ولا منافاة بين القولين، فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب بل غلط فيه؛ ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع.
وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره وقالوا: إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك، لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء.
وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق المصنوع الذي تعمّد صاحبه الكذب، والكذب كان قليلاً في السلف.
أما الصحابة فلم يعرف فيهم -ولله الحمد- من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، فلم يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفرق ].
نعم جاءت الأهواء من بعدهم وانتشرت فحدث الكذب، لكن الذين كذبوا كانوا من دون الصحابة أو كذبوا على الصحابة، أما الصحابة رضي الله عنهم فلم يعرف فيهم من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معروف بالاستقراء فضلاً عن أنه من لوازم عصمة هذا الدين وثبات الوحي وحفظه.
الفائدة الثانية: قال: (كما لم يُعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة)، أي أن الصحابة لم يكن منهم أحد من أهل الأهواء والفرق، نعم الصحابة رضي الله عنهم كسائر البشر قد يقع منهم أخطاء عن اجتهاد لكن لا يتعلق ذلك بالدين، ولم يُعرف أبداً من خلال استقراء حياة الصحابة أن أحداً من الصحابة ابتدع في الدين أو تابع الفرق.
الفرق التي ظهرت في عهد الصحابة من الفرق المشهورة ثلاث فرق فقط: الرافضة بفرقها الأولى، والخوارج، والقدرية.. هذه الفرق خرجت في عهد الصحابة ولم يكن أحد من الصحابة قال ببدعة من بدع هؤلاء ولا بغيرها من البدع، هذه أيضاً فائدة عظيمة يجب أن نفهمها جيداً، وهذا معلوم بالاستقراء فضلاً عن أنه من الأصول التي هي من حق الصحابة رضي الله عنهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا كان فيهم من قال: إنه أتاه الخضر، فإن خضر موسى مات كما بُيّن هذا في غير هذا الموضع ].
حتى لو قيل أن الخضر لم يمت وهو خلاف ضعيف، فإنه لم يحدث من أحد من الصحابة أن ادّعى أنه يأتيه الخضر، وهذا رد على أهل البدع من الصوفية ومن سلك سبيلهم، فإنهم لا يزالون يدّعون أن الخضر يأتيهم، وأنهم يستمدون منه أشياء من الدين، ويعتمدون عليه وعلى الرواية عنه وعلى فعله في كذبهم وفي بدعهم العلمية والعملية والاعتقادية.
وأنا أعرف ممن أتاه الخضر وكان جنياً مما يطول ذكره في هذا الموضع.
وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس، وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة وذهبت به إلى عرفات ليقف بها كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات كما قد بُسط الكلام على ذلك في مواضع.
وأما التابعون فلم يعرف تعمد الكذب في التابعين من أهل مكة والمدينة والشام والبصرة، بخلاف الشيعة فإن الكذب معروف فيهم، وقد عرف الكذب بعد هؤلاء في طوائف ].
يشير بهذا إلى أن التشيع في ذلك الوقت في الكوفة، ولذلك استثنى مكة والمدينة والشام والبصرة ولم يستثن الكوفة.
قال رحمه الله تعالى: [ وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل في الصحابة من قد يغلط أحياناً وفيمن بعدهم؛ ولهذا كان فيما صنف في الصحيح أحاديث يعلم أنها غلط وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يُعلم أنه حق.
فالحافظ أبو العلاء يعلم أنها غلط، والإمام أحمد نفسه قد بيّن ذلك وبيّن أنه رواها لتعرف، بخلاف ما تعمد صاحبه الكذب.
ولهذا نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروي عنهم أهل السنن كـأبي داود والترمذي مثل نسخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وإن كان أبو داود يروي في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده أجود من شرط أبي داود في سننه.
والمقصود أن هذه الأحاديث التي تروى في ذلك من جنس أمثالها من الأحاديث الغريبة المنكرة، بل الموضوعة، التي يرويها من يجمع في الفضائل والمناقب الغث والسمين، كما يوجد مثل ذلك فيما يصنف في فضائل الأوقات، وفضائل العبادات، وفضائل الأنبياء والصحابة، وفضائل البقاع ونحو ذلك..، فإن هذه الأبواب فيها أحاديث صحيحة، وأحاديث حسنة، وأحاديث ضعيفة، وأحاديث كذب موضوعة، ولا يجوز أن يُعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة.
لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يُعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب ].
أما السلف رضي الله عنهم فلا يعتمدون في أصل من أصول الدين، ولا في قضية قطعية، ولا في حكم قطعي، ولا في مسألة من المسائل التي عليها جمهورهم على دليل ضعيف أبداً، وكل ما عُد من أصول الدين ومن المسائل القطعية يستند على دليل صحيح، إما آية وإما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وإما من قاعدة شرعية تعتمد على عدة نصوص أو إجماع..
كل ما كتبه السلف في أصول الدين يعتمد على هذا النهج في الاستدلال، ليس عند السلف من مناهجهم شيء يعتمد على دليل ضعيف أو لم يثبت، لكن بعد استدلالهم على كل مسألة بالدليل الثابت من القرآن والسنة قد يحشدون الآثار الضعيفة، من باب الاعتضاد لا من باب الاعتماد.
ومعروف أن الآثار الضعيفة قد تكون أكثر من الصحيحة، كما فعل الآجري وكما فعل عبد الله بن الإمام أحمد ، وكما فعل اللالكائي وابن خزيمة وغيرهم من الأئمة قديماً وحديثاً حيث يستدلون على المسألة بدليل صحيح أو دليلين أو ثلاثة أو أربعة، ثم يحشدون عشرات الأدلة الضعيفة، فيظن هذا الجاهل أن هذا الحشد هو الدليل، وليس الأمر كذلك، فهم من عادتهم إذا توثقوا من المسألة الشرعية بدليلها أن يحشدوا الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت ضعيفة ما دام الأصل صحيحاً، ثم الآثار عن الصحابة وعن التابعين، بل وحتى الأشعار والمنامات، فهذا من باب الاعتضاد لا من باب الاعتماد.
ومع ذلك كما قال الشيخ لا يستدل أحد من الأئمة بدليل يرى أنه موضوع، لكن كثيراً من الحديث الضعيف هو بمنزلة الحسن فيستدلون به للاعتضاد لا للاعتماد، وإنما كررت هذه المسألة لأنها ظهرت الآن بمذكرات وبمقالات نشرت وشاعت بين طلاب العلم من قِبل أحد المفتونين الذي بدأ ينهش لحوم السلف كما نهج أسلافه، وحسبنا الله ونعم الوكيل!
هذه فائدة كما قلت، بل قد تضمن هذا المقطع فائدتين:
الفائدة الأولى: أن العمل إذا عُلم أنه مشروع بدليل شرعي وروي في فضله حديث لا يُعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقاً؛ لأن الأصل موجود.
الفائدة الثانية: لم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يُجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، هذه أيضاً قاعدة ذهبية يجب أن نفهمها جيداً، وإذا استدل بعض الأئمة في حديث نرى أنه ليس له أصل أو غير صحيح أو ضعيف، فإن المستدل به يرى له وجهاً من القوة، كأن يكون عنده بمثابة الحسن، كما قيل عن الإمام أحمد إنه أحياناً يستدل بالضعيف، والضعيف عنده مثل الحسن عند كثير من أئمة الحديث.
وهذا كالإسرائيليات يجوز أن يروى منها ما لم يُعلم أنه كذب للترغيب والترهيب فيما علم أن الله تعالى أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا.
فأما أن يثبت شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم، ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة.
ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه.
ولكن كان في عُرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح، وضعيف.
والضعيف عندهم ينقسم إلى: ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى: مرض مخوف يمنع التبرع من رأس المال، وإلى ضعف خفيف لا يمنع من ذلك ].
ويقصد بذلك أن المريض إذا كان مرضه مميتاً فقد لا تُقبل بعض تصرفاته فيما يتعلق بماله، كالتبرع من رأس المال، أما إذا كان المرض خفيفاً فلا يمنع من ذلك فيبقى له حق التصرف.
والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ.
فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً ويحتج به، ولهذا مثّل أحمد الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما، وهذا مبسوط في موضعه ].
ولذلك مما ينبغي أيضاً أن يفهمه طالب العلم جيداً أنه ليس في أصول الدين وفي أمور العقيدة المتفق عليها أو التي عليها جمهور السلف ما يكون دليله ضعيفاً ولا حسناً ولا حتى حديث آحاد، أقصد حديث آحاد لم تحف به قرائن، فالآحاد نوعان: آحاد تحف به قرائن تدل على صحته، وهذا هو الذي استدل به السلف على كثير من قضايا العقيدة، بمعنى أنه آحاد لكنه صحيح حتى عند الذين يطعنون في دلالة الآحاد؛ لأنهم أخذوا مسألة دلالة حديث الآحاد مجردة عن القرائن التي تحف بالحديث وتقويه، لكنهم يتفقون مع جمهور السلف على أن الآحاد إذا كانت معه قرائن تحف به وتدل على صحته أو الجزم بأنه يقيني فإنه يستدل به، ومع ذلك فإنه لم يحدث أن أصلاً من أصول الدين القطعية الكبرى كان دليله دليل آحاد لا تدعمه أدلة أخرى، أو شواهد، أو قواعد، أو إجماع، أو قرائن تحف به، وتجعله بمنزلة الحديث الصحيح القطعي.
ومثل ذلك أيضاً فيما يتعلق بالحديث الضعيف، ليس هناك قضية تعبدية شرعية كبرى استدل لها السلف بحديث ضعيف، إلا كما قالوا في باب الفضائل، والفضائل لها قواعدها.. ولها دلالات ترجع إلى نصوص كثيرة تدخل في قواعد الشرع، فمن هنا قد يستدل بعض السلف على بعض الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف، لكن فيما يرجع إلى قواعد الشرع ولا ينافي قواعد الشرع.
هذا الاستطراد كله لتثبيت الدلالة عند السلف، وليقول إنه لم يحدث أن وجد دليل صحيح يدل على ما ذهب إليه أصحاب التوسلات البدعية، ولا حتى دليل على أدنى درجة من الدرجات التي يستدل بها السلف على الفضائل، أي: إذا كان السلف يستدلون بالحديث الحسن ويستأنسون بالضعيف الذي ليس بموضوع في تأييد بعض الفضائل التي لها أصل في الشرع، فإن هذا لم يوجد في مسألة التوسل البدعي، فليس هناك ما يصح ولا يقوى دليل على ما يقول به هؤلاء المبتدعة.
وأقول: الشيخ أراد أن يصل إلى هذه النتيجة، ليبّن أنهم ليس لهم فيما يذهبون أي دليل ولا شبهة دليل.
مثل الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده: (أن
وهذا الحديث ذكره رزين بن معاوية العبدري في جامعه، ونقله ابن الأثير في جامع الأصول ولم يعزه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكنه قد رواه من صنف في عمل يوم وليلة كـابن السني وأبي نعيم .
وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز الاعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء.
وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل الأعمال، وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة كذب موضوعة.
ورواه أبو موسى المديني من حديث زيد بن الحباب عن عبد الملك بن هارون بن عنترة ، وقال: هذا حديث حسن مع أنه ليس بالمتصل.
قال أبو موسى : ورواه محرز بن هشام عن عبد الملك عن أبيه عن جده، عن الصدّيق رضي الله عنه، وعبد الملك ليس بذاك القوي، وكان بالري، وأبوه وجده ثقتان.
قلت: عبد الملك بن هارون بن عنترة من المعروفين بالكذب.
قال يحيى بن معين : هو كذاب.
وقال السعدي : دجال كذاب.
وقال أبو حاتم بن حبان : يضع الحديث.
وقال النسائي : متروك.
وقال البخاري : منكر الحديث.
وقال أحمد بن حنبل : ضعيف.
وقال ابن عدي : له أحاديث لا يتابعه عليها أحد.
وقال الدارقطني : هو وأبوه ضعيفان.
وقال الحاكم في كتاب المدخل: عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني روى عن أبيه أحاديث موضوعة.
وأخرجه أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات.
وقول الحافظ أبي موسى : هو منقطع يريد أنه لو كان رجاله ثقات فإن إسناده منقطع.
وقد روى عبد الملك هذا الحديث الآخر المناسب لهذا في استفتاح أهل الكتاب به كما سيأتي ذكره، وخالف فيه عامة ما نقله المفسرون وأهل السير، وما دل عليه القرآن، وهذا يدل على ما قاله العلماء فيه من أنه متروك؛ إما لتعمده الكذب، وإما لسوء حفظه، وتبين أنه لا حجة لا في هذا ولا في ذاك ].
وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن مسلم الفهري عن إسماعيل بن مسلمة عنه. وقال الحاكم : وهو أول حديث ذكرته لـعبد الرحمن في هذا الكتاب، وقال الحاكم : هو صحيح.
ورواه الشيخ أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة موقوفاً على عمر من حديث عبد الله بن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم موقوفاً.
ورواه الآجري أيضاً من طريق آخر، من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه موقوفاً عليه، وقال: حدثنا هارون بن يوسف التاجر ، حدثنا أبو مروان العثماني ، حدثني أبو عثمان بن خالد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم: قال: اللهم إني أسألك بحق محمد عليك، قال الله تعالى: وما يدريك ما محمد؟ قال: يا رب رفعت رأسي فرأيت مكتوباً على عرشك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك ].
قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي ، والدارقطني وغيرهم.
وقال أبو حاتم بن حبان : كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثُر ذلك من روايته، من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك.
وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله، فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث.
كما صحح حديث زريب بن بثرملي الذي فيه ذكر وصي المسيح، وهو كذب باتفاق أهل المعرفة كما بين ذلك البيهقي وابن الجوزي ، وغيرهما.
وكذلك أحاديث كثيرة في مستدركه يصححها، وهي عند أئمة أهل العلم بالحديث موضوعة.
ومنها ما يكون موقوفاً يرفعه.
ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم ، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه، بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي ، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً.
وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم .
ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم ، ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري ، بل كتاب البخاري أجل ما صُنف في هذا الباب، والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه.
ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثاً اختُلف في إسناده أو بعض ألفاظه أن يذكر الاختلاف في ذلك لئلا يُغتر بذكره له بأنه إنما ذكره مقروناً بالاختلاف فيه.
ولهذا كان جمهور ما أُنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه.
كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روي أنه صلى بركوعين.
والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين، وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم ، وقد بين ذلك الشافعي ، وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم ، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب.
وكذلك روى مسلم : (خلق الله التربة يوم السبت).
ونازعه فيه من هو أعلم منه كـيحيى بن معين والبخاري وغيرهما، فبينوا أن هذا غلط ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
والحجة مع هؤلاء، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأن آخر ما خلقه هو آدم وكان خلقه يوم الجمعة، وهذا الحديث المختلف فيه يقتضي أنه خلق ذلك في الأيام السبعة.
وقد روي إسناد أصح من هذا أن أول الخلق كان يوم الأحد.
وكذلك روى أن أبا سفيان لما أسلم طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بـأم حبيبة ، وأن يتخذ معاوية كاتباً، وغلطه في ذلك طائفة من الحفاظ.
ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وبسط الكلام في هذا له موضع آخر ].
قال: ويروى: محمد عبدي ورسولي، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك، فتاب عليه وغفر له.
ومثل هذا لا يجوز أن تُبنى عليه الشريعة ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين، فإن هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها التي لا يعلم صحتها إلا بنقل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه لو نقلها مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما ممن ينقل أخبار المبتدأ ].
يعني مبتدأ الخلق.
[ وقصص المتقدمين عن أهل الكتاب لم يجز أن يُحتج بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين، فكيف إذا نقلها من لا ينقلها لا عن أهل الكتاب ولا عن ثقات علماء المسلمين، بل إنما ينقلها عمن هو عند المسلمين مجروح ضعيف لا يُحتج بحديثه، واضطرب عليه فيها اضطراباً يُعرف به أنه لم يحفظ ذلك، ولا ينقل ذلك ولا ما يشبهه أحد من ثقات علماء المسلمين الذين يُعتمد على نقلهم، وإنما هي من جنس ما ينقله إسحاق بن بشر وأمثاله في كتب المبتدأ، وهذه لو كانت ثابتة عن الأنبياء لكانت شرعاً لهم، وحينئذ فكان الاحتجاج بها مبنياً على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ والنزاع في ذلك مشهور.
لكن الذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهذا إنما هو فيما يثبت أنه شرع لمن قبلنا من نقل ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أو بما تواتر عنهم، لا بما يروى على هذا الوجه، فإن هذا لا يجوز أن يحتج به في شرع المسلمين أحد من المسلمين ].
الخلاصة أن هذه الأدلة لا تثبت، وهي من عُمد أهل البدع الذين يتوسلون التوسلات البدعية، والذين ينسجون أيضاً عليها عقائد باطلة فيما يتعلق بقصة آدم، وفيما يتعلق بما رآه وما شاهده من حول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يعني عدم القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق، ولا يعني أن الأنبياء عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم وأن الإيمان به من أصول دينهم، هذا أمر آخر له أدلته، لكن الذي يُنكره الشيخ هنا الجانب الذي يتعلق بالتوسل البدعي.
أما الجوانب الأخرى فلها أحاديث أخرى تدل عليها، أي ما يتعلق بفضل النبي صلى الله عليه وسلم وأن آدم عرفه وآمن به، وأن الأنبياء كلهم أوصاهم الله عز وجل وأوصى أممهم بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهذا له أدلة أخرى، مع أن في بعض جزئياته نزاعاً، لكن ما يتعلق بهذه الحكايات التي يتذرّع بها أهل البدع في الاستدلال على التوسل البدعي لا تثبت على نحو ما ذكر الشيخ، وما سيذكره إن شاء الله.
الجواب: نعم، لأن النصوص متواترة على أن خلق السماوات في ستة أيام تبدأ بالأحد كما ورد في نصوص أخرى، فالأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والتي هي آخر الخلق خلق الله بها آدم، يبقى السبت لم يدخل في أيام الخلق، فيكون في الحديث شذوذ من عدة اعتبارات، وإن كان بعض أهل العلم وجهه بتوجيه متكلّف؛ لكن الشذوذ في متن الحديث ظاهر.
الجواب: سبق الكلام عن هذا، وهو أن الإجماع المقصود به الإجماع المعتبر، وهو إجماع الصحابة في وقتهم قبل الافتراق، ثم اجتماع أهل الحق بعد الافتراق، والإجماع مبناه الكتاب والسنة، بمعنى أنه ليس هناك إجماع إلا مبني على نص أو عدة نصوص.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر