النوع الثاني: هناك من يعبد غير الله مباشرة، ويزعم أن في المعبود خصائص الإله، وهذا ما عليه كثير من مشركي المجوس والهنود .. وغيرهم، فلا يعبدون الله أصلاً، بل يعبدون الصنم مباشرة، لا لأنه وسيط؛ بل لأنه عندهم هو المستحق للعبادة، وهذا النوع من الشرك أغلب ما يكون في البلاد البعيدة عن بلاد العرب.
وهناك نوع آخر، لكن قد لا يكون من هذا النوع: وهو ادعاء خصائص إلهية أو ربوبية في أحد المخلوقات، حتى وإن لم يوجه له عبادة ولا رجا ولا خشيه، لكنه إذا اعتقد أن مخلوقاً من المخلوقات فيه خصيصة من خصائص الرب عز وجل فهذا شرك اعتقادي، وهذا يقع فيه كثير من الفلاسفة، والذين يستكبرون عن العبادة، فتجد في قلوبهم تقديساً لشيء من المخلوقات، ويدّعون أن في بعض المخلوقات خصائص الرب عز وجل أو بعض خصائص الرب، وهذا النوع من الشرك يوجد عند طوائف من الأمم.
النوع الآخر: شرك الحلول، وهو أن يعتقد أن الله حل في شيء من المخلوقات، كالروح أو العقل أو النفس أو في أي من تعبيراتهم الكثيرة، فمثلاً: خرافة العقل الفعّال، فيرون أن العقل الفعّال هو الله، وأن هذا العقل الفعّال وجد في المحركات للكون، وهذا نوع من الحلول، وبعضهم يرى أنه حل في بعض المخلوقات أو في كلها جزءاً من الإلهية حلول روح أو حلول عقل أو حلول نفس أو أي نوع من الحلول، وأحياناً يكون الأمر أكبر من ذلك، فقد يكون أحياناً اتحاداً، وهذا قمة الشرك، أي: اعتقاد أن الكون كله هو الله، وأنه ليس هناك وجود ذاتي لله عز وجل غير وجود المخلوقات.
وهذه كلها دخلت على العرب قديماً، ودخلت على المسلمين تحت مذاهب شتى، خاصة مع الطرق الصوفية التي صارت أوعية، ولذلك من خلال الطرق استطاع أمثال ابن عربي وابن الفارض والسهروردي المقتول ومن نحا نحوهم أن يُدخلوا وحدة الوجود على المنتسبين للإسلام من خلال الطرق، ومن خلال التصوف الذي يسلّم للشيخ، ويعتقد أنه مهما عمل فعمله كله بركة، ولو كان شركاً خالصاً.
قال رحمه الله تعالى: [ فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون، وقال تعالى عن مؤمن يس: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:22-25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94]، فأخبر سبحانه عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء، وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر:43-44] وقال تعالى : مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة:4]، وقال تعالى: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:51].
وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وقال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:26-28]، وقال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23].
وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57]، قال طائفة من السلف: كان قوم يدعون العزير والمسيح والملائكة، فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه ].
وقد قال تعالى في التوكل: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، وقال: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، فقال في الإتيان: مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وقال في التوكل: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ولم يقل: ورسوله؛ لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول، فإن الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرّعه، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
وأما الحسب فهو الكافي، والله وحده كاف عبده، كما قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فهو وحده حسبهم كلهم.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك، كما يظنه بعض الغالطين؛ إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسباً للرسول. وهذا في اللغة كقول الشاعر:
فحسبك والضحاكَ سيف مهند
وتقول العرب: حسبك وزيداً درهم، أي: يكفيك وزيداً جميعاً درهم.
وقال في الخوف والخشية والتقوى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52] فأثبت الطاعة لله والرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح عليه السلام: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:2-3] فجعل العبادة والتقوى لله وحده، وجعل الطاعة للرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وقد قال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44]، وقال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال الخليل عليه السلام: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:81-82].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: (وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو الشرك، أو لم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13])، وقال تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51]، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] ].
ذكر الشيخ هنا بعض الألفاظ في العبادة، فبعضها من الألفاظ التوحيدية الخالصة، وبعضها تحتاج إلى شيء من التفصيل، وبعض هذه المعاني الإيمانية والقلبية لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، وبعضها قد يشتبه مع الفطري الغريزي، فمثلاً: مقام التقديس والتعظيم لا يكون إلا لله، أما المقام الفطري فهو أمر لا يدخل في المنهي عنه، فمثلاً: التوكل لا يجوز إلا على الله، بينما الخوف والخشية فيه تفصيل، فكون الإنسان يخاف من الأشياء التي بالطبع يُخاف منها، مثل: لدغة الحية، وصولة الأسد، وخوفه من العدو، ومن الحاسد، فهذا خوف طبيعي، لكن خوف التقديس الذي لا يكون فيه إلا ما لا يقدر عليه إلا الله لا يجوز إلا من الله، فلا يجوز أن تخاف أحداً في أمر لا يقدر عليه إلا الله، ولا يجوز أن تخاف أحداً من الخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله، وكذلك المحبة، فهي أيضاً من الأمور المشتركة، فمحبة التعظيم والتقديس لا تجوز إلا لله، وكذلك الرجاء لا يجوز إلا لله، إلا ما يتعلق بما يقدر عليه المخلوق.
إذاً: هناك جانب يتعلق بالأمور التقديسية الكمالية العبادية، وهذا لا يجوز إلا لله، وأمور تتعلق بما قد يوجد غريزة، وهذا طبع، فلا يذم إلا إذا زاد عن الحد المشروع، وصار إلى حد يجعل الإنسان لا يتعلق قلبه بالله، وينسى أن الله حاميه ونافعه.
والخلاصة: أن العبادة محضة لله، والتوكل محض لله، وأما الخوف والخشية فبينهما تشابه بين الفطري وبين الرباني، والتقوى كذلك لا تجوز إلا لله، وهكذا بقية أنواع العبادة، أو منها ما يكون جزءاً منه فطري غريزي طبعي، فهذا لا يلام عليه الإنسان إذا لم يصل إلى حد أن يعتقد أن أحداً ينفعه أو يضره من دون الله، والله أعلم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ ومن هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً)، وقال: (ولا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد).
ففي الطاعة قرن اسم الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه بحرف (الواو)، وفي المشيئة أمر أن يجعل ذلك بحرف (ثم)، وذلك لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله، فمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ].
كلما ذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب أن تصلي عليه، والمؤلف وهو يكتب هذه العقيدة لا شك أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه، لكن ربما لا يكتبها؛ لأنه يرى أن المسلم يجب أن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، سواء كُتبت أو لم تُكتب، فأي أحد يقرأ فلابد أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر، وحتى لو ذُكر في السطر خمس مرات.
قال رحمه الله تعالى: [ بخلاف المشيئة، فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله، ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد، بل ما شاء الله كان، وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله ].
إذاً: الأصل الأول: شهادة أن لا إله إلا الله، لكن هو قال هناك: الأصل الأول: توحيد الله بالعبادة، والتي هي مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ولذا فالأصل الأول هو حق الله عز وجل -مقتضى لا إله إلا الله- وعبادته وتوحيده، والأصل الثاني: حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن نحبه ونؤمن به.
نقف عند هذا الحد؛ لأن الموضوع الجديد يتعلق بتقسيم أهل الضلال، وهو تقسيم منهجي يحتاج إلى مزيد تعليق.
نسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: على أي حال أنا لا أدري كلام من هذا؟ إذ إن الكلام يحتاج إلى أن يُنظر فيه كله، فقد اشتمل على أمور بيّنة وأمور فيها عمومات، وفرق بين مذهب السلف ومذهب الخلف في هذا الجانب، فالسلف يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه وتمثيل وتكييف، وينفون ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير أن يُعطّلوا أو ينكروا الصفات.
أما مسألة المعاني فهذا كلام مجمل، فإن قصد به المعنى الذي هو مراد الله فهذا يُثبت بالحقيقة التي يريدها الله عز وجل، والسلف يثبتون ذلك، لكن أحياناً قد ترد بعض النصوص التي يُشكل تفسيرها، فيقولون: الله أعلم بمراده، أو نجريها على ظاهرها، ويقصدون بالظاهر الحقائق التي تليق بالله، وهذا هو الظاهر؛ لأنه ما جاء السياق إلا لإثبات حق، ولإثبات كمال لله سبحانه وتعالى، وما وراء الظاهر من الكيفيات التي لا يعلمها إلا الله عز وجل فنتوقف فيه، أما مذهب الخلف فهو يخالف، ولا شك أن الحق لا يتعدد؛ لأنه إذا تعدد ضاع الناس، وهذا في المعطيات، بينما في الاجتهاديات يتعدد الصواب أو عدمه؛ لأن الاجتهاديات مبنية على أن الناس تُعبِّدوا بأن يستنبطوا المعاني من النصوص، ومن هنا قد يخطئ، ومن يخطئ عن اجتهاد فهو مأجور، ومن يصيب عن اجتهاد فله أجران، ومن أخطأ ولم يقصد الخطأ فلا يضره ذلك؛ لأن المسائل الاجتهادية تتعلق بممارسات الناس، فيجري فيها الخلاف على ضوء اختلاف النصوص أو منازع الاجتهاد من النصوص، أما القطعيات، ومنها: أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله فلا يجوز تعدد المعنى فيها؛ لأنه إذا تعدد ماذا يعتقد الناس؟! هل تقول: والله أظن الحق كذا! وكذا! وإذا قلت ذلك فهل نستطيع أن نعتقد شيئاً؟ ولذلك الخلف الذين خالفوا منهج السلف في الإثبات ليس لهم رأي واحد، فقد ضاعوا وأضاعوا الناس من خلفهم، فضاعت من خلفهم ملايين المسلمين فيما يتعلق بالله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله.
إذاً: مذهب الخلف ليس هو مذهب الحق، وكون بعضهم يقع في مثل هذه المذاهب عن اجتهاد وتأوّل، وقد تكون زلّة من غير قصد، فلا يعني ذلك أن اجتهاده سائغ، فنحن قد نعذره من حيث إنه أخطأ الحق من غير قصد، وأخطأ الحق من غير عمد، لكن لا يجوز أن نقول: الحق عند هؤلاء وعند هؤلاء، أو نقول: السلف على حق، والخلف على حق! فالحق لا يتعدد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر