قوله: (والمنتسبين) أي: الذين يدّعون أنهم موحدون، وليس الأمر كذلك؛ لأن فهمهم للتوحيد مختل، وهذا غالب على الفلاسفة الإلهيين إن صح التعبير، يعني: الذين يتكلمون عن الله عز وجل، ويعترفون بوجود الله، والمتكلمون بدرجاتهم -سواء المتكلمين الغلاة، مثل: الجهمية أو من دونهم كالمعتزلة، أو من دونهم كمتكلمة الأشاعرة والماتريدية .. أو غيرهم من أصحاب النزعات الكلامية- كلهم يقصدون بالتوحيد: توحيد الربوبية، ويزعمون أنهم بذلك يحققون التوحيد، ويقولون: نحن أهل التوحيد، مع أنهم لا يفهمون من التوحيد إلا هذا، ولا يعني ذلك أنهم لا يعملون بمقتضى توحيد العبادة، فليس ذلك بالضرورة، فقد يكون عند كثير منهم تعبّد، لكن من حيث تقرير العقيدة تجد عنده انحرافاً، فيقصرون التوحيد على وجود الرب عز وجل ووحدانيته، بمعنى: إفراده بالربوبية والخلق والأفعال، ثم لا يعرّجون على التوحيد المطلوب من العباد، وهذا نجده حتى عند كبارهم الذين يُنسبون إلى العبادة والصلاح، فتجدهم لا يعرّجون على توحيد العبادة، وكأنه ليس مطلوباً من العباد، وهذا الذهول له أسباب كثيرة تأتي لها مناسبة في درس قادم، كما تجد كبارهم الذين ألّفوا كتباً خاصة بالتوحيد، يقررون فيها التوحيد على منهجهم، ومن ذلك: كتاب التوحيد للماتريدي، إذ إنه عمدة في تقرير منهج المتكلمين في هذا الجانب، وهو أسبق من الأشاعرة، مع أن الماتريدي معاصر للأشعري ، لكنهما لم يلتقيا، والأشعري كان يعظّم توحيد الإلهية، ولم يكن منهجه موغلاً في هذا الجانب، وإن كانت عنده نزعة خفيفة، لكنه نهَج نهْج السلف في تقريره للدين، والاهتمام بتوحيد الإلهية والعبادة، أما الماتريدي فمن حيث العبادة فقد كان يؤدي العبادات، وهذا الذي أُثر عنه، وقد كان صاحب تقى وصلاح وعبادة وزهد وورع، لكنه من حيث العقيدة والتقرير النظري للدين فنجد ذلك في كتابه (التوحيد)، فقد كان لا يعوّل على توحيد الإلهية -مع أنه أسمى كتابه بـ (التوحيد) وهو مطبوع الآن- إلا إشارات تأتي عرضاً لا على سبيل الاستقلال، أما أصوله ومنهجه وطرائقه في الاستدلال فهي مركزة على توحيد الربوبية، ولذلك يقال: إن ادعاءهم بأنهم موحدون مجرد دعوى فقط تحتاج إلى دليل وبرهان.
ثم إنه ليس هناك فرق كبير بين الماتريدية والأشاعرة، إلا أن الأشاعرة أكثر معايشة لأهل السنة، ولذلك من جوانب كثيرة هم أقرب لأهل السنة، بينما أغلب أتباع أبي منصور الماتريدي من بلاد العجم، من تركيا، وجمهوريات القوقاز وبخارى وأجزاء من الهند، وأغلبهم أحناف، والأحناف أغلبهم في بلاد العجم، ولذلك قل احتكاكهم بأهل السنة الموجودين في جزيرة العرب والشام والعراق ومصر والمغرب، وأكثرية أهل السنة في هذه المناطق، وذلك بحكم القرب وبحكم اللغة العربية؛ لأن فهم اللغة العربية أقرب إلى فهم السنة وفقهها، فنجد أن الأشاعرة أقرب إلى أهل السنة في جوانب كثيرة من حيث التطبيق، أما من حيث التنظير فلا أجد بينهم فرقاً، وخاصة في الآونة الأخيرة، وفي بداية المذهبين كانت الماتريدية في القرن الرابع والخامس أكثر إيغالاً في الكلاميات، وكان الأشاعرة في القرن الرابع والخامس أكثر تورعاً، بينما في القرن السادس وما بعده اختلطت الفرقتان، ولم نستطع أن نميز بينهما إلا تمييزاً علمياً فنياً لا عقدياً، وذلك في أمور أشبه بالشكليات.
قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك طوائف من أهل التصوف، والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وأن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها ].
تعتبر هذه نزعة فلسفية وقع فيها كثير من المتعبدة الذين عندهم نزعة كلامية، وهي نزعة ماتريدية موجودة في كثير من الديانات -هم أناس من العباد- سواء من الديانات التي حُرّفت، كعُبّاد اليهود، وعُبّاد النصارى وهم الأكثر، أو عُبّاد الديانات الأخرى، كالمجوسية والصابئة والهندوسية .. وغيرها، فهؤلاء عُبّادهم كثير منهم ينزعون إلى العبادة الفلسفية، والعبادة الفلسفية عندهم أمر معنوي يتعلق بربط القلب بالقوى الغيبية، وبأمور غيبية، وبعضهم يسمي من يربط قلبه به فيقول: نربط القلب بالله عز وجل، وأحياناً من خلال التعبد تحس به، ومعنى تعبّد: أن يكون قلبه متعلقاً بالغيب، وأحياناً يعبّرون بالغيب عن الله عز وجل، وأحياناً من طريق التفكّر فقط دون تعبُّد، وأحياناً يجمعون بينهما وهو الغالب، فالذي عنده تعبّد يتفكّر، وأصحاب هذه النزعة الفلسفية يرون أنهم بهذه الطريقة يمارسون أسلوباً يؤدي بهم إلى السعادة النفسية والراحة القلبية، وأنه أيضاً يؤدي بهم إلى المراد من عبادة الله، وهو انصهار الإنسان بربه، وهذا الانصهار عندهم له صور متعددة وكثيرة جداً، فيتخيل أحدهم أنه اختلطت أحاسيسه ومشاعره وروحه وعقله بهذه القوة الغيبية التي يعبّرون بها عن الله عز وجل، ويعتبرون ذلك مما يستغنون به عن الشرع؛ لأنهم يرون أن الشرع جاء لربط العباد بالله عز وجل، وليس كل العباد، فأصحاب التميز وأصحاب الفكر الراقي عندهم يرون أنهم لا يحتاجون إلى الشرع؛ لأنهم يتعبّدون بطرقهم الفكرية الفلسفية، وأن الشرع إنما جاء من أجل العامة الذين ليس عندهم قدرة عقلية، أو قدرة في ممارسة العبادة، ويسمونها: (رياضة العبادة) ومعنى ليس عندهم قدرة. أي: أن عقولهم ومداركهم قاصرة عن أن تسلك المسلك الذي يربط قلوبهم بالله عز وجل، بدون واسطة وبدون بيئة وبدون شرائع وبدون دين وبدون تعبّدات تُفرض عليهم، فيرون أن العامة بحاجة إلى دين الأنبياء، وهم ليسوا بحاجة لذلك، ولذلك يسمون الديانات (ديانات العامة)، ويسمون الأنبياء وأتباعهم: (العوام)، ويسمّون أنفسهم وأشكالهم: (الخواص)، ويرون أن الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو دين العوام، وأن دين الخواص هو هذه الفلسفات، وأن دين النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقى إلى هذا المستوى، وليس هذا مبالغة، بل هذا واقعهم، ولذلك نجد أن الذين عندهم نزعة فلسفية يقعون في مثل هذا ولو جزئياً، فتجده يستكبر عن البدهات، وتجده يغتر بعقليته وذكائه، وتجده أيضاً يتطاول على الدين، ويقرر الدين، ويخطَّئ ويصوِّب، ويرد من النصوص ما يشاء، كما حصل الآن في الفتنة الأخيرة، أعني: فتنة الغوغائية، وفتنة الإنترنت، وفتنة الفضائيات، وفتنة الرويبضة، فقد وجد الكثير ممن كانوا ساكتين لا نعرف عنهم شيئاً من بعض المفكرين والأدباء .. وغيرهم تكلموا بما هو محادة للدين؛ لأنهم يرون أن هذا هو فكره، والإنسان حر في أن يقول ما يشاء ويعتقد ما يشاء، ولذلك يسخرون من الإسلام، ويسخرون من الدين والمتدينين، بدعوى أن هذا هو الفكر النيّر الحر، وأن هذا هو مقتضى حرية الرأي، واحترام الرأي الآخر .. إلى آخر ذلك من الخزعبلات والترهات.
قال رحمه الله تعالى: [ ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله أو من سادات الأولياء ].
لا يكون مسلماً إلا بخضوعه للدين، وخضوعه لشرع الله عز وجل، وليس مجرد أن يتعبد، أو أن يقر بالربوبية، أو أن يقر بالأسماء والصفات، أو يقر بوجود الله عز وجل، ثم يقف عند هذا القدر، أي: لا يطبّق ولا يعمل، فإن هذا هو منهج خصوم الأنبياء.
وآخرون يضمون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا، وهذا شر من حال كثير من المشركين.
وكان جهم ينفي الصفات ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم ، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فارق المشركين من هذا الوجه، لكن جهماً ومن اتبعه يقول بالإرجاء، فيضعف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده، والنجّارية والضرارية ].
النجّارية هم أتباع الحسين بن النجار ، وهو صاحب نزعة كلامية.
وكذلك الضرارية أتباع ضرار بن عمرو القاضي المشهور، وكل هؤلاء إلى الجهمية أقرب.
قال رحمه الله تعالى: [ والنجّارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان، مع مقاربتهم له أيضاً في نفي الصفات.
والكلابية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة ].
في الحقيقة صعب أن نطلق الأئمة الأوائل على ما قبل القرن السابع الهجري، بل حتى قبل القرن السادس، وإذا اعتبرنا أبا الحسن الأشعري إماماً لهم، مع أنه ليس بإمام، فإننا نظلمه إذا قلنا بذلك، لكن على اعتبار أنهم يعدّونه إمامهم، ثم من جاء بعده: ابن فورك والباقلاني ثم الخطابي والبيهقي ، وهذه الطبقة كلها يتورّعون عن نفي الصفات باسم التأويل، لكن يسلكون مسلكاً مضطرباً، فيثبتون الصفات الخبرية، مثل: صفة اليد والوجه لله عز وجل، لكن يثبتونها بنوع تأويل، لا بتأويل صريح، ولا يردّون الصفة كما يردها الذين جاءوا من بعدهم، فهؤلاء عندهم تورّع، لكن فتحوا باب النزعة الكلامية لمن جاء بعدهم، فمن جاء بعدهم ردها رداً صريحاً، ابتداء من البغدادي ثم الشهرستاني ثم الغزالي ثم الإيجي والآمدي ، والإيجي والآمدي قد ختموا منهج الأشاعرة على أصول الكلامية التي عليها الأشاعرة إلى اليوم، وهذه الأصول هي أقرب إلى الجهمية، نعم عندهم تورع من الرد الكامل، لكن منهجهم يؤدي إلى التعطيل؛ لأنهم لا يثبتون لله عز وجل الصفات الذاتية، بل لا يثبتون لله إلا سبع صفات، وبقية الصفات يؤولونها، وهذا نتيجة الخلط، مع أنهم يسمونه: (التوفيق)، وهو في الحقيقة (تلفيق)، أي: الخلط والتلفيق بين منهج الفلاسفة الذي يتمثل بالجهمية والمعتزلة والمتكلمين، وبين منهج السنة والجماعة الذي يتمثل بالتزام النصوص فيما يتعلق بكل ما هو من أمر الغيب، وبالأخص صفات الله عز وجل، فهي غيب خالص لا مجال للتأويل فيها، فضلاً عن التعطيل.
يعني: الكلابية والأشعرية، لا الضرارية والنجّارية، إذ لهؤلاء شطحات كبرى، لكن من حيث مسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم مقاربة لأهل السنة والجماعة مقاربة كبيرة، نعم عندهم هناك اضطراب في القدر، وخاصة الماتريدية فهي في القدر أصفى من الأشاعرة، والأشاعرة في الصفات أصفى من الماتريدية، لكن ومع ذلك فعندهم نوع قرب من أهل السنة.
والمراد بـ(الأسماء) أي: أسماء المسلمين، و(الأحكام) أي: الكافر، والمسلم، والفاسق، والفاجر، والمنافق، ثم إن الأشاعرة بحق لا يبعدون عن أهل السنة، بل يوافقون أهل السنة في الجملة تقعيداً وتفصيلاً، وكذلك في باب الصحابة، وحتى الماتريدية يوافقون أهل السنة والجماعة في الأسماء والأحكام، وأيضاً أقوالهم متقاربة.
كان ابن كلاب على مذهب أهل السنة والجماعة، وكان من أهل الحديث، ثم احتسب في مناظرات أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة، لكنه زاد وأفرط في ذلك، فدخل في المراء واللوازم العقلية، ونهاه السلف عن ذلك، لكنه تمادى ولم ينتصح، مما جعله يستخدم أساليب لنصر السنة ليست من السنة، وهي أساليب عقلانية وفلسفية وكلامية، وكأنه أراد أن يرد بها على أهل الكلام، فاستدرجوه إلى بعض أصولهم، ومما استدرجوه إليه: مسألة أفعال الله عز وجل، فقد وافق المتكلمين في أن الله عز وجل لا يمكن أن تكون لأفعاله مفردات أو حادثات، زعماً منه أننا إذا فتحنا هذا الباب فقد فتحنا باب التشبيه، وكأنه أراد أن يقر لهم بأن الله عز وجل لا يُثبت له من الصفات الفعلية ما هو متجدد أو ما هو حادث، مع أن هذه المسألة لها وجهة، والمهم أنه أقفل باب ما يسمى بمفردات الأفعال لله عز وجل، مثل الكلام .. وغيره، فقال في كلام الله: إنه كلام معنوي قائم بالنفس، وكذلك بقية الأفعال جعلها لازمة، والصحيح والذي عليه السلف هو أن أفعال الله عز وجل أو الصفات الفعلية لها وجهان: من حيث إنها متعلقة بذات الله عز وجل، والتي هي ما يوصف به مما يتعلق به سبحانه، فهذا لا شك أنه لا يحدث له فيه شيء، حتى وإن حدثت لوازمها أو آثارها، وهناك نوع متعلق بالصفات أحياناً يعبّر به على أنه من الصفة، وهذا غلط، وإنما هو آثار صفات الله، فمثلاً: صفة الخلق لله عز وجل، فالله موصوف بالخلق قبل وجود المخلوقات، وحينما خلق لم تتجدد له صفة الخلق.
وكذلك الكلام، فالله عز وجل موصوف بالكلام قبل أن يوجد للكلام موجب، ثم تكلم بما شاء من ذلك، وحينما فعل الله عز وجل ما أراد أن يفعله لم يكن ذلك تجدد في ذات الصفة، وإنما هو تجدد في آثار الصفة وفي المفعولات لا في الأفعال بذاتها؛ لأن أصل الصفة ثابتة لله عز وجل حتى قبل وجود الأثر، لكن ابن كلاب جعلها لازمة، ومن هنا التزم بأن الكلام لله عز وجل معنى قائم بالنفس، وأنكر أن يكون الكلام بحرف أو صوت، ثم صار هذا مذهباً، ونتج عن هذا المذهب إنكار أو تأويل كل الصفات الفعلية لله عز وجل، ومال الأشعري رحمه الله إلى قول ابن كلاب في ذلك، لكن بحذر وبتورع، وأُخذ عليه ذلك حتى في كتبه الأصلية، مثل: (الإبانة)، وهو غير واضح، لكن في (اللمع) واضح، و(رسالة إلى أهل الثغر)، وهي واضحة في أنه قد تأثر بهذه النزعة، ومع ذلك يثبت الصفات الذاتية لله عز وجل، ويثبت الصفات الفعلية، لكنه وصف بعض الصفات بالوصف الذي لا يدل على حدوث ما يريد الله عز وجل من الصفات الفعلية، وإنما جعلها لازمة، فهذا تعبير مبسط، وإلا فهناك تعبيرات أكثر غموضاً، ولعله تأتي لها مناسبة فيما بعد من أجل تنظير هذه القضية، فلا نستعجلها الآن.
والشاهد هنا أن الأشعري لم يقل بما قال به متأخرة الأشاعرة، لكنه فتح باباً توسّع معه الأشاعرة، وهو تبع ابن كلاب ، فتوسع بعد ذلك أهل الكلام في هذه المسألة حتى تدرجوا إلى تأويل أكثر الصفات الفعلية، وكذلك الصفات الخبرية من باب أولى.
وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات، ويقاربون قول جهم ، لكنهم ينفون القدر، فهم وإن عظّموا الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وغلو فيه، فهم يكذّبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب ].
قوله: (ففيهم نوع من الشرك) يقصد: شرك الأفعال، ووصفوا بنوع من الشرك بسبب لازم قولهم، فلو استنطقناهم أو بحثنا عن تعبيراتهم لا نجد أنهم يعبّرون بهذا، لكن من اللوازم الضرورية التي لا يمكن أن ينفك منها القائل بقولهم، وهو أنهم يرون أن الإنسان مقدّر لأفعال، أو خالق لأفعال، ولا يعبّرون عن هذا تعبيراً صريحاً؛ لأن بعضهم يتورع أو يتهيّب بأن يقول: إن الإنسان يخلق أفعالاً، لكن هم يقولون: بأن الله لم يقدّر أفعال الشر للإنسان، ولم يخلقها. إذاً هي قُدّرت وخُلقت، فمن الذي قدّرها وخلقها؟! هم لا يجعلون خالقاً ثالثاً، لكنهم على هذا لا بد أن يعترفوا فإنهم قالوا: بأن الإنسان خالق أفعاله، ولذلك عبّر السلف عن مذهبهم بهذا التعبير، فيقولون: إن المعتزلة يقولون: بأن الإنسان خالق أفعاله، فلو تتبعت أقوالهم فلا تجد أنهم يصرّحون بهذه الكلمة تصريحاً مباشراً، لكن هذا من لوازم القول، فإذا كان الله عز وجل عندهم لا يُقدّر أفعال الشر ولم يخلقها، مع أن الله عز وجل قال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35].
ومن الإيمان بالقدر: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله عز وجل؛ حكمة وابتلاء وفتنة للعباد، فإن الله عز وجل حينما قدّر الشر وخلقه ما خلقه لمحض الشر، وإنما لحكمة وابتلاء للعباد، فهم قالوا: بأن الإنسان لم يقدّر أفعال الشر ولم يخلقها.
إذاً: ينشأ عندنا سؤال ضروري: من الذي قدّرها وخلقها؟ هل هو خالق ثالث؟! سيقولون: لا.
إذاً بالضرورة يكون الإنسان هو خالق أفعاله، فهذا ما قصد به الشيخ من أنهم يكذّبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك، أي: شرك الأفعال.
قال رحمه الله تعالى: [ والإقرار بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، مع إنكار القدر، خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكان قد نبغ فيهم القدرية، كما نبغ فيهم الخوارج الحرورية، وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخفى، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة.
فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية، مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة .. ونحوهم، أولئك يشبهون المجوس، وهؤلاء يشبهون المشركين الذين قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148] والمشركون شر من المجوس ].
وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين أو أحدهما، مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة، فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمداً رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فلا بد من الكلام في هذين الأصلين ].
الجواب: في الحقيقة إن من الكتب النقية ما هو أولى من ذلك، مثل: كتاب (الزهد) للإمام أحمد ، و(الزهد) لـابن المبارك ، وهي من أروع الكتب، مع أنه لا يلزم من هذا صحة كل ما ورد فيها، لكن أكثر ما ورد فيها من باب الحكم والمواعظ المنتقاه، وأما كتب الحارث المحاسبي فلا تخلو من نزعتين: من النزعة الكلامية، وهذا قليل، وأكثر الناس لا يدركها؛ لأنها لا تُدرك إلا بالمناقيش، وخاصة إذا تكلم عن القدر، أو تكلم عن بعض مسائل الصفات، فنزعته في ذلك كُلابية، لكنها غير واضحة، إنما الأخطر من هذا استعماله لمصطلحات صوفية تجعل الإنسان يتعلق بمعان لا أصل لها شرعاً، ولذلك سمى الإمام أحمد هذا المنهج بـ: الخطرات والوساوس، لا سيما فيمن لم يكن في بيئة صوفية، يعني: من كان في مثل هذه البيئة، والتي بحمد الله لا تزال على السنة في الظاهر، لذا فأنا أرى أنه لا يُنصح بكتب المحاسبي لهذا السبب، إلا لطالب علم متمكن، يستطيع أن يميّز بين المصطلحات الشرعية والمصطلحات المضطربة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر