وبعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ وعلامات البدع على أهلها ظاهرة بادية، وأظهر آياتهم وعلاماتهم: شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم: حشوية وجهلة وظاهرية ومشبهة، اعتقاداً منهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها بمعزل عن العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير وحججهم العاطلة، بل شبههم الداحضة الباطلة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23]، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18] ].
قصد المؤلف بهذا سمة من سمات أهل البدع، وعلامة من أبرز علاماتهم في كل زمان ومكان، وهذه السمة مشتركة عند جميع أهل الأهواء، والتي تتمثل فيما ذكره الشيخ من عداوتهم لأهل السنة والجماعة، ومن لمزهم لأهل الحق وأئمة الهدى، وترتبت الثانية على الأولى، لما عادوا أهل السنة لمزوهم وعيروهم؛ وسبب ذلك هو مخالفتهم للسنة، فإن أهل السنة رووا وقالوا واعتقدوا ما يخالف ما عليه أهل البدع، فعاداهم أهل البدع لذلك.
وذكر الشيخ أنهم عادوا أهل السنة؛ لأنهم حملة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقصد بذلك أن أهل البدع في منشأ عداوتهم لأهل السنة إنما عادوهم؛ لأنهم اعتقدوا الحق في صفات الله عز وجل، فأثبتوها كما أثبتها الله لنفسه، وأهل الأهواء ينكرون الصفات أو يؤولونها، ونتج عن هذا المنهج وذاك أن أهل السنة حشدوا النصوص الثابتة في القرآن والسنة التي تدل على إثبات الصفات، ورووا الأحاديث، وصاروا هم حملة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صادمت هذه الأحاديث أصول أهل الأهواء والبدع ردوها، فلما ردوها أيضاً طعنوا في رواتها، وأبغضوهم لذلك واحتقروهم وسموهم بهذه الأسماء، مثل: حشوية، وهذه العبارة أول ما أطلقت أطلقت من قبل المعتزلة الذين أطلقوها على طائفة من متأخري الصحابة، وعلى أئمة التابعين والسلف عموماً وعلى رواة الحديث على وجه الخصوص، وقصدوا بهذا أن علم السلف حشو لا قيمة له، بما في ذلك رواية الأحاديث في الصفات، وقصدوا بهذا أيضاً أن السلف أشبه بالرعاع الذين لا يستحقون أن يكونوا في مقدمة المجالس، إنما يجب بزعمهم أن يؤخروا إلى حشو المجالس، أي: مؤخرة الحلق والمجالس، وهذا فيه احتقار للسلف وفيه لمز وتعيير، فسموهم: حشوية؛ لأنهم احتقروهم، وكذلك وصفوهم بالجهل، وقالوا بأنهم جهلة؛ لأنهم زعموا أن من الجهل رواية هذه النصوص التي تثبت الصفات، أو من الجهل إثبات الصفات أيضاً؛ لأنهم زعموا أنه لابد من التأويل، وأن من لم يؤول فهو جاهل، وهذا من التلبيس، فنحن نعلم أن نصوص الصفات من أمور الغيب، ولا سبيل لتأويلها، فإثباتها هو العلم وتأويلها هو الجهل، لكن أهل البدع قلبوا المسألة، فجعلوا إثبات الصفات هو الجهل، والخوض فيها والتعطيل والإنكار هو العلم، ولذلك وصفوا السلف بأنهم جهلة، ووصفوهم أيضاً بأنهم ظاهرية، ويقصدون بأن من لم يؤول على مناهجهم الباطنية الفلسفية فقد أخذ بالظاهر، ونحن نعلم أن نصوص الغيب بما فيها نصوص الصفات قال السلف بأنها تجرى على ظاهرها، يعني: يعتقد بأن لها معاني على الحقيقة التي تليق بالله عز وجل، وهذا هو ظاهر النصوص، وهذا هو الاعتقاد الحق، لكن أهل البدع لما ساءهم اعتقاد هذا الظاهر وخالف أصولهم عيروا أهله، هذا من جانب.
من جانب آخر أيضاً: أهل البدع يكذبون على السلف، ويزعمون أنهم في اعتقادهم للصفات إنما أخذوا بظواهر النصوص التي مقتضاها التشبيه، وهذا فيه ظلم للسلف وفيه كذب عليهم، فالسلف حينما أثبتوا ظواهر النصوص في الصفات.. وغيرها أثبتوا الحقائق والمعاني، ولم يثبتوا التشبيه، بل نفوا التشبيه، لكن أهل البدع يزعمون أن كل من أثبت الظواهر فهو مشبه، وهم حكموا بما لم يلزم، فسموا أهل السنة ظاهرية، وكذلك سموهم: مشبهة أيضاً، فهم يزعمون أن أهل السنة حينما أثبتوا الصفات شبهوا الله بخلقه، وهذا غلط، فأهل السنة قاعدتهم واضحة، وهي أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم كما ورد في النصوص، مع نفي التشبيه، على قاعدة: أن الله ليس كمثله شيء.
وتعيير أهل السنة ولمزهم بهذه الألقاب راجع إلى اعتقادهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها بمعزل عن العلم -كما قال الشيخ- هذا هو رأي أهل البدع في النصوص الشرعية؛ لأنهم زعموا أن ظاهرها لا يدل على علم، وأنه لابد من التكلف لاستنتاج العلم الذي فيها، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير وشبههم الداحضة الباطلة؛ لأنهم في الحقيقة ليس عندهم حجج، إنما عندهم شبه.
ثم ذكر بسنده قول أحمد بن سنان القطان الواسطي : [ ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، فإذا ابتدع رجل نزعت حلاوة الحديث من قلبه ].
وهذه قاعدة أيضاً وسمة صحيحة؛ لأن صاحب البدعة لابد أن يستدرك على الدين، وإذا استدرك على الدين لابد أن يكون جفاء وتركاً للسنة، وإذا تركها فلا شك أنه سيقف ممن يعمل بها أو يقول بها موقفاً معادياً؛ لأنه ما ابتدع بدعة إلا ظناً منه احتياج أمر في الدين لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل، فإذا ابتدع لا شك أنه سيأتي بجديد ينكره أهل السنة، فإذا أنكروه أبغضهم ووقف منهم موقف الذي ينصر فيه بدعته.
فالابتداع من نتائجه الطبيعية بغض السنة وأهل السنة، ولذلك قال: (ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض السنة)، هذا من ناحية نظرية، ومن ناحية الواقع فعلاً ما نجد أحداً الآن من أهل البدع والفرق إلا له موقف معادٍ لأهل السنة، وهذا طبيعي جداً؛ لأنه فارق، وما فارق إلا عن اعتقاد، ولذلك يقف ممن فارقه موقف المعادي المبغض.
أما قوله: (فإذا ابتدع الرجل نزعت حلاوة الحديث من قلبه) فذلك لأنه إذا سمع الحديث خلاف بدعته رده أو أوله أو على الأقل ينفر منه فيبغض الحديث، ولذلك كان من أشد الأمور على قلوب أهل الأهواء رواية الأحاديث التي تخالف أصولهم، فهم يبغضونها ولا يطيقون سماع الأحاديث التي تخالف أصولهم، فمن هنا تنزع حلاوة الحديث من قلوبهم.
ثم ذكر الشيخ مواقف عملية من أهل البدع تجاه أصحاب الحديث، مثلما ذكر عن أحدهم أنه قال: [ أصحاب الحديث قوم سوء ].
وأصحاب الحديث هم أصحاب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يروون السنن، فهؤلاء لا شك أن عملهم أفضل الأعمال، وهم أيضاً أفضل الناس، لكن لماذا وصفهم هذا المبتدع بأنهم قوم سوء؟ لأنهم يروون ما لا يعجبه مما لا يدين به، فلذلك وقف منهم هذا الموقف وقال: هؤلاء قوم سوء.
[ وذكر أيضاً موقف الإمام أحمد من هذه الكلمة الشنيعة، وأن الإمام قام وهو ينفض ثوبه ويقول: زنديق زنديق زنديق ].
أي: من قال هذا فهو زنديق، والزنديق هو المنافق الذي يظهر ما لا يبطن؛ لأنه ظهر منه رائحة بغض الحديث، وهذا بغض للسنة، ولا يبغض السنة إلا منافق، فلذلك وصفه الإمام أحمد بهذا الوصف الشنيع، ولا شك أنه ما تكلم بلسانه إلا عن شيء بداخل قلبه، ولا يصل الإنسان إلى حد أن يصف أهل الحديث أهل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم قوم سوء إلا وفي قلبه مرض؛ لأن هذا أمر عظيم، وليس الأمر يرجع إلى سب الأشخاص فقط، إنما سبهم بوصفهم أصحاب حديث، فمن هنا الأمر يرجع إلى بغض السنة وتبعاً لذلك أبغض أهلها.
[ ثم ذكر أيضاً ما يؤيد ذلك عن أبي نصر بن سلام الفقيه أنه قال: ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث ].
لأن في الحديث ما لا يوافق أهواءهم وأصولهم، فمن هنا أبغضوا سماع الحديث وردوه، ولذلك لا يكثرون من الأحاديث في كتبهم، ولا يروون ما لا يوافق أهواءهم، وإذا ورد الحديث في المجالس أو في الدروس نفروا منه وابتعدوا عنه؛ لأن فيه إثباتاً لما لا يعتقدون، كإثبات الصفات، وهكذا بقية الروايات تندرج تحت هذا الأصل.
ووصف الجهمية وصف عام لكل من أنكر شيئاً من الأسماء والصفات، سواء أنكر الأسماء كلها مع الصفات، أو أنكر الأسماء دون الصفات، أو من أنكر بعض الصفات وأثبت بعضاً، هؤلاء كلهم يسمون الجهمية، وكلهم يسمون من أثبت شيئاً مما يخالف أصولهم مشبهاً، فعلى هذا الجهمية يسمون أهل السنة: مشبهة؛ لأن أهل السنة يثبتون الصفات، وهم -أي: الجهمية- يعتقدون أن إثبات الصفات تشبيهاً.
أما قولهم نابتة: فيقصدون بالنابتة الأحداث الرعاع الهمج الطفيلية؛ لأن النابتة هي النبتة الطفيلية التي تنبت وهي لا قيمة لها وتؤذي الأشجار الأصلية، فهم يزعمون أن أهل السنة طفيليون، وأنهم أحداث رعاع، فسموهم: نابتة.
وكذلك من علامات الرافضة أنهم يسمون أهل السنة نواصب؛ لأنهم يعتقدون أن من لم يقدس آل البيت، ومن لم يعتقد فيهم الإلهية، ومن لم يغل فيهم فقد ناصبهم العداء، وإلا فأهل السنة ليسوا ناصبة، أهل السنة يوالون آل بيت رسوله صلى الله عليه وسلم ويعتقدون الولاء لهم، ويصلون ويسلمون عليهم، ويعطونهم حقهم واعتبارهم، لكن الرافضة لا يكفيهم القول المعتدل، إنما يريدون من أهل السنة أن يقدسوا أهل البيت كما قدستهم الرافضة، وأن يعطوهم مقامات الألوهية، ومقامات القداسة، وهذا ما لا يجوز شرعاً، فلذلك من لم يعتقد مثل الرافضة في آل البيت يسمونه: ناصبياً، يعني: أنه نصب العداء لآل البيت.
وكذلك كل فئة تلقب أهل السنة بما تزعم أنه عندها هو الحق، ولذلك فإن هذه الألقاب كما ذكر الشيخ في آخر الدرس لا تصيب أهل السنة، فإنهم في الحقيقة -بحمد الله- ليسوا مشبهة، بل هم مثبتة، وليسوا جبرية؛ لأنهم يقولون بالقدر كما ورد في الكتاب والسنة، وليسوا نابتة ولا ناصبة ولا حشوية ولا.. إلى آخره، وأن ما عيرهم به خصومهم لا ينطبق عليهم، فتعيير أهل البدع لأهل السنة لا ينطبق على أهل السنة؛ لأنهم ليسوا في الواقع على ما عيروهم به، وكل عيب وصف أعداء أهل السنة أهل السنة به فهم منه برآء، بل يكون العكس هو الصحيح.
وتعيير أهل السنة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أهل الأهواء هو مثل تعيير المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم عيروه بمذمم عكس محمد، وهو في الحقيقة محمد فعلاً عند الله وعند خلقه، فصار تعييرهم له لا ينطبق عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حقيقة الأمر وباعتراف عقلاء المشركين محمد ومحمود وليس بمذموم، فكان تسميتهم له هذه التسمية المقلوبة لم تنطبق عليهم، فكذلك تعيير أعداء السنة لأهل السنة لا ينطبق عليهم ولا يصيبهم، بل يكون من لهو القول ومن القول الفاسد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر