الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، وهو آخر درس في المجلد الثاني من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبعده كما أسلفت -إن شاء الله- سنبدأ في المجلد الثالث، ويتضمن الواسطية والتدمرية، ويبدو لي من خلال ما جاءني في الدرس الماضي من الاقتراحات المكتوبة والشفوية، أن هناك رغبة في أن نقرأ هذين الكتابين، فعلى هذا نستمر على نفس المنوال، بأن نأخذ المجلد الثالث -إن شاء الله- بجميع محتوياته؛ لأنه ليس فيه أشياء من الحشو أو التكرار، أو الأمور التي لا لزوم لها، كما في هذا المجلد الذي فيه استطرادات في الرد على الفلاسفة والباطنية وأهل الاتحاد ووحدة الوجود ومن سلك سبيلهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ سئل شيخ الإسلام وحجة الأنام أبو العباس بن تيمية رضي الله عنه عمن يقول: إن ما ثم إلا الله، فقال شخص: كل من قال هذا الكلام فقد كفر؟
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله، قول القائل: ما ثم إلا الله: لفظ مجمل يحتمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً، فإن أراد ما ثم خالق إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا يجيب المضطرين ويرزق العباد إلا الله، فهو الذي يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل، وهو الذي يستحق أن يستعان به ويتوكل عليه ويستعاذ به ويلتجئ العباد إليه؛ فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، كما قال تعالى في فاتحة الكتاب: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
وقال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123].
وقال: قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30].
فهذه المعاني كلها صحيحة، وهي من صريح التوحيد، وبها جاء القرآن.
فالعباد لا ينبغي لهم أن يخافوا إلا الله، كما قال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44].
وقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:173-174].. إلى قوله: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175].
وكذلك لا ينبغي أن يرجى إلا الله، قال الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2].
ولا ينبغي لهم أن يتوكلوا إلا على الله، كما قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12].
ولا ينبغي لهم أن يعبدوا إلا الله، كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
ولا يدعوا إلا الله، كما قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].
وقال تعالى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [الشعراء:213] سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة.
وأما إن أراد القائل: (ما ثم إلا الله) ما يقوله أهل الاتحاد؛ من أنه ما ثم موجود إلا الله، ويقولون: ليس إلا الله، أي: ليس موجود إلا الله، ويقولون: إن وجود المخلوقات هو وجود الخالق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد.. ونحو ذلك من معاني الاتحادية، الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ولا يثبتون المباينة بين الرب والعبد.. ونحو ذلك من المعاني التي توجد في كلام ابن عربي الطائي ، وابن سبعين ، وابن الفارض ، والتلمساني .. ونحوهم من الاتحادية.
وكذلك من يقول بالحلول كما يقوله الجهمية، الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان، ويجعلونه مختلطاً بالمخلوقات، حتى إن هؤلاء يجعلونه في الكلاب والخنازير والنجاسات، أو يجعلون وجود ذلك وجوده، فمن أراد هذه المعاني فهو ملحد ضال يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، والله سبحانه وتعالى أعلم ].
في هذه القاعدة التي قررها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فائدة عظيمة، لو ترسمها أهل العلم بدقة ووضوح لاستراح الناس من كثير مما يخوضون فيه مما يشتهر عن بعض الكبار من كلمات وعبارات، سواء كبار من ينتسبون إلى السلف ممن عندهم نزعة صوفية، مثل الهروي وابن خفيف ومن سلك سبيلهما ممن عندهم التزام بعقيدة السلف، ومعرفة بالآثار والأحاديث والسنة، وعندهم أيضاً شيء من الميل الصوفي، أو ممن عرفوا بالفضل والصلاح والاستقامة وينتمون إلى الفرق ذات البدع غير المغلظة، أو ذات البدع غير المكفرة، مثل بعض من ينتسبون إلى الأشاعرة والماتريدية من أهل الحديث، أو حتى ممن ليسوا من أهل العلم الشرعي، لكنهم لا يعرف عنهم أنهم من أهل هذه الضلالات، مثل بعض المفكرين والأدباء، وأوضح مثال: سيد قطب ، ومثل الغزالي المسمى بحجة الإسلام فهو أيضاً مغرق في بعض التصوف.. وغيره، فهؤلاء أثرت عنهم كلمات مجملة على نحو ما قال الشيخ، قد تفهم منها نزعة اتحاد أو حلول، أو استعمال بعض الشطحات الصوفية، أو تعلق بأمور تكون غالباً شعارات أو مصطلحات لأهل البدع، فهذه الأمور لابد أن توزن بميزان العدل.
ولعلي أصف لكم كأنموذج عند الكلام عن سيد قطب رحمه الله، فـسيد قطب وجدت في كتبه -خاصة في الظلال- عبارات فيها رائحة الانحرافات العقدية، إما الموافقة لبعض عبارات الحلولية، أو الموافقة لبعض شطحات الصوفية، أو استعمال عبارات فلسفية في التعبير عن بعض معاني الإيمان، وبعض معاني الدين، كل هذا وجد عند سيد قطب ، والحكم عليه من خلال هذه الأمور ينبغي أن يضبط بالضوابط الشرعية وهي:
أولاً: أنه عندما تصدر عن شخص مثل هذه الأخطاء، فلابد أن نقول: إنها أخطاء، فلا نتكلف المعاذير، فما يظهر أنه خطأ وشعار للبدعة أو اصطلاح بدعي، أو حتى استعمال معان بدعية هذا يقال: إنه خطأ، لكن يبقى الحكم على الشخص، ويبقى أيضاً مدى هذا الخطأ، هل هو خطأ واضح صريح لا يقبل الاحتمال؟ وهذا نادر، لكن لا يعرف عند سيد قطب شيء من هذه الأخطاء التي لا تقبل احتمالات، وإن وجدت عنده فعلاً بعض الأخطاء ظاهرة.
الأمر الثاني: أن مثل سيد قطب لا بد أن نستصحب حاله، فهو ليس من علماء الأمة الراسخين في الفقه الشرعي، ولا قال ذلك عن نفسه، ولا قاله عنه إلا جاهل، إنما هو رجل عنده غيرة على الدين، وأعطاه الله عز وجل شيئاً من قوة الأسلوب، وأيضاً عمق الفكر، وأيضاً الاهتمام بقضايا الأمة من زوايا معينة، قد لا يجيدها إلا أمثاله ممن أعطوا قدرة على البلاغة والتعبير، وموقفه أيضاً تجاه الأحداث في وقته موقف احتسبه عند الله عز وجل، بغض النظر عن التفاصيل هل هو مصيب فيها كل الإصابة أم لا؟ هذا أمر آخر، لكن نحن نجزم أنه احتسب وفدى بنفسه لدينه، هذا هو الظاهر لنا، فإذا استصحبنا هذا معه، فإنه يبعد أن تكون عنده باطنية خالصة أو نزعة وحدة الوجود أو الاتحاد.
إذاً: سيد قطب ليس برجل عالم من أجل نقول: والله هو قدوة، لا، هو ليس بعالم، وإن ادعى أتباعه أو المتعصبون له أنه قدوة في كل شيء، فقد أخطئوا، بل هو قدوة فيما أصاب فيه، لكنه ليس بعالم نثق بعلمه، ولا عنده أيضاً إلمام بالنصوص كما عند العلماء الراسخين؛ ولذلك استدلاله بالآثار ضعيف.
وكلماته أغلبها من النوع المحتمل، وهذا هو ما أردت التنبيه عليه من كلام الشيخ، فالشيخ قال: (إن ما ثم إلا الله، كلمة مجملة تحتمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً) كذلك أغلب كلمات سيد قطب التي أخذت عليه من هذا النوع، وله توجيه يمكن أن يخرجه عن المعنى الباطل، وقد يكون بعض التعبير خطأ فعلاً، لكن ليس عندنا دليل على حمله على أسوأ المحامل، بل ينبغي أن نستصحب حال الشخص، فلا يعرف عنه أنه كان داعية إلى بدعة، ولا يعرف عنه أنه وقع في زلات تعمدها، وعلى هذا أيضاً نقيس كل ما نسب عن بعض الأئمة والعلماء والصالحين.
كذلك الإمام الهروي رحمه الله إمام من أئمة السنة، وله مواقف تجاه السنة عظيمة، وله كتب في ذم الكلام، فهذا الرجل أيضاً له مصطلحات صوفية مغرقة في التصوف، وفيها أخطاء وشطحات، لكنها زلات عالم لا تنقص من قدره، ولا يوافق عليها؛ ولذلك لما أراد ابن القيم رحمه الله أن يجر مصطلحات الهروي لأن تكون شرعية خالصة ما استطاع إلا بأسلوب مضطرب قد لا يستقيم، في كتابه (مدارج السالكين في شرح منازل السائرين).
فأجاب:
الحمد لله، قوله: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر) مروي بألفاظ أخر، كقوله: (يقول الله: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر؛ بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، وفي لفظ: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر يقلب الليل والنهار)، وفي لفظ: (يقول ابن آدم: يا خيبة الدهر، وأنا الدهر).
فقوله في الحديث: (بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، يبين أنه ليس المراد به أنه الزمان، فإنه قد أخبر أنه يقلب الليل والنهار، والزمان هو الليل والنهار؛ فدل نفس الحديث على أنه هو يقلب الزمان ويصرفه، كما دل عليه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44]، وإزجاء السحاب: سوقه، والودق: المطر.
فقد بين سبحانه خلقه للمطر، وإنزاله على الأرض؛ فإنه سبب الحياة في الأرض، فإنه سبحانه جعل من الماء كل شيء حي، ثم قال: (يقلب الله الليل والنهار)، إذ تقليبه الليل والنهار تحويل أحوال العالم بإنزال المطر، الذي هو سبب خلق النبات والحيوان والمعدن؛ وذلك سبب تحويل الناس من حال إلى حال، المتضمن رفع قوم وخفض آخرين.
وقد أخبر سبحانه بخلقه الزمان في غير موضع، كقوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1].
وقوله: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33].
وقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].
وقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190].. وغير ذلك من النصوص التي تبين أنه خالق الزمان.
ولا يتوهم عاقل أن الله هو الزمان؛ فإن الزمان مقدار الحركة، والحركة مقدارها من باب الأعراض والصفات القائمة بغيرها؛ كالحركة والسكون والسواد والبياض.
ولا يقول عاقل: إن خالق العالم هو من باب الأعراض والصفات، المفتقرة إلى الجواهر والأعيان، فإن الأعراض لا تقوم بنفسها، بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به، والمفتقر إلى ما يغايره لا يوجد بنفسه، بل بذلك الغير، فهو محتاج إلى ما به في نفسه من غيره، فكيف يكون هو الخالق؟
ثم أن يستغني بنفسه، وأن يحتاج إليه ما سواه، وهذه صفة الخالق سبحانه، فكيف يتوهم أنه من النوع الأول ].
إذا تبين هذا فللناس في الحديث قولان معروفان لأصحاب أحمد وغيرهم.
أحدهما: وهو قول أبي عبيد وأكثر العلماء: أن هذا الحديث خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية ومن أشبههم؛ فإنهم إذا أصابتهم مصيبة أو منعوا أغراضهم أخذوا يسبون الدهر والزمان، يقول أحدهم: قبح الله الدهر الذي شتت شملنا، ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا.
وكثيراً ما جرى من كلام الشعراء وأمثالهم نحو هذا، كقولهم: يا دهر فعلت كذا، وهم يقصدون سب من فعل تلك الأمور، ويضيفونها إلى الدهر، فيقع السب على الله تعالى؛ لأنه هو الذي فعل تلك الأمور وأحدثها، والدهر مخلوق له هو الذي يقلبه ويصرفه.
والتقدير: أن ابن آدم يسب من فعل هذه الأمور وأنا فعلتها، فإذا سب الدهر فمقصوده سب الفاعل، وإن أضاف الفعل إلى الدهر، فالدهر لا فعل له؛ وإنما الفاعل هو الله وحده.
وهذا كرجل قضى عليه قاض بحق أو أفتاه مفت بحق، فجعل يقول: لعن الله من قضى بهذا أو أفتى بهذا، ويكون ذلك من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وفتياه، فيقع السب عليه، وإن كان الساب لجهله أضاف الأمر إلى المبلغ في الحقيقة، والمبلغ له فعل من التبليغ، بخلاف الزمان، فإن الله يقلبه ويصرفه.
والقول الثاني: قول نعيم بن حماد وطائفة معه من أهل الحديث والصوفية: أن الدهر من أسماء الله تعالى، ومعناه: القديم الأزلي، ورووا في بعض الأدعية: يا دهر يا ديهور يا ديهار، وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله سبحانه هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء؛ فهذا المعنى صحيح، إنما النزاع في كونه يسمى دهراً بكل حال ].
هذه العبارات أشار الشيخ إلى أن معناها صحيح، لكن لا يدل ذلك على أنه يرى الدعاء بمثل هذه العبارات الموهمة، وإنما الله عز وجل يدعى بأسمائه وصفاته، ولا حاجة لنا بأن ندعو بأدعية ليست واردة في النصوص، ثم أيضاً تحمل معاني محتملة، وقد يتوهم منها السامع معاني غامضة، فلا ينبغي أن نسلك مثل هذه العبارات الغامضة الموهمة.
كذلك وإن قال الشيخ بأن الدهر والديهور والديهار معانيها صحيحة؛ لأنها إشارة إلى المسبب وهو الله عز وجل الخالق المدبر، إلا أن هذه العبارات يجب أن تجتنب في الدعاء، وإن حملت معاني صحيحة، مادامت محتملة، والذين يستعملونها غالباً لهم تفسير لهذه المصطلحات فيه شيء من الخطأ أو البدعة.
قال رحمه الله تعالى: [ فقد أجمع المسلمون -وهو مما علم بالعقل الصريح- أن الله سبحانه وتعالى ليس هو الدهر الذي هو الزمان، أو ما يجري مجرى الزمان؛ فإن الناس متفقون على أن الزمان الذي هو الليل والنهار.
وكذلك ما يجري مجرى ذلك في الجنة، كما قال تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62]، قالوا على مقدار البكرة والعشي في الدنيا، وفي الآخرة يوم الجمعة يوم المزيد، والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولكن تعرف الأوقات بأنوار أخر، قد روي أنها تظهر من تحت العرش، فالزمان هنالك مقدار الحركة التي بها تظهر تلك الأنوار ].
الفلاسفة كلهم ليسوا في أمر الدين على شيء، كلهم في أمر مريج، وهم أول من ينطبق عليهم قول الله عز وجل: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10-11]؛ لأنهم في كلامهم على الغيب والإلهيات يجهلون الوحي الذي هو المصدر الوحيد للغيب، بل يعادون الوحي ويضادونه، وكل ما جاء به الأنبياء عاندوه، وأنا أقصد الفلاسفة الخلص الذين يتكلمون في الأمور الغامضة ومحارات العقول بمجرد آرائهم، أما من سلك سبيل الأنبياء في هذه الأمور فليس بفيلسوف مطلقاً، لا يصح أن يسمى فيلسوفاً، الإنسان الذي يستمد آراءه في الأمور الغامضة ومحارات العقول من الوحي ليس بفيلسوف.
لكن هناك جانب قد يتكلم فيه بعض الفلاسفة، وقد يكون حقاً، لكن ليس هو الذي به سموا: فلاسفة، أعني: بعض الفلاسفة قد يتكلم ويبدع في بعض العلوم الطبيعية، مثل: الطب، والكيمياء، والفيزياء.. وغيرها، فليبدع بحكم أنه بشر أعطاه الله عز وجل عقلاً معيشياً يعرف به ظاهراً من الحياة الدنيا، كما ذكر الله عز وجل عن الكفار، لكن ليس هذا هو الفلسفة، وأكثر ما يفتن الناس بالفلاسفة الذين يتخرصون على الله ويتخرصون على الدين أنهم لهم علوم دنيوية طبيعية مفيدة، لكن يجب أن نفرق بين هذا وذاك، فمثلاً: ابن سينا فيلسوف وطبيب، وقد أبدع في الطب؛ لأنه حينما استعمل ما أعطاه الله عز وجل من عقل وذكاء في الأمور الطبيعية أجاد وأفاد، وحينما صرف ما أعطاه الله عز وجل من عقل وذكاء في الأمور الغيبية خلط وخبط؛ لأنه أداه عقله وذكاؤه إلى الغرور، وجانب منهج الأنبياء، ولا شك أن من جانب منهج الأنبياء فلا يستحق أن يكون إماماً في الفكر والفلسفة، فضلاً أن يكون إماماً في الدين، كما يتعلق بذلك بعض المفتونين بالفلاسفة، وما أثر عن أفلاطون وغيره كلهم من هذا الباب، إلا ما تعلق بعلوم دنيوية أو بعض الأمور المنطقية وهي أشبه بالعلوم الرياضية، المنطق الذي يستقرأ من علم صحيح هو من العلم، سواء صدر من الفلاسفة أو من غير الفلاسفة، هو من العلم الطبيعي الذي لا مشاحة فيه.
إذاً: ما يصدر عن الفلاسفة أحياناً من بعض العلوم الصحيحة في الأمور البدهية العلمية الطبيعية، سواء في العلوم التجريبية أو في المنطق الصحيح هذا أمر صواب، ويؤخذ من الفلاسفة وغير الفلاسفة، لكن ليس هذا هو الذي سموا به فلاسفة، إنما سموا فلاسفة؛ لمناهجهم الباطلة، فكلامهم في الكليات المجردة في الخارج والمثل والهيولي والخلاء وأنه جوهر مجرد.. هذا كله من التخرص، لا رصيد له من العلم ولا من الواقع ولا من العقل السليم، وكله خلط وخبط وتيه وبعد عن الحق.
قال رحمه الله تعالى: [ وأما جماهير العقلاء من الفلاسفة وغيرهم فيعلمون أن هذا كله لا حقيقة له في الخارج، وإنما هي أمور يقدرها الذهن ويفرضها، فيظن الغالطون أن هذا الثابت في الأذهان هو بعينه ثابت في الخارج عن الأذهان، كما ظنوا مثل ذلك في الوجود المطلق، مع علمهم أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الذهن، وليس في الخارج إلا شيء معين وهي الأعيان، وما يقوم بها من الصفات، فلا مكان إلا الجسم أو ما يقوم به، ولا زمان إلا مقدار الحركة، ولا مادة مجردة عن الصور، بل ولا مادة مقترنة بها غير الجسم الذي يقوم به الأعراض، ولا صورة إلا ما هو عرض قائم بالجسم، أو ما هو جسم يقوم به العرض، وهذا وأمثاله مبسوط في غير هذا الموضع.
وإنما المقصود التنبيه على ما يتعلق بذلك على وجه الاختصار، والله أعلم ].
مجمل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية : أن الصفات لا يمكن أن توجد إلا بالموصوفات، وإلا تبقى مجرد كلام في الأذهان، وهذا صحيح، يعني: الصفات التي هي الأعراض لا يمكن أن تكون حقيقة إلا إذا وجدت الموصوفات، وإلا يبقى الكلام مجرد كلام في الذهن، وأكثر الفلاسفة يتعلقون بهذه التصورات الخيالية، وإن كان بعض عقلائهم -كما قال الشيخ- يعارضون هذا؛ لأن بعض الفلاسفة أعقل من بعض، وليس كل عاقل يدرك بعقله الأمور التي يتفق عليها عموم العقلاء، أو من آتاهم الله عقولاً سليمة.
الجواب: الرؤى إذا تجاوزت الحد قد تكون من أبواب الدجل والفتنة، والقواعد المتعلقة بالرؤى حسب ما هو معروف في النصوص وعمل السلف لها بعض التفصيلات التي يجهلها بعض الناس، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يسأل الناس: ماذا رأوا؟ لكن هل كان هذا عمل الصحابة من بعده على نحو ما كان يعمل؟ ما أعرف هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم كلام من هو معصوم لا ينطق عن الهوى، وفعله هذا لا يدل على أنه تشريع؛ إذ لو كان تشريعاً لاضطر الصحابة أن تكون طائفة من دروسهم لتفسير الرؤى والأحلام، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله تفسرها أعمال الصحابة ومن جاء بعدهم، ثم لا نعرف من الصحابة من كان همه تفسير الرؤيا ولا من التابعين ولا تابعيهم، إلا ما اشتهر عن ابن سيرين ، لكن ابن سيرين ليس عمله تفسير الرؤى فقط، غاية ما اشتهر أنه مسدد وملهم في تفسير الرؤى، وكان ابن سيرين عالماً في سائر علوم الشرع، إماماً من أئمة الدين، ليس همه تفسير الرؤى فقط كما يتصور بعض الناس، بل كان يتلقى من الناس الرؤى ويفسرها؛ لأن الله عز وجل أعطاه القدرة، فامتهان تفسير الرؤى بحيث يكون مهنة خطأ، مثل: امتهان الرقية بحيث تكون مهنة خطأ أيضاً، مع أن الرقية حق، لكن أن يقوم الإنسان ويضع عيادات وأحواشاً يجمع فيها الناس كأنهم غنم هذا من باب الفتنة، ولذلك كثرت الفتنة في هذا الأمر من ناحية، ومن ناحية أخرى كثر الدجل عند كثير من الرقاة وهم لا يشعرون، وقعوا في صور من صور الدجل وهم لا يشعرون، أنا لا أتهم عقائدهم، أكثر من نعرفهم -بحمد الله- هم على استقامة وصلاح، لكن مع ذلك يفتنون، ومن يضمن نفسه من الفتنة، لاسيما وهو قد عرض نفسه لباب من أبواب الفتنة، فكذلك الرؤى ينبغي ألا تكون مهنة.
أما المحاضرات فما ينبغي أن تكون هناك محاضرة خاصة بتعليم الناس كيف يفسرون الرؤى، أتريد أن يتعلم الناس الحلاقة في رءوس الأيتام؟! يسمع قواعد في الرؤى ثم يبدأ يخبط، يصيب مرة مرتين، وأغلب الإصابة في الرؤى هي أيضاً من باب الفتنة؛ لأن الرائي يعتقد شيئاً من خلال التفسير، فيبتلى به؛ لأن أكثر الناس يقول: إذا فسر فلان وقعت الرؤيا على ما فسر، أقول: لأنكم اعتقدتم هذا، ليس بأنه أصاب دائماً، وأكثر أنواع الابتلاء من هذا النوع، فأكثر الناس يثقون بمفسر الرؤى ثقة مطلقة، ويعتقدون أن ما قاله صحيح وسيقع، ويترقبونه، فيقع ابتلاء؛ لا لأن المفسر أصاب وهكذا.
فالتعمق في هذا الأمر والخروج عن حدود الضوابط الشرعية لا شك أنه تجاوز في الشرع، فلا ينبغي أن يتفرغ ناس لتفسير الرؤى، ولا أن يكثروا من إعلان كل ما يسمعونه وما يقررونه؛ لأن أكثر الرؤى من النوع الذي لا يصلح أن يذاع تفسيره، وهذا له محاضرات في تفسير الرؤى، فهذا منهج غير سليم في نظري، ويحتاج إلى قيود وضوابط شرعية، وإن كنت أرى أنه لا يجوز لي الكلام في هذا الأمر الذي يفهم منه ذكر أشخاص بأعيانهم؛ لأن لهم حقاً علينا أن نناصحهم، وهؤلاء الناس الذين لهم حق علينا كثير منهم طلاب علم ومن أهل الخير والصلاح، فلعلنا إن شاء الله نناصحهم، ويبحث هذا الأمر.
الجواب: لا، تعبير الرؤيا موهبة، لا يلزم أن يكون المفسر عالماً في الشرع، لكن علمه في الشرع يكون أكثر تسديداً وأكثر إصابة، وكثير من العلماء الكبار لا يفسرون الرؤى، وإنما أكثر المفسرين للرؤى هم من طلاب العلم الصغار أو من متوسطي العلم أو من العوام، لكن إذا كان عند المفسر الذي أعطاه الله موهبة في تفسير الرؤى، كان عنده علم شرعي وفقه في الدين فهو أحرى للتسديد والمقاربة.
وهناك رؤى كثيرة رآها الناس وما عرفوا بواقعها إلا عندما وقعت وصارت مخالفة لما فسروها به، تقع على غير ما فسروها به، وعندي برهان على أن أكثر تفسيرات الرؤى يقع من باب التعلق النفسي، والدليل على ذلك أن كثيراً ممن عندهم وسواس في الرؤى يسألون أكثر من واحد، ولا يتفق المعبرون في تفسير الرؤيا، واستقرئوا هذا الأمر، اسألوا أكثر الذين يفتنون بسؤال المفسرين: ماذا قال لك فلان؟ وماذا قال لك فلان الآخر؟ يقول لك غير ما قال الأول، فهذا دليل على أن المسألة وهمية، واعتقاد الناس أن تفسير فلان المشهور للرؤى لا بد أن يقع هذا وهم؛ لأن المشاهير يختلفون الآن، ويندر أنهم يتفقون في تفسير الرؤيا الواحدة.
إذاً: نصدق من؟ أو نأخذ تفسير من؟ نعم الإصابة ترد وتتفاوت من واحد إلى آخر، وقد يكون بعضهم أصوب من بعض، لكن الجزم وبناء الأحكام على ذلك غير صحيح.
الجواب: مسألة التكفير صعب، ويتحملون وزرها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما).
فالتكفير خطير، وسيد قطب رحمه الله وقع في زلات كبيرة، لكن التكفير له شروط وموانع، وهذا الرجل قد أفضى إلى ربه، فتكفيره بمجرد محاكمته على العبارات دون استصحاب حاله، ودون رد العبارات بعضها إلى بعض، هذا من الأمور الخطيرة جداً، وربما تكون من ردود الأفعال ضد من يبالغون في سيد قطب .
الجواب: هذه فتنة، والفتنة تنقلب فيها الموازين، والناس يعيشون في هرج ومرج، ولا عبرة بمن هلك، ولا عبرة بالعواطف، ولا عبرة بما يحدث من التخليط عند الناس، إنما العبرة بالحق الذي سيبقى هو الأصل، وأما الزبد فسيذهب جفاء.
يدخل في هذه القضية السؤال عن الجهاد: هل هو فرض عين أم لا؟ سأجيب عن هذا الموضوع إجابة مجملة:
في مثل هذه الأحداث الكبار يجب على المسلم أن يتوخى الأمور التالية:
أولاً: يجب عليه أن يهتم بأمر المسلمين، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، هذه الخطوة الأولى، بمعنى أن يهتم بالدرجة الأولى التي يملكها كل مسلم، وهو الاهتمام القلبي، وما يملكه من الدعاء، ومن النصح للأمة القاصي منها والداني بقدر ما يستطيع.
ثانياً: ليعلم كل مسلم في مثل هذه الظروف أن هذه فتن كبار، ومعضلات تدع الحليم حيران، ويضع في باله أن هذا نمط أو نوع من الفتن التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأرشد من خلال تنبيهه إلى قواعد معينة، نستفيد منها في هذا الظرف:
أنه ينبغي لكل مسلم أن يفهم أنه ما دام قد اهتم بأمر الأمة وأحب لها الخير، وكره لها الهزيمة والذل، وحرص أن يمتلئ قلبه بحب الخير للأمة وكراهية الشر لها، وعلم أن ذلك هو الحد الذي لا يعذر به أحد، بعد ذلك ينبغي أن يفهم أنه ليس بإمكانه بفرده أن يحل مشكلات الأمة بهذا الحجم، برأي يتبناه دون تثبت، ولا بموقف عملي يتبناه، بحيث يقفز فيه ويتعدى الحواجز الشرعية والحواجز الواقعية، أمامك حواجز شرعية يجب أن تفقهها، وكلنا لسنا بمستوى أن يكون عندنا من الفقه الكافي، بحيث نتخطى الحواجز الشرعية، ونتخطى الحواجز الواقعية العملية، التي أصبحت الأمة الآن حبيسة لها، كل الأمة الإسلامية حبيسة لوضع راهن ثقيل أدى بها إلى الذلة والهوان في جملتها في العموم، وإن كانت بعض البلاد الإسلامية أسلم من بعض، وأنا عندما أذكر ما عليه الأمة من اختلاف وتشتت وفرقة دائماً أستثني دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، الدعوة السلفية التي أبقى الله بها الحق ظاهراً، وجعل أهلها ظاهرين بالحق إلى يومنا هذا بحمد الله، رغم ما عندنا من ضعف ومن تحول بسبب ذنوبنا، لكن نتحدث بنعمة الله التي أنعم علينا بها، ويجب أن نحافظ على النعمة.
كذلك رغم أن أحوال الأمة على مستوى مخز من الذل، إلا أنه -بحمد الله- لا تزال السنة عندنا ظاهرة، لكن مع ذلك نحن مقصرين؛ لأننا لم نقم بتحمل أعباء الأمة كلها، وما أصاب الأمة من الذلة والفرقة والضعف بسبب ذنوب المسلمين، ليس كل شيء نحيله على الكفار، نعم الكفار أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118]، والآن أفواههم ملأت أسماعنا من البغض: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] ليس في هذا شك، لكن أيضاً لا ننسى أننا بذنوبنا وما عند الأمة عموماً من البدع والشتات والفرقة والأهواء والأحزاب والانتماءات والصراعات، بحيث -لا قدر الله- لو انفجرت فتنة بالسلاح أظن أن أكثر المسلمين سيصوبونها إلى بعضهم بعضاً، وأرجو ألا يصدق ظني، لكن نحن نحكي عن سنن الله في خلقه.
مثال حال الذل: الآن (إندونيسيا) كم هم؟ قريب من مائتي مليون مسلم، ومع ذلك تحكمهم امرأة اختاروها هم: (ولا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
خذوا مثالاً آخر: (بنغلادش) أكثر من مائة وعشرين مليون مسلم وتحكمهم امرأة أيضاً كيف اختاروها؟ بالطرق الغربية، بالانتخابات، مجرد ما عرضت صورتها للغوغائية والشباب العاطفي ووجدوا صورتها جميلة رشحوها، هذه أمثلة، وما أحب أن أمرض قلوبكم، لكن يجب أن نعترف بأن الأمة ذليلة، وإذا كانت ذليلة فيجب أن تسعى للعز والقوة، لكن كيف تسعى؟ نعود إلى أصل القضية: هل من خلال تصرفات الأبطال، أن نقفز على حواجز الزمن، وحواجز المكان، وحواجز الظروف، وحواجز القواعد الشرعية، كما يفعل بعض الشباب الآن، إن كنت جاداً فأصلح نفسك وأصلح من حولك، أما الأمور الكبار كهذه فهي لأهل الحل والعقد.
قد يقول قائل: من هم أهل الحل والعقد؟ أهل الحل والعقد هم العلماء والولاة، وهؤلاء من يتصدى لهذه الأمور الكبار، أما أنت من باب نفع المجتمع فيجب أن تسهم بما تستطيع وبما يسعك شرعاً، أما هذا التفلت الآن ومحاولة الخروج من الواقع بغير فقه ولا عقل، فلا.
أما أمر الجهاد، فالجهاد تحت راية من؟ من الذي يقرر الجهاد؟ والجهاد له شروطه وضوابطه وله منهجه، ولا بد للأمور أن تؤخذ بقدر؛ لأن هذه الأمور منوطة بمرجعية الأمة وهم العلماء، ومن تقوم به حاجة الأمة من الولاة وإن كانوا غير صالحين، وإلا ما معنى إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الناصح الأمين، مع أنه يعلم أن الأمة ستمر بفتن مثل هذه الفتن الكبار؟ ومع ذلك أرشد وأمر بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي أصله مملوك، فلا بد من السمع والطاعة، لا نتخطى الحواجز، وكل بلاد لها ظروفها، ونحن الآن في بلد -بحمد الله- فيها ولاية قائمة وأمن، وفيها علماء، وفيها سمع وطاعة وبيعة، فلا نتجاوز الخطوط وحدود الثوابت الشرعية إلى مظنونات، ولا يعني هذا كما يفهم بعض الناس أن معنى هذا أنني أهون من شأن الأحداث القائمة، أو أقول للناس: إن هذا مبرر شرعاً أو غير مبرر، أنا أبرأ إلى الله من ذلك، أنا لا أبرر أن يكون للكافرين سلطان على المسلمين، ولا يجوز ذلك، لكن أيضاً أنا لا أستطيع أن أصنع للأمة ولا أنتم قراراً فعلياً يؤدي إلى منهج رشد، الأمة مصابة في صميمها، مصابة بأمراض البدع والشتات والفرقة، فيجب أن ننتشلها من هذا الواقع، والأحداث القائمة لا بد أن يكون لنا مواقف فيها، لكن المواقف ترجع إلى أهل العلم، ثم أعود إلى ذكر أمر مهم ألا وهو أن الساحة الآن مليئة بمواقف متباينة، كل صاحب موقف يدعي أن موقفه هو الشرعي، إذاً أين الحق؟ وإذا كنا لا ندري أين الحق، فيجب عليك أيها المسلم أن تتوقف ويسعك هذا، يعني: أن تعتزل الفتنة، ولو أن تعض بأصل شجرة، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، إذا لم يتبين لك الحكم الشرعي بوضوح، ولم تطمئن له نفسك بدليل شرعي عن ثقة من العلماء، فيسعك أن تتوقف، كما هو الآن واقع الأمة، آراء متضاربة وأطروحات، وكل يدعي التأصيل الشرعي، وكل يدعي أن قوله هو الصائب، فأنا الذي أنصح به نصيحة أدين الله بها أن نتوقف ولا يكون لنا موقف عملي أو موقف نحكم به على الخلق والأحداث بغير دليل؛ لأن الأمر فيه شيء من عدم الاستقرار.
ثالثاً: أنه يجب على المسلم أن يوالي المؤمنين والمسلمين، وإن كانوا أهل بدع في مثل هذه الظروف، ويبغض الكافرين، وهذه قضية ليس عليها مساومة.
كذلك على المسلم ألا يظاهر المشركين والكفار ضد المسلمين فهذه أيضاً قضية ليس عليها مساومة، لكن يبقى تطبيق الأحداث على هذه القواعد، والأحداث تنقلب فيها الموازين، ففيها يلجأ المسلمون وتلجأ الدول والأفراد إلى ما كانوا يرون أنه محرم؛ لأن الضرورة ألجأتهم، وأرجو وأؤكد ألا تأخذكم العاطفة في تنزيل كلامي على الوقائع، لكنني أقرب لكم المعنى، فمثلاً: دولة إسلامية عندها قوة خطيرة مثل القوة النووية، وهي تعرف أو يغلب على ظنها أنها لو وقفت الموقف الشرعي اللازم لضربت قوتها النووية وأعدم البلد كله، أليس لهذا الحاكم في هذا الظرف أن يدفع المفسدة بمفسدة أهون؟ أليس هذا وارد؟ وإن كانت بصورة من صور مظاهرة المشركين.
إذاً: الأحداث فعلاً ألجأت المسلمين الآن إلى أمور لا تجوز شرعاً، فما عليك أيها المسلم تجاه هذه الأحداث إلا أن تتوقف وأن تتبصر الأمر ولا تستعجل، وليس أمر المسلمين في ذمتك إذا كان ما عندك منهج يقيني، فالله عز وجل يتولى أمر الأمة، لكن عليك الدعاء، والنصح، واللجوء إلى الله عز وجل، فهذا أمر ضروري، كذلك عليك البقاء على الثوابت العقدية، هذا أمر ضروري، ويجب على المسلم أن يصبر فلا يتبنى موقفاً، والمسلمون تحكمهم أحوالهم، كل بلد له أحواله، ونحن الآن في بلد لها أحوالها المعينة، تختلف عن أكثر بلاد المسلمين.
رابعاً: مسألة الكلام في المشايخ والعلماء، لا نشك في علم المشايخ والعلماء وفي إخلاصهم وفي أمانتهم وفي قدوتهم، لكن بعد ذلك نفترض أنهم قد يقعون في تقصير، قد يقع بعضهم في خطأ، قد يقع بعضهم في خلاف، قد يحصل من بعضهم قعود عن الواجب من وجهة نظرنا، كل هذه زلات إن صحت إنها زلات لا تلغي الثوابت، وينبغي أن تفهموا جيداً أن علماءنا هم علماؤنا، ولهم قدرهم في القلوب، ولهم احترامهم، وإن وقعت منهم ما يسميه بعض الناس تقصيرات أو أخطاء، أما أن نلغي اعتبارهم فمن نحن بعدهم؟ ومن الذي نجعله من أهل الحل والعقد والمرجعية للأمة؟ هذا منطق ضروري لا بد للعاقل أن يدركه، أننا إذا طعنا في ذمم مشايخنا وعلمائنا وطعنا في أمانتهم، فمعناه أننا وقعنا في ضرب المسلمات التي يفرح بها العلمانيون ويفرح بها المتشفون ويفرح بها أهل الأهواء والبدع المناوئون لأهل السنة، أما كون قد يقع من بعضهم تقصير أو شيء مما لا نريده، فهذا أمر يترك تحقيقه هل هو صواب أو خطأ، يترك تحقيقه للزمن، وسيأتي يوم من الأيام يدرك أكثر شبابنا أن مواقف المشايخ هي مواقف الرشد في الجملة، والمشايخ في جملتهم أبدو آراءهم في الأحداث، وليس بصحيح أنهم سكتوا، وإنما نحن قصرنا إعلامياً في نشر آرائهم، أو لم يكن هناك القدر الكافي لترويج آرائهم ونشرها، وإلا فكبار المشايخ تكلموا في هذا الوضع فيما يبدو لهم وما يرونه، بغض النظر عن كون هذا الرأي كاملاً أو غير كامل أو شافياً عند بعض أو غير شاف.
النقطة الأخيرة في مسألة: هل الجهاد فرض عين أو غير فرض عين في مثل هذه الظروف؟
أولاً: الجهاد مبدئياً هو فرض كفاية، فإذا دهم العدو بلداً من بلاد المسلمين وجب على أهل هذا البلد جميعهم أن يهبوا للجهاد حسب ظروفهم واستطاعتهم، وفرض العين أحياناً قد يعم الأمة، لكن مع ذلك قد لا نتمكن من القيام بفرض العين ونكون معذورين، قد يقول قائل: إن في هذه الظروف يكون الجهاد فرض عين، وإذا كان فرض عين والوسيلة إليه غير مشروعة، فهل الغاية تبرر الوسيلة؟ فلا بد من أخذ الأمور بالمناهج الشرعية الصحيحة، وبالعمل بقواعد الشرع، من درء المفاسد، وجلب المصالح، وترتيب الأولويات بعضها ببعض، والعمل بأحكام الفتنة، والفتنة تنقلب فيها الموازين، ولا بد أيضاً من تقدير الضرورات، وأن المسئولية ليست مسئولية الأفراد، وهذا الذي يهمني، يعني: لا ينبغي للفرد المسلم إذا لم يتبين له أمر أن يشعر بالتأثم في مسألة عمل يتخطى به الحدود الشرعية والحدود الواقعية، أما فيما يستطيع فيجب عليه أن يبذل ما بوسعه، لا يجوز لأحد منا أن يتخلف فيما يستطيعه، وأقل ما نستطيعه هو أن تتأثر قلوبنا وأن ندعو للمسلمين وأن نناصح، وأن نصلح أحوالنا وأوضاعنا الآن، كم من حدث الآن مروع هز العالم، وهو فعلاً ينذر بشر حتى علينا نحن، فنحن ما علينا إلا أن نعمل بمقتضى شرع الله، ونحن مقصرون تقصيراً ظاهراً، هل بدلنا من أحوالنا شيئاً؟ أبداً، نتابع فقط ما يحدث، مجرد أننا نخاف على المصالح فقط، هذا هو الغالب.
وهناك تحول عاطفي إلى التدين وإلى نصرة الدين، لكنه غير مرشد بالفقه الشرعي، فأقول: هل غيرنا أحوالنا؟ هل لاحظتم فعلاً تغييراً جذرياً على مستوى العمل المؤسسي، ومستوى الدوائر والمسئوليات الكبار، أو مستوى ما دون ذلك؟ أنا ما لاحظت، فنحن لا نزال في تخدير معاصينا، في تخدير تقصيرنا، لا نزال في وطأة ما نسميه المعاصي والذنوب التي تراكمت علينا.
فإذاً: لماذا الإنسان يبعد عن هذا الواقع؟ يجب -إن كنا جادين- أن نستصلح أحوالنا، نتناصح، الرعية تناصح الوالي، والوالي ينصح للرعية، وننصح للدين، وتكون هناك فعلاً أمور ظاهرة تدل على الجدية والرجوع إلى الله عز وجل، والاعتصام بالله في درء هذه الفتنة، أما أن نبقى هكذا في هذا الوضع؛ فالأمر منذر بشر؛ بسبب ذنوبنا، والله عز وجل سيتولى دينه، لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [محمد:38]، وأيضاً الله عز وجل تكفل ببقاء طائفة على الحق ظاهرين، لكن يجب ألا يأخذنا الغرور بأن نسلم فنقول: نحن الظاهرون، لمجرد أمان وأحلام وما كان عليه الأجداد أو ما كنا عليه سابقاً، لا، حالنا تغيرت الآن، نحن الآن عندنا تحول خطير في الفرد والأسرة والمجتمع، وعلى كل المستويات؛ تحول خطير جداً في العقيدة والأخلاق، وفي جميع الأمور الشرعية التي هي العلامة الصحيحة الدالة على أنا أخذنا بالأسباب أو لا.
إذاً: أعود وأختم كلامي بنصيحة لجميع أفراد الأمة بأن يبدءوا بأنفسهم، ويستصلحوا أحوالهم، وليعملوا أنه لا يجوز لهم أن يتخطوا القواعد الشرعية والواقع بأسباب غير مشروعة، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.
نسأل الله للجميع التوفيق والسداد، ونسأل الله أن يحمي الأمة من كيد الكائد، وأن يجمعها على الحق والهدى.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر