القسم الأول: أن المقصود بالتوسل العبادة والطاعة، يعني التوسل بالأعمال الصالحات، وهذا هو المشروع والمطلوب من جميع العباد، أن يتوسلوا إلى الله بأعمالهم في تحقيق ما يرجونه من منافع لهم في الدنيا والآخرة، فهذا القسم لا غُبار عليه، وهو مجمع عليه، وهو الأصل في التوسل.
القسم الثاني: التوسل بمعنى طلب الدعاء من الغير، أو طلب الشفاعة من الحي في أمر يقدر عليه، خاصة فيما يتعلق بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، سواء كان التوسل بدعائه أو ما يتفرع عن ذلك من توسع في معنى التوسل، وهو التبرك بأشياء النبي صلى الله عليه وسلم وبذاته، وهذا قد يسمى توسلاً، وهو مشروع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبما بقي من آثاره.
القسم الثالث: التوسل بمعنى الإقسام على الله عز وجل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أو الإقسام على الله بالأشخاص، كالأنبياء والصالحين.
وهذا هو القسم الثالث الذي سيتكلم عنه الشيخ الآن، ويذكر تفاصيله والقول الحق فيه.
إذاً القسم الثالث قسّمه الشيخ هنا إلى نوعين: الإقسام به يعني بذاته، أو السؤال به.
وأحياناً يختلط الأمران، بمعنى أنه تحتمل الصيغة المعنيين، كأن يقول الطالب من الله عز وجل: أسألك بفلان، قد يُقصد بهذا المعنى القسم، وقد يُقصد بهذا المعنى التوسل، وكلها أيضاً تسمى توسلاً.
قال رحمه الله تعالى: [ وإن كان في العلماء من سوغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى عنه، فتكون مسألة نزاع كما تقدم بيانه ].
يقصد الشيخ أنه هنا قد يرد عن بعض أهل العلم إجازة مثل هذا العمل البدعي، لكن هذا من باب الزلة من العالم أو الاجتهاد الخاطئ، فيقول: لا ينبغي للناس أن يستدلوا على هذه البدع بأقوال أو أفعال حدثت لعلماء معتبرين؛ لأن هذا مما نازع فيه آخرون وهم الذين معهم الدليل.
فإذاً: عند التنازع في مثل هذه الأمور يرد الأمر إلى الكتاب والسنة، ويريد شيخ الإسلام أن يصل إلى نتيجة وسيقولها فيما بعد، أننا عندما رددنا هذه الأمور إلى الكتاب والسنة وهي الإقسام على الله، أو التوسل بالذوات أو نحو ذلك، وجدناها ممنوعة بصريح النصوص.
إذاً: لا يحتج بقول من خالف في ذلك، مع العلم أن من نُقل عنهم ذلك إما أن يكون النقل مكذوباً أو محرّفاً أو يكون عن اجتهاد خاطئ إن ثبت، وهذا قليل نادر.
وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله لا بالأنبياء ولا بغيرهم كما سبق بسط الكلام في تقرير ذلك.
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا نذر شرك لا يوفى به.
وكذلك الحلف بالمخلوقات لا ينعقد به اليمين، ولا كفارة فيه، حتى لو حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه كما تقدم ذكره، ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء كـمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، بل نهى عن الحلف بهذه اليمين، فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله؟ ].
لا يجوز أن يحلف الرجل بالمخلوقات ولا يقسم بالمخلوقات على مخلوق، فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله؟ بمعنى أنه لا يجوز للإنسان أن يعقد يمينه بمخلوق على مخلوق ولا يليق ذلك، فكيف يعقد اليمين بمخلوق يُقسم به على الله؟ هذا أمر عظيم مستنكر في أصول الشرع وقواعده ونصوصه.
فإن هذا إنما يفعله من يفعله على أنه قربة وطاعة، وأنه مما يستجاب به الدعاء ].
يقصد أن الذين يفعلون هذه الممنوعات من الحلف بغير الله، الإقسام على الله بخلقه أو التوسل بالأنبياء والصالحين بذواتهم أو نحو ذلك.. كل هذا يُفعل من الذين يفعلونه على وجه التعبّد، ولو كانت المسألة من الأمور العادية لكان الأمر أسهل، لكنهم يفعلون ذلك تعبداً لله وتقرباً إليه.
فمن هنا يريد الشيخ أن يجر الخصوم إلى الأصل، وهو أن التعبد الأصل فيه الشرع، فيقول: ما دمتم تتعبدون بهذه الألفاظ وترون أنها من أمور القربة والطاعة، فلا بد أن تُرجع إلى أصلها، وهو أن القربة لا بد أن يكون لها أصل في الدين، ليست من قبيل العادات؛ لأنها لو كانت عادات ما تقربتم بها وجعلتموها من أصول القربات والتعبد لله عز وجل، فما دام أنكم تتعبدون إذاً نعيد هذه الألفاظ والتوسلات إلى القواعد الشرعية، فإذا كان لها أصل في الشرع نتعبد بها، وإن لم يكن لها أصل في الشرع فتكون بدعة مردودة.
قال رحمه الله تعالى: [ وما كان من هذا النوع فإما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحباً، وكل ما كان واجباً أو مستحباً في العبادات والأدعية فلا بد أن يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن واجباً ولا مستحباً ولا يكون قربة وطاعة ولا سبباً لإجابة الدعاء، وقد تقدم بسط الكلام على هذا كله.
فمن اعتقد ذلك في هذا أو في هذا فهو ضال ].
قوله: (في هذا أو في هذا)، يقصد السؤال بالمخلوقين والإقسام على الله بهم، ويدخل في ذلك بالتبع الحلف بالمخلوق.
قال رحمه الله تعالى: [ فمن اعتقد ذلك في هذا أو في هذا فهو ضال وكانت بدعته من البدع السيئة، وقد تبين بالأحاديث الصحيحة وما استقرئ من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن هذا لم يكن مشروعاً عندهم.
وأيضاً فقد تبيّن أنه سؤال لله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء، وأنه كالسؤال بالكعبة والطور والكرسي والمساجد وغير ذلك من المخلوقات، ومعلوم أن سؤال الله بالمخلوقات ليس هو مشروعاً، كما أن الإقسام بها ليس مشروعاً بل هو منهي عنه، فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق ولا يسأله بنفس مخلوق، وإنما يسأل بالأسباب التي تناسب إجابة الدعاء كما تقدم تفصيله ].
والحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وفيه: (بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا).
رواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة، وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته) ].
هذا الحديث سيتكلم عنه الشيخ ويبيّن أنه ضعيف ولا يكون حجة في مثل هذه الأمور، لكن هذه العبارة ذكر الشيخ في مواضع كثيرة من كتبه، وذكر غيره، وسيذكر أيضاً هنا أن مسألة الكلام بحق السائلين كلام مجمل؛ لأن الإنسان إذا طلب الله عز وجل أو دعا الله بحق السائلين فيحتمل هذا عدة احتمالات، نكتفي منها باحتمالين، الاحتمال الأول: أن يقصد بذلك ما وعد الله به من حق لا يقصد الإجابة على الله، فهذا ربما يكون مشروعاً لكن يجب أن يتفادى كلمة (حق السائلين)، يقول: اللهم إني أسألك بعملي هذا؛ لأن الله عز وجل وعد المؤمنين بأن يجزيهم على الأعمال الصالحة، بمعنى أن يتوسل إلى الله بعمله كما فعل أصحاب الغار الذين سيذكر قصتهم الشيخ بعد قليل، فهذا من الأمور المشروعة، لكن العبارة فيها لبس، وإن قصد المعنى الآخر أو الاحتمال الآخر وهو أنه يعتقد أن لله حقاً على العباد غير ما أوجبه الله على نفسه، كما تقول المعتزلة: يجب على الله أن يجزي المطيع وأن يعذّب العاصي من باب الإلزام من المخلوق للخالق.. فهذا لا يجوز.
إذاً: العبارة فيها معنى حق ومعنى باطل، والشيخ رد الحديث من حيث إنه ضعيف في السند، لكن هذه العبارات لها معانٍ قد تكون صحيحة، فينبغي أن نتنبه لذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد ، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم.
وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف أيضاً، ولفظه لا حجة فيه، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك.
وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه في الغار بأعمالهم، فإنه سأله هذا ببره العظيم لوالديه، وسأله هذا بعفته العظيمة عن الفاحشة، وسأله هذا بأدائه العظيم للأمانة ].
قوله: (هذا)، يعني حق السائلين وهو التوسل بالعمل الصالح، وهو القسم الأول الذي سبق ذكره عند تقسيم التوسل، وهذا استطراد من الشيخ ليبيّن وجوه التشابه بين هذه الأقسام والوجه الجائز والوجوه الباطلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لأن هذه الأعمال أمر الله بها ووعد الجزاء لأصحابها، فصار هذا كما حكاه عن المؤمنين بقوله: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193].
وقال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:109].
وقال تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:15-16].
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في السحر: اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي ].
وإذا قيل: إن ذلك مأمور به أو مباح.. فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، أو يقال: بل يشرع بالمخلوقات المعظّمة أو ببعضها، فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن فهذا لا يقوله مسلم ].
الشيخ سيفيض في هذه المسألة، من باب حصر الخصوم لئلا يكون لهم وجوه يستدلون بها.
يقول: إذا قلتم إنه يجوز الإقسام بشيء من المخلوقات على الله عز وجل، فما هي هذه المخلوقات، ربما يقولون: الأمور المعظّمة عند الله عز وجل.
يقول: ما هي الأمور المعظّمة؟ ربما يقولون: الأنبياء والرسل مثلاً، أو يقولون: كذا وكذا، قد يقولون مثلاً: كعبة أو نحو ذلك، فهم يخصصون أشياء، فواقع أهل البدع الذين يقسمون بالأشياء أو بالمخلوقات على الله كل منهم يقسم بشيء دون شيء، أي أنهم لا يقسمون بجميع المخلوقات المعظّمة، ولا يرون ذلك مشروعاً، فالشيخ هنا سيأخذهم بهذا ويقول: لِم فرّقتم بين شيء وشيء؟ ثم يضرب أمثلة ويقول لهم: لو أن أحداً أقسم بكذا وكذا من الأمور المعظّمة لقلتم: هذا ممنوع، إذاً: فلماذا جعلتم الإقسام بالأنبياء والصالحين وبعض الأشجار والأحجار يقسم بها، وما يماثلها أو يشابهها من الأمور المعظّمة التي عظّمها الله عز وجل أو أقسم بها في كتابه تجعلون الإقسام بها غير مشروع؟ لِم فرّقتم بين هذا وذاك؟ ثم سيقول: إن هذا التفريق مثل التفريق بين النبيين، فالله عز وجل جعل من آمن ببعض وكفر ببعض كافراً، فكذلك أنتم حينما أقسمتم بأشياء دون أشياء تناقضتم، ولو قيل لكم: أقسموا بجميع الأشياء المعظّمة منعتم ذلك.
بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات، وذكروا إجماع الصحابة على ذلك، بل ذلك شرك منهي عنه، ومن سأل الله بها لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح، والسحاب، والكواكب، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والتين، والزيتون، وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت، والصفا، والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ومنى..، وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم ذلك أن يسأله بالمخلوقات التي عُبدت من دون الله، كالشمس، والقمر، والكواكب، والملائكة، والمسيح، والعزير، وغير ذلك مما عبد من دون الله ومما لم يعبد من دونه.
ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام ].
يقصد بذلك أنه قد اتفق الخاص والعام على أن الإقسام بهذه المخلوقات من أعظم البدع، إذاً فتخصيص بعضها لا دليل عليه، لأنه قد يوجد من يقسم ببعض المخلوقات التي أقسم الله بها، أو التي عظّمها الله عز وجل، فيقول: ما دام هناك اتفاق على أن كثيراً من هذه الأمور لا يجوز الإقسام بها، فما الدليل الذي خصص به هؤلاء المبتدعة الإقسام ببعضها دون بعض.
قال رحمه الله تعالى: [ ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالأقسام والعزائم التي تكتب في الحروز والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزّمون.
بل ويقال: إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم والأقسام التي يقسم بها على الجن مشروعة في دين الإسلام، وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من الإسلام بل ومن دين الأنبياء أجمعين ].
يقصد الشيخ هنا أن كثيراً من الذين يضعون العزائم ويضعون المعلقات التي يعلقون بها تمائم وغيرها، يضعون من ضمن عباراتها الإقسام على أحد من الخلق بأن ينفع هذا الشخص أو يدفع عنه الضر، أو يشفيه من مرضه إلى آخره، فبعض الإنس يقسمون على بعض الجن أو على بعض الإنس والعكس كذلك، ويكتبون ذلك ضمن هذه الأمور سواء عزائم أو غيرها.
قيل له: بعض المخلوقات وإن كانت أفضل من بعض فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها نداً لله تعالى، فلا يُعبد ولا يُتوكل عليه ولا يُخشى ولا يُتقى ولا يُصام له ولا يُسجد له ولا يُرغب إليه، ولا يُقسم بمخلوق، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت)، وقال: (لا تحلفوا إلا بالله).
وفي السنن عنه أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك).
فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ولا فرق بين نبي ونبي.
وهذا كما قد سوى الله تعالى بين جميع المخلوقات في ذم الشرك بها وإن كانت معظمة. قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80]، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57].
قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة، فقال تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي.
وقد قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52].
فبيّن أن الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وبيّن أن الخشية والتقوى لله وحده، فلم يأمر أن يُخشى مخلوق ولا يُتقى مخلوق.
وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، وقال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8].
فبيّن سبحانه وتعالى أنه كان ينبغي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله، ويقولوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون، فذكر الرضا بما آتاه الله ورسوله؛ لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، ووعده ووعيده.. فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله، والأموال المشتركة، كمال الفيء والغنيمة والصدقات عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها، وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك، ثم قال تعالى: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ [التوبة:59]، ولم يقل: ورسوله؛ فإن الحسب هو الكافي، والله وحده هو كاف عباده المؤمنين كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أي هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين.
هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور السلف والخلف كما بُيّن في موضع آخر، والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه، فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه، ثم قال تعالى: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة:59] فذكر الإيتاء لله ورسوله، لكن وسّطه بذكر الفضل فإن الفضل لله وحده بقوله: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة:59] ثم قال تعالى: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59] فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات ].
يريد بذلك كما سيذكر أن التوسلات البدعية كلها خلاف ذلك، بمعنى أن من توسل توسلاً بدعياً فكأنه لم يجعل الله وحده حسبه، وطلب من غير الله ما لا يجوز طلبه إلا من الله، فالتوسل البدعي كله داخل في الممنوع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقد تبيّن أن الله سوى بين المخلوقات في هذه الأحكام، لم يجعل لأحد من المخلوقين سواء كان نبياً أو ملكاً أن يقسم به ولا يُتوكل عليه ولا يُرغب إليه ولا يُخشى ولا يُتقى، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23].
فقد تهدد سبحانه من دعا شيئاً من دون الله وبيّن أنهم لا ملك لهم مع الله ولا شركاء في ملكه، وأنه ليس له عون ولا ظهير من المخلوقين، فقطع تعلّق القلوب بالمخلوقات رغبة ورهبة وعبادة واستعانة، ولم يبق إلا الشفاعة وهي حق، لكن قال الله تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23].
وهكذا دلت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة يوم القيامة، إذا أتى الناس آدم وأولي العزم نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم فيردهم كل واحد إلى الذي بعده، إلى أن يأتوا المسيح فيقول لهم: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال صلى الله عليه وسلم: فيأتوني فأذهب إلى ربي، فإذا رأيته خررت ساجداً، وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال لي: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع قال: فيحد لي حد فأدخلهم الجنة) وذكر تمام الخبر.
فبيّن المسيح أن محمداً هو الشفيع المشفّع؛ لأنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبين محمد عبد الله ورسوله أفضل الخلق وأوجه الشفعاء وأكرمهم على الله تعالى أنه يأتي فيسجد ويحمد، لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له، فيقال له: ارفع رأسك، وسل تعطه واشفع تشفع، وذكر أن ربه يحد له حداً فيدخلهم الجنة.
وهذا كله يبين أن الأمر كله لله، هو الذي يلزم الشفيع بالإذن له في الشفاعة، والشفيع لا يشفع إلا فيمن يأذن الله له ، ثم يحد للشفيع حداً فيدخلهم الجنة، فالأمر بمشيئته وقدرته واختياره، وأوجه الشفعاء وأفضلهم هو عنده الذي فضّله على غيره واختاره واصطفاه بكمال عبوديته وطاعته وإنابته وموافقته لربه فيما يحبه ويرضاه ].
الجواب: فيما يتعلق بهذا السؤال وأمثاله أقول: من الصعب أن تكون الإجابة واحدة؛ لأن كل طالب علم له ظروفه وله إمكاناته وقدراته الذاتية، وأيضاً استعداده ومدى وجود الوقت عنده، فمثل هذا الأخ الذي قرأ هذه الكتب وحفظ بعض المتون ربما يقصد بالمتون في العقيدة وهو الغالب، إذا أراد أن يتوسع فليعلم أن معنى ذلك أن يتخصص ليفيد؛ لأن طالب العلم الذي يريد أن يحصّن نفسه يكفيه مثل هذه الكتب، إذا كان قرأ قبلها الأصول الثلاثة والمسائل الأربع، وكتاب التوحيد، وحفظ كما يذكر المتون الأساسية مثل متن الطحاوية، متن لمعة الاعتقاد أو سلّم الوصول أو نحو ذلك.. إذا حفظ هذه المتون، ثم أخذ شرحاً من شروحها أو شروح أحدها، فقد أسس العقيدة بأساسياتها الضرورية.
فإذا كان ممن عنده رغبة وهواية للاستزادة فأرى أن يتدرج ويجمع بين اتجاهين:
كتب العقيدة الجامعة الموسّعة مثل شرح الطحاوية، أو معارج القبول التي تأخذ العقيدة على المسائل بصياغة علمية وتستدل بعد الصياغة.
والجانب الثاني لا يستغني عنه: وهو أخذ كتب العقيدة المسندة بالآثار.
فيجمع بين الاتجاهين من أجل أن يستزيد ويتعمق ويجمع بين أقوال السلف كما وردت، وبين خلاصة أقوال السلف كما عبّر عنها هؤلاء العلماء.
وعلى الأخ أن يقرأ كتاب الحموية ما دام قرأ الواسطية والتدمرية، أما كتب الآثار الجامعة التي أشرت إليها فهي كثيرة، مثل السنة لـأبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد ، وشرح السنة للالكائي ، ولـابن بطة كذلك الإبانة الصغرى والكبرى، وكذلك الشريعة للآجري ، فهذه الكتب وأمثالها استوعبت أصول السلف بالرواية والإسناد.
الجواب: ورد أن الخوارج سيماهم التحليق، وأيضاً ورد عن عمر وأظنه ثابتاً عنه أنه حينما جيء إليه بـصبيغ بن عسل التميمي الذي خاض في القدر، فتش رأسه ولما رآه غير محلوق، قال: لو رأيتك محلوق الرأس لقطعت رأسك أو نحو ذلك، بمعنى أنه يجزم أنه من الخوارج، والخوارج أُمر الصحابة بقتلهم.
هذا يدل على أن من علامات الخوارج التحليق..
فالذي يظهر لي أن التزام الحلق وجعله شعاراً هو الممنوع، وهو من سمات الخوارج.
أما كون الإنسان يحلق شعره إذا طال فهذا أمر عادي، سواء حلقه بسبب أو بغير سبب.
في المدارس يلاحظ أن الشباب الصغار حدثاء الأسنان إذا طالت شعورهم قد يكون فيه تشبه ببعض الفسقة الفجار، ووسيلة إلى الفتنة والزينة، فطلب الحلق تفادياً لهذه الظاهرة، لكن لا يعني ذلك أن يبقى الرأس دائماً محلوقاً، والذي أعرف أن في المدارس يلزم الطلاب بحلق رءوسهم إذا طالت بشكل يؤدي إلى محاذير.
الجواب: لا، والحاصل: أن الذين يحلفون بالطلاق لا يقسمون بالطلاق، إنما سمي حلفاً لأنه يقصد به العزم والتأكيد، وأغلب صور الحلف بالطلاق أن يقول: عليه الطلاق أن يفعل كذا، فجعل الطلاق وسيلة للتأكيد والعزم، وليس معناه أنه يقسم بالطلاق يقول: والطلاق!
إذاً: صيغة الحلف بالطلاق السائدة والمعروفة عند عامة الذين يحلفون بالطلاق: أن يفرض على نفسه الطلاق إذا لم يفعل كذا، أو لم يفعل غيره كذا، فيقول: عليه الطلاق إذا لم يفعل فلان أو لم يترك..
فهذه الصيغة السائدة تسمى: الحلف بالطلاق عند الناس، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر