وبعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ قال سفيان بن عيينة رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة : يا أبا محمد تقول: ينقص؟ فقال: اسكت يا صبي! بلى ينقص حتى لا يبقى منه شيء ].
وهذا يعني أنه لا يزول بالكلية، وقوله: (لا يبقى منه شيء) يقصد: المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث الصحيح: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، واختلف أهل العلم في معنى زوال الإيمان هنا، أي: نفي الإيمان عن الشخص هل هو زوال أصله بالكلية، أو زوال مقتضى الإيمان، أو زوال الأثر، أو المقصود بأن الإيمان قد يرتفع ويعود؟ ولكل قول دليله.
فالذين قالوا: بأنه يبقى أصله، قالوا: إن هذه الأحاديث التي فيها معنى أن الإيمان يزول، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فهذه أحاديث وعيد، وهو قصد كمال الإيمان، وقصد مقتضى الإيمان.
والذين قالوا: إنه يزول بالكلية ويعود، استدلوا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) فقالوا: إن الإنسان إذا عرض له عارض يقتضي كفره قد لا يبقى هذا العارض، فيكون كفراً غير مخرج من الملة، كذلك زوال الإيمان هنا لا يخرجه من الملة، فيبقى عنده أصل الإيمان ويزول مقتضاه، وهذا هو الأقرب؛ لأنه لو وقع في الردة لترتب على ذلك أحكام كثيرة، من طلاق لزوجته، ومن أمور كثيرة تحتاج لتجديد التوبة، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فإذا نظرنا إلى عموم النصوص فإنا نجد أن مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) هي من أحاديث الوعيد، وأنه يعني بذلك الإيمان المطلوب من العبد، أما أصل الإيمان ومبدؤه فهو باقٍ، فعلى هذا يكون المقصود هنا -والله أعلم- أنه لا يبقى منه شيء من مقتضياته ولوازمه، لكن لا يزول أصلاً.
وأما النفاق فهو لون آخر، فالنفاق الخالص يكون صاحبه خالياً من الإيمان، حتى من أصل الإيمان، أما النفاق غير الخالص -وهو وجود خصلة أو خصال النفاق- فهذه تنقص الإيمان، وقد يقال بأن هذا لا يكون مؤمناً حين يفعل هذا الفعل، لكن لا يعني خروجه من الملة؛ لأن مسألة نفي الإيمان أو نفي الإسلام أو الحكم بالكفر لا تعني دائماً الخروج من الملة مطلقاً، ويبقى خيط من بقاء أصل الإيمان عند الإنسان وهو مقتضى الفطرة ومقتضى الأصل عند هذا الإنسان الذي لم يرد عندنا ما نجزم به من خروجه من مقتضاه، ومثل هذا نصوص كثيرة فيها نفي الإيمان، أو نفي الإسلام، أو نفي أن يكون من الأمة، أو أن يكون ممن ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في أشياء كثيرة: (ليس منا..)، وقال: (من غشنا ليس منا)، وقال: من فعل كذا فقد كفر، وذكر خصالاً في الأمة فعلها كفر، فهذه نصوص وهناك نصوص أخرى تقتضي أنه لا يخرج المسلم من الإسلام أو من الإيمان بالكلية إلى الردة إلا بما يخرجه بالكلية أو بقاطع من القواطع التي تخرجه من الملة، فإذا جمعنا بين هذه النصوص نجد أن المقصود هنا نفي الكمال، ونفي المقتضى، ونفي اللوازم، ونفي الأثر، ومثله نفي الإيمان عمن يعمل كبيرة؛ لأنا نعلم قطعاً أن الكبيرة لا تخرج الإنسان من الملة، ومثل هذه الكبائر: الزنا، والسرقة.. وغيرهما.
فإذا كنا نعلم قطعاً أن الزنا والسرقة لا يخرجان الإنسان من الملة، وأنه يبقى مسلماً بمقتضى أحاديث ونصوص كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نجمع بين النصوص فنقول: هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ممكن أن يرتفع عنه مقتضى الإيمان تلك اللحظة، لكن يبقى الأصل وتبقى الجذوة الأساسية ثم تعود، فالفترة التي لا اعتبار لها في فعل ما ينافي الإيمان فترة ليست تبقى عند الإنسان، ولو بقيت فقد يخرج من الملة، فمثلاً: لو استحل إنسان الزنا استحلالاً ولم يفعله فإنه قد يخرج من الملة، لكن هذا الفعل وغيره لا يقتضي -والله أعلم- الردة، وما لم يقتض الردة لا نحكم بالمعنى الأشد فيه، بل نحمله على معنى الوعيد، وعلى معنى زوال المقتضى، وزوال اللازم، وزوال الأثر.. ونحو ذلك.
أما حلاوة الإيمان المطلقة فلا تكون إلا بالكمال، لكن الشعور بحلاوة الإيمان قد يتجزأ، فالإنسان قد يجد حلاوة الإيمان في عمل من أعمال الخير، حتى وإن كان عنده قصور في الأمور الأخرى، وهذا أمر معلوم، والإنسان قد يجد حلاوة الإيمان في بعض أعمال الطاعات التي يعملها وإن قصر أو أذنب في أمور أخرى، لكن من تكاثرت ذنوبه قد يفقد حلاوة الإيمان، ومن كان الأغلب عليه الاستقامة والصلاح قد يجد كمال حلاوة الإيمان، والله أعلم.
قلت: فمن كانت طاعاته وحسناته أكثر فإنه أكمل إيماناً ممن كان قليل الطاعة كثير المعصية والغفلة والإضاعة.
وقال أحمد بن سعيد الرباطي : قال لي عبد الله بن طاهر : يا أحمد إنكم تبغضون هؤلاء القوم جهلاً، وأنا أبغضهم عن معرفة، إن أول أمرهم: أنهم لا يرون للسلطان طاعة، والثاني: أنه ليس للإيمان عندهم قدر، والله لا أستجيز أن أقول: إيماني كإيمان يحيى بن يحيى ، ولا كإيمان أحمد بن حنبل ، وهم يقولون: إيماننا كإيمان جبريل وميكائيل ].
هذا لازم قول المرجئة، وقد تفهم أنت فهماً خاطئاً بأنه يلزم من كلامه كذا، لكن لا يلزم ما دام يمكن أن يفسر كلامه، أما العقيدة التي تستمر وينظر فيها الناس ويواجهها السلف ويواجهون أصحابها ويناظرون فيها، فإن اللازم يلزم فيه حتى لو لم يلتزمه صاحبه، ولذلك بدّعوا كل من قال بالإرجاء حتى وإن فهم الإرجاء فهماً يخالف فهم المرجئة؛ لأنه يعد مبتدعاً بمجرد تعلقه بالإرجاء، وهذه مسألة مهمة جداً يجب أن نفهمها فيما يتعلق بأفعال الناس وأقوالهم.
فنأخذ المرجئة مثالاً: إذا كان الإنسان على مذهب المرجئة، أو قال ببعض أقوال المرجئة، أو انتسب للمرجئة انتساب تمذهب.. ففي كل هذه الأحوال نعده مبتدعاً، ومع ذلك قد يفسّر الإرجاء بتفسير يخالف المرجئة، لكن كونه وقع في رفع الشعار فقد ابتدع، لكن بدعته أخف، والدليل على هذا أن أئمة السلف أنكروا على أبي حنيفة تعلقه بالإرجاء، مع أنه لم يلتزم ما التزمته المرجئة المتأخرة من التساهل بالأعمال، بل العكس فقد كان أبو حنيفة ومن حوله من الأئمة في ذلك الوقت الذين يقولون بالإرجاء كانوا يعظّمون الأعمال، وكان عندهم من الزهد، والورع، والاستقامة، والحرص على الفرائض، وعدم التفريط، والبعد عن المعاصي، ما يجعلنا نجعلهم كسائر أئمة السلف، بل ربما يفوق بعضهم بعض الآخرين، لكن اللازم يلزمهم اعتقاداً وعلماً بأن هذا لازم المذهب، لا سيما أنه مذهب مقنن ومقرر، له مناهج وأصول وبقي في الناس، فعلى هذا نقول: إن من لازم قول المرجئة، سواء التزمه بعضهم كما صرحوا، أو لم يلتزم كما نفى بعضهم، أنه ما داموا قالوا بأن الإيمان هو التصديق، فيلزم من قولهم هذا أن الناس على حد سواء في إيمانهم، سواء من كان أعظم إيماناً كالملائكة والنبيين والصدّيقين والصالحين، أو من كان أضعف إيماناً كأصحاب المعاصي والفجور؛ لأنهم كلهم صدّقوا، والتصديق في حد ذاته لا يزيد ولا ينقص، إنما قد يزيد اليقين، وبعضهم يخرج اليقين عن مقتضى التصديق، فعلى هذا يعتبر من لوازم قولهم أنه ليس للإيمان عندهم قدر؛ لأنهم قالوا: إيمان أحمد بن حنبل كإيمان جبريل وميكائيل.
والمرجئة في عهد السلف كانوا أكثر إيماناً وأكثر التزاماً لعمل الصالحات والبعد عن المحرمات، لكنهم تأولوا، لكن جاء من بعدهم من المرجئة المتأخرين فصدقت فيهم فراسة السلف، فإن أمرهم أدى إلى الإعراض عن الدين، وفعلاً المرجئة الآن من أكثر الناس إعراضاً عن الدين، وإن كانوا يتفاوتون.
وأما كونهم لا يرون للسلطان طاعة، ففي الحقيقة هذه مسألة تخفى على كثير من طلاب العلم، وهي مسألة مهمة جداً فيما يتعلق بمناهج أهل الأهواء، فمن السمات والمناهج والأصول المشتركة عند جميع أهل الأهواء أنهم كلهم لا يرون للسلطان طاعة، كالمرجئة، والقدرية، والجهمية، والمعتزلة، وأهل الكلام المتأخرين، وخاصة أهل الكلام بالذات، أما من انتسب للكلام كبعض الأشاعرة والماتريدية فقد يقولون بقول السلف في مسألة السلطان، لكن من أصول مذاهبهم أنهم يرون الخروج على السلطان وعدم طاعة السلطان، كذلك من قبلهم الخوارج والسبئية الرافضة ومن سلك سبيلهم كلهم لا يرون للسلطان طاعة، وهذا مبدأ عام عند جميع الفرق إلا النادر، والنادر لا حكم له؛ فلذلك كان بعض السلف يسمون كل أهل الأهواء -أياً كانت شعاراتهم- خوارج، حتى لو لم يكونوا خوارج خلّص، مثل تسميتهم كل من أنكر كلام الله بأنه جهمي، وتسميتهم كل من أنكر الرؤية بأنه جهمي، وقد يكون هذا المنِكر لا يعرف الجهمية ولا يدري ما الجهمية.
فالشاهد: أن من سمات المرجئة قديماً وحديثاً أنهم لا يرون للسلطان طاعة، بمعنى: أنهم يرون الخروج ويستجيزونه، ويخالفون السلف مخالفة جزئية أو كلية في مسألة التعامل مع السلطان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي : قدم ابن المبارك الري فقام إليه رجل من العُبّاد -الظن به أنه يذهب مذهب الخوارج- فقال له: يا أبا عبد الرحمن ! ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا أخرجه من الإيمان، فقال: يا أبا عبد الرحمن ! على كبر السن صرت مرجئاً؟ فقال: لا تقبلني المرجئة؛ المرجئة تقول: حسناتنا مقبولة، وسيئاتنا مغفورة، ولو علمت أني قُبلت مني حسنة لشهدت أني في الجنة ].
هذا الكلام فيه بعض الفقرات تحتاج إلى إيضاح:
فقوله: (فقام رجل من العُبّاد الظن به أنه يذهب مذهب الخوارج) في هذا أنه مما ينبغي أن يلم به طالب العلم معرفة وتمييز السنة وأهل السنة عن غيرهم، كما كان السلف يميّزون؛ وذلك بالرجوع إلى الأصول والقواعد والمناهج والسمات، فمما يفهم أن أكثر العُبّاد الأوائل الذين خرجت منهم الأمور الغريبة التي تخالف السنة إما في الاعتقاد والعمل أو فيهما أو في أحدهما، أغلب العُبّاد الأوائل والذين نشأت على أيديهم بذور التصوف وإن لم يكونوا متصوفة أغلبهم من فرقتين: من الخوارج، ومن الرافضة والشيعة، وأغلبهم نزعوا إلى العبادة بعدما اصطدموا بالواقع، فالخوارج حاولوا أن يخضعوا الأمة لمذاهبهم الفاسدة بقوة السيف، فتصدت لهم الأمة فقُهروا، فانزووا للعبادة عن جهل وبُعد عن أهل العلم؛ لأن طبيعة الخوارج أنهم لا يخضعون للعلماء، وهذه الطبيعة من خصالهم المهمة الجامعة المشتركة في كل زمان أنهم لا يخضعون للعلم، فانزووا للعبادة، فلما انزووا للعبادة اجتمع مع البعد عن الجماعة -وهذه بحد ذاتها قد تجر إلى ذنوب كثيرة- البعد عن الصلوات والخطب، وهجر العلم وهجر العلماء، ثم الاعتماد على النفس في الاجتهاد، ولا يسألون أهل الذكر، فعبدوا الله عز وجل عن ورع وزهد، لكن على غير استقامة، فوقعت منهم كثير من بدع التصوف، فمثلاً الغشي عند سماع المواعظ -الغشي الظاهر- الذي يكون فيه لفت النظر، هذا أول ما بدأ من عُبّاد الخوارج وعُبّاد الشيعة، وهكذا الصعق عند سماع القرآن والصراخ، هذا أول ما بدأ من عُبّاد الشيعة والخوارج، وهكذا التعبّد بما لم يشرع مثل: التسبيح الجماعي بالحصى، هذا بدأ من عُبّاد كانوا هم بذور الخوارج كما تفرّس فيهم ابن مسعود رضي الله عنه، وذلك حينما حدثت معه قصة الذين سبّحوا بالحصى ثم نهاهم، والذين ذكروا الذكر الجماعي ثم نهاهم وطردهم من المسجد وحثاهم بالتراب، ثم اتخذوا مسجداً استقلوا به فهدمه، ثم اتخذوا دويرة فهدمها، فلما رأى منهم ذلك قال: إني أخشى أن تكونوا الذي قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم.. فذكر حديث الخوارج، فقال أحد الحاضرين من أئمة التابعين ممن كان من تلاميذ ابن مسعود : والله لقد رأيتهم يجالدوننا بالسيوف مع الخوارج.
فالشاهد: أن العُبّاد الأوائل الذين أشار إليهم الشيخ هنا الذين عبدوا الله عن جهل بدأت بهم بذور البدع، وهم من فرقتين: الأوائل من عُبّاد الشيعة، وعُبّاد الشيعة هم أول من أطلق عليهم المتصوفة وأطلق على أفرادهم بالصوفية، وكذلك عُبّاد الخوارج.
هذا معنى قوله: (أظن أنه يذهب مذهب الخوارج).
المسألة الثانية فيما يتعلق بقول المرجئة: (حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة)، هذا القول قد يقوله غير المرجئ، بمعنى أنه نرجو أن تكون حسناتنا مقبولة، لكنهم يجزمون بقبول الحسنات، ويقولون: سيئاتنا مغفورة، بمعنى: أنه لا تضر مع الإيمان معصية.
ومسألة الجزم بالقبول ناتجة عن أنهم يرون أن الإيمان هو التصديق فقط، وقالوا: التصديق أمر ليس عند الإنسان فيه غموض ولا شك، ولا يعلقه بالاستثناء ولا بغيره؛ لأن الإنسان إما أن يصدق وإما أن يكذّب، وليس هناك حالة ثالثة، وإذا بقي مشككاً عندهم فهو مكذب، بمعنى: أنه لم يقع عنده التصديق، فالشك يخرج من مقتضى التصديق. فقالوا -بزعمهم-: إن من صدّق فقد آمن، ومن آمن فإيمانه كامل، ومن كان إيمانه كاملاً فلا تضره معصية، وطاعته مقبولة على أي حال، فلا يعلّقون القبول على مشيئة الله عز وجل ولا يعلّقون الأمور بالأعمال.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن هزيل بن شرحبيل قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح.
وقال: محمد بن إسحاق بن خزيمة : سمعت الحسين بن حرب أخا أحمد بن حرب الزاهد يقول: أشهد أن دين أحمد بن حرب الذي يدين الله به أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ].
وعلى هذا تكون عموم الذنوب ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: الشرك بالله عز وجل، يعني: الشرك الخالص شرك العبادة، فهذا لا يغفره الله عز وجل، وصاحبه مخلّد في النار، نسأل الله العافية، ويدخل فيه الشرك بالله؛ لأن بعض الناس يفهم من الشرك فقط عبادة الأصنام أو عبادة الأوثان أو دعاء غير الله عز وجل، نعم هذه أبرز مظاهر الشرك بالله الشرك العظيم، لكن من الشرك العظيم: الإلحاد بدين الله عز وجل، ومن الشرك: عدم طاعة الرسل، ومن الشرك: النفاق الخالص.. فالنفاق الخالص شرك أيضاً وصاحبه مخلد في النار، نسأل الله العافية.
إذاً: فالمنافقون الخلّص والملاحدة وعُبّاد الأصنام ومن سلك سبيلهم ومن كان على نحوهم كل هؤلاء يعدون من المشركين، وكذلك يدخل غيرهم ممن دخل في الشرك وإن انتسب لغير المشركين، فمثلاً: اليهود الآن مشركون، لأنهم قالوا: عزير ابن الله، وعبدوا مع الله غيره، والنصارى مشركون؛ لأنهم زعموا أن الله ثالث ثلاثة، وزعموا بأن عيسى ابن الله! تعالى الله عما يزعمون.. ونحو ذلك، فأعطوا البشر خصائص الإلهية فهم مشركون، حتى لو زعموا أنهم يعبدون الله ولا يعبدون غيره.
والشرك يكون في الاعتقاد والعمل، ويكون في العمل فقط، ويكون بالاعتقاد فقط، والتمييز بين الاعتقاد والعمل ليس عندنا عليه أدلة قاطعة؛ لأن الإنسان إذا ظهر منه شيء يحكم بشركه ما لم يأت عارض آخر.
فالشاهد: أن الصنف الأول من الأعمال هو الشرك، سواء من المشركين الخلّص أو ممن وقع في الشرك ولو ادعى الإسلام، فمن وقع في الشرك الخالص فعمله يخرجه من الملة ويكون من أهل النار المخلّدين.
الصنف الثاني: الكبائر، والمقصود بها هنا الكبائر التي تحدث من المسلم، وإلا فكبائر المشركين وكبائر الكفار لا تعادل شيئاً أمام كفرهم الأصلي، فنحن نتحدث عن الكبائر من المسلمين، فالكبائر من المسلم إذا حدثت هذه حكمها أولاً: أنه إذا تاب منها في الدنيا تاب الله عز وجل عليه، والأصل عندنا أنه تاب، فإذا تاب المسلم من الكبيرة تاب الله عليه، وأصبح كمن لا ذنب له، بل من فضل الله وكرمه ومنّه أن الله يبدّل سيئاته حسنات، وإذا لم يتب وكان مصراً على كبيرته فيبقى التفصيل في أحواله في الآخرة، فإنه مات فاسقاً وعاصياً لكنه مسلم، فيوم القيامة ورد في النصوص أن أهل الكبائر على نوعين: منهم من يغفر الله له فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته ومنِّه، ومنهم من يستوجب النار بكبيرته، لكنه لا يخلّد فيها، فيخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبشفاعات أخرى وبرحمة الله عز وجل وفضله، وليس هناك قسيم ثالث في مسألة أهل الكبائر، فمنهم من يغفر الله له، ومنهم من يُعذّب، ومن يُعذّب لا يخلد في النار.
الصنف الثالث من الذنوب: الصغائر، فالصغائر تكفّرها الأعمال الصالحة، ويكفّرها الاستغفار، والصدقات، وتكفّرها أعمال البر، وتكفرها التوبة المطلقة، وإن لم تكن توبة معينة، إلا أن الصغائر إذا تكاثرت تصبح كبائر؛ لأن الإكثار من الصغائر مبارزة لله عز وجل، لذلك قال كثير من السلف: إن الإصرار على الصغيرة كبيرة؛ لأنه مبارزة، فالإصرار كأنه ذنب وزيادة، فهو فيه عناد للشرع، وفيه إعراض عن ذكر الله وأمره، وفيه إعراض عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكثير من أهل العلم وكثير من السلف يعتبر الإصرار على الصغيرة كبيرة، فيدخل في مفهوم الكبائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكان شيخنا سهل بن محمد رحمه الله يقول: المؤمن المذنب وإن عُذِّب بالنار فإنه لا يلقى فيها إلقاء الكفار، ولا يبقى فيها بقاء الكفار، ولا يشقى فيها شقاء الكفار.
ومعنى ذلك: أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار، ويُلقى فيها منكوساً في السلاسل والأغلال والأنكال الثقال، والمؤمن المذنب إذا ابتلي بالنار فإنه يدخل النار كما يدخل المجرم في الدنيا السجن على الرجل من غير إلقاء وتنكيس.
ومعنى قوله: (لا يلقى في النار إلقاء الكفار) أن الكافر يُحرق بدنه كله، وكلما نضج جلده بُدّل جلداً غيره؛ ليذوق العذاب، كما بينه الله في كتابه في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
وأما المؤمنون فلا تلفح وجوههم النار، ولا تحرق أعضاء السجود منهم، إذ حرم الله على النار أعضاء سجوده.
ومعنى قوله: (لا يبقى في النار بقاء الكفار): أن الكافر يُخلّد فيها ولا يخرج منها أبداً، ولا يخلد الله من مذنبي المؤمنين في النار أحداً.
ومعنى قوله: (لا يشقى بالنار شقاء الكفار): أن الكفار ييأسون فيها من رحمة الله، ولا يرجون راحة بحال، وأما المؤمنون فلا ينقطع طمعهم من رحمة الله في كل حال، وعاقبة المؤمنين كلهم الجنة؛ لأنهم خُلقوا لها وخلقت لهم فضلاً من الله ومنة ].
نقف على موضوع الصلاة؛ لأنه موضوع مستقل.
الجواب: قصده: لو أني ضمنت أن الحسنة مقبولة فمن الطبيعي أن جميع الحسنات تكون مقبولة، ومن ضمن قبول الحسنات ضمن الجنة، فلا يجزم أحد بأن عمله قُبل، فهو ضرب مثلاً بالحسنة، وهو يقصد جنس الحسنة، وليس مفرد الحسنة، وكأنه يقول: لو علمت أن حسناتي مقبولة لضمنت الجنة؛ لكن من يعلم أنها مقبولة؟ لأن الحسنة قد تُقبل وقد لا تُقبل، وعدم قبولها إما لعارض أو لذنب آخر أو.. إلى آخره.
فيبدو لي أنه يقصد جنس الحسنات هنا، وضرب مثلاً بحسنة؛ لأنه إذا وجد مبدأ قبول حسنة وجد أصلاً مبدأ قبول الحسنات جميعاً، هذا القصد، وهذا يرجع إلى الأصل والمبدأ ولا يرجع إلى المثال، فالأصل القبول؛ لأنه إذا ضمن أنه قبلت منه حسنة فكأنه جاء بمبدأ أن الحسنات مقبولة مطلقاً، هذا معناها، وإذا قُبلت الحسنة الواحدة مطلقاً فمن الطبيعي أن جميع الحسنات عند صاحب هذا المبدأ تكون مقبولة مطلقاً، كما يقول الجهم ، فعلى هذا كأنه يقول: أنا ضامن الجنة؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، فالحسنات حاكمة على السيئات، والخير مهيمن على الشر، والرحمة أسبق من العذاب، هكذا أصل المبدأ، لكن المسألة راجعة إلى أمور غيبية، فالإنسان يعمل الحسنات يرجو من الله عز وجل القبول، والقبول ليس بمضمون.
فإذاً: قصد الأئمة بهذا الكلام هو أصل المبدأ مبدأ قبول الحسنة، وإذا قُبلت الحسنة قُبلت غيرها، وإذا قُبلت غيرها محيت السيئات.. وهكذا، لكن ليست مضمونة.
فـابن المبارك يقصد الرد على الذين يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، والحسنة جزء من الإيمان، فهؤلاء يلغون اعتبار المعاصي؛ لأنهم يرون أن الإيمان هو التصديق في القلب، وأن القلب إذا صدّق لا يضره مع ذلك ذنب، فدائماً السلف يمثّلون الشيء بجزئه؛ نظراً لأن الناس كانت أذهانهم ومداركهم في ذلك الوقت واضحة وصافية، فكانوا يعبّرون عن الشيء بمثاله، ويعبّرون عن الشيء بجزئه، ويرمزون إلى الشيء بمجرد الرمز والباقي يكون معروفاً، فهذا الأمر مترتب على لوازمه، فإن السلف الذين قالوا -سواء من الصحابة أو غيرهم-: لو ضمنا الحسنة لضمنا الجنة، أو عبروا بأي عبارة قصدهم بهذا أصل المبدأ، وكأنهم يقولون للمرجئ: ما دمت تقول: إنه لا يضر مع الطاعة معصية ولا مع الإيمان معصية فهذا يعني: أن الحسنة الواحدة إذا قبلت ضمنا الجنة؛ لأن المعاصي لا اعتبار لها، والحسنة لا تحدث إلا بإيمان، فإذا وجد أصل الإيمان -ما دام أنه لا اعتبار للمعاصي- فكأن الإنسان بالحسنة الواحدة ضمن الجنة، وهذا التزمه بعض المرجئة كمرجئة الجهمية، وبعض المرجئة لم يلتزموها، لكن هو من لوازم القول، فهذا على سبيل التمثيل للإشارة إلى الأصول التي عليها المرجئة لا للمبدأ الذي عليه أهل السنة والجماعة.
الجواب: يقصد على مبدأ المرجئة ليس على الأصل الذي عند أهل السنة، فأهل السنة يقولون: قد تُقبل من الإنسان الحسنات، لكنها لا تعني نجاته بالضرورة، فقد تكون سيئاته أكثر من حسناته، والمرجئة لا يقولون هذا، فكأنه يقول: على مبدئكم أيها المرجئة! لو ضمنت أنها قُبلت مني الحسنات لضمنت الجنة.
وظهر لي أن قصده مبدأ الحسنات ليس الحسنة الواحدة، والحسنات بمجموعها، فما دام أن القصد المبدأ فيصبح الأمر مفسّراً على هذا؛ لأن القصد هو الرد على المرجئة، فنستصحب الحال ولا نخرج عن المقام الذي كان هو مبرر الكلام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر