قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
[ وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم -وبينهما فرق- فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار القسم.
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، قال ذلك لما قال أنس بن النضر : (تكسر ثنية
وقال: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)، رواه مسلم وغيره.
وقال: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعِّف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)، وهذا في الصحيحين، وكذلك حديث أنس بن النضر ، والآخر من أفراد مسلم ].
سيأتي أمثلة على ما قال الشيخ فيما بعد، لكن ربما يطول الفاصل؛ فنوضح بعض كلام الشيخ.
قوله: (وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم -وبينهما فرق- فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار القسم.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال..) يقصد به أن بعض العبارات التي فيها تأكيد لا تعتبر قسماً، مثل أن تقول: أسألك بحق فلان، لكنها نوع من أنواع التأكيد.
فعلى هذا فإن بعض أهل العلم يرى -وهذا هو الراجح وهو رأي الجمهور- أن السؤال بحق كذا أو بكذا لا يعد قسماً، لكنه مع ذلك تحكمه القاعدة في أن منه ما هو ممنوع ومنه ما هو مشروع، فإذا كان السؤال بالشيء مما هو حق، كأن تقول وأنت تدعو الله: اللهم إني أسألك بحق صلاتي، أو بحق المصلين، أو بحق ممشاي هذا؛ فهذا ليس قسماً على الله، فهذا جائز؛ لأنك سألت بحق مشروع شرعه الله عز وجل، وهو التوسل بالأعمال الصالحة، وقولك: اللهم إني أسألك بحق السائلين: حق السائلين حق كتبه الله عز وجل على نفسه، فالباء هنا في الراجح ليست باء قسم، إنما هي باب السبب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روي في قوله: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) أنه قال: (منهم
وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون: يا براء أقسم على ربك! فيقسم على الله؛ فينهزم الكفار، فلما كانوا على قنطرة بالسوس قالوا: يا براء أقسم على ربك! فقال: يا رب! أقسمت عليك لما منحتنا أكتفاهم وجعلتني أول شهيد؛ فأبر الله قسمه، فانهزم العدو واستشهد البراء بن مالك يومئذ.
وهذا هو أخو أنس بن مالك قتل مائة رجل مبارزة غير من شرك في دمه، وحُمِل يوم مسيلمة على ترس ورُمي به إلى الحديقة حتى فتح الباب.
والإقسام به على الغير أن يحلف المقسم على غيره ليفعلن كذا، فإن حنثه ولم يبر قسمه؛ فالكفارة على الحالف لا على المحلوف عليه عند عامة الفقهاء، كما لو حلف على عبده أو ولده أو صديقه ليفعلن شيئاً ولم يفعله؛ فالكفارة على الحالف الحانث.. ].
الأصل أن الكفارة على الحالف إذا حنث؛ لأنه هو الذي عقد اليمين وانعقدت الكفارة في ذمته، حتى لو أن المحلوف عليه هو الذي تسبب، والغالب أنه إذا كان هناك حالف ومحلوف عليه أن وجود الحنث في اليمين يكون بسبب المحلوف عليه، لكن لا تلزمه الكفارة، إلا أن يتطوع أحد بالكفارة عمن حلف، فهذا لا حرج فيه.
إذا وجدت أحداً عليه يمين ووجدته معسراً؛ فلا حرج أن تتصدق له بصدقة يكفر بها عن يمينه، لكنها في ذمته لا ينوب عنه أحد أصلاً، ولا تكون على غيره من حيث الذمة، فكفارة اليمين لاصقة بذمة الحالف.
والخلق كلهم يسألون الله مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار؛ فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفوراً.
وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون.. ].
هم ناس من عباد الله عز وجل آتاهم الله خصالاً وخصائص في العبادة والورع وسلامة القلب، ترتقي ثقتهم بالله عز وجل إلى درجة أنهم يقسمون على الله، وهذه غالباً تكون من أناس فيهم طيبة قلب مع الاستقامة والعبادة، فقد لا يستشعرون معنى كون الإقسام على الله عز وجل لا يليق، فقوة ثقتهم بالله عز وجل واستقامتهم على دينه، وقوة وتوكلهم عليه سبحانه ويقينهم به وإحسانهم في العبادة، تجعلهم يقسمون على الله من باب الثقة المطلقة بالله عز وجل، والذهول عن أن الإقسام على الله فيه جرأة لا تليق بالمسلم.
ولذلك أكثر ما يكون الإقسام من بعض العوام أو بعض البسطاء الذين فيهم عبادة وصلاح واستقامة، وتتوفر فيهم خصال العبادة والولاية لله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون، فالسؤال كقول السائل لله: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام ].
وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك.
فهذا سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته، وليس ذلك إقساماً عليه، فإن أفعاله هي مقتضى أسمائه وصفاته، فمغفرته ورحمته من مقتضى اسمه الغفور الرحيم، وعفوه من مقتضى اسمه العفو؛ ولهذا لما قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
وهدايته ودلالته من مقتضى اسمه الهادي، وفي الأثر المنقول عن أحمد بن حنبل أنه أمر رجلاً أن يقول: يا دليل الحيارى! دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين.. ].
ولذا أثر عن بعض السلف أدعية تناسب أحوالهم كانت سبب الفرج، فهذا قد يكون نسي الدعاء المأثور، وإلا فلا شك أن الدعاء المأثور أجمع وأعظم وأقرب إلى أحوال العباد، لكن مع ذلك لا يستشعرها كل الناس، إما أن يكون ما استشعر الدعاء المأثور، أو أن الدعاء المأثور غير مفهوم له.
الأمر الآخر: أن الأدعية الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على نوعين:
منها مطلق، ومنها مقيد.
فالأدعية المطلقة الأمر فيها يسير.
والأدعية المقيدة -يعني: المفروضة والمسنونة- لا محيد عن أن يعمل بها الإنسان، فالأدعية التي هي من واجبات الصلاة، أو الأدعية التي هي من مفاتيح العبادات مثل التلبية بالحج، لا شك أنها توقيفية في أصلها، بمعنى أنه ينبغي أن نتعبد الله بها في مواضعها.
فالأدعية المخصوصة في العبادة نلتزم فيها ما ورد فيها في الشرع إذا كانت واجبة أو مفروضة، أو كانت مستحبة أو مسنونة؛ فالواجب يجب استعماله، والمسنون أولى من غيره، لكن هناك أنواع أخرى من الأدعية مطلقة، ليست مقيدة، بأحوال ولا بأوقات، فهذه الأمر فيها أسهل، ومع ذلك يبقى الأصل أن الأدعية المأثورة أفضل، وأقرب لإجابة الدعاء؛ لأنها صادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم بما يناسب أحوال العباد مما علمه الله، ولأنه أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم التزامها في كل حال، إلا ما لزم منها شرعاً.
إذاً فباب الدعاء مطلق، أقول هذا لأنه تكثر الأسئلة في هذا الباب، حتى أن بعض الناس يستوحش وينكر بعض الأدعية التي لم يسمع بها، أو لم ترد في كتب السنة، فأقول: لا حرج في ذلك ما دامت بألفاظ صحيحة صريحة بينة، أما إذا كانت بألفاظ بدعية فلا شك أنها بدع، أو إذا كانت بألفاظ مجملة، فالألفاظ المجملة تحتمل حقاً وباطلاً؛ فالأولى أن تجتنب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: سبحان الله! فرق بين الصورتين، قصة البراء رضي الله عنه تحفها أصول شرعية:
أولاً: في معركة قائمة لها قائد.. تحت ولاية.. تحت خليفة من الخلفاء الراشدين، وقائد من قواد المسلمين، معركة معلنة بين قوة وقوة، بين المسلمين والكفار، تحت راية جهاد حقيقية ليست عمية، يعرف وجهها ويعرف هدفها وغايتها.
أما ما يحدث في فلسطين وغيرها فإن الإنسان ينتحر ويفجر نفسه دون قيادة، ودون أن يكون الجهاد معلناً؛ فهذا نوع من التهور مهما كان مبرره، فهو تهور على أي حال، وهو إلقاء بالنفس إلى التهلكة.
وهذه الصورة غير جائزة أن الإنسان يقوم بمثل هذا العمل الانتحاري بلا راية معلنة وبلا جهاد معلن، فهذا انتحار وقتل للنفس، وقتل للأبرياء لا يجوز، حتى لو كانوا بغير حرب معلنة، وإذا لم يكن تحت راية شرعية ظاهرة؛ فإنه لا يجوز، ولو كان قتل كافراً، الكافر إذا كان يعيش في سلم، ولو في بلاد المسلمين، فلا يجوز إتلاف حياته بهذه الصورة، وإلا لو قلنا هذا لوقعت فتن لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولو فتح هذا الباب وقع الهرج والمرج الذي ينتهي إلى ما يعنت المسلمين ويوقعهم في أشد الفتن والحرج.
فأقول: فرق بين الصورتين ولا قياس، ولا أعرف في عهود السلف أنه في مثل الظروف التي وقع فيها الفلسطينيون يستعمل المسلم مثل هذه الأساليب.
فقد وقع المسلمون تحت حكم الصليبيين قريباً من مائة سنة في فلسطين نفسها، وما عملوا هذه الأعمال الانتحارية، حتى قامت راية جهاد تحت ولاية صلاح الدين الأيوبي فقاموا معه.
وكانوا قبل ذلك أقدر منا على العمليات الانتحارية وما عملوها.
والباطنية حكمت جزيرة العرب ومصر وبلاد المغرب عشرات السنين، ومع ذلك ما لجأ أحد إلى هذه العمليات مع هؤلاء الباطنية الكفار الذين عبثوا بدين المسلمين وأعراضهم، ولا أعرف أن عالماً من العلماء أجاز للمسلمين أن يفعلوا مثل هذا الفعل.
فهؤلاء يشتغلون بغير فقه، ومفتوهم ليسوا فقهاء ولا من الراسخين في العلم، وإن وجدت بعض الفتاوى في هذا فهي خاطئة، وما هي إلا لإيقاع الفتنة ووقوع هؤلاء المساكين في مثل هذه التصرفات العاطفية التي لا أصل لها، بل هي داخلة في الراية العمية التي صاحبها مقتول في سبيل الجاهلية.
هذا ما يظهر لي، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر