مشاهدينا الكرام! أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامج (حراسة العقيدة).
إن مسألة العقل أخذت حيزاً كبيراً عند فريق المبتدعة؛ حتى إنهم وصفوا أهل السنة أهل الحق بأنهم لا يعقلون، وليس لهم عقول يعملونها.
فمن هذا المنطلق نودُّ أن نتعرف على مكانة العقل في الإسلام، ومكانه عند أهل السنة أهل الحق.
الشيخ: نشأت معضلة العقل عن أفكار الفلاسفة الإلهيين الذين انطلقوا في الكلام في الغيبيات على غير أسس الوحي السليمة، وهؤلاء غالباً هم خصوم الأنبياء، نقصد الفلاسفة الذين تكلموا في الغيبيات، وليس كل الفلاسفة.
فهؤلاء الفلاسفة لما رأوا هذا الكون العجيب، ورأوا بديع صنع الله عز وجل وآياته الظاهرة، وهم لم يؤمنوا بحقيقة وجود الرب عز وجل كما جاء بها الأنبياء؛ صاروا يعملون خيالاتهم وأوهامهم في البحث عن مصادر قوة هذا الكون ونظام هذا الكون وحركة هذا الكون؛ فتوهموا أن هناك عقولاً تدبر الكون.
المقدم: لذلك أطلقوا مصطلح العقل الفعال.
الشيخ: نعم، فمن هنا توهموا أن هذا العقل له أثر في الإنسان، وانطلقوا من هذا المنطلق، ثم تأثرت بهم مدارس واتجاهات في الأمم الأخرى وفي الأمة الإسلامية التي ضل بعض طوائفها عن طريق الحق، وأخذوا بمسالك الفلاسفة، فهؤلاء كلهم تأثروا بهذا المسلك، وظنوا أن العقل كيان مستقل؛ ولذلك عظموه وقدسوه بأكثر مما يستحق.
وأما أهل السنة أهل الحق يعرفون للعقل قدره؛ فهو مناط التكليف، وهو أعظم وسيلة منحها الله الإنسان لفقه شرع الله، ومعرفة الواجبات المجملة، أعني الواجبات التي تتعلق بحق الله عز وجل، وواجبات الإنسان في هذا الكون على ضوء شرع الله، فهذا العقل له مكانته وله قدره، وهو الوسيلة لأئمة الدين لفهم شرع الله، وتطبيقه في الحياة.
إذاً: مكانته عندهم لا شك في أنها عالية، ولكن لا يعطونه أكثر من قدره.
المقدم: هذا رد على الفلاسفة وأهل الكلام؟
الشيخ: أي نعم، ولا يجعلون العقل يعيش في متاهات لا طاقة له بها؛ إذ العقل لا يعرف تفاصيل الغيب، ولا يدرك أسرار القدر، فمن هنا أعطوا العقل كرامته، ومن كرامة العقل ألا يقحم فيما لا يطيقه.
ومن هنا اتهمهم الخصوم بأنهم ردوا تقريرات العقل حينما لم يقبلوا الأوهام التي تسمى عقليات، ولم يقبلوا التخرصات التي قال الله في أصحابها: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10-11]؛ لأنها ليس لها مستند من مصادر الحق.
المقدم: كمثل قول ابن سينا : إن العقل فعَّال، وقواه قدسية. ونحو ذلك، فهذه الأقوال من أين استقَوْها؟ وما هو المصدر لهؤلاء الفلاسفة؟ هل هو الفلسفة اليونانية؟
الشيخ: ليس لهم مصدر علمي ولا شرعي، حتى ابن سينا لو أخذناه بمبدئه الذي يدعيه؛ لما وجد أي دليل على ما يقول سوى التبعية للفلاسفة.
المقدم: إذاً: أهل الحق ينظرون إلى العقل باتزان، فلا إفراط ولا تفريط، فهل هناك أدلة في القرآن والسنة تبين مكانة العقل في الإسلام؟
الشيخ: نعم، هناك آيات كثيرة، فالله عز وجل يذكر نعمه، ويذكر آياته التي تدل على وجوده وعلى ضرورة عبادته، ثم يقول: أَفَلا تَعْقِلُونَ ، ولم يقل: ليس لكم عقول، بل قال: أَفَلا تَعْقِلُونَ ، يعني: تتفكرون، وبعض الآيات -أيضاً- نصت على التفكر، وليس بينهما تقارب في المعنى فحسب، بل هناك تطابق بين التفكر والتعقل.
ومن ذلك أن الله عز وجل لما ذكر بعض المنن والنعم، قال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وقال عز وجل: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم:28].
المقدم: وكذلك عاب على الكفار عدم التعقل بقوله تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].
الشيخ: نعم، إذاً: الإسلام يدعو إلى التعقل، ويدعو إلى التفكير في معرفة الحق، ومعرفة حقوق الله عز وجل خاصة، ومعرفة وجوه الخير والنفع للإنسان.
المقدم: هناك من يقول: إن الدين يحجر على العقل، هل التقيد بالنصوص الشرعية تحجير على العقل؟
الشيخ: الحقيقة أن الدين يكرم العقل غاية التكريم؛ يدل على ذلك ما يأتي:
أولاً: أن الله أكرم به الإنسان.
ثانياً: أن الله عز وجل جعله مناط التكليف، فكلف الإنسان بأن يفكر، وأن ينظر، وأن يتدبر آيات الله، وأن يعمر الكون على سنن الله.
فالله عز وجل لم يأمر بتدبر آياته المقروءة -وهي القرآن ونصوص الوحي- فحسب، بل أمر بتدبر الآيات الكونية كذلك.
إذاً: الإسلام لا يحجر على العقل، بل يوظفه وظيفة تكده إلى قيام الساعة، ولكن على أسس تحميه من غوائل التيه، وتحميه من أسر الأوهام، وتحميه من أسر الخرافات، وتحميه أيضاً من أن يتجرأ على الله أو يتجرأ على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
فهؤلاء يسمون هذه الشروط قيوداً، وليست قيوداً، بل هي في الحقيقة تعتبر مناط التكريم للعقل.
المقدم: نودُّ أن نتعرف الآن على هذه الاتجاهات العقلانية، وأبرز الأفكار التي يمكن أن نناقشها في هذا البرنامج.
الشيخ: الحقيقة أن الاتجاهات العقلانية في أصولها متشابهة، وهذا الذي جعلنا نتحدث عنها تحت هذا العنوان، أما في مناهجها التفصيلية وفي غاياتها وفي وسائلها فهي مدارس لا تكاد تحصى.
ففي عصرنا هذا يمكن أن نقول: هناك اتجاهات تسمى الاتجاهات العقلانية حتى عند أصحابها، وهي جهات فكرية قائمة الآن، سواء تلك التي تنهج نهج المعتزلة والفلاسفة، والتي تنتهج مناهج حديثة لكنها تنزع إلى الاتجاه العقلاني الغربي.
وهذه الاتجاهات أيضاً لها أسماء كثيرة جداً، فيدخل فيها كثير ممن يسمون بالعلمانيين وليس كلهم، وكثير ممن يسمون باللبراليين وليس كلهم، وكثير من أصحاب الفكر التغريبي الذين هم تلامذة للتيارات الغربية، وأصحاب الفكر الحداثي، بل الحداثة تعتبر اليوم الرائدة للاتجاه العقلاني.
ويدخل في ذلك أصحاب نزعات فردية، وهنا أنبه على أمر مهم جداً، لأننا سنحتاج إلى هذا البيان فيما بعد، ذلك أنه ليس كل من أطلق عليه أنه (علماني) يكون كذلك، أو يعترف بهذا، وكذلك من أطلق عليه أنه لبرالي أو حداثي.
فهذه الأوصاف الآن أصبحت أوصافاً فضفاضة، وهي حقيقية، ولكن لا يلزم أن يكون العقلاني علمانياً أو لبرالياً أو حداثياً، بل قد يكون غير هؤلاء، وقد لا يدري ولا يعرف معنى العلمانية واللبرالية، وإنما أردت التركيز على أشهر التيارات: العلمانية، واللبرالية، وأهل الاستغراب أو التغريب، وكذلك الحداثة، والعصرانية.
المقدم: والشيوعية تدخل في هذا؟
الشيخ: إذا اعتبرنا المبادئ الغربية البحتة؛ فكل الاتجاهات الحديثة في الغرب عقلانية، ومنها الشيوعية وعكسها.
المقدم: الرأسمالية؟
الشيخ: نعم، كلها تقوم على الاتجاه العقلاني؛ لأنهم ليس عندهم مصادر للتدين الحقيقي تضبطهم، حتى الذين يسمون مفكري النصارى، أو مفكري اليهود هم في الحقيقة عقلانيون، وإن تمسكوا ببعض المذاهب الدينية.
المقدم: لكن من أي باب دخلت العلمانية واللبرالية في العقلانية؟
الشيخ: من باب أنها تشترك في الأصول التي سأذكرها بعد قليل.
وقد ذكرتني بأمر مهم، فأقول للإخوة المشاهدين: من أجل أن تعرفوا وجه ارتباط هذه المذاهب بعضها ببعض أرجو أن تستمعوا جيداً عندما نعرض موضوع مناهج وأصول اتجاهات العقلانية.
وينبغي أن نفهم حين نقول: اتجاهات العقلانية أنها كذلك مع أنها مدارس لها أصول مشتركة عامة، سواء في المنهج وفي الوسائل وفي الغايات، لكن عند الممارسة والتوجهات الفردية أو ما أشبه التوجهات الفردية تجد أنها مدارس.
المقدم: عندما نقول: العقلانيون ألا يكون ذلك ثناء عليهم؟
الشيخ: لا يلزم، ومثال ذلك من يسمون بالقرآنيين الآن، فقد اشتهروا بالقرآنيين، أليست النسبة إلى القرآن -وهو كلام الله- شرفاً؟
المقدم: بلى.
الشيخ: لقد أصبحت الاصطلاحات أحياناً هي التي تحكم المفاهيم، والمصطلح إذا شاع يحكم المفهوم ما لم يعارض الشرع.
فالقرآنيون يقصد بهم الآن: الذين يزعمون أنه لا نأخذ الدين إلا من القرآن.
المقدم: يتركون السنة؟
الشيخ: يتركون السنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس للنبوة عندهم اعتبار.
ومثال ذلك أيضاً من يسمون بالقدرية، أليس الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؟!
المقدم: بلى.
الشيخ: وعلى هذا فأنا قدري من هذا الوجه، لكن الذين أخطئوا في باب القدر كان كلامهم في القدر كثيراً.
المقدم: ونفوا القدر.
الشيخ: ونفوا القدر، وصاروا يتكلمون بغير علم في القدر، فسموا قدرية.
وهكذا نقول: العقلانيون، لا لأن العقل مذموم، لكن لأنهم اشتهروا بتقديم العقل على الشرع، فجعلوا الشرع هو المحكوم، واستهانوا بدين الله بدعوى الرأي والعقل والفكر.
المقدم: هل هناك فرق بين أن نقرر مبادئ العلمانية أو مبادئ اللبرالية، وبين إطلاق هذا المصطلح على أشخاص معينين؛ إذ بعض الناس قد يتساهل فيقول: هذا علماني، هذا لبرالي. فهل هذا فيه إشكال؟
الشيخ: أنا أتصور أن فيه إشكالاً كبيراً، فينبغي أن لا نسارع في إطلاق العلمنة على أفراد، فهنا يحكمنا منهج القرآن ومنهج السلف، وهو الكلام عن الأصول البدعية والمناهج البدعية، وعن الأصول الضالة والمناهج الضالة، وأما تطبيقات ذلك فتترك للحاجة إليها التي يقوم بها أهل الاختصاص عند الضرورة.
فنحن نحاكم الناس على منهج، بصرف النظر عن تسمية الأشخاص أو أوصافهم، والله عز وجل ذكر لنا المنافقين، وذكر الفسق والفاسقين، والظلم والظالمين، ومع ذلك لم يسوغ لنا -كما هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج الصحابة- أن ننادي من تظهر عليه علامات النفاق بقولنا: يا منافق، ولا بقولنا: يا فاسق، أو: يا فاجر.
المقدم: أي نعم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين بأسمائهم، ولم يسمهم ولم يعينهم.
الشيخ: نعم كان يعرفهم، وكان أهل الفجور والفسق موجودين بين المسلمين، وما كان الصحابة ينادون من يظهر منه فجور بقولهم: يا فاجر أو: يا فاسق، إلا عند الضرورة فقط، وهذا أمر يعرفه أهل الاختصاص من أهل العلم.
المقدم: أشرت -يا دكتور ناصر - إلى أن هناك فصولاً عامة ومعالم كبرى للمناهج العقلانية، فنود ذكر بعض هذه المناهج.
الشيخ: لعلي أتمكن الآن من سرد أهمها على جهة الإجمال، والتفاصيل تترك إلى حلقات قادمة إن شاء الله تعالى.
فالمناهج العامة للعقلانيين تتلخص فيما يأتي:
أولاً: الخلط في مصادر تلقي الدين.
فنحن نتلقى الدين من مصادره النقية: الكتاب والسنة، أي: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما هم فلا، وقد يدعون هذه الدعوى، لكن عند التحقيق تجدهم يجعلون للمقررات العقلية ولأفكار البشر وللنظريات وللفلسفات مقاماً كبيراً في الاستمداد يستمدون منها دينهم.
فترى بعض كبار المتكلمين القدامى -وهو مشهور- يقول: أنا أستمد من الكتاب والسنة، وفي كتابه يستدل بكلام أرسطو طاليس في ثوابت الدين، لا في أمور علمية نظرية!
المقدم: هل يستدلون بالكتاب والسنة للاعتضاد أم للاعتماد؟
الشيخ: يما خالفوا فيه أهل الحق يجعلون الدليل الشرعي فيه دليلاً ثانوياً غالباً، بل قد يردونه، وغالباً تكون استدلالاتهم بالشرع -كما تفضلت- للمساندة، فالدليل الشرعي عندهم مساند، والأصل هو الدليل العقلي الذي هو آراؤهم، فيقررون مقررات في أذهانهم، ثم يحاولون أن يستدلوا لها من الكتاب والسنة، وهذا انحراف.
المقدم: ألا يمكن أن نقول -لتوضيح هذه المسألة بمثال تطبيقي-: هناك في المتكلمين من يرى أن هناك صفات عقلية وصفات خبرية، فالصفات العقلية يثبتها والصفات الخبرية ينفيها، مع أن الصفات العقلية والخبرية كلها ورد بها النص؟
الشيخ: نعم، هذا مثال صحيح.
فالخلط في مصادر التلقي أول المناهج العامة للعقلانيين.
ولهذا يعتمدون على الرأي، ويسمون نتائجه مقررات عقلية أو قواطع عقلية، وهي نتائج مبنية على الفلسفة، وعلى النظريات، وعلى آراء المستشرقين، بل على بعض كتب الأدب وكتب التاريخ أحياناً... إلخ.
ثانياً: الخطأ في منهج الاستدلال.
ومن هنا تأتي العقدة الرئيسة عندهم، التي جعلت كثيراً من الناس يغترون بهم، ذلك أنهم يرون أنه إذا كان العقل هو الذي ينظر في الشرع؛ فهو المحكم، وهو الأول، وهو المقدم، فعندما يظهر للإنسان أن الشرع يعارض العقل فالعقل هو المقدم.
المقدم: هذا القانون الكلي عند الرازي .
الشيخ: أي نعم، هو القانون الكلي عند الفلاسفة، ثم أخذه الرازي وغير الرازي ؛ لأنهم اعتبروا دلالة العقل قطعية، ودلالة الشرع ظنية نسأل الله السلامة، وهذا خذلان، وأرجو أن نتأمل هذه العبارة، فهذه مقدمات فاسدة؛ والذي لا يتأملها قد يكون ضحية هذه المقدمات.
وهذه المقدمة حقها أن تقلب تماماً، فهم يقولون: المقررات العقلية قواطع، أي: قطعيات لا شك فيها، هكذا زعموا.
نعم هناك من الأمور العقلية ما هو قاطع، لكن هل تكون المقررات العقلية قواطع فيما غاب عن العقول؟!
الجواب: لا.
وهل تكون المقررات العقلية قواطع والشرع ظنياً، وإذا تعارض القطعي -وهو عقولهم وآراؤهم- مع الظني -وهو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- قدم القطعي وهو العقل؟! ولذلك نقول لهم: عقل من يتبع؟! عقلي أم عقلك؟! أنا لا أطيعك، فتفكيرك خاص بك، وتفكيري خاص بي.
المقدم: بأي تفكير وبأي عقل نسير؟
الشيخ: لأنهم يتوهمون أن هناك عقولاً مجردة.
المقدم: كبار الفلاسفة اختلفوا في أمور جوهرية.
الشيخ: الفلاسفة هم الخراصون الذين ذمهم الله عز وجل، وحتى لا يكون هناك لبس عند بعض الناس أنبه على أن مصطلح (الفلاسفة) يطلق على العلماء التطبيقيين، الذين يقوم علمهم على الحس والتجربة، وهؤلاء لا نشك في أن مبدأهم صحيح إذا قام على أسس سليمة، ولذا كان الفلاسفة القدامى يجمعون بين الأمرين: يجمعون بين الخوض في الغيبيات والتخرص، وبين التجارب العلمية الحقيقية؛ ولذلك فاقوا في الطب والكيمياء والفيزياء، وكان لهم نظريات نفعت البشرية.
كما يطلق المصطلح نفسه على الوجه الآخر المذموم، وهو الخوض في الغيب، فنحن في الجانب التطبيقي لا نعترض على مقررات الفلسفة العلمية التي منها الرياضيات وغيرها، فهذه مقررات ثبت فيها مشاعة بين البشرية ثبتت بالعلم.
لكن الجانب المذموم هو استعمال عقولهم وتفكيراتهم في أمور ليس للعقل فيها مدخل، وهي أمور الدين.
المقدم: وهذا تفريق جميل بين الفلاسفة القدامى أو العلماء التجريبيين المعاصرين، فما هو الفرق بين الفلسفة وعلم الكلام؟
الشيخ: الحقيقة أن علم الكلام اصطلاح يطلق على آراء العقلانيين من المسلمين، الذين نهجوا منهج الجهمية والمعتزلة فأخذوا شيئاً من الفلسفة وشيئاً من الشرعيات وجعلوا ذلك علماً، فنظراً إلى أن هذا العلم ليس فلسفة خالصة، ولا علماً شرعياً خالصاً، وإنما هو كلام عن الله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته، وفي القدَر والغيبيات بغير علم؛ سمي كلاماً؛ فلا هو وحي، ولا هو فلسفة خالصة، ولذلك لما قيل لهم: لم تدعون ذلك؟ قالوا: نريد أن نوفق بين الشريعة وبين الفلسفة. فحسبهم كثير من أجيال المسلمين أنهم على الحق.
المقدم: هناك مسألة شائكة عند بعض الناس، وهناك بعض الحوارات في الإنترنت مع هؤلاء وغيرهم، ذلك أنهم يقولون: إن العقل هو الذي دل على النقل، فإذا طعنت في العقل فأنت تطعن في النقل، كما يقول الرازي وغيره.
الشيخ: صحيح أن كثيراً من المقررات الشرعية دلل عليها العقل، بل لا نعرف شيئاً من الشرع في العقيدة والشريعة إلا عن طريق التعقل والتفكر الذي هو الاجتهاد، لكن ينبغي أن نفرق بين كون العقل وسيلة وبين كونه غاية، فالعقل ليس غاية، والعقل ليس أصلاً، وإنما هو نعمة من الله عز وجل ووسيلة إلى فهم الشرع وإدراكه، ووسيلة إلى فهم نعم الله عز وجل على خلقه، وإدراك حقه سبحانه وتعالى، وعمارة الكون على ضوء الشرع.
إذاً: العقل وسيلة، والوسيلة لا تلغي الغاية، والدليل لا يلغي المدلول.
وقد ضرب العلماء لهذا مثلاً فقالوا: لو أن عامياً جاء يسأل عن العالم، وهناك خادم عند هذا العالم، فخرج فوجد هذا العامي، فقال له: أين العالم؟ أنا أريد أن أسأل عن ديني. فجاء بالعامي الذي يسأل عن الشرع إلى العالم، فسأله، فلما سأل العالم أجابه، فقام هذا الخادم واعترض وقال: هذا الرأي أنا أعترض عليه، وليس هذا هو الحكم الشرعي؛ فإن العامي سيرجع بفطرته إلى العالم، بل سيقول له: لماذا جئت بي من الطريق تدلني على العالم ثم الآن تعترض؟! أنت أحمق ليس عندك عقل.
إذاً: العقل لا شك في أنه نعمة عظيمة ولكنه وسيلة.
المقدم: وإن اعترض الخادم وقال: أنا دللتك على العالم، فطعنك فِيَّ طعن في العالم، هذا كما يقوله أولئك الفلاسفة؟
الشيخ: هذا تلبيس.
المقدم: مردود أصلاً.
الشيخ: أحياناً يلبس على بعض السذج.
نعود إلى المنهج العام الذي تجتمع فيه الاتجاهات العقلية، فأقول:
بناء على هذا انحرفت مناهجهم في الاستدلال فقدموا العقل، ثم إنهم أيضاً لم يراعوا في نظرتهم للنصوص الشرعية إلى يومنا هذا منهج الاستدلال، فلو تأملنا بعض الكتابات في الفضائيات أو في غيرها من وسائل الإعلام التي لها أثر على الناس؛ لوجدنا أن أغلب هؤلاء الذين يتناولون القضايا الشرعية من أدلتها لا يعرفون منهج الاستدلال أصلاً، فيضربون الآيات بعضها ببعض، يأخذون بآية ولا يعرفون دلالتها وسبب نزولها، والقرائن والملابسات التي نزلت فيها، ولا يرجعون إلى فهم الصحابة لها، بل لا يردونها إلى الأدلة الأخرى التي قد تخصصها أو قد تعممها أو قد تنسخها.. إلخ.
فهم يضربون النصوص بعضها ببعض، والأصل في منهج الاستدلال أن يرد القرآن إلى القرآن، وهم لا يردون القرآن إلى القرآن، بل يفسرونه بانتقائية مبنية على الهوى، وكذلك السنة يفسرونها بانتقائية مبنية على الهوى.
ثم إنهم أيضاً ليس عندهم شمولية الرسوخ في العلم في النظرة إلى النصوص، فقارن بين إنسان مجرد تناول موضوعاً في الصحافة ربما عكف عليه عشرة أيام أو عشرين يوماً ولم يحط علماً بالنصوص، وبين مثل الإمام أحمد الذي كان يحفظ مليون سند، صح منها عنده أربعون ألف إسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع حفظه القرآن، فهل يستوي هو والرويبضة الذي يتكلم في الدين في الصحف، لا يعرف الأدلة ولا مناطاتها ولا وجه الاستدلال، ولا يعرف العموم والخصوص والنسخ وغير ذلك مما هو من ضرورات الاستدلال.
ثم إنهم لا يهتمون بفقه ومعرفة الذين ننزل عليهم القرآن وهم الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرفون قبل هذا تفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم للنصوص.
المقدم: وبعضهم قد يحتج أحياناً على بعض كبار العلماء في مسائل دقيقة، مع أن هذا العالم قد عاش مع هذه المسألة فترة طويلة حتى ترجح له هذا الرأي، ثم يأتي هذا الصحفي ويقول: أنا أخالف هذا الرأي.
فهل وسائل الإعلام -يا دكتور ناصر - تتحمل جزءاً من تجرؤ أولئك وتطاولهم على العلماء، وتطاولهم على النصوص الشرعية؟
الشيخ: لا أريد أن أتكلم عن وسائل الإعلام عامة، فوسائل الإعلام منها النقية ومنها المشوبة، ومنها التي تسيء إلى الأمة ودينها.
فوسائل الإعلام -مع الأسف- غاياتها ومنطلقاتها لا تراعي ثوابت الدين عندنا، ولا تراعي أيضاً ثوابت البلد المسلم كبلد له كيانه دولة وشعباً يقوم على أسس مشتركة، ولا تراعي أيضاً المصالح الكبرى للأمة، ولا قواعد الأخلاق، بل أهم شيء عندها الإثارة والإغراض.
فكثير من القضايا تثيرها بعض الصحف، ويثيرها بعض الصحفيين، وحين يقال لهم: لماذا أثرتم هذا الموضوع وفيه من المفاسد كذا وكذا؟! يقولون: لأنه مثير، فكثير من وسائل الإعلام يهمها ما يجذب القارئ، ما يوسع نطاق نشر الصحيفة بدون مراعاة للأصول المعتبرة شرعاً وعرفاً وعقلاً.
المقدم: هذا فيه طعن حتى في الوطنية التي ينادون بها، وإلا فما الفائدة من إيجاد شرخ كبير بين العلماء وبين بعض المفكرين وبعض المثقفين.
الشيخ: في الحقيقة كثير منهم انطلقوا إلى حد الانفلات في مسألة حرية الرأي، وحرية الرأي لا بد من أن تنضبط بضوابط الشرع.
هناك قضية يعرفها كل بصير بالدين، ولكن نحتاج إلى أن نبينها بشكل تفصيلي، وهي: الضحالة، فأغلب أصحاب الاتجاهات العقلية عندهم ضحالة في حفظ النصوص، وفي فقهها وفهمها، ضحالة تؤدي إلى أن نقول: سينظر إلينا الآخرون من غير المسلمين على أننا أناس ليس عندنا علم؛ بسبب هذه التوجهات، حيث ترى ضحالة في الثقافة الشرعية، وجهلاً بخصائص الدين وأصوله وسماته، بل بمفردات الدين، ولذلك أقول عن هذا الصنف: جاهل جهلاً مركباً؛ لأنه جاهل ولا يدري أنه جاهل.
إن العوام من المسلمين قليلي المدارك، الذين ما شاغبوا عبر وسائل الإعلام هم على الفطرة، وهم جهلة، ويدرون أنهم جهلة، ولكن المشكلة في هؤلاء الذين لا يدرون أنهم جهلة، وهم الذين يتطاولون على العلماء، ويتطاولون على المسئولين، ويتطاولون على أهل الفكر والدعاة والصالحين.
المقدم: لذلك قد يؤلف بعضهم أحياناً ويرى أنه قد وصل إلى درجة الاجتهاد في الفقه ولا يعرف عنه فقه، ولا يعرف عنه علم.
الشيخ: نعم، أكثر أصحاب هذه الاتجاهات ليس لهم مؤلفات شرعية، ولكن لهم مؤلفات فكرية وثقافية، ويكثرون من هذا.
المقدم: قد يأتي شخص يرى أن الصلاة غير واجبة ثم يستدل لها بأدلة من كتب أصحاب هذه الاتجاهات أو غيرها.
الشيخ: على مبدأ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4].
المقدم: وبعضهم قد يشرح السنة شرحاً عقلانياً واضحاً وينزلها على ما يريد من أفكار.
الشيخ: هذا إضافة إلى أنه نزعة هوى، وذلك يعود إلى قلة الفقه، ولو كان عنده بصر بالنصوص الشرعية؛ لخجل من أن يستدل بهذه الطريقة، وعلى الأقل سيخجل من أهل الاختصاص، وكما أننا نخجل من أن نتكلم عند الأطباء في الطب، ومن أن نتكلم عند المهندسين في الهندسة ونحن لسنا من أهل الاختصاص، ألا نستحي من أن نقول على الله بغير علم؟! فهم يقولون على الله بغير علم.
المقدم: قد نأخذ بعض القضايا الأخرى بعد هذه المداخلة من الأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي عضو هيئة التدريس في كلية المعلمين بجامعة الملك سعود.
مرحباً بكم دكتور.
مداخلة: حياكم الله. أهلاً وسهلاً.
المقدم: دكتور! أنتم من المهتمين بهذا الجانب، ولكم مؤلف بعنوان (منهج المدرسة العقلية الحديثة في تفسير القرآن)، ونود أن نستفيد منكم، فما هي أبرز معالم هذه المنهجية في التعامل مع نصوص القرآن الكريم؟
مداخلة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولاً: أشكركم على تفضلكم باستضافتي في هذه الحلقة الطيبة مع فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور ناصر .
الشيخ: الله يحييك يا دكتور فهد .
مداخلة: وفرصة طيبة أن أسمع صوته، وكنت أود أني سمعت الحلقة، لكن لا يتسنى لي أن أسمع هذا البرنامج.
مداخلة: الإعادة إن شاء الله.
مداخلة: إن شاء الله، ولكن علمت أن الحديث فيها عما يسمى بالمدرسة العقلية، والحقيقة -كما يقال- أن كل الصيد في جوف الفراء، ففضيلة الشيخ من المتخصصين والخبراء في مناهج هذه المدرسة، وقد أتعرض لنقاط أخشى أن يكون تناولها جزاه الله خيراً.
الشيخ: موضوع التفسير -يا دكتور فهد - ما تناولناه، فمنهجهم في التفسير ما تناولناه بالتفصيل.
مداخلة: الحقيقة أنها متداخلة.
الشيخ: هو موضوعك على أي حال، فأنت فارس الحلبة في هذا الموضوع.
مداخلة: الله يكرمكم، لكن الحقيقة أن جميع القضايا متداخلة في المدرسة العقلية مع العقيدة ومع القرآن، والحديث عما يسمى بالمدرسة العقلية حديث متشعب؛ لأن المدرسة العقلية ينضوي تحتها فرق ونحل متعددة، منها ما يتسع له رداء الإسلام، ومنها ما نستطيع أن نقول فيه: إنه خرَقَ رداء الإسلام أو خرج عنه ومنه.
لكن أود أن أنبه إلى أمرين:
أولهما: أن في تسميتها بالمدرسة العقلية تجوزاً، فهي في الحقيقة عن العقل نائية، والعقل كل العقل لا يخرج عما ورد في الوحيين، كيف والنصوص الشرعية نفسها -وهي كثيرة، سواء أكانت قرآنية أم نبوية- تدعو إلى التعقل؟! وورد في نحو أربع وعشرين آية تقريباً يردُ الأمر فيها بالعقل: (( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ))، فضلاً عن الألفاظ المرادفة لها من الأمر التفكر والتدبر.
الشيخ: والنظر.
مداخلة: والتفقه والتعلم والنظر.. إلخ.
فالعقل -في الحقيقة- والعقلانية في أحكام الشريعة الإسلامية، وليس في الخروج عنها.
المقدم: اسمح لي -دكتور فهد - أن أسألك في صلب الموضوع: ما هي أبرز معالمهم في النظر إلى النصوص الشرعية في تفسير القرآن الكريم؟
مداخلة: أنا أريد أن أصل من هذا إلى الأمر الثاني وهو أن أقرب التسميات لهذه المدرسة في رأيي ليس هو المدرسة العقلية؛ لأنهم يرون النصوص تعارض أو تخالف ما ألفته عقولهم عادة، فهم أصحاب مدرسة -إن صحت التسمية- اعتيادية؛ لأنهم ينكرون بمبادئهم ومقاييسهم ما يخالف ما ما ألِفته عقولهم من العادة، ويقدمونها على حقائق الشريعة.
لأن عقولهم القاصرة لم تستوعب مخالفة ما اعتادته؛ فحسبوا أن ذلك حكماً عقلياً، والحقيقة أنه ليس حكماً عقلياً، بل هو حكم مخالفة العادة التي ألِفوها؛ ولهذا نراهم ينكرون المعجزات، والمعجزات لا تخالف العقل، لكنها خارقة للعادة، وليس هناك أمر شرعي أو حكم شرعي خارق للعقل.
المقدم: دكتور فهد ! كيف ينظرون للنصوص؟
مداخلة: النصوص يوظفونها على حسب ما يرونه، أو ما اعتادوه أيضاً، فإن كانت النصوص الشرعية فيها أمر ينبئ عن خرق للعادة؛ وظفوها على حسب معتقداتهم فأولوها؛ ولهذا ينكرون الجن؛ لأنهم لا يرونهم عادة، وينكرون الملائكة، أو يؤولون وجود الملائكة بأشياء اعتادوها وألفوها، كالجراثيم والميكروبات مثلاً، ويؤولون الجن بأرواح يزعمونها، وينكرون بعض الخوارق ويؤولونها بما لا تصبح به خارقة.
المقدم: هذه هي الوسيلة الوحيدة عندهم في التأويل فقط؟
مداخلة: هذا الذي أراه، وهو أن كل ما يرونه مخالفاً لما اعتادوه وألفوه يؤولونه بما يناسب القاعدة الأصل عندهم، وهو مخالفة العادة.
فالخوارق الواردة في القرآن أو السنة يتأولونها بما يخرجها عن مخالفة العادة، وهذه قاعدة كبيرة جداً؛ لأن كثيراً من النصوص الشرعية -كالواردة في شأن السحر- قد ينكرونه؛ لأنهم ما اعتادوه أو ما ألِفوه، أو لا تؤمن به عقولهم، فيؤولونه بما يوافق المعتقدات الحديثة.
المقدم: كأنك تشير -دكتور- إلى أن من أبرز القضايا التي عندهم في التعامل مع النصوص: مسألة التأويل والتحريف، أعني تحريف النص عن ظاهره.
كان معنا الأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بجامعة الملك سعود.
شكراً لك دكتور فهد .
أشار الدكتور إشارة سريعة إلى مسألة تأويل النصوص، وأن بعضهم قد ينكر الأمور الغيبية، مثل الجن، كالفلاسفة وغيرهم، ونعود إليكم دكتور ناصر .
أخذنا بعض المعالم الأخرى لمنهج أولئك العقلانيين؟
الشيخ: أولاً: أنا أؤكد على ما قاله أخي وزميلي الدكتور فهد ، وهو -في الحقيقة- يشاركني في هذا التخصص؛ لأنه صاحب كتاب (المدرسة العقلية في التفسير) كما أشرت، وله باع في هذا، ويعتبر كتابه مرجعاً في هذا التخصص.
فما أشار إليه من أن أصحاب هذه الاتجاهات العقلانية ألفوا أشياء من العوائد صحيح، لكن أحب أن أنبه على أمر، وهو أن الدكتور فهد لا يقصد بالعوائد العادات الأخلاقية فقط، بل يقصد بالعوائد: ما اعتادوه من الأفكار، وما اعتادوه من الطروحات، وما اعتادوه من أنواع الثقافة.
فأنماط الثقافة التي تلقوها أصبحت عندهم راسخة في أذهانهم وكأنها عوائد فكرية وعوائد ثقافية، كما أن هناك عوائد عملية موروثة، فهذا صحيح، وأنا أوافق الدكتور عليه.
المقدم: وجعلوا هذه العوائد كالقواطع العقلية.
الشيخ: نعم؛ لأنها ترسخت في أذهانهم، وليس عندهم موازين، والذي ليس عنده موازين يمتلأ عقله وفكره بأي وافد، وإلا فلماذا نجد جماهير عباد الأصنام من العامة قد تشبعوا بما ينافي عقولهم من عبادة الحيوانات وعبادة أشياء حقيرة نسأل الله السلامة ما أحب أن أسميها، وأعود إلى ما ذكرته.
فمن جهلهم المطبق: عدم التفريق بين الثوابت والاجتهاديات، ودعني أشير إلى أمر؛ لأننا نرجو أن يكون هذا الحديث معالجة لواقع؛ فليس هؤلاء العقلانيون فحسب هم الذين يجهلون التفريق بين ثوابت الحق وبين الاجتهاديات، بل يوجد من يجهل هذا من بعض المنتسبين للعلم بسبب التأثيرات الثقافية الوافدة، وهذا الزخم من التشكيك وضرب العقيدة وضرب المسلَّمات، فأثر ذلك حتى على بعض طلاب العلم الشرعيين.
وأحياناً أسمع من يستشكل في الثوابت، وإلى أي حد تكون الثوابت، وهل هناك ثوابت مختلف فيها.
وهذا خطير من قبل من عندهم إلمام بالعلم الشرعي، أما عامة الناس فقد يحدث منهم هذا الاشتباه.
المقدم: بعض الناس قد يتساءل فعلاً: ما هو ضابط هذه الثوابت؟
الشيخ: الثوابت: هي القطعيات التي تمثل أركان الإيمان وأركان الإسلام؛ هذا أولاً.
ثانياً: ما ثبت بنص قطعي من أمور الغيب؛ لأن أمور الغيب ليست قابلة للتفسيرات، فهي غيب، ولو كانت قابلة للتفسيرات والنظر ما صارت غيباً، ولما امتدح الله المؤمنين بالغيب.
الأمر الثالث: قطعيات الأحكام، أعني كون الربا حراماً، والغيبة حراماً، والكذب والغدر واستحلال الدماء حراماً، وكون الزنا حراماً، وكذلك السرقة؛ أليست هذه قطعيات؟!
فهي ثوابت إذاً، وليست محل شك، نعم قد يكون المتغير هو بعض أحكامها، وبعض تطبيقاتها.
أيضاً: ما يتعلق بالثوابت العملية للدين، أعني مناهج الدين الكبرى، مثل: الجهاد بشروطه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه، والولاء والبراء، ومحبة ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبغض ما يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذه ثوابت، ولكن قد يتفرع عنها بعض الأصول التي هي محل شك؛ لأن نصوصها لم تثبت.
المقدم: ومحل خلاف.
الشيخ: ومحل خلاف، وكذلك الأحكام العملية المنبثقة عن هذه الأصول، ومنها الأحكام التفصيلية، الأحكام الشرعية التي تسمى مفردات الشريعة، فهذه اجتهاديات.
إذاً: الثوابت واضحة، وهم لا يفرقون بين الثوابت في الأشياء.
المقدم: ألا توجد رقابة في بلد مثل هذا البلد؟
الشيخ: إنه يجب أن يكون لكل مسلم رقابة من ذاته، وإذا كنا نضطر إلى رقابة السلطة أو رقابة المجتمع فهذا إجراء -في الحقيقة- احتياطي في درجة ثانية.
فيجب أولاً أن نناصح هؤلاء القائمين على بعض المقالات وبعض الزوايا في الصحف، ليس كلهم كذلك، نعلم أن فيهم أخيار، ولذا يجب أن ننصف، ففيهم أخيار، وفيهم أناس ليسوا ممن نصفهم بأنهم ضد الاتجاه الشرعي، لكن يوجد من يخطئ أو يزل، ويوجد نفوذ لبعض أصحاب الاتجاهات العقلانية من خلال شعارات معينة.
فأنا أقول: يجب أن نعود الناس على أن يكون عندهم رقابة ذاتية، وأن نناصح هؤلاء، وأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر بما نستطيع، فهؤلاء كلهم من أبناء جلدتنا وبين ظهرانينا، فمنهم أقارب ومنهم جيران ومنهم من نعرفه ومن لا نعرفه، وسائل الاتصال متاحة، فيجب يا إخوان -وأقول ذلك لجميع الإخوة- أن نناصح هؤلاء ونبين لهم وجه الحق.
وهنا رسالة أعتبرها نصيحة لمن ولاه الله أمر المسلمين، والدين النصيحة، ولعل هذه الرسالة تصل -إن شاء الله- إلى المسئولين، ونحسبهم من الحريصين، وهم الذين حفظ الله بهم ثوابت الأمة، فنسأل الله أن يوفقهم ويسددهم، فهذه الدولة المباركة فيها حرص على الخير، ودستورها ونظامها يقوم على هذه الثوابت كما هو معلوم، لكن قد يغفل الرقيب، قد يكون هناك شيء من الأمور ليس بواضح، وهذه الرسالة هي: أن يكون لكل صحيفة مراقب شرعي على المستوى المطلوب، وقبل هذا يجب على القائمين على الصحف أن يتقوا الله عز وجل.
المقدم: هل هناك بعض المعالم التي تريد ذكرها في نهاية الحلقة؟
الشيخ: نعم، لعلي الآن أفرع على المعْلَم السابق، وهو أنهم لما جهلوا أصول الدين، وجهلوا أصول العقيدة العلمية والاعتقادية والقولية؛ تجرءوا على الثوابت، فإذا حدثت بعضهم أحياناً بشيء من تلك الأصول يقول: هذا ليس من الثوابت، هذا مما يختلف فيه، والناس يختلفون، والبشرية تختلف.
وكلمة (تختلف) و(يختلفون)، من الكلمات الفضفاضة، وغالباً ما تستعمل على غير وجهها، وليس كل اختلاف معتبر؛ فالناس اختلفوا في ربهم عز وجل، فهل اختلاف الناس في ربهم معتبر عند أي عاقل يحترم نفسه؟!
إذاً: الاختلاف الذي يقوم على منهج علمي وشرعي وعقلي ومنهجي وموضوعي هو المعتبر، أما أن نأخذ بكل هذيان؛ فهذه مصيبة تهدم الدين والدنيا.
المقدم: نرى من هؤلاء العقلانيين التنكر للتراث الإسلامي، ومحاولة تجاهل هذا التراث.
الشيخ: هذه مسألة ستأتي، ولكنها مناسبة الآن، فأقول: كل إناء بما فيه ينضح، فأي شاب مسلم ينشأ في أول حياته العلمية على استقاء ثقافته من المشارب غير الصافية -خاصة في الدين- فإنه من الطبيعي أن يتشبع بهذه المشارب، فمن أين جاءت هذه التوجهات؟ أجاءت من فراغ؟ لا، لم تأت من فراغ، بل جاءت من المشارب غير الصافية، ولذلك أذكر بالنهج الشرعي الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، ورسمه للأمة، ثم منهج السلف، فعلى الشاب المبتدئ في طلب العلم -حتى لو لم يكن تخصصه شرعاً- ألا يتلقى الدين والثقافة والفكر من غير المصادر النقية ابتداءً قبل أن يتشبع من المصادر النقية، ثم بعد ذلك لا مانع من أن يوازن، ولكن بقدر أيضاً.
لقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه -وهو الفقيه العالم- حينما رأى معه صحيفة من التوراة؛ ذلك لأن القرآن كان يتنزل، وكانت الأمة بحاجة إلى أن تستقي ثقافتها في الدين من المنابع الصافية.
المقدم: طيب. أنكر على عمر .
الشيخ: أنكر على عمر ذلك الفقيه العالم الذي هو الفاروق رضي الله عنه، ولم ينكر فحسب، بل غضب عليه غضباً شديداً، لماذا؟
لأن التوراة حرفت ولم تعد نقية، فكيف بغيرها، كالكتب التي أصبحت الآن مشاعة بكل الوسائل لكل الناس مع الأسف؟!
المقدم: هل هناك بعض المعالم التي تريد أن تذكرها؟
الشيخ: سأذكر أشياء رئيسة، ولا بد من أن نفصلها في حلقة قادمة:
فمن الأشياء المهمة: أنهم يسعون إلى إسقاط المرجعية الإسلامية بالكلام في العلماء وذمهم، بل الجفاء العملي والواقعي للعلماء، والجرأة في الرد على العلماء، والتطاول عليهم، فالآن إذا نظرت إلى الذين يردون على بعض أعضاء هيئة كبار العلماء أو من في مقامهم في الصحف؛ ستدهم غير أكفاء لهم، ولا قريبين من ذلك، لا في القدر والعلم فحسب، بل حتى في المقدرة المنهجية على التصدي للقضايا.
ومن الأشياء المهمة: ما نسميه الانتقائية، أو الانحراف في الاستدلال في القضايا التي يطعنون بها في السنة، فهناك انتقائية بنوع من تحكيم الشهوات، وتلمس الشواذ والغرائب من الأحكام، فيجعلونها أصلاً، ويتناسون القضايا الأساسية والمنهج.
ومن الأشياء المهمة: إخضاع الثوابت وأصول الاعتقاد للأهواء والأمزجة.
ومن ذلك: تمييع الدين، ومحاولة عزله عن الحياة.
ومن ذلك: التذرع بالشعارات الخادعة: التحرير، والتطوير، والتنوير، والحداثة، والعصرانية، والتجرد العلمي الموضوعي.
وإذا حققنا في الأمر وجدنا أنهم أبعد الناس في الجملة عن هذه الشعارات وهذه الحقائق.
وهناك أيضاً شعار جديد موهوا به على شبابنا، وهو ما يسمونه بالرأي والرأي الآخر.
فيجب عليهم أن يفهموا أن الرأي والرأي الآخر معتبر بشروط، ومن ذلك أن يكون صاحب الرأي ممن تحققت فيه شروط الاجتهاد، ثم أن يكون الرأي والرأي الآخر في الاجتهاديات إذا كان عنده قدرة.
أما في الثوابت والمسلَّمات ومصالح الأمة العظمى، وما يحفظ للأمة دينها وأمنها ويجمع شملها على ولاتها وعلى علمائها؛ فليس هناك رأي ورأي آخر.
المقدم: الحقيقة أن الحديث معك ممتع وشيق، ونعتذر للأخ المشاهد من أننا سنستكمل هذه المسائل الحساسة والهامة في الحلقة القادمة.
وهناك عناصر أخرى حول الاتجاهات العقلانية المعاصرة سنناقشها مع الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ومن أراد في الحلقات القادمة أن يشارك بمداخلة أو اقتراح أو اقتراح أو تفريع على هذا العنوان أو العناوين الأخرى التي سنناقشها؛ فالمرجو منه أن يكون منه تواصل في منتديات الصفوة، في النافذة التي خصصت لبرنامج حراسة العقيدة.
وإلى أن نلتقي بكم في حلقة قادمة نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر