الشيخ هنا مستمر في تقرير أصل عظيم، وهو تقرير العلو والفوقية لله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته، علواً مطلقاً، ولا يلزم منه التشبيه، بل العلو هو مقتضى الكمال، وحصر العلو على نوع معين، وهو العلو الاعتباري كما يفعل أهل التأويل من المعطّلة والمؤولة وأهل الكلام استنقاص لله عز وجل، فالله عليٌّ علواً مطلقاً، وله الكمال المطلق، ولا يتم كمال العلو إلا بأن نثبت لله عز وجل جميع أنواع العلو كما يليق بجلاله؛ لأن العلو كله كمال، وعلى هذا فالشيخ يقرر أنه عندما نثبت العلو والفوقية على منهج السلف، بمعنى: كل أنواع العلو على ما يليق بجلال الله، فلا يعني ذلك التشبيه؛ لأنهم زعموا أن إثبات العلو الذاتي تشبيه له بمخلوقاته، وأنه حصر له في مكان! وهذه كلها أوهام توهموها.
قال رحمه الله تعالى: [ فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضاً فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله، والسماوات فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه أو عرشه؟! أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار، وهو ليس بمستلزم في المخلوقات؟ وقد عُلم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق به وأولى.
وكذلك قوله: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16]، من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السماوات فهو جاهل ضال بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك، فإن حرف (في) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه.
ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف (في) مستعملاً في ذلك كله].
لأن الجنة عرضها كعرض السماء والأرض، والشيخ هنا يريد أن يرد على أصحاب شبهة نفي العلو بحجج عقلية واضحة بيّنة فطرية، فيقول: عندما نعبّر عن أي شيء أنه في كذا، فإن كل شيء له معنى، فالأشياء وهي مخلوقات لا يقاس بعضها ببعض إذا عبّرنا عنها بـ(في) ولله المثل الأعلى، فمن باب أولى أن نعتقد أن الله عز وجل حينما يُعبَّر أنه في السماء أن نجزم أنه ليس معناها: أن السماء تحويه، أو أنه في أي مكان من السماء، ولذلك قال: (لاختلاف تفسيرات المعاني في التعبير بـ(في)). ولهذا يفرّق بين كون الشيء الذي ندركه بمداركنا وبحواسنا في مكان، لكن الله عز وجل لا يُدرك بالحواس، وأيضاً كون الجسم في الحيّز، يعني: كون أي مادة كتلة موجودة في المجال الذي تشغله، فإذا قلنا: الشيء الفلاني أو الجسم الفلاني في كذا، فكل جسم يختلف عن الجسم الآخر، فالشمس جسم، والقمر جسم، والإنسان جسم، فإذا قلنا: الإنسان في الغرفة، عرفنا معنى كونه في الغرفة، وإذا قلنا: الشمس في السماء، عرفنا أن المقصود أنها فوق، وأن السماء تحويها أيضاً، وكون العرض في الجسم، والعرض هو الصفة، والصفة كالجسم، كالسواد والبياض والطول والقصر، وكون الصفة في الجسم لا يعني أن هذا الوصف إذا انطبق انطبق على مثل صفة الجسم لو وصفنا بها غير الجسم، وكون الوجه في الإنسان غير كون الوجه في المرآة، فالوجه في الإنسان حقيقة، وفي المرآة صورة، وكله يقال: (في)، فتقول: انظر إلى وجه فلان في المرآة، فهل معنى هذا أن الوجه حل في المرآة؟ لا، وإنما هي صورة، والشيخ أتى بهذه الأمثلة ليبين أنه حتى عند تعبيرنا عن المخلوقات أنها في كذا يختلف من مخلوق إلى مخلوق، من حيث الحقيقة وعدم الحقيقة.
إذاً: إذا كان سبب نفيهم للعلو أنه لا يليق أن يكون الله في السماء، فيقول: نظراً لأنهم توهموا أن كونه في السماء تشبيهاً، وهذا خطأ منهم، فإذا قلنا: حتى في المخلوقات، فبعض الأشياء نقول: إنها في كذا، مثل: الوجه في المرآة، ومع ذلك فإن المرآة لا تحوي الوجه، وهذا مخلوق وهذا مخلوق -ولله المثل الأعلى-، فكيف نتحكم في معنى غيبي بحت في حق الله عز وجل الذي لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، الذي لا نحيط به علماً؟ ويقولون: إن معنى كونه في السماء لا بد أن يكون وجوداً اعتبارياً؛ لأنا لو قلنا: إنه بمعنى العلو الذاتي، لقلنا: إنه بذاته داخل السماء، وهذه كلها تحكمات وأوهام، يجب أن نستبعدها من أذهاننا، وأن نثبت لله عز وجل العلو والفوقية على ما يليق بجلاله، ولا يعني إثبات العلو والفوقية أنه يحويه مكان سبحانه، وأنه يحصره مكان، وأنه داخل خلقه، فالله عز وجل أعظم وأجل، فهو على عرشه، والكرسي محيط بالمخلوقات كلها، والعرش فوق الكرسي، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك كله على ما يليق بجلاله، فكيف إذاً يتحكّمون بمثل هذه التحكمات، ويقولون: لا بد أن نثبت العلو الاعتباري المعنوي، ولا نثبت العلو الذاتي؛ لأنا لو أثبتناه لزم منه أن يكون في السماء، فتحويه وتحصره فيها! وهذا كله وهم، وقول على الله بغير علم، وتخرُّصات وخيالات وعبث، لكن مع ذلك صدّقوا خيالاتهم فقالوا: هذا تشبيه، فنفوا العلو الذاتي لله عز وجل، وليس العلو بإطلاق.
فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج:15]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48].
ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]: أنه في العلو وأنه فوق كل شيء.
وكذلك الجارية لما قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء)، إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها ].
لا شك أن مقتضى الفطرة والعقل السليم، ومقتضى النصوص الشرعية أن الله عز وجل فوق كل شيء، فكيف يقال: إذا قلنا: بالعلو الذاتي لزم الجهة ولزم التشبيه ولزم التكييف؟ فهذا يتنافى مع إقرارنا الفطري الضروري بأن الله عز وجل فوق كل شيء، وعلى هذا إذا كان فوق كل شيء فلا يجوز أن نحكمه بجهات أو مكان، ولا نحكمه بداهة ببداء العقول وبداء الفطرة، فلا شيء يحويه ولا شيء يحيّزه، ولا شيء يحصره سبحانه وتعالى، ولذا فإن كل ما ردّوا به الإثبات إنما هو أوهام في عقولهم وخيالات، وإلا فلا نحتاج إلى تقرير هذا كله، ولذلك ما كان السلف يتكلمون على هذه الأمور على جهة التفصيل، حتى جاءت المعطّلة والمؤولة، وفتنوا الناس وفتنوا العامة وقالوا: لا يليق أن نقول: إن الله عز وجل فوق العرش، ولا أنه مستو على عرشه، وقالوا: هذا تشبيه وتجسيم، وسموا من يثبت العلو: مشبِّهاً ومجسِّماً، فلما وصلوا إلى حد إفساد فطرة الناس، وإفساد دينهم، وأيضاً سوء الأدب مع الله عز وجل، وقلة البصيرة، اضطر السلف أن يتكلموا على هذا الجانب على جهة التفصيل، وإلا فنحن في غنى عن هذه الأمور كلها، ومن هنا أرى أن مثل هذه الدروس التفصيلية لا تكون عند كل الناس، وعند كل المسلمين العامة والناشئين، والذين لا يعنيهم التخصص في العقيدة، فالناس يُعلّمون الدين بمجملاته، ويُعلّمون أسماء الله وصفاته على جهة العموم، فيعظّمون الله ويدعونه بها، لكن مثل هذه التفاصيل لا تكون إلا لطلاب العلم في الدروس المتخصصة؛ لأن فيها حرجاً على أمور الناس، بل إن أكثرهم لا يفكّر فيها أصلاً، وأكثر الناس على الفطرة، ولذا كما ذكر شيخ الإسلام: أنهم ما اضطروا لمثل هذه التفصيلات إلا رداً على طوائف أوقعت الأمة في الحرج وفي مثل هذه الأهواء.
قال رحمه الله تعالى: [وإذا قيل: (العلو) فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق.
وإذا قدر أن (السماء) المراد بها الأفلاك، كان المراد أنه عليها].
يعني: فوقها.
قال رحمه الله تعالى: [كما قال: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، وكما قال: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2]، ويقال: فلان في الجبل، وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه].
ولكي نفهم ضوابط هذه القاعدة، ونفهم أدلتها بعد ذلك، لا بد أن نعلم أن ما أخبرنا الله به من أمور الغيب في ذاته عز وجل وأسمائه وصفاته، نعلم بها من وجه ويخفى علينا وجهاً آخر، فالوجه الذي نعلمه في أسماء الله وصفاته هو الحقيقة التي تليق بالله سبحانه، فنعلم أن الله سميع على وجه كامل يليق به، وأن الله بصير على وجه كامل يليق به، ونعلم أن الله عز وجل عليم بذات الصدور، وأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء، ونعلم أن الله عز وجل مستو على عرشه كما يليق بجلاله.
وعليه فألفاظ الشرع التي وردت في هذه الأمور نعلمها من وجه كونها حقائق، فإن كانت فيما يتعلق بالله فنعلم أنها حقائق تليق بالله، وإن كانت تتعلق بأمور الغيب الأخرى فنعلم أنها حقائق، لكن لا نُدرك الوجه الآخر وهو الكيفيات، فالتصور الذي يُعطي الأمر على كيفيته الذاتية لا نفهمها؛ لأنها غيب، والله عز وجل ليس كمثله شيء، ولا تدركه العقول، ولا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار سبحانه.
إذاً: نعلم ما خاطبنا الله به في كتابه، وما خاطبنا به رسوله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور من وجه كونها حقيقة، ولا نعلم كيفياتها، والذين خالفوا هذه القاعدة وقعوا إما في التشبيه وإما في التأويل والتعطيل، والذين قالوا: إنا نعلم ما أخبرنا الله به من كل وجه! وقعوا في التجسيم والتشبيه، والذين قالوا: لا نعلم ما أخبرنا الله به إلا بتأويل! وقعوا في التأويل والتعطيل، ولذا فالحق وسط بين الجافي وبين الغالي، فنعرف من وجه أنها حقيقة، ولا نعرف الكيفية.
أمرنا في هذه الآيات بأن نتدبر الكتاب الكريم حتى نفهم؛ لأن أوامر الله ليست عبثاً، ولأن التدبر له ثمرة، وهي الوصول إلى الحقائق، والتدبر هو التأمل والتمعن في المعاني، فتقف عند الكلمات القرآنية، وتتأمل معانيها وتتمعن ما ينتج عنها من مفاهيم، وتوقن بالحقائق منها.
ولذا فما دمنا أننا قد أُمرنا بتدبر القرآن فيعني هذا أننا نفهم الحقيقة، وأن نُدرك الحقائق، وإلا لكان هذا عبثاً، والله عز وجل منزّه عن العبث.
إذاً: الذي نفهمه بالتدبر هو الحقائق اللائقة، لكن التدبر لا يوصلنا إلى ما لا تحيط به عقولنا من الكيفيات التي لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنها غيب.
هذه الآية ترسم لنا قاعدة عظيمة في الدين، وهي من الآيات الفاصلة بين منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال والتلقي، وبين مناهج أهل الأهواء والبدع، فإن آيات الله محكمة كلها من حيث اشتمالها على الحق، لكن هذا الإحكام قد يخفى على صاحب البدعة والهوى، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك تقسيم من حيث الإحكام والتشابه للآيات، وهو أن هناك آيات بيّنة معانيها لعموم الناس، وهناك آيات لا يتبين معانيها إلا لبعض الناس، وهم العلماء كما سيأتي بيان ذلك، وهذه تكون من المتشابه على من لم تتبين له، هذا جانب، والجانب الآخر: أن كل هذه الآيات المحكمة قد يكون بعض معانيها متشابهاً، فمثلاً: آيات الأسماء والصفات محكمة، لكن كيفياتها من المتشابه الذي يجب على المسلم ألا يخوض فيها، ولذلك الإحكام والتشابه في القرآن على نوعين:
الأول: أن القرآن كله محكم، أي: أنه حق بيّن لا لبس فيه، وكله متشابه، أي: أنه يشبه بعضه بعضاً، ويصدّق بعضه بعضاً، فهو من التشابه لا من الاشتباه.
الثاني: ينقسم القرآن إلى محكم من حيث إنه بين واضح، وإلى متشابه من حيث إنه غير بيّن ولا واضح، إما لعموم الخلق وهو الكيفيات، وإما لبعض الخلق وهو الذي لا يفهمه إلا الراسخون في العلم، فيتشابه على غير الراسخين في العلم، ولذلك سيأتي بيان معنى الآية، والفرق بين الوقف على قوله عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، وبين عدم الوقف، وكله صحيح، فهذه لها معنى وتلك لها معنى.
جاءت الآية على قراءتين، القراءة المشهورة: الوقف على قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ، والوقف هنا يجري عليه تقسيم المحكم والمتشابه إلى أن المحكم المقصود به ما يعلمه الناس، والمتشابه ما لا يعلمه إلا الله، وهذا هو الكيفيات، وعلى هذه القراءة يكون معنى الآية: ما يعلم كيفيات الغيبيات إلا الله، والراسخون يسلّمون بأن هذا حق، ولا يخوضون فيه، وهؤلاء هم أهل السنة والجماعة.
والقراءة الأخرى أيضاً صحيحة، ولها معنى، وهي ترجع إلى التقسيم الثاني، بمعنى: الإحكام والتشابه، وهي عدم الوقف على لفظ الجلالة في الآية: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]، أي: أن الذي يتشابه على غير العلماء لا يتشابه على الراسخين من العلماء، وعليه فإن الثابت عند جمهور السلف أن القراءات الصحيحة هي بمثابة النصوص المستقلة، وهذا من إعجاز القرآن وبلاغته، فكأن هذه آية وتلك آية، ولذلك تعدد القراءات في الآيات يُعتبر كأنه عدد آخر للآية، يعني: كل قراءة كأنها آية غير الأخرى، ويبدأ هذا في أول آية من البقرة: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [البقرة:1-2] في بعض القراءات، وفي بعض القراءات: فِيهِ هُدًى [البقرة:2]، وكلها كأنها ست آيات، وما كأنها ثلاث آيات، وهذا من إعجاز القرآن، فالقراءة إذا جاءت صحيحة فهي تحمل معنى صحيحاً غير المعنى التي تحمله القراءة الصحيحة الأخرى.
فإذاً: الوقف على قوله: إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، يعني: أن هناك من الآيات ما لا يفهم معانيها إلا الله عز وجل، وهي كيفيات أمور الغيب، ومثلها: الحروف المقطّعة وغيرها، فلا نجزم بفهمها؛ لأنها مما استأثر الله بعلمها.
وقراءة الوصل تعني: أن هناك ما يشتبه على أغلب الناس، ولا يشتبه على الراسخين في العلم.
قال رحمه الله تعالى: [ وقد روي عن مجاهد وطائفة: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها].
أحدها: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله، أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل ذلك محمود أو مذموم، أو حق أو باطل؟
الثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن، كما يقول ابن جرير رحمه الله وأمثاله من المصنفين في التفسير: (واختلف علماء التأويل).
ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد والبخاري رحمهم الله تعالى.. وغيرهم، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به معرفة تفسيره.
الثالث: من معاني التأويل: هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام، كما قال الله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53].
فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه، مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار.. ونحو ذلك، كما قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام لما سجد أبواه وإخوته قال: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا.
فالتأويل الثاني هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يُفهم معناه أو تُعرف علته أو دليله.
وهذا التأويل الثالث هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن) يعني قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، وقول سفيان بن عيينة : السنة هي تأويل الأمر والنهي.
فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر، ولهذا يقول أبو عبيد.. وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة. كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء؛ لأن الفقهاء يعلمون تفسير ما أمر به ونهى عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع بقراط وسيبويه.. ونحوهما من مقاصدهما ما لا يُعلم بمجرد اللغة، ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر ].
يعتبر بقية الكلام تفصيلاً لما سبق، لكن يحسن أن نستعرض الخلاصة.
والشيخ عندما ذكر أنواع التأويل أراد بذلك أن يبين وجه الانحراف والخطأ والضلال الذي وقع فيه أهل البدع والافتراق والأهواء من موقفهم من أسماء الله وصفاته وأفعاله، ومن موقفهم من الغيبيات بشكل عام، فذكر أن من أعظم أسباب خطئهم: هو استعمالهم التأويل على غير وجهه الصحيح، وأيضاً الخلل في فهم التأويل الشرعي الصحيح، وما يسوغ تأويله مما لا يسوغ، والشيخ من أجل أن يُحكم القضية ذكر أقسام التأويل التي لا يختلف عليها أهل العلم، ثم بعد ذلك سيبيّن ما هو التأويل الذي يسوغ أن نستخدمه في تفسير الغيبيات ومنها: أسماء الله وصفاته، وما هو التأويل الذي لا يجوز لنا أن نستخدمه.
فالأول: التأويل بمعنى: صرف ألفاظ الشرع عن معانيها وحقائقها المتبادرة إلى الأذهان إلى معان أخرى بقرينة أو سبب يدل على الصارف، وهذا النوع من التأويل، أعني: صرف ألفاظ ومعاني الشرع في الأمور الغيبية وتأويلها من معنى هو مفهوم عند المخاطبين بحقيقته المجملة إلى معنى آخر متوهم، يحتاج إلى دليل مادي، ونحن لا نملك الدليل المادي في الغيبيات، لكن أهل الكلام وأهل البدع والأهواء استخدموا هذا التأويل في صرف ألفاظ كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من معانيها وحقائقها إلى معان أخرى، وقالوا: أوّلنا لقرينة، ما هي القرينة؟ قالوا: إن اللفظ هذا يدل على التشبيه! فهل هذه قرينة؟! هذا أمر.
والأمر الآخر: كأن الشيخ أراد أن يقول: عندما تقولون: إن التأويل هو صرف اللفظ من معنى إلى معنى آخر لصارف معين. فأنتم لا تتفقون على صارف واحد، ثم إذا صرفتم معاني أسماء الله وصفاته من معنى هو المتبادر وهو الحقيقة إلى معان أخرى فإنكم لم تتفقوا على معان بعد، وستأتي نماذج لذلك.
لذا عندما خرجوا عن مقتضى الحق في أمر غيبي باسم التأويل أخطئوا؛ لأن الخروج من معنى إلى معنى آخر في أمر الغيب يحتاج إلى دليل قطعي، مثل: تأويل نصوص المعية كما سيأتي، فالنص يفسّر النص، لكن أن أخرج عن مقتضى النص بقرينة أضعها من خيالي فهذا ليس بسليم، ولذلك مثل هذا النوع كما ذكرنا يحتاج إلى أدلة مادية، ونحن لا نملك أدلة مادية وقرائن مادية لللتأويل من الحقائق إلى المحتملات، وأسماء الله وصفاته ليس فيها محتملات.
الثاني: التأويل بمعنى التفسير لما نملك تفسيره، والتفسير على نوعين:
الأول: بمعنى: إعطاء المعاني المفهومة من الألفاظ على وجه تقتضيه اللغة والعقول، فهذا هو التفسير الصحيح، وعلى هذا فإن تفسير أسماء الله وصفاته بإثبات الحقائق كما يليق بجلال الله هو التفسير الصحيح، أي: التفسير الذي هو شرح المعاني على مقتضيات الشرح الذي يستقيم فيه الاستدلال.
النوع الثالث: التأويل بمعنى وقوع الأشياء في الأمر والخبر، وهذا ليس للناس فيه أي اجتهاد، فإذا كان النص الشرعي أمراً فتأويله امتثاله، وإذا كان نهياً فتأويله تركه؛ ولذلك (قالت
إذاً: هذا النوع أيضاً ما عليه إشكال.
وأما القسم الثاني من النوع الثالث: الذي هو بمعنى تفسير وقوع الشيء، فمثلاً: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ناراً تخرج في آخر الزمان يكون لها كذا وكذا، فقد وقع تأويلها سنة خمسمائة وكذا للهجرة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة الكبرى، كطلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها صار تأويلها، وكذلك الله عز وجل أخبر عن يوم البعث بأن تأويله سيكون يوم وقوعه؛ ولذلك قال الله عز وجل عن المنكرين: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53] يعني: وقوعه.
إذاً: فالتأويل كله لا يخرج عن هذه الأنواع، وأهل الكلام استخدموا النوع الأول: الذي هو صرف معاني اللفظ من معانيها المتبادرة في حقائقها إلى معان أخرى استخدموها في الغيبيات، وهذا خطأ يحتاج إلى أدلة قطعية، ولأن فيه الخروج عن مقتضى الحقيقة إلى أمر آخر، وسيأتي بيانه على جهة التفصيل.
الجواب: بداية أقول: عند الكلام عن ذات الله وأسمائه وصفاته يجب أن يكون قصدنا تعظيم الله سبحانه، وأن نستصحب معاني أسماء الله وصفاته وأفعاله؛ ليقوى الإيمان في قلوبنا، ولتغرس محبة الله وخوفه ورجاؤه في قلوبنا، واليقين، والتقوى، والتوجه إليه سبحانه، وعلى هذا فإن الكلام على هذه الأمور لا ينبغي أن يكون مجرد كلام علمي، نزيد فيه معلومة وننقص فيه معلومة، وإنما يكون قصدنا ما ذكرناه.
وأما بالنسبة لجواب السؤال، فالذي يظهر أن السائل عنده لبس، وقد يكون عند كثير من طلاب العلم وخاصة المبتدئين، وفرق بين الكلام عن الخالق عز وجل وبين الكلام عن المخلوقات، فعندما نتكلم عن العرش وعن الكرسي نتكلم عن مخلوقاته، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النصوص الصحيحة بأن الكرسي محيط بالخلق كلهم، وأن العرش محيط بالكرسي، وهذا معنى قوله عز وجل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، يعني: استوعبها، فالكرسي محيط بالمخلوقات، والعرش محيط بالكرسي، لكن ما فهمه الأخ السائل هو وهم، فنحن لا نتكلم بعد ذلك عن كيفية استواء الله على عرشه، بل ولا يجوز ذلك، وحينما نقول: إن العرش محيط بالمخلوقات، فلا يجوز أن نسحب القياس إلى معنى فوقية الله عز وجل، ومعنى كونه مستوياً على العرش، ونقول كذا في حق الله، فالله أعظم وأجل من أن تدركه عقولنا وأبصارنا، والله عز وجل، ليس كمثله شيء، وحينما نقول: إن الكرسي محيط بالسماوات والأرض، والعرش محيط بالكرسي؛ لأن النصوص قد جاءت بذلك، وهذه مخلوقات، لكن نقف عند هذا، ولا نتكلم عن الله عز وجل بمثل هذه القاعدة؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فإحاطته ليست كإحاطة الكرسي بالمخلوقات، ولا كإحاطة العرش بالكرسي والمخلوقات؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء.
إذاً: ننفي في أذهاننا التشبيه، لكن مع ذلك فالله مستو على عرشه كما يليق بجلاله، والله عز وجل عليٌّ على خلقه، وهو القاهر فوق عباده كما يليق بجلاله سبحانه، ونقف ولا نتعدى إثبات الكمال لله عز وجل كما جاء بألفاظ الشرع.
وهذه اللوازم التي في ذهن السائل أنا ما قلتها، وليس هناك تناقض، ولا يجوز أن نستعمل هذا القياس.
الجواب: ليس من التعطيل، بل هذا هو تفسير الآية، إذ الآية تشتبه في لفظها مع آيات إثبات اليد أو اليدين لله عز وجل، والأيد هنا غير اليد، فهي ليست بجمع، بل هي مفرد بمعنى بقوة، وليس هذا تأويلاً، فالعرب تسمي القوة: أيداً لا أيدياً، وعليه فلا يجوز أن يقال: إنها صفة لله عز وجل، وإنما مرتبطة بالقوة لله عز وجل، فهي خبر عن قوة الله سبحانه.
الجواب: في رواية للإمام أحمد، ونسب إلى الشافعي، والإمام مالك: جواز قراءة القرآن أثناء الدفن وليس بعده، وهذا مبني على ما أُثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى بعد موته أن يقرأ القرآن عند قبره. وأُثر عن بعض الصحابة وبعض التابعين أيضاً، لكنه عند التحقيق لا يصح، والراجح أنه بدعة، ولذلك علّقه الإمام أحمد بالرواية، والرواية لم تثبت، وعلى هذا فما دام عُلِّق بالرواية عن ابن عمر، ورواية ابن عمر لم تثبت، وبناء على قاعدة الإمام أحمد ، فإن هذا ليس من قوله، مع أنها رواية عنه، وليست هي الرواية الوحيدة، وإن صح عن ابن عمر فهو مما خالف فيه بقية الصحابة، ومعروف أن الصحابي إذا خالف غيره في مثل هذه الأمور فإن ذلك من الاجتهاد الذي لا يُقر عليه، ويكون من باب الزلة للعالم أو التأوّل .. أو نحو ذلك.
وأما قراءة القرآن دائماً حتى بعد الدفن، فلا شك أنها بدعة باتفاق جمهور السلف.
الجواب: في الحقيقة ما كان ينبغي السؤال عن مثل ذلك، لكن مع ذلك إذا اشتد الإشكال عند الشخص في مثل هذه الروايات فلا مانع أن يسأل، لكن أرى أن يسأل بمفرده؛ لأن هذه الأمور لم نُتعبّد بالخوض فيها، إذ هي من مشكلات الأمور، وتدخل بسببها الشبهات على الناس، وقلَّ أن يجدوا من يخلّصهم منها، لا سيما أنها من الأمور التي لم يتكلم عنها العلماء بوضوح، وفيها خلاف كثير، ومثل هذا الحديث يُمر كما جاء، ونفهم منه أن الله عز وجل يرغّبنا في العمل والصبر على العمل، ولا شك أننا نفهم هذا قطعاً، (إن الله لا يمل حتى تملوا)، أي: لا تملوا من عبادة الله، وداوموا على طاعة الله، وهذا هو الذي يُفهم من النص.
ثم إن مسألة الملل هل هي صفة أو غير صفة؟ أنا أرى أن المسلم في حل من ذلك، وينبغي أن يعرف أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حق على حقيقته، وأنه من باب الخبر عن مجازاة الله لعباده، وأنه من باب حثّهم على المداومة على الأعمال، وليس هذا تأويلاً، وهذا هو ظاهر السياق.
إذاً: كونه صفة أو غير صفة محل خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه لا يُعتبر صفة إلا بسياقه.
الجواب: إن مسألة التقسيمات لمثل هذه الأمور العقدية والعلمية إنما هي أمور اصطلاحية، ولا يضر فيها أن يتعدد التقسيم، بل يمكن أن يقسم العلو إلى خمسة أقسام، وإلى عشرة أقسام، فيمكن أن يقال: علو الذات، علو الأسماء، علو الصفات، علو القهر، علو القدر، علو استواء، وكله علو، فهذه أمور تتعلق بالتفصيل والإجمال، فإن أجملت فالعلو واحد، فالله عز وجل هو العلي الكامل بكل معاني العلو اللائقة به سبحانه، فهذا نوع واحد، وهو اسم الله العلي، ولا يمكن أن يتعدد، وبقي تقسيم العلو إلى أنواع ومفردات، فهذا لا يتناهى، فلا حرج أن يقسم السلف العلو إلى ثلاثة أو إلى اثنين، وإذا نظرنا إلى علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر وجدناها ترجع إلى نوعين: علو ذات، وعلو صفات؛ لأن علو القدر وعلو القهر يرجع إلى علو الصفات، فاستقام الأمر، ولا مشاحة في الاصطلاح.
الجواب: إضافة الظل إلى الله عز وجل على نوعين: إما إضافة الظل إلى أحد مخلوقاته عز وجل، مثل: ظل عرشه، جاء في الحديث: (سبعة يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، أو إضافة الظل إلى الله عز وجل مباشرة، ويكون من الأمور التي تجرى على ظاهرها على ما يليق بجلاله.
إذاً: فالظل له تفسيران: بمعنى: المخلوق، وإضافته إلى الله عز وجل كإضافة كثير من المخلوقات إلى الله عز وجل، كإضافة السماوات أو الكعبة أو الأرض إلى الله عز وجل، ونسبة الخلق إلى الله: إما نسبة تشريف، وإما نسبة ملك، وإما من أنواع النسبة التي تليق بكمال الله عز وجل، وأحياناً تكون نسبة الشيء إلى الله من باب الصفة، ولذلك قال بعض السلف: إذا أُضيف الظل إلى الله مباشرة في بعض الألفاظ، فيكون صفة له على ما يليق بجلاله، وهذا جائز على القاعدة الشرعية، لكن لا نتكلم في الكيفية؛ وعلى هذا فقد يكون إضافة الظل إلى الله عز وجل من باب إضافة المخلوق، وذلك حسب السياق، وقد يكون من باب إضافة الصفة، والله أعلم.
هذه القاعدة من أبرز القواعد التي تضبط مسألة إثبات الصفات؛ لأنها قاعدة مبنية على مسائل أو ضوابط شرعية واضحة، ويسلّم بها أكثر المتكلمين الذين وقعوا في التأويلات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر