أما بعد.
فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، وقد وقفنا في الفتاوى في كتاب التدمرية على الفصل الذي يتعلق بالخاتمة الجامعة، والتي تتضمن قواعد، وهذه القواعد سبع، وقبل أن نشرع في هذه القواعد أُحب أن أستعرضها إجمالاً؛ لأن استحضار هذه القواعد قبل القراءة التفصيلية مفيد جداً، لا سيما أن في بعضها شيئاً من التشابه والتداخل، وكذلك لعل الدخول في القراءة المفصّلة في هذا الدرس في هذا اليوم غير مناسب.
ولذا سأعرض هذه القواعد التي بنى عليها الشيخ تقرير الأسماء والصفات، والرد على المخالفين فيها، ثم إن هذه القواعد وسواها من القواعد المتعلقة بالأسماء والصفات وأفعال الله عز وجل توجد مفصّلة، وبأمثلة واضحة في كتاب الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: (القواعد المثلى)، وهو كتاب مفيد نافع جداً، وقد استقى الكثير مما ذكره من التدمرية وغيرها، وأنصح كل طالب علم أن يرجع إلى ذلك الكتاب.
أما القواعد التي أشار إليها الشيخ فهي سبع، وفي بعض النسخ ست، ولذلك أُلحقت في الفتاوى القاعدة السابعة بغير ترقيم، وقد استعملت فيها طريقة الحروف؛ لأنها لم تكن موجودة في بعض النسخ الخطية للكتاب.
إذاً: لابد أن تتضمن الأسماء والصفات والأفعال النفي والإثبات، والنفي والإثبات لا بد أن يدخل فيه ما تقر به العقول السليمة، من أنه لا بد أن يُثبت لله الكمال المطلق، ولا بد أن يُنفى عنه النقص مطلقاً.
وهنا يرد سؤالاً: هل ظاهر النصوص مراد أو غير مراد؟
نحن نقول: هو مراد ابتداء، لكن مع ذلك نسأل السائل، وخاصة إذا كان ممن عرف بمسالك الكلام والفلسفة: ماذا تقصد بالظاهر؟
إن أردت بالظاهر: تشبيه الله تعالى الله بالمشاهدات فليس هذا هو الظاهر، ولا يُعتقد لله عز وجل، وإن أردت بظاهر النصوص إثبات المعاني والحقائق، إذاً فالإنسان السالم من الشبهات والشكوك والفلسفات والكلاميات يعتقد أصلاً أن ظاهر النصوص مراد؛ لأن ظاهرها هو الحق، وليس تشبيهاً، وإن كان السائل ممن عنده ريب أو يتوقع أن عنده شكوكاً وإشكالات يفصّل له، فيقال: إن أردت بالظاهر قياسه على المخلوقات، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، ولا نعلم كيفيات صفاته، وإن أردت بالظاهر المعنى والحقيقة، فلاشك أن أسماء الله وصفاته لها معان وحقائق.
إذاً: فهذه القاعدة تتلخّص في أنه يجب على المسلم أن ينفي في ذهنه توهم مماثلة الخالق للمخلوقين، أو مماثلة الله عز وجل لشيء من المخلوقات، وقلنا: نفي توهم؛ لأن التوهم قد يوجد، بل لا بد أن يوجد؛ لأنه لا يمكن أن يفهم الإنسان ألفاظ الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته وأفعاله وسائر أمور الغيب إلا بأن يتخيل في ذهنه خيالات، لذا كانت هذه القاعدة تتعلق بنفي وخيال، واعتقاد أن الله عز وجل له من الأسماء والصفات والأفعال ما هو أعظم وأجل مما تتخيله أذهاننا، أو نتوهمه ونتصوره بمجرد تصورات، لذا كان نفي الأوهام ضرورياً؛ لأن من لم ينف الأوهام يقع في التشبيه؛ لأنه لا بد أن يعتقد صوراً وأشكالاً في ذهنه، فإذا لم ينف ذلك إما أن يشبِّه، وإما أن يكون عنده ردة الفعل كما عند الجهمية والمعتزلة والمتكلمين، فيعطِّل ويؤول؛ لأنه توهم بأسماء الله وصفاته وأفعاله -تعالى الله- أشياء وأشكالاً، فنفر من هذه الأشكال التي توهمها، وهذه الأشكال مبنية على ما ينطبع في ذهن الإنسان من عالم الشهادة، والله عز وجل ليس كمثله شيء، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وبهذا يسلم المؤمن من مداخل الشيطان.
إذاً: لا بد أن نعلم أن ما جاء في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته نعلمه من وجه، وهو أن أسماء الله وصفاته وأفعاله على الحقيقة، وأن لها معاني ثابتة، لكن لا نعلمه من وجه آخر، وهو الكيفيات وسائر أمور الغيب، وفي حق الله أولى، ولله المثل الأعلى، فنحن نؤمن بخبر الله عن الملائكة، وقد جاء تفصيل أحوال الملائكة في القرآن والسنة، وممكن أن كل واحد منا في ذهنه توهمات وتصورات عن الملائكة أو عن بعض الملائكة، كجبريل مثلاً، فجبريل قد وردت له أوصاف كثيرة، وكل منا يتخيل في ذهنه شيئاً من هذه الأوصاف، ونحن نعلم أن أوصاف جبريل لها معاني حقيقة، وهذه المعاني الحقيقية هي الوجه الذي يجب أن نؤمن به، لكن أيضاً في أوصاف جبريل معان وهمية في أذهاننا، ليست حقيقة ما هو عليه، ولا أحد من البشر أو المخلوقين قد رأى جبريل على حقيقته إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رآه على حقيقته، وهي حقيقة ليست كحقيقة ما يشاهده الناس من مشاهدات، فإذا كان هذا -ولله المثل الأعلى- في مخلوق نعلم له صفات، ونعلم له أحوالاً، وهذه الأحوال نفهمها من وجه، وهي أنها معان حقيقية وصفات حقيقية، ولا نفهمها من وجه، وهي الكيفيات، فمن باب أولى -ولله المثل الأعلى- ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، وكل ما ورد عن الله سبحانه له معان وحقائق نفهمها من وجه، وهو أنها حقيقة على ما يليق بجلال الله، وأنها على الكمال المطلق له عز وجل، ولا نفهمها من وجه، وهو الكيفية.
إذاً: لابد للإثبات من تقييد، وكذلك النفي، فعندما ننفي عن الله عز وجل النقائص والعيوب، وعندما ننفي عن الله عز وجل مماثلته للمخلوقين لابد أن يقيد هذا النفي أيضاً بضوابط، وهو ألا ينصرف النفي إلى نفي ما ثبت في الكتاب والسنة، ولا إلى الإلزام بالمستلزمات التي لا تلزم، وهناك قصة ذكرها الذهبي عن محمود بن سبكتكين ، وهو أحد السلاطين المسلمين في الهند في القرن الرابع والخامس الهجري، وقد قال كلمة جيدة، وقاعدة عظيمة فطرية، وعقلية بدهية، وذلك عندما جاءه أحد المتكلمين المشاهير، وأراد أن يدخل في ذهنه مسألة نفي العلو والفوقية لله عز وجل، فكان مما قال هذا المتكلم: إنه يلزم من إثبات الفوقية إثبات ضدها، فرد عليه هذا السلطان فقال: ليس أنا الذي يُثبت الفوقية من أجل أن تلزمني، وإنما الذي أثبتها هو الله عز وجل. فخرج هذا المتكلم من عند السلطان مغموماً، حتى قيل: إنه أُصيب بمرض فتك به فيما بعد ومات، والله أعلم بالحال.
فتأمل هذه الإجابة الفطرية، وانظر إلى هذا التقرير العقلاني الفلسفي من المتكلم، إذ إنه إذا أثبت الفوقية لابد أن يثبت ضدها، وهذا صحيح في عالم الشاهدة، فكل مخلوق لا بد له من فوق وتحت، لكن هو استعمل القياس على منهج فاسد، فقال هذا المتكلم -كأنه يريد أن يدخل هذا المعنى الكلامي في ذهن السلطان-: يلزم من إثبات الفوقية إثبات ضدها، وصرّح بالضد! فقال له: كيف تلزمني؟! وأنا لست القائل بذلك، وإنما القائل هو الله عز وجل، وكان ذلك حجة فطرية تدل على الذكاء والفطنة، وتدل أيضاً على سلامة الاعتقاد.
إذاً: فالعقل السليم قد سلّم ابتداء بأن كلام الله حق، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق، والأسماء والصفات التي نثبتها هي كلها من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن جئنا بشيء من عندنا فليرد إلى أصل القاعدة، وهو أن ما دل عليه الشرع دل عليه العقل، وذلك إذا سلم العقل من العوارض، وإلا فالعقل لا يسلم من ذلك؛ لأنه مخلوق ضعيف، فتأتيه عوارض الهوى، والضعف، والمحدودية، والشبهات، والشهوات، والشكوك، ومداخل الشيطان، وعوارض أخرى كثيرة، فكيف ينزع هؤلاء الفلاسفة والمتكلمون إلى جعل العقل حكماً على الشرع؟! لما فعلوا ذلك خاضوا في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق، نسأل الله السلامة والعافية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر