وإذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره بقضائه وشرعه ].
قوله: (بخلق الله) يقصد بها: القدر كله، والذي هو متعلق بربوبية الله سبحانه، فكل معاني الربوبية تجتمع في معنى الخلق؛ لأن الخلق هو مبدأ الربوبية من حيث المخلوقات لا من حيث الخالق، فالله عز وجل ربوبيته وخلقه متصف بها قبل وجود المربوبات والمخلوقات، لكن من حيث نشأة الربوبية ومن حيث وجود المربوبات فإنه يتعلق ذلك بربوبية الله وقدره.
وقوله: (وأمره) يشمل الأمر القدري والشرعي، ثم قال: (بقضائه وشرعه) فالقضاء جزء من الخلق، والشرع جزء من الأمر، فقوله: (بخلق الله وأمره) أعم، فالخلق يشمل القضاء وغير القضاء، والأمر يشمل الشرع وغير الشرع، فهو قد خصص بعد تعميمه.
والشيخ هنا سيذكر بعد هذا الكلام تقسيم أهل الضلال في القدر إلى ثلاثة أقسام، وعلى هذا نقول: إن مذاهب الناس في القدر أربعة: الأول: مذهب أهل الحق، وهو الإيمان بقدر الله عز وجل إيماناً كاملاً، فيؤمنون بالقدر خيره وشره من الله عز وجل.
ثم المذاهب الثلاثة التي سيذكرها، وكلها مذاهب ضالة وباطلة.
قال رحمه الله تعالى: [ وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية ].
يقصد هنا: المناهج لا جزئيات المقالات، فكلمة (مجوسية) و(مشركية) يدخل فيها مئات المذاهب، لكن هو ذكر جماع مذاهب الباطل، يعني: أصول مذهب أهل الباطل في الديانات والفرق والأفراد، قديماً وحديثاً، وهذه المناهج هي: المنهج المجوسي، والمنهج المشركي، والمنهج الإبليسي، وسيشرح الشيخ كل واحد على حده.
سمي هؤلاء بالمجوسية؛ لأن أشهر من عُرف من الأمم بالتكذيب بالقدر هم المجوس، وهذا تسبب في أنهم عبدوا إلهين، وزعموا أن الشيطان هو خالق الشر، فعبدوه من دون الله، ويسمونه: إله الشر، وهم أكثر من تعمّق في هذه المسألة إلى حد أنهم ألّهوا الشيطان وعبدوه من دون الله، ولا يزال إلى الآن توجد فرقة في العراق هم من عبدة الشيطان، وهي نزعة أو فصيل من فصائل الاتجاه المجوسي، وإن كانوا ينتسبون إلى ديانة أخرى، والمهم أن هذه النزعة أصلها في المجوس، ويوجد مثلها أو ما هو أقل منها عند جميع الأمم، ونظراً لأن الله عز وجل قد كتب الافتراق على جميع الأمم، فإنه ما من فرقة من فرق الديانات الكتابية إلا وفيها فرقة مجوسية قدرية، وكذلك هذه الأمة حين كتب الله عز وجل أنها ستفترق، وأنها ستتبع سَنن من كان قبلها من الأمم، فقد تأثرت بسنن المجوس، فدخلت الفلسفة المجوسية إلى المسلمين من خلال مذهب القدرية الأولى، والتي أنكرت جميع مراتب القدر، بمعنى: أنها أنكرت علم الله عز وجل بالشر، وكتابته للشر، ومشيئته وخلقه، ثم نشأ عنها مذهب المعتزلة -لما رأوا قوة مواجهة السلف لهذا المذهب، وأن السلف كفّروا من يُنكر العلم والكتابة بقطعية النصوص- الذين تأولوا لأنفسهم وقالوا: بنفي قدر الله عز وجل فيما يتعلق بالمشيئة والخلق، وقالوا أيضاً: إن الله عز وجل لا يشاء الشر ولا يخلقه، ولذلك أُلزموا بأن يقولوا: بأن الإنسان خالق أفعال، وهذا إلزام عقلي حتمي؛ لأنهم إذا كانوا يزعمون أن الله عز وجل لم يقدر الشر، ولم يشأه، ولم يخلقه، مع أن الله عز وجل قال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وقال: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، إلا أنهم مع ذلك حين قالوا بهذه المقولة قال لهم السلف: إذاً هذه الأفعال التي هي أفعال الشر وتقولون بأنها ليست من خلق الله، لابد أن يكون لها خالق، وبالنسبة للإنسان فلأنه نشأتْ منه أفعال الشر، فإنه يكون خالق أفعال، وعليه فهذا المذهب راجع إلى القدرية المجوسية.
سمي هؤلاء بالمشركية لأن غالب المشركين على هذا المبدأ، إذ إنهم يقرون بأن الله هو الرب سبحانه، وأنه الخالق، وأنه المدبّر، ولذلك جاءت أسئلتهم في القرآن، وبيّن الله عز وجل أنهم أقروا بهذه الأمور، لكن حينما جاءتهم الأوامر الشرعية والنهي، وعندما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدين، وطلب منهم أن يعبدوا الله وحده، وطلب منهم مقتضى لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبوا الأمر والنهي، وبقوا على مجرد دعوى أنهم موحدون بتوحيد الربوبية، وهذا ما عليه كل من يقع في الشرك من الأمم، وممن ينتسب إلى الإسلام، فيزعمون بأنهم يعظمون الله عز وجل، وبأنهم يؤمنون بتوحيد الربوبية، ويظنون هذا هو التوحيد، لكنهم يخلون بالأمر والنهي، إما بالابتداع في الدين، وإما بالإعراض.
وأما النصارى فمنهم فِرَق، حيث تجتمع فيهم هذه الفرق كلها، فمنهم فرق قدرية، وأغلب النصارى قدرية فيما يظهر لي، والله أعلم.
ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله، وقدرته، ومشيئته، ووحدانيته، وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، مما هو من أصول الإيمان ].
هنا الأدلة صريحة بأن نسبة كل الأمر إلى الله عز وجل، وكل الأمر يأتي بالأسباب حتى الشر، كقوله عز وجل: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26] فالضلالة بأسباب، والهداية بأسباب، والأسباب كلها من الله عز وجل، وهذا يتبين بشكل أوضح من خلال الكلام القادم، لكن كيف يقال: بأن ننسب الشر إلى تقدير الله؟ نعم يقال ذلك؛ لأن الله عز وجل ما فعل ذلك ولا قدره إلا لحكمة؛ ليميز الخبيث من الطيب، والهدى من الضلال، وليميّز أيضاً بين أهل الهدى وأهل الضلال في النهاية، ولأن الدنيا دار امتحان، والامتحان لا يمكن أن يُميّز فيه بين الناجح وغير الناجح، بين الهالك والفائز، إلا بمثل هذا التمييز، كما قال الله عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] فمرد ذلك كله إلى حكمة الله عز وجل.
وهؤلاء غالباً يسمون بـ(أهل الكسب)، أي: كسب الأشياء، فيقولون: إن الله عز وجل يفعل عند الأسباب لا بالأسباب، وهذه فلسفة سيتكلم عنها الشيخ بتفصيل أكثر، لكن يقصدون بها أن الله عز وجل إنما يخلق القدرة للقادرين، فالإنسان الحي الذي يتحرك يخلق الله له القدرة على الحركة أثناء عزمه على الفعل، مع أنه لم توجد عنده قدرة لا قبل ولا بعد، وهذه فلسفة لا طائل تحتها، ولا تعدو أن تكون نوعاً من التحكم، وإساءة الأدب مع الله سبحانه، وكأن الله عاجز عن أن يجعل هذا الإنسان أو الحيوان قادراً على الفعل قبل أن يفعل بعده، ولذلك سموا بـ(أهل الكسب) بمعنى: أن الإنسان يكسب الشيء فجأة وصدفة من غير قصد.
هؤلاء يقولون: إن الإنسان والحيوان لا يفعل بالأسباب، وإنما يفعل عندها، يعني: أن هناك قدرة موازية للعزم على الفعل، وهذه القدرة ليست موجودة عند الفعل، لا عند الإنسان ولا عند الحيوان، فمثلاً: القدرة على المشي لمن أعطاه الله عز وجل قدرة على المشي، أو أعطاه الوسيلة لذلك، لذا يقولون: كونه عنده قدمان سليمتان لا يعني أنه قادر على المشي، لكن إذا عزم على المشي وجدت القدرة، وهذه فلسفة لا تغني شيئاً، وإنما هي تحصيل حاصل، مع أن الله عز وجل قد أوجد عنده القدرة قبل أن يفعل وعندما يفعل وبعدما يفعل، وهذه راجعة إلى مسائل أخرى سيأتي الكلام عنها فيما بعد.
قال رحمه الله تعالى: [ كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله، وأضاف فعله إلى غيره، وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه ].
وهذا ليس إلى ما لا نهاية، بل تنتهي الأسباب إلى قدرة الله عز وجل وإرادته، يعني: أن الأسباب ليست متسلسلة إلى ما لا نهاية، لكن القصد أن الأسباب تتسلسل إلى القدرة لله عز وجل حينما خلق بـ(كن) أو خلق بأسباب أخرى سبحانه.
قال رحمه الله تعالى: [ ولابد من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده، قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] أي: فتعلمون أن خالق الأزواج واحد ].
قبل أن نتجاوز هذا، هناك مسألة مهمة في هذا الباب، إذا تصورها الإنسان سلم اعتقاده في هذا الجانب: وهي أن الله عز وجل جعل الأسباب متسلسلة إلى منشأ السبب الأول، وهو قدرة الله سبحانه، والتي أيضاً تكون لله عز وجل على ما يليق بجلاله، هذه الأسباب أحياناً قد تصل إلى مئات الأسباب، سبب وراء سبب .. وهكذا، حتى يرجع الأمر إلى القدرة الأولى والأخيرة، وهي قدرة الله سبحانه، فالله خالق كل شيء ومقدّر لكل شيء، فإذا أراد شيئاً قال له: كن، فيكون، لكن إذا كانت مسألة الأسباب ستأتي فعلى سبيل المثال: حياة الإنسان والحيوان من حيث حياة الرطوبة وغيرها راجعة إلى الماء، فالله عز وجل جعل من الماء كل شيء حي، الماء ما سببه؟ المطر، والمطر ما سببه؟ البخار، والبخار ما سببه؟
إذاً: حسب ما يطلع الله عباده من الأسباب، وأحياناً يصلون إلى نهاية، قد تكون هناك أسباب غيبية أيضاً لا نعلمها، لكن ومع ذلك مرد الأمر في النهاية إلى المسبب الأول وهو الله عز وجل؛ لئلا نقول: إن الأسباب متسلسلة إلى ما لا نهاية فهذا لا يُعقل ويستحيل، لا بد أن تنتهي إلى نهاية وهي قدرة الله عز وجل ومشيئته.
والمقصود هنا أنه لابد من الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو نظام التوحيد. فمن وحّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده ].
في بداية الكلام أشار الشيخ إلى مسألة هي في الحقيقة فلسفة، حيث أراد بها الرد على الذين عندهم النزعات الفلسفية، ومن تأثر بمقولة: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذه فيها صيغ كثيرة عند طوائف من الفلاسفة، وأشهرها: أنهم يزعمون أن الذي يدير الكون على جهة التفصيل ليس هو الله عز وجل، لأن الله واحد، والواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فينكرون الأفعال لله عز وجل، ولا يعتقدون أن الله فعّال لما يريد، ولذلك بعضهم وضعوا صنماً وسيطاً يزعمون أنه يدبّر الكون، وسموه بـ ( العقل الفعّال)، وتسميه الصوفية بـ (الغوث) أو (القطب)، فهذا عندهم هو الذي يحكم جزئيات الأفعال في الكون، ويخلق الأسباب ويدير الكون، وهذا ناتج عن نظرتهم التجريدية الإلحادية لله عز وجل، فهم لا يرون لله وجوداً فعلياً ذاتياً، ومن هنا لا يرون أن الله عز وجل يفعل، ويزعمون أن توحيده يقتضي تنزيهه من الفعل، ولذا نجد أثر هذه المقولة عند الفرق الكلامية من الجهمية مثلاً، إذ إنهم ينكرون الأسماء والصفات عموماً؛ لأنهم لا يرون أنه قابل للتسمية ولا الوصف، ومن ذلك ألا يُسمى خالقاً، ولا مدبراً، ولا فعّالاً، ولا يوصف بذلك.
ثم جاءت المعتزلة وخففت هذا الضلال، فأخذت بنصفه وتركت نصفه، فأثبتت الأسماء وأنكرت الصفات، وذلك ناتج عن أنهم لا يرون أن الله عز وجل قابل للوصف؛ لأن ذلك يلزم منه إثبات وجوده الذاتي، وإذا ثبت وجوده الذاتي ثبت علوه واستواؤه على عرشه، وأنه فعّال لما يريد، وهم ينكرون ذلك.
ثم تسلسلت هذه المقولة الخبيثة إلى علماء الكلام من غير المعتزلة، ممن يُنسبون للمتكلمين، وكذلك الذين ينتسبون للأشعري والماتريدي، فأنكروا أيضاً الصفات الفعلية لله عز وجل، ثم بعد ذلك أنكروا الصفات الذاتية، وكل ذلك أيضاً راجع إلى هذه النزعة، أي: أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، مع أنهم لا يصرّحون بها، لكنهم أخذوا بلوازمها، فأنكروا الأفعال لله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [ ولابد من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله، وأنزل كتبه ].
وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابد له من فعل وترك، فإن الإنسان همام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام)وهو معنى قولهم: متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها، ولابد أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يُصلحه أو يفسده؟
وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم، وهدايتهم لهم ].
المعارف غير العقيدة، وهذا مما يجب التنبه له، لا سيما بعدما كثر الذين لا يفهمون العقيدة، وبدءوا يشككون في المسلّمات، زعماً منهم أن العقل هو الذي يقرر الثوابت، مع أن هناك فرقاً بين المعرفة والاعتقاد، فالمعرفة قد تتحول إلى اعتقاد وقد لا تتحول، والاعتقاد هو الأمر اللازم شرعاً، سواء كان مما تقتضيه الفطرة والعقل السليم أو لا تقتضيه، بمعنى: سواء كان مما ندركه أو لا ندركه.
ومن هنا فإن مفهوم العقيدة أخص وألزم من المعرفة، وعلى سبيل المثال: فإن العقول السليمة والفطر المستقيمة تُدرك كمال الله عز وجل، لكن هل كل عقل يُدرك ذلك؟ لا، فليس كل عقل يدرك ذلك، فبعض العقول قد يعتريها الخلل، والهوى، والنقص، والخواطر، والوساوس، والأوهام .. إلى غير ذلك، بل غالب العقول وأكاد أجزم أنه يندر أن يوجد العقل السليم الذي يقرر هذه الثوابت العلمية المعرفية، والتي هي ثوابت شرعية بموجب النصوص، ولذا أقول: إن العقول السليمة والفطر المستقيمة تقرر كمال الله عز وجل ووحدانيته، وأنه الخالق وحده، وتقرر وجوب العدل الذي هو من أصول الاعتقاد عندنا، ودفع الظلم عن الخلق، وتقرر حاجة الناس إلى شرع يحكمهم، وهذا الشرع ينبغي ألا يكون منهم، بل ممن هو عليم خبير بالخلق، والعقول السليمة تدرك ذلك.
ثم إن العقول السليمة أيضاً تُدرك ضرورة البعث، لكن ومع ذلك هل ممكن أن هذه المعارف تتحول إلى حقائق يقينية بدون ما يرد بها الشرع على جهة الإلزام؟ أقول: في الأمر شك؛ لأن البشر لا يطيع بعضهم بعضاً في المعارف، فلو أن واحداً من الناس أو مجموعة من الناس قرروا قضية فطرية، فإنهم لا يستطيعون أن يقولوا للناس: إنها لازمة، إلا بتكلف ودلائل وبراهين قد تقنعهم وقد لا تقنعهم، لكن إذا قالوا: هذا هو حكم الله الذي جاء من السماء، هذا الوحي المعصوم، أصبح عقيدة عند من يدين بالوحي، وهذا شيء.
والشيء الآخر: أن الفطر السليمة وافقت الشرع، لكن حينما وافقت الشرع هل جاءت لنا بالتفاصيل؟ هناك تفاصيل تتعلق بجميع القضايا التي تدركها العقول على الإجمال، وهناك تفاصيل لا يمكن أن تُدركها العقول إلا بالوحي، وهي مناط الاختبار والتكليف، فمثلاً: عندما تُدرك العقول كمال الله عز وجل، فهل تستطيع أن تصف الله وتسميه بأسمائه الحسنى كما جاء في الكتاب والسنة؟ لا؛ لأن من أوصاف الله عز وجل ما لا يمكن أن تصل إليها العقول ولو لم يرد في الكتاب والسنة، كإثبات الاستواء على العرش، واليد، والوجه، والنزول، والمجيء، والكلام .. وغير ذلك من الصفات الثابتة، والعقل السليم لا ينكرها ما دام أنها قد ثبتت، لكن قبل أن تثبت لا يستطيع أن يقول فيها بشيء، فمثلاً: البعث، فإن العقل السليم والفطرة يُدرك مجملات البعث، لكن هل يعرف عذاب القبر ونعيمه، والبعث، والحشر، والنشور، والصحف، والميزان، والصراط، وتفاصيل نعيم الجنة، وتفاصيل عذاب النار؟ كل ذلك لا تدركه العقول.
إذاً: المجملات لا تقرر العقيدة، وإنما تقرر المعارف فقط، والعقيدة التي ينجو بها العبد عند الله عز وجل لا تقررها العقلية السليمة استقلالاً، ولا الفطر المستقيمة استقلالاً، كما أن المجملات لا تنفع، فإن من المشركين من عقلاء الكفار الآن من يدرك هذه المجملات، وكتبوا في ذلك كتابات، وهي موجودة الآن، لكن هل تنفعهم؟ هل تدخلهم الإسلام؟ لا.
وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعاً أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع، فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك.
وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان، وجاء به الكتاب هو ما دل عليه قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقوله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ:50]، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45].
ولكن توهمت طائفة أن للحُسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحُسن والقُبح يخرج عن هذا، فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحُسن والقُبح، العقليين أو الشرعيين، وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت ].
يعني: أنه لابد من التفصيل، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وسيأتي بيانه، ولذلك قالت المعتزلة: بأن الحُسن والقُبح عقليان، بينما الأشاعرة والماتريدية وبعض المتكلمين قالوا: الحُسن والقُبح شرعيان، والصحيح: أن الحُسن والقُبح منه ما هو عقلي، ومنه ما هو شرعي، فالعقول بالجملة تحسّن العدل والفضائل، وتحسّن التزام شرع الله، وتحسّن الخير، وتُقبِّح الشر والرذائل والظلم، لكن هذا على جهة الإجمال، أما التفصيل فلا بد أن يأتي به الشرع؛ لأن هناك أموراً لا تُدرك العقول حُسنها وقُبحها إلا بالشرع؛ لأنها غيب بحت خالص.
إذاً: التفصيل هو الصحيح، وكون العقول لها مدخل في التحسين والتقبيح لكن ليس على جهة التفصيل، فعلى هذا أخطأت الفئتان عندما بالغوا في التحسين والتقبيح، وقالوا: كل حسن هو ما حسّنه العقل، وكل قبيح ما قبّحه العقل، لذا فإن الشرع قبّح أشياء لو لم يأت بها الشرع ما استطاع العقل أن يقبّحها، والعكس كذلك، أي: أن هناك أشياء حسّنها الشرع لو لم يأت بها الشرع ما استطاع العقل أن يحسّنها.
قال رحمه الله تعالى: [ ثم إن كلتا الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا، والسخط والفرح .. ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية، ودلت عليه الشواهد العقلية، تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته، وأنه لا يتصور قدرته على ما هو قبيح، وأنه سبحانه منزّه عن ذلك، لا يفعله لمجرد القُبح العقلي الذي أثبتوه؟على قولين.
والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محموداً على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة، وما تركه من التعذيب والنقمة، والآخرون نزّهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه ].
على أي حال هذه فلسفة، والوسط والتفصيل في هذه الأمور هو الحق، والظاهر من كلام الفلاسفة، وتبعهم المعتزلة في هذه المسألة بالذات، وبعض طوائف المتكلمين، أنهم قالوا: بأن الله عز وجل كونه لا يفعل القبيح راجع إلى أنه لا يتصور منه ذلك ولا يقدر عليه، ولذلك عبّروا عن الله عز وجل بعبارات منها: أنه لا يقدر ولا يفعل، وهذا من سوء الأدب مع الله عز وجل، والخوض فيما لا طاقة للعقول به، وهو أيضاً نوع من التكلّف الذي نهى الله عنه، ثم إنه يُلزم بإلزامات كلها باطلة، فلذلك الأولى للمسلم ألا يتحدث عن هذه الأمور، فإن الله عز وجل فعّال لما يريد، وهو لا يفعل الشر؛ لأنه ليس مقتضى الحكمة، فالله كما أنه فعّال لما يريد فهو سبحانه عليم خبير حكيم، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فلا يقال: إنه لا يقدر على فعل الشر، وكذلك العكس، والذين قالوا: إن هذا مقتضى ثوابت هي لازمة لله عز وجل، ليس بصحيح؛ لأن الله عز وجل لا يلزمه شيء.
وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه ].
ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائماً فقد افترى، وخالف ضرورة الحس ].
يقصد الشيخ بهذا طوائف قد لا تكون ظاهرة عند عموم الناس، لكن مذهب هذه الطوائف قد أثّر في عقائد كثير من أهل الأهواء والبدع والافتراء لا سيما الصوفية.
وهذه الطوائف كانت موجودة قبل الإسلام في بعض عُبّاد الأمم، خاصة الأمم الشرقية والأمم الغربية، كما يوجد عند اليونان والرومان فلاسفة يتعبّدون بالفلسفة وبمناهج فلسفية، ويزعمون أن الإنسان بالتعبد والتحنّث يتّحد بالله عز وجل، أو يكون له حلول مع الله، أو أنه إذا ارتقى إلى القمة في التعبد لم يعد بحاجة إلى أن يأتمر بالأمر، ولا أن ينتهي عن النهي.
كما لم يعد بحاجة إلى أن يلتزم بالشرع؛ لأنهم يقولون: الشرع إنما جاء لترويض العوام، أما الخواص فقد ارتقوا إلى درجة ليسوا بحاجة معها إلى أن يلتزموا بالشرع، ومن هنا زعموا أنهم فوق الأنبياء، وأنهم بالتعبد لم يعد لهم حاجة ولا إحساس بفعل المأمورات وترك المنهيات، وهذا المذهب انتقل إلى المسلمين بعدما شاعت الطرق، وقبل أن توجد الطرق لم يكن لهذا المذهب وجود فعلي، رغم وجود كلام في القرن الثاني والثالث، إلا أن هذه كنزعة فعلية موجودة ما كانت توجد إلا على شكل بذور ليست كاملة، يعني: أن بذورها في القرن الثاني والثالث كانت ظاهرة عند بعض العباد، مثل مقولة: لا أعبدك رجاء جنتك ولا خوف نارك، وإنما أعبدك محبة لك .. ونحو ذلك من المقولات الباطلة والفاسدة.
وهذه النزعة فعلاً راجعة إلى مسألة إلغاء الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والعمل بشرع الله، لكنها لم تكن إلى حد إلغاء الشرع، فقد كان هؤلاء يدعون أنهم يتورعون، وأنهم يعملون بأركان الدين وواجباته، وإن قعدوا عن أمور وواجبات أخرى أيضاً، لكنهم لم يجرءوا على إلغاء الشرع في سلوكياتهم.
فبعد القرن الثالث لما شاعت الباطنية، وشاعت الطرق، دخلت هذه المذاهب عبر الطرق، فوجد من غلاة الطرقية والصوفية من يعتقد هذا المذهب، ويستغني بزعمه عن الشرع؛ لأنه وصل إلى درجة الفناء، أي: أنه يفنى بالرب من كثرة التعبد والتحنث والتفكر في الله، فيندمج ويحل في الله على ما يعتقدون من الوثنية المعروفة عندهم، وأنه بهذا الحلول لم يعد بحاجة إلى أن يأتمر بأمر ولا ينتهي عن نهي، وهذه النزعة ما تزال موجودة، لكنها قليلة، ولا تزال توجد عند بعض الغلاة من هذا الصنف.
والحقيقة الكونية تتلخص في أمور الربوبية، وهي: اعتقاد أن هذا العابد أصبح ذرة من هذا الكيان، والكيان هو الله، يعني: أنهم يقولون بوحدة الوجود والاتحاد والحلول، وهذه كلها ترجع إلى فلسفة الحقيقة الكونية.
قال رحمه الله تعالى: [ ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائمًا فقد افترى، وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض، كالسكر والإغماء .. ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع، فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه، بل يرى في منامه ما يسوءه تارة وما يسره أخرى، فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر .. ونحو ذلك إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقًا.
ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقًا، وعظم هذا المقام، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدرًا وشرعًا، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن أن وجود هذا لا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز والعقل والمعرفة.
وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول: أريد ألا أريد، أو إن العارف لا حظ له، وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل .. ونحو ذلك فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه.
ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل، ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدين والعقل ].
في الحقيقة الشيخ في مثل هذه المقامات كثيراً ما يميل إلى التفصيل الذي يدخل المعاني الصحيحة المحتملة في بعض العبارات؛ لأنه وجد من بعض المنتسبين للسلف من اغتر بهذه المصطلحات، فاستعمل فيها المعاني الشرعية ظناً منه أنها تتضمن المعاني الشرعية كما فعل ابن القيم في كتابه: (مدارج السالكين)، فقد حاول أن يعطي المصطلحات البدعية وجهاً من المعاني الشرعية لتكون معاني على المشروع لا على المبتدع، وكذلك الشيخ هنا قد تكلف ليقول: إن هناك بعض الصالحين من قد يستعمل الفناء بمعنى العبادة التي هي التسليم والتذلل لله عز وجل، فينسى الإنسان حظه ويفنى عن حظ نفسه ليتعبد إلى الله عز وجل بجميع مشاعره وقواه، فسمي هذا فناء من باب التجوز، وكأنه والله أعلم أراد أن يقرب بعض المفتونين بهذه المصطلحات إلى المعاني الحقة؛ لئلا يقعون في الباطل، وأيضاً أراد أن يجر الذين فتنوا إلى الحق عن طريق هذه الذريعة، كما أنه أراد أن يحتاط بالذمة، بمعنى: أنه قد يوجد من الصالحين من يستعمل مصطلحات الفناء .. وغيرها، وهو يقصد بها المعاني الشرعية من الزهد والورع والتسليم لله عز وجل والذل، ولذلك إذا سمعت بعض الشيوخ يقول: أريد ألا أريد، يعني: أنه أراد أن يفسر هذا بالتسليم لله عز وجل، فلا يكون له إرادة تخالف ما يريده الله، فهذا المعنى شرعي، لكن حينما نستخدمه أو نطلق عليه المعنى البدعي فهنا يقع الخلط.
أما الفناء المذموم فأراد بذلك أنه الذي تبطل إرادته بالكلية، بمعنى: أنه يزعم أنه صار مجبوراً جبراً كاملاً، كالريشة في مهب الريح، أو كالميت أمام المغسل، ليس له أي إرادة، ويسمي هذا فناء، لكنه فناء بدعي، بل أحياناً يكون شركياً.
أحدها: هو الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وهو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به، فيفنى عن عبادة غيره بعبادته، وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله، وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه، وعن محبة ما سواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه، بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما قال تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله ].
هذا هو المعنى الذي أشار إليه الشيخ قبل قليل، وهو التسليم لله عز وجل، لكن كيف يسمى فناء؟ الحقيقة هذا يشكل، وشيخ الإسلام رحمه الله قد أوقع من بعده من أهل السنة خاصة في إشكال في هذا الأمر، نعم هو أراد أن يجر الذين ابتلوا إلى الحقائق الشرعية بهذا الاستدراج، لكن مع ذلك كونه يعتبر هذا فناء مشروطاً، أو أن هذا التعبد لله عز وجل هو حقيقة العبادة والتسليم والذل له سبحانه، وأن الإنسان لا يلتفت إلى غير مراد الله، ولا يهتم بغير ما يريده الله، فلا يبالي إلا بما يحبه الله، لكن كيف نسميه فناء؟ الأمر فيه تكلف شديد، لعل للشيخ ما ذكرته من الأعذار.
ومن جعل هذا نهاية السالكين، فهو ضال ضلالاً مبينًا، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك ].
سنلاحظ أن النوع الثاني ملتبس مع النوع الثالث، لكن قبل أن نقرأ الثالث أحب أن نقرب النوع الثاني للمصطلحات المشهورة، وهو أن النوع الثاني من الفناء: هو فناء أصحاب الاتحاد والحلول، والنوع الثالث: هو فناء أصحاب وحدة الوجود، فالنوع الثاني ضلال وشرك، وهو أن يعتقد هذا العبد -بزعمه- أنه اتحد مع الله عز وجل، ومع ذلك لكل واحد منهما مسمى، فهذا عبد وهذا معبود، بمعنى: أنه تبقى عنده نسبة من الفارق بين الخالق والمخلوق، لكن هذه النسبة ليست بجانب العبادة، فيرى أنه حل واتحد بالله تعالى، إما اتحاداً كلياً أو جزئياً، فهذه فلسفات لا تنتهي، وبعضهم يرى أنه حلت فيه روح من الله، أو أنه حلت فيه شيء من الأمور المقدسة، مثل: أرواح الملائكة، أو أرواح أخرى، أو العقل الفعال، فلكل منهم مسلك، والحلول قد يكون من باب تقديس المخلوق ليتصف ببعض صفات الخالق أو العكس، لاعتقاد أن صفات الخالق هي التي أيضاً وجدت في المخلوق، وبينهما دور، لكن مع ذلك هي فلسفات.
إذاً: أقول: من أجل أن نفرق بين الثاني والثالث، فالأول واضح، وهو المقصود به العبادة الحقة، لكن سمي فناء تجوزاً، والثاني هو فناء الاتحاد والحلول الذي لا يزال يرى أن وجود الخالق له خصائص، ووجود المخلوق له خصائص، لكن في العبادة اندمج هذا العابد مع المعبود، وأما الثالث الذي سيذكره فهو فناء أصحاب وحدة الوجود، الذين لا يفرقون بين خالق ومخلوق مطلقاً، فيرون عين هذا الكون هو الله عز وجل بجملته ومفرداته.
وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس، فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله، فإنه إذا كان مشاهدًا للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور، فعومل بموجب ذلك، مثل أن يضرب ويجاع، حتى يبتلى بعظيم الأوصاب والأوجاع ].
هناك قصة طريفة تبين أثر هذه المذاهب والفلسفات على بعض العباد الأوائل، وهي ناتجة عن جهل، والقصة مشهورة ذكرها حتى بعض السلف الذين ذكروا قصص العباد، وهي: أن رجلاً تمنى أن الله عز وجل يبتليه ليحصل على أجر الصبر من الله عز وجل، فابتلاه الله بحبس البول، فضاقت به الأرض بما رحبت، وأصبح يركض من غير شعور، فاشترى لوزاً للأطفال ووزعها عليهم، وقال: ادعوا لأخيكم الكذاب. يعني: أنه ظن لو امتحن سيصل إلى درجة الفناء، بحيث لا يشعر بالألم، وأنه سيصبر ليعظم أجره، فلما ابتلي بمثل هذه المصيبة عرف أنه لا يطيق، وكذلك كلام الشيخ هنا، فلو أن أحدهم ابتلي بعظيم الأوصاب والأوجاع ما ادعى أنه فني، ثم كيف يفنى والله عز وجل لا يضره شيء، وكيف يدعي أنه متحد وإذا أصابه شيء تألم! وإذا شعر بالجوع احتاج للأكل، وإذا شعر بالعطش احتاج للماء أو يموت!
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد نقض قوله، وخرج عن أصل مذهبه، وقيل له: هذا الذي فعله مقضي مقدور، فخلق الله وقدره ومشيئته متناول لك وله، وهو يعمكما، فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا، وإلا فليس بحجة لا لك ولا له. فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر إلى القدر، ويعرض عن الأمر والنهي ].
إكمال الحديث: (أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت).
الجواب: هذا من باب الاصطلاحات، والتكفير قد يكون عقيدة وقد يكون فكراً، والفكر هو نتاج الناس الذي ينبني على الأمور التي يخترعونها بالاجتهادات، والفكر أحياناً يكون آراء الناس في القضايا القطعية، وهذا فكر مردود، وأحياناً يكون آراء الناس فيما يتعلق بالأمور الاجتهادية في الشرع، فتسميته فكراً تجوزاً مقبول نوعاً ما، كذلك آراء الناس في أمور الحياة التي ليست داخلة في الكتاب الشرعي هي فكر.
إذاً: العقيدة الثابتة لا يجوز أن تسمى فكراً؛ لأن هذا نوع من التهوين من شأنها، ونوع من القول بأنها ليست ثوابت ولا مسلمات، ولأن الأفكار هي نتائج آراء الناس وتأملاتهم، وهي ليست بقطعيات ولا يتعبد الآخرون بها، وعلى هذا فإن العقيدة لا تسمى فكراً، أما ما عدا ذلك فيجوز تسميته فكراً، ومع ذلك إذا أمكن أنه يلتزم بالمعاني الشرعية فنسمي الأمور الاجتهادية في الدين اجتهاداً، ونسمي ما يتعلق بالأمور غير الشرعية من آراء الناس آراء، وهذا أولى، لكن مع ذلك أعود وأقول: العقائد لا يجوز تسميتها فكراً.
الجواب: هذه مختلف فيها اختلافاً كبيراً، وقد اتفق السلف على أنها من الألفاظ التي تمر كما جاءت، وأنها لا تكيف، لكن يبقى هل هي صفة أو غير صفة؟ المسألة سهلة والخلاف فيها قائم، وهذه من نماذج الأمور الخلافية في العقيدة، يعني: أن هناك مسائل ملحقة بالاعتقاد يرد فيها الخلاف، ليست من المسلمات ولا القطعيات، فالعقيدة من حيث المسلمات والقطعيات والأصول والثوابت لا خلاف فيها بين السلف على الإطلاق، لكن تبقى مسائل ملحقة بالعقيدة يختلف عليها، إما لتنازع الأدلة فيها، أو لأن الحكم فيها غير بين، مثل: مسألة الجنب، فقد ورد فيها النصوص، والسلف كلهم متفقون على أنها تثبت كما جاءت، وبعض الناس إذا قال: قال بعض أهل العلم: إنها ليست بصفة. يظن أنه ينفيها، لا، فهو لا ينفيها ولا يؤولها، وإنما يثبتها كما جاءت، يعني: لا نتحكم في أن نقول: إنها صفة، وقال بعضهم: تكون صفة، ولذا فالنزاع في هذا ليس في أصل ورودها ولا في ثبوتها، وإنما النزاع هل تسمى صفة أو هي خبر عن الله؟ أما أنها خبر عن الله فبالاتفاق، لكن هل يوقف على أنها خبر؟ لا، فبعض السلف يقول: إنها تثبت كصفة لله عز وجل.
إذاً: المسألة من الخلافيات، ولا يجوز أن يقف عندها المسلم، وفي الحقيقة أنا أنصح كل طالب علم فضلاً عن عامة المسلمين ألا يقف عند هذه الأمور، ولا يشغل نفسه بها، بل يكفي أن يعتقد أن ما جاء فيه الخبر عن الله عز وجل حق وصدق، ما دام أنه ثبت بالنص، والجنب وردت في القرآن وفي السنة، فلا داعي لأن يخوض الإنسان فيها بأكثر مما ورد، بل يسلم بأنها حق على الحقيقة على ما يليق بجلال الله سبحانه، سواء سميت صفة أو خبراً، فالأمر سهل ما دام أنها ثبتت بالنص.
الجواب: (الحقيقة) التي أشرت إليها قبل قليل، وأشار إليها الشيخ، يزعمون بها أن الإنسان إذا وصل إليها استغنى عن امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، فيسمون هذا حقيقة، ويرون أن هذا مرادف أو مغاير للشريعة، فالشريعة أحكام تحكم السلوكيات العامة، وهذه الأمور التي تحكم السلوكيات العامة يرون أن العابد منهم لا يحتاجها؛ لأنه وصل إلى حقيقة التوحيد الذي هو الفناء، فلا يحتاج إلى الشرع والأوامر والنواهي، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر