وهو رحمه الله قد قرر أن السمع والعقل يُثبتان لله عز وجل صفات الكمال، وينفيان عنه ما يضاد صفات الكمال، وينفيان أن يكون له كفء أو مثل، وقد سبق تقرير هذا، ثم في آخر الكلام ذكر النصوص، وقال في موضع من نهاية القاعدة السادسة: [ وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به ].
وهذه قاعدة عظيمة، لكنها أيضاً قاعدة إجمالية، وتفصيلها ما سبق وما سيلحق أيضاً.
ثم قال: [ وكل نقص تنزّه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2] ].
هذا تقرير الصمدية التي تنفي حالة النقص من الحاجة للأكل والشرب، أو أن له جوفاً؛ لأن الصمد وصف كمال يدل على الغنى الكامل وعدم الحاجة.
ثم قال رحمه الله تعالى: [ والصمد الذي تصمد إليه الخلائق، والذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب ]، وقال: [ وهذه السورة هي نسب الرحمن ] أي: صفته، وقد سبق أن قررنا هذا.
ثم ذكر أمثلة على ما لا يليق بالله عز وجل، وهي أمثلة في الحقيقة توحش إيرادها؛ لأنه من غير اللائق أن تقال، لكن الشيخ أراد الرد على أناس ابتلوا بهذه الوساوس والأوهام، لا على أصحاب الفطرة السليمة، أو شباب أهل السنة، ولذلك من الحكمة وأظنه من المناسب أن نتجاوز هذا إلى القاعدة السابعة.
قوله: (إن كثيراً مما دل عليه السمع يُعلم بالعقل أيضاً).
هذه مسألة في الحقيقة مهمة جداً، وهي عبارة مقصودة، وتقريرها يعتبر من الفوارق بين أهل السنة وبين كثير من أهل الأهواء، وهو أنه ليس كل ما دل عليه السمع يُعلم بالعقل، فأهل الأهواء وأهل الكلام خاصة قد يفرحون بمثل هذه العبارة، لكن حينما يقول: إن كثيراً. فهذا يعني: أنه ليس الكل، بل هناك من تفاصيل الكمال لله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ما جاء ذكره في القرآن وصحيح السنة لا يمكن أن يتوصل إليه العقل، ولا ينفرد بمعرفته، كالاستواء على العرش، فلا يمكن أن يقرره العقل على النحو الذي جاء في القرآن والسنة، وكذلك النزول والمجيء، وكثيراً من الصفات الذاتية، كاليد والوجه والعين .. وغيرها، فهذه كلها لا يتوصل إليها بالعقل، فالعقل يُدرك العلم، والإرادة، والحكمة، وقد يُدرك ما يدل عليه السمع على جهة الإجمال، لكن هل العقل بذاته يُدرك ما دل عليه السمع أو يرده إلى العلم لو لم يرد به النص؟ مع ذلك نقول: إن كثيراً مما دل عليه الوحي -القرآن والسنة- يُعلم بالعقل أيضاً، لكن ليس كله.
والأمر الآخر: أنها على جهة الإجمال لا على جهة التفصيل، يعني: أن العقل يُدرك عموم علم الله عز وجل وقدرته ومشيئته، لكن مسألة الكتابة في أقدار الله هذه لا يدركها العقل، نعم هي جزء من العلم، فكون الله عز وجل كتب مقادير كل شيء هذا داخل في عموم العلم، وهو المرتبة الثانية من مراتب القدر، لكن ليس للعقل إطلاقاً أن يُثبت لنا الكتابة إلا عندما جاء به النص، مع أنه يُدرك عموم العلم الذي من ضمنه الكتابة .. وهكذا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها، ومن جهة أنه بيّن الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها.
والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع ].
هذه أقيسة عقلية لتأييد ما ورد به الشرع، وليست أقيسة وأدلة استقلالية، فكل ما جاء من الأدلة العقلية إنما جاء لتأييد ما جاء به الشرع، ولا يعني ذلك الاستهانة بنعمة العقل، فهي نعمة كبرى من الله عز وجل، وهي مناط التكليف، لكن العقل لا يقرر الدين على جهة التفصيل استقلالاً، وإنما يدرك المجملات، وهذه المجملات أيضاً تتفاوت فيها العقول تفاوتاً عظيماً، فلا يظن ظان أن كون القرآن عول على الأدلة العقلية أن القرآن جعل العقل مصدر العقيدة، بل القرآن جعل العقل دليلاً ووسيلة في فهم الوحي والاعتراف له، أما أن يكون هو بذاته حجة على جهة التفصيل فلا، وإنما على جهة الإجمال، ولذلك الله عز وجل خاطب العقول؛ لأنها هي الوسيلة إلى الفهم، وهي الوسيلة إلى تقرير الحق، وحتى قطعيات النصوص لا يمكن فهمها بدون العقل، فلذلك الذي يفقد عقله لا يفهم من النصوص شيئاً ولا من غير النصوص، ومن هنا رفع عنه التكليف، لكن فرق بين أن نقول: العقل نعمة، وأن نقول: إنه وسيلة، وأن نقول: إن العقل يقرر الحق بمجملاته، وأن العقل هو الذي يفهم النص، وبين أن نقول: إنه مصدر! فالمصدر هو الوحي، والمشرع هو الله عز وجل وليس العقل.
يقصد أهل الكلام أننا نذمهم في ذلك، لا؛ لأنهم قالوا بأصول عقلية فقط، وكثير من أهل الكلام يسمون هذه الأصول العقلية: (الدلالات) و(القرائن) و(الشواهد) و(الأمثال المضروبة) و(الأقيسة)، وهذا حق أنها أصول عقلية، لكن وجه الخطأ الذي أراد الشيخ أن يبينه أنهم جعلوها مصدر التلقي، فجعلوا العقل هو المصدر، وأنه حاكم على الوحي، ومن هنا وقع الخلل، ولذلك أهل السنة والجماعة يوافقونهم على أن العقل يقرر الأصول، وأن العقل يوافق النص، وأن العقل هو الذي يفهم الأقيسة والأمثال المضروبة في القرآن، لكنهم لا يجعلونه الدليل الوحيد، أو المصدر، وإنما هو خادم للمصدر، ووسيلة لفهم كلام الله وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم، والوصول بهذه الوسيلة إلى فهم الحق وفقهه.
والأصول العقلية يقصد بها: القواعد العقلانية التي يقرر بها الغيب، من إثبات وجود الله، وإثبات وحدانيته، وإثبات أسمائه وصفاته على التفاوت بينهم، وإثبات البعث، وإثبات بعض مسائل الغيب الأخرى التي يرون أن العقل يثبتها، مع أن هناك أموراً يعترفون أن العقل لا يستطيع أن يثبتها، وإنما العقل جاء بدلالة الشرع مؤيد.
وأقول هذا لأنهم يقولون: إن هذه الأصول العقلية يتوصل بها العقل إلى معرفة الأمور الغيبية وغير الغيبية، ونحن نقول: نعم أهل الكلام حينما جعلوا الأقيسة العقلية، أو الأدلة العقلية، أو البراهين العقلية، أو الوسائل العقلية الأخرى التي تنبني على استعمال الحواس، أو تنبني على استعمال البراهين الرياضية، مثل المعلومة عند البشر، أو استعمال ما يسمى بالاستقراء أو السبر والتقسيم طريقاً يتوصل بها إلى الحقائق، ومن ضمن هذه الحقائق موافقتها للشرع، فهل يعني ذلك أن الشرع متوقف على دلالة العقل، فيكون هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الغيبيات، أو معرفة ما أخفاه الله عز وجل عن العباد على جهة التفصيل، أو الوصول إلى أحكام الحلال كما أراد الله وشرع، أو أحكام الحرام كما أراد الله وشرع؟ إن العقل السليم يدرك وجود الله، ويدرك ضرورة البعث، ويدرك حب الفضائل، وينكر الرذائل، وينكر المنكرات، ويحب العدل ويبغض الظلم .. إلى آخر المقررات العقلية العامة، لكن إذا تحولت هذه المقررات العقلية العامة إلى شرع باسم أنها تقرر الشرع تحولت إلى المناحي الشخصية للبشر، بتفاوت عقولهم ورغباتهم وطاقاتهم ومناحيهم، ومن هنا يختل الميزان العقلي ما بين إنسان وآخر.
إذاً: نلجأ إلى تشريع الحكيم الخبير سبحانه الذي أقر العقل بأن شرعه هو الأفضل، وأن قوله هو الحق، وأن ما جاء به الوحي هو الحق في الغيب وفي غير الغيب، ولذا فما دام العقل قد أقر على نفسه، فليبق عند قدره، فهو محدود ويفنى، ويعتريه النقص والهوى والنسيان، وتعتريه عوارض وقواطع وموانع لا نهاية لها، لاسيما عندما يتفق العقلاء على أمر يرون أن مصدره العقل، فسيرد عليهم إشكال لا بد منه: وهو عقل من؟ وهل يوجد إنسان عقله يخضع لعقل الآخر؟ إن هؤلاء الرءوس من أهل الكلام الذي يزعم كل واحد منهم أنه هو المرجع، وأنه هو الذي يقرر، وأنه هو الذي يفهم كل شيء، لا يخضع بعضهم لبعض إطلاقاً، بل إن كل واحد يرى أن عقلياته هي التي تقرر الحق، فتشتتوا وتشتت الناس الذين تبعوهم في مناهج أبعدتهم عن الدين، فصارت الفرق والأهواء والبدع والنزعات الكلامية بسبب قولهم: إن الأصول العقلية هي التي تقرر الحق الذي جاء به الشرع، وتقرر الشرع الذي وكل إليه في أمور، مثل: العلوم الطبيعية التي تركت لعقول البشر في أمور دنياهم، فإذا وصلوا لنتيجة علمية صحيحة فهذا من مقررات العقل، لكن أن يتجاوز إلى الغيب الذي ليس في مقدوره، فهذا من الظلم للعقل، وهو الذي نخالف فيه أهل الأهواء.
ملخص هذا: أنهم يحصرون العلم الإلهي -علم الوحي- بالدليل العقلي، ومن هنا جعلوا العقل هو الحكم، فيحاكمون الشرع إلى العقل، وهذا ضلال وزلل، فالمسألة عندهم قد انتكست تماماً، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عكس عليهم هذه القضية عكساً فطرياً عقلياً صحيحاً، أعني: قضية تقديم العقل على النقل؛ لأنهم قالوا: إن العقل هو وسيلة لفهم الشرع، وما دام أنه وسيلة فهو إذاً الحاكم الذي يحكَّم في الشرع، فإذا تعارض شرعي وعقلي قدمنا العقلي؛ لأن العقلي هو الأصل، وهو المقدم، فالشيخ قلبها عليهم، فقال: لماذا لا تقولون العكس؟ فما دام الوحي هو كلام الله العليم الخبير سبحانه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، اعكسوا القضية وقولوا: إن الأصل هو الشرع، والعقل تابع ومؤيد، وعلى هذا فإنه إذا تعارض قطعيان عقلي وشرعي، اعتبرنا الأصل هو الشرع، ونتهم العقل ونحكم الشرع، ونرده إلى عالمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذه قاعدة عقلية، أعني: قاعدة فهم القدر وغيره من الغيبيات- في الحديث الشهير: (فما علمتم منه -يعني: مما ورد عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم- فاعملوا به، وما لم تعلموا فردوه إلى عالمه)، ولم يقل: ردوه إلى العقول، ثم قال: (وقولوا: الله أعلم)؛ لأن العقول متناهية محدودة، ولذا لو أتيت بأذكى الخلق لما وصل إلى حقيقة غاية صغرى من غايات الشرع، فكيف بالغايات كلها؟ وعلم الخلق كله بما فيه أذكياء العالم لا يساوي شيئاً أمام علم الله.
إذاً: كيف يجرؤ إنسان يخاف الله عز وجل ويتقيه أن يقول: العقل مقدم وحكم على الشرع؟! فلذلك شيخ الإسلام قال: اقلبوها وستصح العبارة، وفعلاً عندما تقلبها تجد أن هذا ينسجم مع الفطرة.
فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل ].
الشيخ هنا يقول: الذين قالوا: إن تحسين العقل وتقبيحه داخل في أصول تقرير الحق، فما حسنه العقل فهو حق، فإن جاء النص بضده إما أن نرد النص أو نؤوله، وإذا قبح العقل شيئاً فهو الأصل، فإن وافقه النص الشرعي أخذنا به، وإن عارضه فإما أن نرده أو نؤوله، وهذه قاعدة فاسدة، وهذا هو التحسين والتقبيح العقليان عند المعتزلة، بخلاف التحسين والتقبيح العقليان عند أهل السنة والجماعة، فالتحسين والتقبيح المعتبر عند أهل السنة والجماعة هو التحسين الفطري والتقبيح الفطري الذي يوافق الشرع، أي: أن الإنسان الذي يحسن ويقبح فيما يخالف الشرع عنده اضطراب وخلل، لكن الأصل في ذلك أن الله عز وجل فطر الناس على حب الخير، وحب الفضائل، وبغض الشر، وبغض الرذائل، فهذا تحسين وتقبيح عقلي يوافق الشرع في الجملة، وإذا تعارض مع الشرع فهذا يعني أن في الفطرة أو في الإنسان -الذي توهم التعارض- خللاً، وهذا الخلل لا يدرى أين هو؟ فقد يحتمل أنه من عدة أمور، فهذا هو معنى التحكيم الذي على هذه الصورة.
إذاً: فالنبوة دلالاتها ليست مقتصرة على الدلالات العقلية، بل أغلب الدلالات العقلية من الآيات الكبرى والمعجزات لم تنفع في المعاندين، ونفعت قرائن الأحوال التي هي سلوكيات التعامل ومنهج حياة، ومواقفه وسيرته عليه الصلاة والسلام.
إذاً: الأمر مبني على أنهم يكذبون ببعض القدر، زعماً منهم أنه ينافي المعقول.. إلى آخره.
يعني: من هذه الأصول العقلية، وحدوث العالم بمعنى: حدوث المخلوقات، وهذا مقرر عقلاً، وهو الذي يوصلنا إلى وجود الخالق، وإلى وحدانيته وإلى أسمائه وصفاته، وأن العلم بالخالق -قال الشيخ: بالصانع- لا يمكن إلا بإثبات حدوث العالم، وهذا مسلك فيه وجه حق ووجه باطل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام، وحدوثها يُعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب، ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها ].
وجه العلاقة أنهم زعموا أن من أقوى الأدلة على إثبات وجود الله عز وجل وجود المحدثات، أي: المخلوقات التي لابد لها من محدث، وهذا المحدث لا بد أن يكون غير المحدث، فلابد أن يكون أكمل وأعلم وأقوى .. إلى آخر الصفات التي تلزم من وجود الحادثات، وهذه القاعدة فرعوا عنها تفريعاً باطلاً، وهو: أنه إذا قلنا: بأن الله عز وجل له أفعال، فالفعل حادث بزعمهم، وعلى هذا فإن الله عز وجل حدث فيه حادثات، فاتصف بصفات الناقص وهو المخلوق، ومن هنا نفوا الأفعال، وهذا خلط، فالحق أن أفعال الله عز وجل راجعة إلى أسمائه وصفاته الثابتة، لا إلى مفردات الأفعال، وأوضح مثال لذلك: صفة الكلام لله عز وجل، وهي صفة ثابتة له عز وجل، لكن مفردات الكلام هي تحت مشيئته، ومفردات الكلام ليست هي صفة الكلام، وإنما هي فعله على ضوء صفته الأصلية، وكذلك بقية الأفعال، فكل الأفعال مفرداتها هي كمال لله عز وجل، ولا يعني: أنها حادثة، وإنما هي ناتجة عن صفاته الثابتة له، فمثلاً: صفة الخلق منبثقة عن كونه عز وجل هو الخالق، حتى قبل أن يوجد الخلق، وبعد أن يوجد الخلق، فهو متصف بصفة الخلق منذ الأبد وإلى الأزل وإلى ما لا نهاية، وكونه يخلق متى شاء لا يعني أنه حدثت له صفة الخلق كما يزعمون، بل هذا راجع إلى المشيئة، فمتى ما شاء خلق، ومتى ما شاء تكلم، وكذلك بقية الصفات، ولذلك أنكروا كل الصفات الفعلية، وبعضهم أنكر جميع الأفعال وجميع الصفات أيضاً، كالمعتزلة، وبعضهم أنكر الأسماء والصفات بناء على شبهات كثيرة، من ضمنها ما سبق من شبهة التجسيم، ومن ضمنها: مسألة: إخراج قضية الحدوث والحادثات عن مسارها الشرعي الفطري الصحيح.
وقول الطحاوي رحمه الله: (وليس بعد وجود الخلق استفاد اسم الخالق). هذه قاعدة شرعية عظيمة، وهي رد على أهل الأهواء والبدع، فالله عز وجل متصف بصفة الخلق، ومسمى بالخالق قبل أن يوجد الخلق، وكذلك بقية الصفات المتعلقة بالحادثات، فهو عليٌّ قبل أن يستوي على عرشه سبحانه، ولم يحدث العلو بعد خلق العرش، وكذلك بقية الصفات الفعلية، فليست مبنية على وجود الأفعال، بل هي صفات أزلية لله عز وجل، والأفعال من آثارها، بل من أفعال الله عز وجل، ومن صفات الله عز وجل، ما تتعلق به أفعال الله إلى ما لا نهاية، مثل: صفة الكلام لله عز وجل، فالله عز وجل متكلم، وقد كلم آدم، وكلم موسى، وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في المعراج، ويكلم من شاء من خلقه، وأوحى لمن شاء من خلقه، وكذلك يكلم العباد يوم القيامة، فقد ثبتت النصوص بأنه يكلمهم كلاماً عاماً وكلاماً خاصاً، وأنه يحادث ويناجي كل إنسان بمفرده، وكل ذلك راجع إلى صفة واحدة، وهي صفة الكلام لله عز وجل، وكونه يتكلم متى شاء لا يسمى هذا حدوث نقص، بل على العكس، فهذا كمال، فالمتصف بصفات الكمال التي تتجدد مفرداتها وحادثاتها أعظم من المتصف بصفة لا يفعل بها شيئاً، فالله عز وجل فعال لما يريد، وأفعاله متعلقة بمشيئته سبحانه، وهذا هو الحق الذي تقتضيه الفطرة والعقل السليم، لكنهم أتوا من تقرير القضايا الغيبية بالعقل، والعقل مسكين لم يدرك نفسه بعد، لذا لو أن إنساناً يتباهى بعقله فسألته: أين عقلك؟ وكيف تعقل؟ وهل يمكنك أن تعرف لي عقلك، وماهية عقلك؟ فإنه لا يستطيع أن يجيب، فإذا كان لا يعرف عقله، فكيف يريد أن يسلط عقله على قضايا أكبر منه، كقضايا الغيب، وقضايا تتعلق بالله عز وجل سبحانه؟ إن من أعظم الإساءة وسوء الأدب مع الله أن تقحم عقلك المسكين الضعيف المحدود في قضايا تتعلق بكمال الله سبحانه، ولذلك نجد هذا الصنف من الناس ليس عندهم ورع، وليس في قلوبهم -فيما يظهر من أقوالهم وأفعالهم التي أُثِرت- شيء من تقوى الله عز وجل؛ لأنهم لو اتقوا الله ما تكلموا في الله.
ومن هنا أحب أن أنبه على أمر قد كررته كثيراً؛ لأنه مرض قد وقع فيه بعض طلاب العلم، وهو: أننا عندما ندرس مثل هذه القضايا التي تتعلق بأسماء الله وصفاته، وهي أعظم ما تتطلبه العقيدة، وأعظم مباني العقيدة، وأول أركان الإيمان، فإن مقصدنا من ذلك هو أن نعظم الله بها، وليقع موقعها في قلوبنا، فتتأثر بها جوارحنا وأعمالنا، ومعاملتنا مع ربنا ومع الخلق، وهذا هو الذي يجب أن يكون، ولذلك نتفادى الخوض في المسائل العقلية والفلسفية الزائدة عن حد الحاجة، وأيضاً كثيراً ما أصرف بعض الطلاب الحريصين على قراءة المسائل التي فيها تعمق في الكلاميات -مثلما استطرد شيخ الإسلام ابن تيمية - عن ذلك، مع أنهم يقولون: لماذا ذلك؟ فأقول: إن شيخ الإسلام فعل ذلك وحذر منه، ولذلك ستجدون أنه في القاعدة السابعة سنتجاوز كثيراً من الحوار؛ لأنه ليس لنا، وإنما هو لأناس ابتلوا بوسواس الكلام، ومرض العقليات والأوهام، فالشيخ كتب لهم وليس لنا إلا من ابتلي من طلاب العلم، فيستفيد من كلام شيخ الإسلام للرد على هذه النزعات، أما ونحن في عافية فنتجاوز هذا الاستطراد، ونتذكر دائماً أننا ندرس العقيدة كلها من أجل أن يقوى بها إيماننا، وتصلح بها أحوالنا وقلوبنا وأعمالنا، وأن تقوى علاقتنا بربنا عز وجل، وأن نعبده على علم ويقين، وأن تقوى علاقتنا بجميع أصول الإيمان ومسائله، ثم نعرف كيف نعبد الله عز وجل؟ وكيف نتعامل مع الخلق؟ فهذا هو هدف دراسة العقيدة، وما لم يكن في ذهن طالب العقيدة هذا الأمر فنخشى عليه من الهلكة، نسأل الله العافية.
وأما بقية البحث الذي سبق الكلام فيه، فهو نوع من الردود والافتراضات العقلية والفلسفية، ولسنا بحاجة إليها، والشيخ إنما كتبها لغيرنا ممن ابتلي بمثل هذه الأمور، ولذلك ننتقل إلى الأصل الثاني.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر