قال المؤلف رحمه الله تعالى:
[ فصل في كلام الله عز وجل:
ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم، يسمعه من شاء من خلقه، سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة، وسمعه جبريل عليه السلام ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه، ويأذن لهم فيزورونه، قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]، وقال سبحانه: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، وقال سبحانه: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، وقال سبحانه: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى:51]، وقال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:11-12]، وقال سبحانه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14]، وغير جائز أن يقول هذا إلا الله.. ].
في هذا المقطع إثبات لأصل من أصول أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بكلام الله تعالى، وما ورد فيه من تفصيل في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه سلف الأمة.
فأولاً: ذكر أن من صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم، يعني: أن الله عز وجل يوصف بهذا الوصف، أي: أن الله متكلم كما يشاء على ما يليق بجلاله عز وجل.
وقوله: (بكلام قديم)، يشير به إلى أن كلام الله عز وجل أزلي، من حيث إنه من صفاته، وصفات الله عز وجل أزلية؛ لأن الله عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وكلمة (قديم) لم تكن معهودة في عصر الصحابة ومن بعدهم إلى القرن الثاني، وفي منتصف القرن الثاني وما بعده جاء المتكلمون بمصطلحات جديدة لم يكن يعرفها المسلمون، ومن ذلك كلمة (قديم)، فزعموا أن صفات الله عز وجل لا تقبل أن ترتبط بمشيئة الله عز وجل.
ومن ذلك كلامه، فمنهم من أنكر كلام الله إطلاقاً؛ كالجهمية والمعتزلة، ومنهم من أثبت كلام الله عز وجل؛ كطوائف من المعتزلة وأهل الكلام، لكنهم زعموا أن كلام الله معنىً وليس بحروف ولا أصوات، أما السلف فقد فصلوا في كلام الله عز وجل وقالوا: إن كلام الله من حيث هو أصل وصفة أزلي، قالوا: فهو أزلي النوع، أي: نوع الكلام، وهذه صفة كمال، فإن الله متصف بذلك منذ الأزل.
ثم قالوا: إن الكلام حادث الآحاد، بمعنى أن الله يتكلم متى شاء بما شاء، أي أن كلام الله مرتبط بمشيئته، وقد وردنا شيء من آحاد كلام الله عز وجل على جهة التفصيل، فقد ورد إلينا على سبيل القطع أن الله عز وجل كلم موسى، وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم.
نرجع إلى كلمة (قديم)، فإنها لم تكن معهودة في عهد السلف، أي: وصف كلام الله، أو شيء من صفاته وأفعاله وأسمائه بأنه قديم، هذا لم يرد على ألسنة السلف الأوائل، لكنهم اضطروا إليه فيما بعد؛ بسبب أن هذه الكلمة صارت تحتمل معان، فمن معاني كلمة (قديم): أزلي، بمعنى أن الله متصف بصفات الكمال منذ الأزل، أي: أن صفاته لا أول لها سبحانه.
وهناك معنىً آخر لكلمة (قديم) يرده السلف ويرفضونه، وينزهون الله عنه، وهو القديم بمعنى: المتهالك البالي.
إذاً: كلمة (قديم) الأولى أن تستبدل بـأزلي، أو لا أول له، أو ليس قبله شيء.
قوله: يَسمَعه (من شاء من خلقه)، أو يُسمِعه، أي: يسمعه الله عز وجل من شاء من خلقه، فالله عز وجل قد أسمع موسى من غير واسطة، وسمعه جبريل عليه السلام، ومن أذن له من ملائكته، كما ورد في صحيح مسلم وغيره أن الملائكة يسمعون كلام الله عز وجل حينما يتنزل الوحي.
قوله: (وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة)؛ هذا ورد في الصحيحين مقروناً بأحاديث الرؤية ومنفصلاً عنها.
كما ورد أن الله عز وجل يكلم الخلائق يوم القيامة بكلام يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، وورد هذا في أحاديث حسنة أقرها السلف.
كما ورد أنه يكلم عباده أفراداً.. المؤمن وغير المؤمن، يكلمهم بواحاً ليس بينه وبين أحدهم ترجمان، كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وأنه يعاتب عباده ويقرر لهم أفعالهم في الدنيا: ألم تفعلوا كذا؟.. ألم أنعم عليكم بكذا؟.. ألم أقدر لكم كذا؟ فيقول أحدهم: بلى يا رب!.. بلى يا رب! هذا أيضاً تكليم خاص، لكنه عز وجل يكلم الكفار على جهة التوبيخ، فلا يشعرون بلذة هذا التكليم، ولا يهنئون به؛ لأنهم مذنبون، والمذنب يحس بذنبه أمام ربه.
أما المؤمنون فإنهم ينعمون بهذا التكليم كما ينعمون برؤيته نسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً منهم.
قوله: (ويأذن لهم فيزورونه)، هذا ورد في أحاديث بعضها موقوف وبعضها مرفوع، لكن أغلبها فيه ضعف، وفيها أحاديث حسنة، وقبل أن يورد الآيات أحب أن أذكر الخلاصة التالية بإيجاز:
أولاً: أن كلام الله عز وجل -كما ذكرت- أزلي النوع، يعني: أنه متكلم سبحانه منذ الأزل؛ لأنه عز وجل الأول الذي ليس قبله شيء، بما في ذلك صفاته وأفعاله.
أحاديث الآحاد لها تعلق بالكلام بمشيئة الله، ويعني ذلك: أن الله عز وجل يتكلم متى شاء بما يشاء سبحانه وتعالى، وأن كلامه بحروف وأصوات مسموعة.
ثانياً: أن كلام الله يسمع من قبل من يكلمهم، يسمعه الله عز وجل من يشاء من عباده، فقد أسمع بعض رسله، وأسمع ملائكته، ويسمع عباده يوم القيامة، ويسمع من يشاء في الدنيا ممن ورد فيهم النص، أما دعوى السماع من الله عز وجل بغير نص فهي ضلالة، فمن ادعى أنه سمع من الله عز وجل بغير وحي فإنه بذلك كاذب، ومن ادعى أنه يسمع كلام الله عز وجل من غلاة الصوفية ونحوهم؛ فقد كذب على الله وأعظم عليه الفرية، إنما يثبت ما ورد في النصوص، وقد انقطع الوحي؛ فلا سبيل إلى إثبات ما لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما ما ورد في دلالة الآيات فإن الآية الأولى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، ومعنى هذا: أن الله عز وجل هو الذي كلم موسى، وليس موسى هو الذي كلم الله؛ هذا من ناحية.
الناحية الأخرى: أن التكليم لا يمكن أن يحمل على معنىً آخر؛ لأن الآية قاطعة ومحكمة في التصريح بالتكليم؛ لأن الله عز وجل أشار إلى المصدر على جهة التأكيد فقال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى ، ثم قال: تَكْلِيمًا [النساء:164]؛ لئلا يقال: كلمه وحياً غير مباشر، أو كلمه إلهاماً، أو كلمه برؤيا، أو كلمه بالشجرة، أو كلمه بحروف وأصوات مخلوقة؛ كل ذلك -أي: ما تأول به المتأولون- باطل قطعاً بنص الآية وصريح نطقها.
ثم قال: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، وهذا يعني أن الله عز وجل نادى موسى، وهذا ينفي أن يكون الكلام جاء من الشجرة؛ لأن المنادي هو الله، ولو كان الكلام كلام الشجرة، أو كلاماً خلقه الله في الشجرة، أو حروفاً وأصواتاً اجتمعت فتوافرت على الكلام؛ لكان المنادي هو هذا المخلوق، ولا يليق بأن يكون المنادي هو المخلوق باسم الله عز وجل؛ لأنه قال: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، والمرسل هو الله والمصطفي هو الله والمتكلم هو الله؛ إذاً لا يمكن أن يكون الكلام إلا كلام الله.
كذلك قوله عز وجل: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، وهذا يعني أن الله خص البعض بالتكليم، ومعناها: منهم من كلمه الله، لا كما يفهم بعض المبتدعة بأن منهم من كلم ربه، فكل الناس يخاطبون ربهم بالدعاء والعبادة.
وقوله: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى:51]، بمعنى أن الله عز وجل يكلم بعض عباده بأنواع التكليم، منها ما هو وحي مباشر، ومنها ما هو من وراء حجاب، فكلام الله عز وجل لموسى من أنواع الوحي المباشر، وكلام الله لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرجح أنه من وراء حجاب، أي كلامه له عند الإسراء والمعراج.
وكذلك الآية التي بعدها: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى [طه:11]، يعني: المنادي هو الله عز وجل، إذاً هو المتكلم؛ لأنه قال: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:12]، فلو كان الكلام من الشجرة، أو من مخلوق، أو حروفاً وأصواتاً اجتمعت وهي مخلوقة؛ لما جاز أن تقول هذه الحروف وهذه المخلوقات: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:12]، فلا بد أن يكون المتكلم هو الله عز وجل، وكذلك قوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الخلائق يوم القيامة حفاة عراة، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديَّان)، رواه الأئمة، واستشهد به البخاري .
وفي بعض الآثار: أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار فهالته وفزع منها ناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت فقال: لبيك لبيك! أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك وأمامك، وعن يمينك وعن شمالك؛ فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال: فكذلك أنت يا إلهي! أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى! ].
في هذا المقطع أشار المؤلف رحمه الله إلى كلام ابن مسعود : إذا تكلم الله بالوحي سمعه أهل السماء، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (روي) هو على وجوه:
منها: ما ورد من أن الملائكة تسمع وحي الله عز وجل إذا نزل، وهذا ثابت، في أحاديث صحيحة، قال المحقق: ذكر البخاري تعليقه موقوفاً على ابن مسعود ، باب قول الله تعالى: لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ [طه:109]، بلفظ: سمع أهل السماوات شيئاً. وهذا اللفظ قد يكون فيه كلام وإسناده حسن، لكن المقصود بسماع كلام الله عز وجل من قبل أهل السماوات وخاصة الملائكة وارد في نصوص أخرى منها النص التالي الذي ورد في البخاري وغيره، فقد يوهم تضعيف الحديث أو القول بأنه حسن هنا عند بعض المعلقين هداهم الله يوهم أن أصل هذه العقيدة فيه كلام، بينما ليس فيه كلام من حيث إنه ورد بألفاظ أخرى صحيحة، وهو أن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمعه أهل السماء -يعني الملائكة- فهذا ثابت عند البخاري وغيره.
وما ورد هنا في آخر المقطع من القصة التي فيها أن موسى ليلة رأى النار فهالته.. إلخ، هذا لم يثبت بهذا النص وهذا التفصيل، لكن معناه العام ثابت، فقد ثبت أن موسى رأى ناراً، ثم جاء إلى الشجرة فكلمه ربه عند الشجرة، فهذا كله صحيح ووارد في كتاب الله عز وجل، وأن موسى طلب الرؤية، وأن الله عز وجل بين له أنه لا يمكن أن يراه.. إلخ.
أما التفاصيل التي في هذا الأثر فإنها لم تثبت والله أعلم، أي قوله: أنا فوقك وأمامك وعن يمينك ..
ورد أن الله عز وجل هو القاهر فوق عباده، لكن تفصيل الأمام واليمين لا يوجد، أما إذا حمل على أن الله عز وجل مع عباده بحفظه وعلمه ورعايته لخلقه فهذا صحيح، وأنه عز وجل مع جميع الخلق أيضاً بعلمه، ومع عباده المؤمنين برعايته وحفظه ونصره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن كلام الله تعالى القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
وهو سور محكمات وآيات بينات وحروف وكلمات.. ].
هنا بدأ يفصل في كلام الله عز وجل عموماً وفي القرآن على وجه الخصوص، فقال: (ومن كلام الله عز وجل القرآن العظيم)، أي أن القرآن كلام الله، وكذلك يعد من كلام الله عز وجل الكتب السابقة المنزلة على أنبيائه السابقين، وإن اختلفت طرق الوحي: فالتوراة من كلام الله عز وجل، والإنجيل أيضاً من كلام الله عز وجل قبل التحريف، والقرآن العظيم كلام الله لكن له خصائص كثيرة، ومنها: أنه محفوظ إلى يوم القيامة، وأنه معجز، وأنه نزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن كله نزل عن طريق جبريل إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، أي نزل بطريقة واحدة من طرق الوحي، لأن طرق الوحي كثيرة نزل بها عموم الوحي، لكن القرآن نزل عن طريق جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وجبريل عليه السلام سمعه من الله عز وجل.
(منزل) بمعنى: من الله.
(غير مخلوق)، بمعنى أنه كلام الله، وكلام الله صفته، وصفات الله لا يعقل أبداً ولا يجوز أن يقال بأنها مخلوقة.
(منه بدأ) يعني أن الله تكلم به ابتداء.
(وإليه يعود)، هذا إشارة إلى ما ورد من آثار بأن القرآن عند قيام الساعة، وعند انتهاء الدنيا، وعندما يعطل ويهجر يرفعه الله عز وجل من الصدور والمصاحف، فيصبح الناس ولا يجدون في صدورهم شيئاً، ولا في مصاحفهم شيئاً.
(وهو سور محكمات وآيات بينات) بمعنى أنه بين يشرحه ما بعده، فهو آيات بينة، محكمات، يعني: أن آياتها بينة، محكمات من كل معاني الإحكام.
(وحروف وكلمات)، وهذا فيه إشارة إلى أن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت على ما يليق بجلال الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي .. ].
في النسخة التي أمامي تعليق للمعلق في قوله: (من قرأه فأعربه؛ فله بكل حرف عشر حسنات)، ذكر المعلق أن هذا مأخوذ من حديث ضعيف، وهذا كلام فيه إجمال كان ينبغي أن يفصل فيه، أما القول بأن من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات مطلقاً فهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة لا شك فيه، لكن يظهر أن قول المعلق هنا ينصرف إلى الإعراب: من قرأه فأعربه، ومعنى أعربه: أقامه على العربية لم يلحن به، والذي ذكره في الهامش يقول: (أعربوا القرآن؛ فإن من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، وكفارة عشر سيئات، ورفع عشر درجات.. إلخ)، وذكر أن هذا الحديث ضعيف.
نعم، هذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف، لكن الأحاديث الواردة في أن من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ثابتة، بل ورد ما فيه أكثر من ذلك، وأن الله يضاعف لمن يشاء، أما الضعف فينصرف إلى اللفظ الذي يتعلق بإعراب القرآن؛ فينبغي للإنسان أن يتنبه لذلك، لأن من لا يعرف السنة أو لا يعرف الأحاديث يفهم أن الحديث الذي فيه أجر عشر حسنات لمن قرأ القرآن لكل حرف لا يصح، وهذا غير وارد، بل الوارد عكس ذلك. نعم.
(له أول وآخر)، بمعنى أن كلام الله عز وجل له بدايات في نزوله ونهاية، وكذلك كل سورة لها أول وآخر، وكل آية لها أول وآخر، وكل كلمة لها أول وآخر، والقرآن له أول وآخر، سواء من حيث النزول، أو من حيث ترتيب السور، أو من حيث واقعه في المصحف وكتابته.
(وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان مكتوب في المصاحف)؛ كل هذا إشارة إلى الرد على المتكلمين الذين تأثروا بمقولة الجهمية والمعتزلة الذين زعموا أن كلام الله مخلوق، فالمتكلمون ما قالوا: إن القرآن مخلوق، لكنهم قالوا بقول يؤدي باللزوم إلى مثل قول الجهمية والمعتزلة.
فالمتكلمون الأشاعرة والماتريدية أو طوائف منهم خاصة غير أهل الحديث منهم زعموا أن كلام الله عز وجل معنى قائم بنفس الله عز وجل، لا يمكن أن يكون فيه حروف ولا أصوات، وأن هذا المعنى عبر عنه جبريل، أو عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، أو عبر عنه المعبرون بحسب ما أذن الله عز وجل لهم، فالقرآن من حيث هو معنى كلام الله، لكن من حيث هو حروف وأصوات، وبدايات ونهايات، وجمل وآيات، يزعمون أنه كلام المخلوقين؛ وهذا مرده قول المعتزلة والجهمية الذي أنكروا أن يكون القرآن كلام الله، لكنه قول مؤدب أرادوا أن لا يصادموا به النصوص، فزعموا أن كلام الله هو الكلام النفسي، وأول من قال هذا الكلام ممن ينتسبون إلى السنة ابن كلاب ، وتابعه أبو الحسن الأشعري رحمه الله في أول أمره أو في مذهبه الأوسط قبل أن ينتقل لمذهب أهل السنة والجماعة جملة وتفصيلاً.
ثم تابع أبا الحسن الأشعري تلاميذه الكبار من بعده، ثم توسعوا في هذا القول حتى قالوا بهذه اللوازم التي لم يقل بها أسلافهم.
فقال: إن أصل كلام الله معنىً واحد، لما عبر عنه بالعبرية صار توراة، ولما عبر عنه بالعربية صار قرآناً، وهكذا، ففصلوا كلام الله بعضه عن بعض، فجعلوا أصل الكلام معنى، وحروفه وأصواته، وأوله وآخره، وأجزاؤه وأبعاضه، والمتلو منه كله زعموا أنه من فعل البشر.
فلذلك أنكروا أن يكون لكلام الله أول وآخر، سواء كلام الله جملة، أو كلامه بالقرآن.
كما أنهم أنكروا أن يكون لكلام الله أجزاء وأبعاضاً، كما أنكروا أن يكون هذا المتلو بالألسنة هو كلام الله، أو هذا المحفوظ في الصدور هو كلام الله، أو الذي نسمعه هو كلام الله، أو أن هذا المكتوب في المصاحف هو كلام الله؛ ولذلك لبسوا على الناس، فقالوا: لا يعقل أن يكون هذا الذي في المصحف كلام الله، كيف يعقل وهو بين أيدينا وهو حبر أسود وورق نراه ونلمسه.
السلف يفرقون بين الكلام الذي هو كلام الله عز وجل، المكتوب المقروء والمتلو، وبين المادة التي كتب بها، والأوراق التي كتب عليها، والألسنة التي تلفظت، والصدور التي حفظت، لا شك أن الصدور من خلق الله، وأن الألسنة من خلق الله، وأن الأصوات من خلق الله، وأن الحبر من خلق الله، وأن الأوراق من خلق الله، لكن ليس هذا هو كلام الله، لو جئنا بهذه الأمور لوحدها ما عرفنا أنها قرآن، لكن لما كتبنا فيها كلام الله عز وجل عرفنا أن هذا كلامه، وأن المادة المخلوقة ليست هي كلام الله، إنما كلام الله هو ما نفهمه وما نتلوه وما نسمعه، فمن هنا يجب أن نفرق بين المتلو والمقروء والمكتوب، وبين المادة والوسائل التي كتب فيها وتلونا بها.
فالوسائل والمادة لا شك أنها مخلوقة، أما المتلو والمقروء المسموع المحفوظ في الصدور فهو كلام الله عز وجل، لكنهم لبسوا على الناس في ذلك فوقع في مذاهبهم بعض من وقع من جهلة الناس وقليلي العلم وأصحاب الأهواء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ [سبأ:31]، وقال بعضهم: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، فقال الله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69].
فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآناً؛ لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو حروف وكلمات وآيات؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر، وقال عز وجل: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدرى ما هو ولا يعقل، وقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [يونس:15]، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم.
وقال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49]، وقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:77-78]، بعد أن أقسم على ذلك وقال: كهيعص [مريم:1].. حم * عسق [الشورى:1-2]، وافتتح تسعاً وعشرون سورة بالحروف المقطعة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه؛ فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه؛ فله بكل حرف حسنة)، حديث صحيح .. ].
في هذا المقطع أراد أن يقيم الحجة والأدلة على أن القرآن كلام الله عز وجل، فأولاً في الآية الأولى قوله عز وجل: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] يفيد أن القرآن.. بل نقطع به أن القرآن منزل: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، يعني: من الله عز وجل.
والآية التي بعدها: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88]، وهذا فيه دلالة قاطعة على أنه ليس من فعل المخلوقات، لأنه لو كان من فعل المخلوقات أو من قولهم؛ لأمكنهم أن يأتوا بمثله، ولو على جهة الافتراض.
وعندما قال الكافرون: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ [سبأ:31]، وقال بعضهم: إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] قال الله عز وجل: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، أي: الذي قال بأن القرآن قول بشر، والذي قال هذا القول هو أحد أقطاب الجاهلية الذين تصدوا لهذا الدين، وللنبي صلى الله عليه وسلم بالإنكار والتكذيب، وكان من ضمن مقولاته: إن هذا الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم قول بشر، كما قالت المعتزلة والجهمية: هو قول البشر.. لأنهم زعموا أنه كلام مخلوق.
فالله عز وجل توعد من قال بأنه قول البشر بأن الله سيصليه سقر، وهي النار، بمعنى أنه قال قولاً عظيماً أوجب أن يتوعد بهذا الوعيد.
كذلك الآية التي بعدها، فإن المشركين لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بأمر لم يعهدوه في كلامهم؛ قالوا: هذا شعر الشعراء، فذكر الله عز وجل لهم بأنه لا يليق أن يقوله الشعراء؛ لأنه ذكر من الله عز وجل وقرآن مبين، بمعنى مبيِّن، وبين الله عز وجل أنه لم يعلم نبيه الشعر، إذاً هو ليس بشعر، والشعر هو أعلى درجات الكلام عند العرب الذين هم أبلغ الناس، فإذا كان الله عز وجل نفى أن يكون هذا القرآن شعراً من قول البشر؛ فأولى ألا يكون نثراً من فعل البشر، إذاً هو ليس من كلام الشعراء، إنما هو كلام الله عز وجل.
ثم إن الله عز وجل تحدى المشركين أن يأتوا بسورة من مثله، والمشركون توافرت عندهم الأسباب لأن يأتوا بمثله لو كان من قول البشر.. لا سيما أن هممهم توافرت، فأولاً عندهم من الفصحاء والشعراء والبلغاء العدد الكبير الوفير.
والأمر الثاني: أنهم شعروا بالتحدي الكبير، والتحدي غالباً يستثير المواهب والقدرات في البشر، فإنهم شعروا بتحد عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الوحي الذي أنزله الله، فلو كان بإمكانهم أن يأتوا بمثله أو قريب من مثله لأتوا، لكنهم لم يأتوا؛ وهذا دليل على أنه ليس من فعل البشر، ولا من قول البشر، بل من الكلام الذي لا تقدر عليه المخلوقات، والبشر هم أعلى المخلوقات في العقول والقدرة على الكلام والبيان.
ثم إن المشركين في الآية التالية لما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقرآن غير هذا أو يبدله، فإنهم تحدوه بأمر يتعلق بالرسالة وبالدعوة، فلو كان القرآن من كلامه لقبل هذا التحدي وبدل لهم الآيات بآيات أخرى، أو أتى لهم بغير القرآن، لكن نظراً لأنه من كلام الله عز وجل -وهذا ما لا يملكه الرسول صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يوجه لذلك، بل ذكر أنه لا يمكنه أن يبدله من تلقاء نفسه؛ لأن الله عز وجل هو الذي أوحاه إليه وتكلم له به.
كذلك الآية التي بعدها: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، يعني: أن هذا القرآن آيات من آيات الله عز وجل بينات من حيث معانيها وإعجازها، ومن حيث أنها كلام الله في صدور الذين أوتوا العلم، أي: آتاهم الله العلم.
وكذلك الآية التي بعدها: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:77-79]، هذا حسب ما فسره السلف: أنه كتاب في السماء، وأن القرآن بعد ما تكلم به الله عز وجل كتب في السماء، كما أنه مكتوب في هذه المصاحف التي بين أيدينا، فمن حيث إنه مكتوب فالكتابة من فعل البشر، أما الكلام فهو كلام الله عز وجل بحروفه ومعانيه.
ثم أشار إلى الحروف المقطعة وهي التي افتتحت بها سور القرآن، مثل قوله تعالى: كهيعص [مريم:1].. حم * عسق [الشورى:1-2]، كل هذه حروف لو كانت من كلام البشر لكان لها معنىً يمكن أن يعبروا به من المعاني التي يدركونها، لكنها جاءت من الله عز وجل على سبيل الإعجاز والإيجاز، وعلى سبيل البيان بأن هذا من كلام الله، وأن هذا القرآن الذي بين أيدينا معجز يشتمل على هذه الحروف، وأنه مكون من هذه الحروف ومن مثلها مما يعرف العرب، فالعرب يتكون كلامهم من هذه الحروف: الكاف والهاء والياء والعين والصاد، والألف واللام والميم، والحاء والميم والعين والسين والقاف؛ ومع ذلك لا يمكن أن يأتوا بمثله، والله عز وجل تحداهم بذلك، فبين لهم أن هذا القرآن الذي هو كلام الله من جنس هذه الحروف التي يتكلمون بها، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، وهذا هو أقرب الأقوال وأرجحها في معنى الحروف المقطعة، وتفسيرها: أن الحروف المقطعة التي صدر الله بها بعض السور أراد الله بها الإشارة إلى أن القرآن من هذا النوع، ومن هذه الحروف التي يعرفونها وينطقون بها ويتكون منها كلامهم، ومع ذلك لا يستطيعون أن يأتوا بمثله أبداً.
ثم ذكر الحديث الذي ذكره من قبل، وأشار المهمش إلى أنه ضعيف، وذكر الشيخ المؤلف أنه صحيح، والمؤلف عالم بالحديث وطرقه وأسانيده، فربما صح له الحديث من طرق لم نعلم بها، أو لم يطلع عليها صاحب الهامش والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عليه السلام: (اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم، لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه).
وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.
وقال علي رضي الله عنه: من كفر بحرف منه؛ فقد كفر به كله.. ].
في هذه النصوص إشارة إلى أن القرآن حروف، وأنه يتكون من هذه الحروف التي أنزلها الله عز وجل، وفي ذلك رد على الذين قالوا: إن القرآن معان نفسية، أو أنه معان قائمة بذات الله، وأن الحروف والأصوات ليست من كلام الله عز وجل، فأراد بذلك أن يثبت أن كلمة (حروف) وردت في السنة ووردت على ألسنة الصحابة، أي: أن القرآن وحروفه من كلام الله عز وجل ..
لذلك قال علي بن أبي طالب : من كفر بحرف فقد كفر به كله، وهذا يفهم منه أن القرآن كلام الله؛ لأنه لو لم يكن كذلك -يعني: بحروفه وأصواته- لما كفر الصحابة من أنكر الحرف؛ لأنه قد ينكر أحد من الناس حرفاً ولا ينكر المعنى، وإذا كان كلام الله مجرد المعاني؛ فإن إنكار الحرف لا يتطرق إلى المعاني، وعلى هذا لا يعد من أنكر حرفاً كافراً، لكن ما دام كلام الله عز وجل، وأن الله عز وجل تكلم به بحروفه والأصوات التي تليق بجلال الله عز وجل، فهذا يعني أن من أنكر حرفاً؛ فقد أنكر حرفاً من كلام الله عز وجل، فمن هنا يكفر.
فالإشارة إلى تكفير من أنكر حرف دليل على أن الله تكلم بالقرآن بهذه الحروف التي بين أيدينا على ما يليق بجلال الله عز وجل، بكلام ليس ككلام البشر؛ لأن الله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ واتفق المسلمون على عد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه، ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه؛ أنه كافر، وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف .. ].
كل ذلك تفصيل لمعنى أنه كلام الله، وأنه حروف، وكل ذلك رد على الذين زعموا أن القرآن من حيث هو كلام الله عز وجل، لكنه بزعمهم معنىً قائم بالذات، أي: كلام نفسي، ويقصدون بذلك أنه لم يتكلم الله به على هذا النحو الذي نتلوه، إنما ألقاه الله إلى جبريل، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى أحد من خلقه معاني، ثم جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم ترجم هذه المعاني إلى الحروف والأصوات.
فأراد الشارح أن يذكر مذهب السلف أن من أنكر حرفاً من هذا الكلام فقد كفر، ولو كانت الحروف من صنع المخلوقات؛ لما كان إنكارها كفراً ما دام المعنى ملتزماً، ومؤمَناً به، لكن ما دام الكلام كلام الله بحروفه؛ فإن هذا يعني أن من أنكر حرفاً، ولو لم يؤد هذا الحرف إلى إنكار المعنى.. من أنكر حرفاً مقطوعاً بوجوده في القرآن؛ فإنه بذلك يكفر.
أما قوله: (اتفق المسلمون على عد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه)؛ فهذا إشارة إلى أن القرآن يتكون من سور عديدة، ومن آيات عديدة وكلمات عديدة وحروف عديدة، ولا يعني أنهم اتفقوا على عدد.. اتفقوا على تفصيل العدد، لكنه يقصد أن القرآن آيات عديدة جداً، وأن القرآن كلمات وسور وحروف، أما عد السور فالمشهور والراجح أن عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، على اعتبار أن سورة الأنفال سورة والتوبة سورة، أما على اعتبار أنهما سورة واحدة؛ فتكون السور مائة وثلاث عشرة سورة.
أما الآيات فقد اختلف فيها، لكن أجمعوا -أي: السلف- على أن القرآن ستة آلاف آية ويزيد، إنما اختلفوا في الزيادة، وليس سبب اختلافهم اختلافهم في ذات القرآن، سبب اختلافهم في العدد بعد الستة آلاف في مفهوم الآية وما يدخل في الآيات وما لا يدخل فيها، فمثلاً:
بعضهم أدخل بسم الله الرحمن الرحيم آية من كل سورة فزاد عنده العدد، وبعضهم عدها آية في الفاتحة ولم يعدها في بقية السور، وبعضهم عدها آية في سائر القرآن ولم يعدها في سورة (براءة)، وهكذا.
وبعضهم جعل الكلمة الواحدة ليست آية مثل قوله عز وجل: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64].
فمن هنا اختلف العدد اختلافات كثيرة، من أشهرها: قول من قال: إن القرآن ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية.
ومنهم من قال: مائتان وست عشرة آية بعد الستة آلاف.
ومنهم من قال: ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، أو أربع وثلاثون آية، أو خمس وعشرون آية، أو تسع عشرة آية، أو ستة آلاف ومائتان وأربع آيات؛ كل ذلك ذكره أهل العلم كـالسيوطي وابن كثير وغيرهم.
كذلك كلمات القرآن اختلفوا في عددها بناء على اختلافهم في مفهوم الكلمة، وهل بعض الحروف أو بعض الآيات تعد كلمة، والجمل هل تعد كلمات، أو كل مقطع من الجملة يعد كلمة.
كذلك الحروف، وقد عدَّ بعضهم الحروف بثلاثمائة وثلاثة وعشرين ألفاً وستمائة وواحد وسبعين حرفاً، على اختلاف فيما يدخل في الحروف وما يخرج، كما ذكرت سابقاً.
إذاً: قول المؤلف إنهم اتفقوا على عد السور، يقصد به أنها متعددة، وأن الآيات متعددة والكلمات متعددة وكلها كلام الله، هذا معنى قوله.
وهذا -كما أسلفت- فيه إشارة إلى الذين قالوا: إن الكلام -أي: كلام الله- إنما هو المعاني، أما السور والآيات والكلمات والحروف فهي من اجتهادات البشر، ومن صنعهم، ومما اتفقوا عليه.
حتى الذين وافقوا إجماع الأمة على السور والآيات والكلمات والحروف من المتكلمين؛ جعلوا ذلك يرجع إلى فعل البشر، وأن الأصل الذي هو كلام الله ما هو إلا معنى، أما هذه الحروف المكتوبة المنطوقة، وهذه الكلمات المكتوبة المنطوقة فزعموا أنها مخلوقة، فمن هنا وقعوا في شر ما هربوا منه، أي: حينما هربوا من قول المعتزلة بأنه مخلوق، ذلك بأن المعتزلة كانوا أشجع منهم وأكثر صراحة، فبينوا عقيدتهم الفاسدة بدون مواربة، أما هؤلاء فلفقوا ولبسوا على المسلمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
السؤال: ورد أن الله كلم موسى عليه السلام بغير حجاب، وورد أن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا فمنعه، فكيف نجمع بينهما؟
الجواب: الكلام بين موسى وبين ربه بغير حجاب، لكن لا يعني أنه ليس بينه وبينه حجاب بالنسبة للرؤية، فلا شك أن موسى عليه السلام لم ير ربه، لكنه سمع كلام ربه بواحاً، وكما قال أهل العلم: هذا النوع يختلف عن نوع التكليم الذي كلم الله به محمداً صلى الله عليه وسلم.
السؤال: لو توضح وجه الدلالة من الحروف المقطعة على أن القرآن كله كلام الله؟
الجواب: الدلالة من الحروف المقطعة على أن القرآن كلام الله: هو أن هذه الحروف المقطعة لا نفهم منها معاني، وأنها جاءت على نسق يفيد أن القرآن يتكون من هذه الحروف، فكأنه -والله أعلم- يقول: هذا القرآن يتكون من هذه الحروف التي تتكلمون بها، والتي تنطقون بها، وهي مادة كلامكم ونطقكم وبيانكم، ومع ذلك لا تستطيعون أن تأتوا بمثل هذا القرآن الذي يتكون من هذه الحروف.
هذا أقرب قول في وجه ذكر الحروف المقطعة.
السؤال: ما معنى قول الطحاوي في العقيدة: له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق؟
الجواب: معنى هذا أن الله عز وجل رب قبل أن توجد المربوبات، وقبل أن يوجد العباد الذين هو ربهم، والمخلوقات التي هو ربها، فالله عز وجل متصف بالربوبية حتى قبل أن توجد المربوبات.
وكذلك الله عز وجل متصف بأنه هو الخالق قبل أن يخلق المخلوقات، وليس بوجود الخلق اتصف بالخلق وسمي بالخالق، أو اكتسب صفة الخلق، وهذا يعني أن جميع صفات الله عز وجل يتصف الله بها قبل وجود الموصوفات التي تدل عليها، فالخلق صفة لله عز وجل، والله عز وجل هو الخالق، حتى قبل أن توجد المخلوقات.
السؤال:ذكر الشيخ ابن عثيمين في شرح اللمعة أثراً صحيحاً عن ابن عباس موقوفاً عليه قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره، فهل قول الصحابي في الأشياء الغيبية المستقبلية له حكم المرفوع؟
الجواب: أقوال الصحابة في الغيبيات على نوعين:
نوع تحتمله اللغة العربية فقد يكون من اجتهادهم، وهو نوع تحتمله معاني اللغة على وجه صحيح، لا يتعارض مع نصوص الشرع ولا مع قواعده؛ فهذا يكون تفسيراً جائزاً، سواء أخذ به أو لم يؤخذ به، وسواء وافقه العلماء أو لم يوافقوه.
ونوع لا يمكن أن يرجع إلى معاني اللغة، أو يستدل به إلا عن طريق الوحي، فهذا إذا ورد عن صحابي، وهو غيبي خالص لا مدخل للغة فيه؛ فإنه في الغالب يكون له حكم المرفوع، لأن الصحابة لا يتكلمون في أمور الغيب بغير علم.
هذا هو الغالب، ومع ذلك لا نقطع؛ لأن الصحابي قد يظن وقد يتوهم أن الأمر كذا وهو غير ذلك.
السؤال: من الذي سمى سور القرآن؟ ومن رقم الآيات ورتب السور؟ هل كان هذا باجتهاد أم بوحي؟
الجواب: تسمية السور بعضها توقيفي وبعضها اجتهادي، كذلك ترتيب السور بعضه توقيفي وبعضه اجتهادي، وأما ترقيم الآيات فهو اجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم، أما ترتيب الآيات فهو توقيفي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فالسور من حيث الترتيب الواقع الآن في المصحف من اجتهاد الصحابة، وبعضها توقيفي كما ذكر أهل العلم، كذلك الترقيم ليس توقيفياً؛ لأن بعض أهل العلم لا يزال يرى أن الترقيم تدخل فيه بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1]، وبعضهم لا يدخل فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم).
وبعضهم أيضاً دمج بعض الآيات ببعض، وبعضهم جعلها آية واحدة إلى آخره.
ولا يزال الأمر محل خلاف من الناحية العلمية، ولكن من ناحية إخراج القرآن كما عليه المصحف الآن اتفق عليه المسلمون؛ فيجب أن يحترم، ويكون موضع إجماع.
السؤال: عندما أسمع عن صفات الله في الدرس أو في أي وقت تأتيني تصورات في صفة الله، فهل علي في ذلك شيء؟
الجواب: ليس في ذلك -إن شاء الله- شيء ما دام الأمر لا يتعلق باعتقاد ما تتصوره، سبق أن ذكر أهل العلم أنه لا بد عند سماع كلام الله عز وجل في ذاته أسمائه وصفاته وأفعاله، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن وصف ربه، لا بد أن يتصور العاقل السامع أشياء في خياله وفي ذهنه عن هذه الصفات والأفعال، فهل يضره ذلك؟
لا يضره؛ لأنه إذا عرف أن هذه الخيالات أمثال تقرب إليه المعنى، وأنها ليست هي صفة الله ولا أفعاله؛ فهذا أمر لا ينفك منه عاقل وسامع، لكن عليه أن يعتقد أن ما يتخيله ليس هو صفة الله، وليس هو فعل الله، لأن أفعال الله لا تبلغها الأوهام ولا التصورات.
فإذاً لا يضرك أن تتصور وتتخيل، إنما يضرك أن تعتقد ما تتصور أو تتخيل، بحيث تجزم أن ما في ذهنك من الخيالات هو الحقيقة اللائقة بالله، أو هو الصفة التي يوصف بها الله، فهذا لا يجوز، أما مجرد التخيل والتصور فلا يمكن أن تفهم المعاني إلا بالتخيل والتصور، لكن استبعد في عقيدتك ما تتخيله وتتصوره، واعلم أن الحقيقة والكيفية التي عليها صفات الله أعظم وأجل مما نتخيله.
السؤال: ألا يحمل قوله: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] على القرآن الذي بين أيدينا؟
الجواب: بلى! ورد في تفسير الآية قولان عن السلف:
الأول: أنه لا يمسه إلا المطهرون، أي هذا المصحف الذي بين أيدينا ينبغي ألا يمسه إلا إنسان تطهر، على خلاف.. هل المقصود به المؤمن وإن كان على حدث، أو المقصود به المؤمن المتطهر المتوضي.
الثاني: (لا يمسه إلا المطهرون)، أي الملائكة الذين كتبوا القرآن في الكتاب في السماء.
السؤال: ذكرت في الدرس الماضي تحذير السلف من الاجتماع بأهل البدع، فهل يدخل في ذلك حضور ندوات العلمانيين، وكذا حضور الأمسيات الشعرية الحداثية؟
الجواب: حضور هذه المناسبات من طالب العلم أو المبتدي لغير حاجة شرعية يدخل في مشاركة أهل البدع، أما إذا كان لفائدة، كأن يريد أن يرد، أو يبين منكراتهم، أو ينقلها لأهل العلم.. يدافع عن الحق وعن العقيدة؛ فهذا لا مانع، أما الحضور كمستمع ليستفيد أو يتسلى؛ فهذا لا يجوز.
فالحاصل أنه لا يجوز لأحد أن يحضر مثل هذا النوع من المحاضرات التي يلقيها أهل البدع إلا لغرض شرعي صحيح يوافقه عليه أهل العلم، فلا يجتهد لنفسه فيقول: أنا عندي مندوحة أو عذر حتى أحضر هذه الأمور، أو أنا سأفعل وأفعل، بل عليه أن يستشير أهل العلم، فقد ينصح من قبل من هم أخبر منه بأن لا يحضر مثل هذه المناسبة.
السؤال: ما الأصل في أحاديث الآحاد في الأمور العقائدية التي تختص بالله وصفاته، نرجو الإفادة؟
الجواب: أحاديث الآحاد إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا فرق بينها وبين غيرها، ولم يرد التفريق بين أحاديث الآحاد وغيرها، سواء في الصفات أو غيرها إلا عندما جاء المتكلمون الذين أولوا صفات الله عز وجل ووجدوا بعض الصفات إنما ثبتت بطريق الآحاد، وأيضاً وردت لهم بعض العقائد من طريق الآحاد، فكأنهم أرادوا أن يأخذوا بالأحاديث المتواترة والصحيحة عندهم تواتراً، ولا يأخذون بالصحيح من أحاديث الآحاد، وهذا تفريق لم يرد عن سلف الأمة، بل هو تجزئة للدين بغير دليل، فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يجب الأخذ به، لا فرق بين الآحاد وغيره، هذا هو الرأي الذي عليه سلف الأمة وعملهم؛ لأنا إذا قلنا هذا، ورد الاعتراض على كثير من أمور الدين، وقد يأتي إنسان ويقول: لماذا فرقتم بين العقيدة وغيرها، فالعبادة أهم من العقيدة؛ لأن العقيدة لا يدركها أكثر الناس تفصيلاً، لكن العبادة كل الناس يعبدون الله، فإذا وردت عبادة من طريق الآحاد لم نأخذ بها.
ثم يأتي ثالث ويقول: كذلك الأحكام تحريم وتحليل، فإن حديث الآحاد يتطرق إليه الظن، فإذاً كيف نأخذ به في الحلال والحرام؟ كأنا قلنا على الله بغير علم.
فإذاً: من هنا يهدم الدين، فلا فرق بين العقيدة وغيرها، والتفريق حادث، فلا يجوز أن يقال: أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة ولا في الصفات.
السؤال: كيف نجمع بين قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى:51]، وقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]؟
الجواب: قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً [الشورى:51]يدخل فيه تكليم موسى عليه السلام، كلام الله لموسى وحي؛ فلا تعارض بين الآيتين أبداً، والوحي أنواع: منه ما هو كفاح، ومنه ما هو عن طريق جبريل عليه السلام، ومنه.. ومنه.. إلخ.
بل إن الآية التي فصل فيها هذه الأنواع من الوحي تفيد أن الوحي هو التكليم الكفاح الذي ليس فيه واسطة، هذا الظاهر من نص الآية.
السؤال: هل يصح أن يقال للقرآن: مادة كما يقال في المدارس: مادة القرآن الكريم؟
الجواب: أولاً: المفهوم من كلمة (مادة) معنى درس أو حصة، ومجلس أو نحو ذلك، فإذا كانت المادة تعني درس قرآن؛ فلا مانع، لكن يظهر لي والله أعلم من باب التورع ومن باب الاحتياط أن الاستغناء عنها أولى، فيقال: درس القرآن؛ لأن كلمة (مادة) موهمة، وأكثر المقررات التي يدرسها الطلاب مادية، وإن كان القصد صحيحاً، ولا نستطيع أن نجزم بأن هناك أحداً قصده غير المعنى المتبادر، وهو أنه يقصد مادة الدرس، ورغم صحة القصد إلا أن الأولى اجتناب هذه الكلمة؛ دفعاً للبس.
السؤال: ما حكم تقبيل المصحف؟ وقول: صدق الله العظيم بعد الانتهاء من التلاوة؟
الجواب: أما تقبيل المصحف تكريماً له فهو الله جائز إن شاء، لكن لا يكون هذا على سبيل التعبد واتخاذه سنة لازمة، لكن لمناسبة أو بسبب يجوز تقبيل القرآن، أما أن يتخذ سنة من السنن والعادات، بحيث يكون كأنه من لوازم الشرع فهذا لم يرد عن السلف.
ومثله قول: صدق الله العظيم، إن جاء لمناسبة أو أحياناً فلا مانع، أما التزامه بعد كل قراءة فهو بدعة.
السؤال: هل نقول: إن القرآن كلام الله سبحانه لفظاً ومعنىً؟
الجواب: نعم، لكن كلمة: (لفظاً) اجتنابها حتى لا يفهم منها معنىً آخر أولى، لكن إذا أريد به التعبير عن عقيدة السلف، بمعنى أن هذا القرآن كله حروفه وأصواته ومعانيه كلها من كلام الله فهذا حق.
السلف كرهوا أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو قول: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ كرهوه لأنهم وجدوا أن كثيراً من الجهمية والمعتزلة يلبِّسون على الناس بهذه العبارة، ويقصدون باللفظ والملفوظ الحروف والأصوات والمعاني.
وأحياناً قد يقصد باللفظ: الصوت المنبثق من اللسان والشفتين، الذي هو المخلوق.. والذي هو من فعل البشر أنفسهم؛ فهذا لا شك أنه مخلوق، لكن ينبغي أن لا يقال في اللفظ شيء، لا نفي ولا إثبات، يقال: القرآن كلام الله فقط، ونقف عندها؛ لاشتباه الكلام في مسألة اللفظ.
السؤال: أين مستقر الرحمة؟ وهل يصح الدعاء بـ(اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك)؟
الجواب: أما الدعاء فأظنه صحيحاً؛ لأن المقصود به الجنة، ورحمة الله سبقت عذابه، ورحمة الله وسعت كل شيء، وأعظم رحمة الله عز وجل.. أو من أعظم رحمة الله: الجنة، لكن هل وردت؟
هذه ليس عندي الآن فيها خبر، فلا أدري، أما أين مستقر الرحمة؟ فربما قصد: ما المقصود بمستقر الرحمة هنا؟
والجواب: مستقر الرحمة هو الجنة، لكن قد يكون لها معنىً آخر لا أعلمه، فلا أجزم بذلك، ولا أدري هل وردت في النص أو لم ترد.
السؤال: كلام موسى عليه السلام قد يحتج به من قال بوحدة الوجود، أعني قوله: أنا الله أمامك وعن يمينك وعن شمالك؟
الجواب: قلت -كما ذكر أهل العلم-: إن هذا لا يصح كحديث؛ فلا داعي أن نعول عليه، واستدلال الاتحادية بمثل هذه الأمور بناء على قاعدتهم أنهم لا يعرفون الصحيح من السقيم، بل يعرجون على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ويعرفونها أكثر مما يعرفون الصحيحة.
السؤال: ورد في بعض الآيات قوله: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ [الأعراف:104]، هل هذه الآيات بالمعنى الذي قاله المخلوقون أم أنه نطق بها كما هي في الآيات؟ وهل تكلم المخلوقون بكلام ثم نزل في القرآن؟
الجواب: قصده: هل قول موسى هو قوله بحروفه ومعانيه، وكذلك قول فرعون أو قول غيره؟
أولاً: الله عز وجل حينما يتكلم وينسب الكلام، أو يذكر كلام من سبقوا أو من لحقوا من خلقه؛ فإنما يذكره على وجه صحيح قطعاً، ولا نفصل: هل هذا كلامه بحروفه أو بغير حروفه؛ لأن هذا أمر غيبي من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يكون بعض هذا الكلام ليس بالعربية أصلاً، والقرآن جاء بلسان عربي مبين، لكن كلام الله هو الحق والصدق، ولا بد أن يكون ما تكلم الله به عن هؤلاء القوم هو عين كلامهم، ولو لم يكن بحروفه وبلغته.
السؤال: ما الشاهد من إيراد المؤلف لقوله تعالى: إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، فقال سبحانه: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]؟
الجواب: الشاهد فيه على أن القرآن كلام الله، أنه حينما قال هذا المشرك بأن هذا القرآن ما هو إلا قول البشر، أي أنه مخلوق، وأنه ليس كلام الله، هدده الله عز وجل بأنه سيصليه سقر، ولو كان كما يقول الجهمية والمعتزلة: ليس بكلام الله عز وجل، إنما هو كلام المخلوق؛ لما جاز أن يتوعد الله عليه.
السؤال: كثر الكلام والشبهات حول سيد قطب وعقيدته وأخطائه، فما رأيكم؟
الجواب: أما الكلام حول سيد قطب رحمه الله، فصحيح أن الناس اختلفوا اختلافاً كبيراً لكن على غير علم، أو على غير أصول شرعية، أغلبهم ولا أقول: كلهم، لا شك أن أكثر أهل العلم وأكثر طلاب العلم والشباب إن شاء الله على الأصل الشرعي وهو أن سيد قطب رحمه الله ننظر إليه من الأمور التالية.. نوجزها بسرعة:
أولاً: سيد قطب رحمه الله ليس إماماً في الدين، وليس من العلماء الذين تقوم كلماتهم على الأصول العلمية، إنما هو أديب داعية مجتهد احتسب أجره إلى الله عز وجل، ودعا إلى الله، ووقف ذلك الموقف الذي جعله مقبولاً عند عامة المسلمين، وأحبه الناس لوقفته مع دين الله عز وجل، ونصر الله به الدين في بعض جوانبه؛ فهو إنسان أدى واجبه حسب اجتهاده، وأمره إلى الله عز وجل.
الأمر الثاني: فيما يتعلق بكلامه.. كلامه فيه حق وفيه باطل، خاصة في جوانب العقيدة، ولا نبرئه من الخطأ، ثم إننا أيضاً لا نجرمه؛ لأننا نعلم أنه لم يتكلم في أمور العقيدة عن علم قاطع من ناحية، ولم يكن ممن يتعصب لأهل الأهواء والبدع من ناحية أخرى، فإن كلامه وأصوله التي بنى عليها كلامه أنه كان حريصاً على الحق وحريصاً على السنة، وإذا بلغه الدليل أخذ به إذا فهمه، لكنه نشأ في بيئة أكثرها أشعرية وماتريدية وكلامية، فعاش وترعرع في هذه البيئة وفهم كثيراً من مفاهيم الدين عن هذه البيئة وأخذ بها وكأنها الحق وسلم بها، وترك بعضها، بل إنه تحرر من كثير من الأمور التي يقول بها من عاصروه ومن سبقوه من أتباع المذهب الأشعري والماتريدي؛ هذا وجه.
والوجه الآخر: أنه حينما قال هذه المقولات -التي أخطأ بها في العقيدة- أكثرها عبر عنها بتعبير أدبي غير قاطع في الدلالة، لا نستطيع أن نجرمه به، نعم نقول: إنه أخطأ، وبعض الألفاظ الظاهر منها الخطأ لا شك، لكن حملها على أسوأ المحامل هذا فيه نوع اعتداء وظلم، وفيه تكلف، وينبغي إذا قلنا أن ننصف، ولا نتكلم في أحد إلا بعلم؛ فلذلك ينبغي أن نعتدل، فلا نعتبره إماماً في الدين وقدوة ونقدسه، أو ندافع عنه بالحق والباطل.
إذاً نعتدل وننصف قدر ما نستطيع، ومع ذلك نترك أمره إلى الله عز وجل، فهو فيما أحسن نرجو له الثواب من الله عز وجل، وفيما أساء نسأل الله لنا وله المغفرة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر