه تعبيراً بلاغياً فعدلوا عن مراد الله، أراد الشافعي أن يثبت أن الحق أن يثبت كلام الله على مراد الله، ومراد الله هو أن الله تكلم بهذا الكلام بحق على معنى حقيقي يليق بجلال الله؛ لأن الله عز وجل تكلم بلسان عربي مبين، وخاطبنا بلسان نفهمه.
إذً المعنيان اللذان يريدهما الشافعي وهما الكيفية أو معنى إثبات الحقيقة هو ظاهر كلامه، أما المعنى التفويضي الذي هو بمعنى إنكار المعنى، أو عدم الإقرار به، أو التنصل منه كما يفعل المفوضة.. فهذا لا يليق أن يكون من الشافعي ، ثم لو كان منه لا يمكن أن يتركه الأئمة بدون تنبيه.
السؤال: ما معنى قول ابن قدامة رحمه الله: (الذي لا يخلو من علمه مكان)؟
الجواب: بمعنى أن علم الله عز وجل شامل أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]فإن الله عز وجل عالم بخلقه العلم الكامل وعلمه محيط بكل شيء من المخلوقات، هذا بدهي عند أصحاب الفطرة السليمة والعقول المستقيمة، لذلك فإن الإخوة السامعين بحمد الله كلهم لا يشكل عليهم أبداً أن الله عز وجل علمه في كل مكان، لكن لماذا قال الإمام موفق الدين وغيره من الأئمة هذه المقولة وهذه العقيدة وصرحوا بها؟ لأن هناك طائفة من الجهمية والمعتزلة تابعوا فلاسفة الصابئة والمجوس وفلاسفة اليونان والهند وغيرهم من الثنوية وغيرهم زعموا أن هناك خالقاً مع الله عز وجل له تصرف في بعض الكون علماً وتدبيراً وألوهية يستقل بها عن علم الله وتدبيره، وهذه في الأصل فكرة المجوس وانتقلت إلى طوائف من الصابئة، وإلى طوائف من النصارى، وإلى طوائف من الهنود والفلاسفة اليونان وغيرهم، ثم انتقلت إلى المسلمين عبر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة شبراً بشبر وذراعاً بذراع) فمصداقاً لهذا الحديث وقعت نفس المقولة عند طوائف من القدرية الذين ورثتهم المعتزلة والجهمية فيما بعد.
والقدرية زعموا أن للإنسان استقلالاً في بعض أفعاله أو في كل أفعاله، فمنهم من زعم أن للإنسان استقلالاً في كل أفعاله.. فعلى هذا يلزم أن الله لا يعلم أفعاله إلا إذا حدثت، فجعلوا هناك مساحة من أفعال الإنسان لا يعلمها الله ولم يقدرها إلا إذا حدثت، وعلى هذا يقدرون أن هناك من الأفعال ما يحدث في هذا الكون في زمان ما ومكان ما من بعض مخلوق -وهو الإنسان- لا يعلمه الله.. كذا زعموا، ولما واجههم السلف بقوة وعنف وكفّروهم أثبتوا العلم لكنهم أنكروا القدر.
فرداً لهذه المقولة التي يزعم أصحابها أنه قد يحدث العباد أفعال الشر دون علم الله ولا تقديره، أراد أن ينفي هذه المقولة بمثل هذا القول أن الله علمه في كل مكان وفي كل زمان أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] وأن الله عز وجل علم كل ما يكون، كيف يكون، ومتى يكون، وما هو كائن كذلك.
السؤال: ذكرت أن الزيغ قد يكون كفراً وقد يكون فسقاً، فما هي الفرق التي يكون زيغها كفراً، وما هي الفرق التي يكون زيغها فسقاً أو معصية؟
الجواب: أما زيغ الكفر فهو زيغ غلاة الرافضة؛ لأنهم يتأولون تأويلاً يخرجهم عن الملة، والباطنية وهم امتداد للرافضة، فزيغهم زيغ كفر، ثم غلاة الجهمية وغلاة المعتزلة زيغهم زيغ كفر، ثم الفلاسفة وأقصد بالفلاسفة المسمون بالإسلاميين زيغهم زيغ كفر، وغلاة المتصوفة زيغهم زيغ كفر، والمشبهة الممثلة زيغهم زيغ كفر.
أما من زيغهم زيغ ضلالة وبدعة وفسق فهم أهل الكلام من متكلمة الأشاعرة والماتريدية والكلابية، والكرامية، ومن نحا نحوهم.. هؤلاء وقعوا حسب حكم السلف الذين عايشوهم وعاصروهم في البدعة والفسق والضلالة.
أما الذين زيغهم زيغ الخطأ فهم المنتسبون للأشاعرة والماتريدية من أئمة الحديث وأئمة العلم، فلا يعتبرون زائغين بمعنى أنهم مبتدعة ولا ضُلّال، إنما زاغوا عن الحق بمعنى أخطئوا، فالخطأ درجات والفسق درجات والبدعة درجات والضلالة درجات، والزيغ درجات، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر