الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:
[ ودل الحديث المتقدم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستشفع به إلى الله عز وجل، أي: يطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الدنيا والآخرة، فأما في الآخرة فيطلب منه الخلق الشفاعة في أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلوا الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من يستحق النار ألا يدخلها، ويشفع في بعض من دخلها أن يخرج منها ].
وينبغي التنبه إلى ما قرره الشيخ من أن كون النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع يوم القيامة شفاعات خاصة وعامة، لا يعني ذلك جواز أن تطلب منه الشفاعة في الآخرة من قبل الأحياء في الدنيا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لم يعد يدعى ولا يطلب منه، إنما يكون باب الشفاعة مفتوحاً في الآخرة، أما في الدنيا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن لأحد أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذه الشفاعات المثبتة في الآخرة.
إنما يقصد الشيخ أن الشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا نزاع بين جماهير الأئمة أنه يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب، ولكن كثيراً من أهل البدع والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعته لأهل الكبائر، فقالوا: لا يشفع لأهل الكبائر، بناء على أن أهل الكبائر عندهم لا يغفر الله لهم ولا يخرجهم من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا غيرها ].
وذلك أنهم أخذوا بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، وهذا من تلبيس الشيطان عليهم، ومن تلبيسهم على الناس، وهو دليل جهلهم وأنهم خالفوا منهج السلف في الاستدلال، والمخالفة في الاستدلال هي أكبر الأسباب لخروج أهل الأهواء عن منهج السنة والجماعة، خاصة الأوائل؛ فالخوارج والرافضة والقدرية الأوائل أول ما أُتوا من الخلل في منهج الاستدلال فأخذوا نصوصاً من الكتاب والسنة ففسروها على غير وجهها، ولم يردوا النصوص إلى بعضها.
لكن هذا الاستسقاء والاستشفاع والتوسل به وبغيره كان يكون في حياته ].
كلمة (لكن) هذا كلام مستأنف يرجع إلى ما سبق، فمن بعد استطراد الشيخ في هذه المسألة رجع ليقول: (لكن هذا الاستسقاء) أي الذي سبق ذكره في حديث سابق، (والاستشفاع والتوسل به وبغيره، إنما يكون في حياته)، كما حدث من الصحابة، فإنهم طلبوا منه أن يدعو الله أن يسقيهم وهو حي، فلما مات طلبوا الاستسقاء من الأحياء؛ مثل العباس ويزيد بن الأسود .. وغيرهما.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ بمعنى أنهم يطلبون منه الدعاء فيدعو لهم، فكان توسلهم بدعائه، والاستشفاع به طلب شفاعته، والشفاعة دعاء ].
معنى الشفاعة هنا التوسل بالدعاء؛ لأن المشكلة أن كلمة (توسل) لا تزال موهمة، وأكثر الناس قد يفهم منها التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أو التوسل به ميتاً كالتوسل به حياً، وهذا خطأ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للناس وهو حي.
وقد يفهم بعض الناس أن المقصود بالتوسل التبرك، وهذا خطأ، فإن التبرك شيء والتوسل شيء آخر، وإن كان أحدهما يطلق على الآخر، لكن الصحيح أن التبرك غير التوسل، وإن كان من أنواعه، فالتوسل: هو اتخاذ الشيء أو الشخص وسيلة، وهذا لا يجوز حتى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين توسلوا به ما جعلوا ذاته بينهم وبين ربهم، إنما توسلوا بدعائه، فطلبوا منه أن يدعو لهم، وطلبوا من الله أن يقبل دعاءهم في حاجتهم، وهذه هي حقيقة التوسل كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فكان توسلهم -أي: الصحابة- بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والاستشفاع به أيضاً ليس بذاته، إنما هو طلب الشفاعة منه، والشفاعة هنا إنما هي الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لمن طلب ذلك.
وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل، أو السؤال به، فيقولون: نسألك أو نقسم عليك بنبيك، أو بجاه نبيك.. ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس ].
نعم، لكنهم لم يفعلوا ذلك، وهذا من أقوى الردود وأقوى الحجج؛ في أن الصحابة رضي الله عنهم حينما استسقوا، لو كان يجوز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم لاستسقوا عند قبره، أو لجعلوا القبر أمامهم ليتوجهوا إلى ذات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يفعلوا.
قد يقول قائل: الاستسقاء به أو التوسل به المقصود به التوسل بجاهه.
يقول: كذلك الصحابة لما خرجوا إلى الصحراء، فلو كان التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأيسر لهم والأسهل أن يتوسلوا بجاهه وهم بالصحراء، فإن التوسل بالجاه لا يلزم منه غير ذكر ذلك في اللسان أو التوجه به إلى الله عن التصريح بالجاه، فلم يفعلوا ذلك أيضاً، وعدلوا عن التوسل بالذات والتوسل بالجاه لأنه ليس بمشروع، إلى أن توسلوا بالموجودين من الصحابة، وطلبوا منهم الدعاء، ولذلك تجدون الشيخ استعمل العبارات كلها، من أجل أن يسد منافذ الفهم الخاطئ، يقول في السطرين الأخيرين: (ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا)، وقال قبلها: (لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا وتشفعوا واستشفعوا)، لأنه لو قال: لم يتوسلوا، لقالوا: نحن نقصد الاستشفاع، أو نقصد الاستسقاء.
وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين.
وقد أخبرنا سبحانه عن موسى وعيسى عليهما السلام أنهما وجيهان عند الله، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، وقال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45].
فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل فكيف بسيد ولد آدم، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود الذي آنيته عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر عنها آدم، وأولو العزم، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويتقدم هو إليها وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم:93-94]، وقال تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:172-173].
والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له؛ كما قال سبحانه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23] ].
الحديث الذي فيه أن نوحاً أول رسول يدل على أن الأنبياء غير الرسل؛ لأنه ثبت أيضاً أن آدم عليه السلام نبي، لكن الرسالة مقام أعلى من النبوة، ومعروف أن آدم عليه السلام هو أول البشر، وذريته كانوا على الفطرة وعلى الاستقامة، فما كانوا بحاجة إلى كتاب منزل؛ لأن الله عز وجل علم آدم كل شيء.
فلما نسي الناس مقتضى الفطرة، وخالفوا شرع الله الذي كان على عهد آدم، وكثر الجهل واندثرت معالم النبوة، بعث الله نوحاً رسولاً.
فكون نوح أول الرسل لا يتنافى مع كون آدم نبياً، أي: فآدم نبي لكن ليس برسول، وهذا هو الراجح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال غير واحد من السلف: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم.
وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس ، وذكر أن هذه الآلهة صارت إلى العرب، وسمى قبائل العرب الذين كانت فيهم هذه الأصنام.
فلما علمت الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حسم مادة الشرك بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وإن كان المصلي يصلي لله عز وجل، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس لئلا يشابه المصلين للشمس، وإن كان المصلي إنما يصلي لله تعالى، وكان الذي يقصد الدعاء بالميت أو عند قبره أقرب إلى الشرك من الذي لا يقصد إلا الصلاة لله عز وجل لم يكونوا يفعلون ذلك.
وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته وموالاته، أو التوسل بدعائه وشفاعته، فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن هذا وهذا.
فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئاً من ذلك، ولا دعوا بمثل هذه الأدعية، وهم أعلم منا وأعلم بما يجب لله ورسوله وأعلم بما أمر الله به رسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منا، بل توسلوا بـالعباس وغيره ممن ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم، دل عدولهم عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكناً ].
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني).
وفي الصحيحين أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا، قالت
وفي صحيح مسلم عن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاًُ لاتخذت
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) ].
وفي الترمذي وابن ماجه عن عثمان بن حنيف : (أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، فقال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في)، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف ولفظه: (أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: فانطلق فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري، اللهم فشفعه في، قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره).
وقال الإمام أحمد في مسنده:
حدثنا روح حدثنا شعبة عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف : (أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك، قال: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ، وأن يصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى، اللهم فشفعني فيه وشفعه في، قال: ففعل الرجل فبرأ).
فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء ].
العبارات الأخيرة في الحديث قد تشكل في فهمها مع أن الشيخ شرحها قبل ذلك وسيبينها أيضاً فيما بعد؛ لكن أشير إلى الفهم الصحيح لها، فقوله بعدما قال: (يا محمد إني أتوجه بك) أي: أتوجه بك إلى ربي أن تدعو لي في حاجتي هذه فتقضى.
وقوله: (اللهم فشفعني فيه) أي: اقبل دعائي، (وشفعه في) أي اقبل دعاءه، وهذا ما فسره به الشيخ، وهو أيضاً مقتضى مفهوم القصة من خلال ألفاظها، ومن خلال سياقها اللفظي والعملي، فإننا إذا تصورنا وقائع قصة الأعمى وما ورد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم من توجيه لهذا الضرير، ثم ما فعله هذا الضرير نجد أن الألفاظ يفسر بعضها بعضاً، وإن كانت في بعض سياقاتها ملبسة، وهذا اللبس هو الذي استمسك به أهل البدع، فأجازوا التوسل البدعي، ومما يمكن أن يلبس هذه العبارة: (اللهم فشفعني فيه)، نحن نعلم أن المقصود: اقبل دعائي في أن تقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في، (وشفعه في)، يعني: اقبل دعاءه حينما يدعو لي، ولذلك لما فعل ذلك استجاب الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فقبل شفاعته فعاد إليه بصره.
قال رحمه الله تعالى: [ فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء ].
بعد هذه العبارة سيذكر وجوه الخطأ في فهم هذه النصوص عند المبتدعة، وسيميز بين وجه الخطأ ووجه الصواب في سياق النصوص.
قال رحمه الله تعالى: [ ومن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقاً حياً وميتاً ].
يعني: أنهم عمموا جواز التوسل، وما اقتصروا على الصورة المشروعة الواردة، فالصورة المشروعة الواردة واضحة، وأنها تسد منافذ البدعة، وتفتح منافذ المشروع، للوضوح من سياقاتها القولية والعملية.
أهل البدع عمموا النص، فقالوا: هذا يقتضي جواز بذات النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً، سواء كان حياً أو ميتاً.
قال رحمه الله: [ وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه، ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم ].
الإقسام به على الله يتجه إلى الجاه في الغالب.
أما الثاني: فهو التوسل بذاته، يعني: اعتقاد أن ذاته مؤثرة في تقدير الله عز وجل وفي حكم الله، أي أنهم يجعلون النبي صلى الله عليه وسلم كالصنم الذي يعبدونه، ويتقربون بذاته إلى الله عز وجل، لا بأعمالهم ولا بموافقتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو باتباعهم للسنة، أو بطلب دعائه، فلا يكتفون بالمشروع، فيجعلون ذاته أو تعظيم ذاته وسيلة للشرك مع الله عز وجل، وهم ممن يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم إلى حد التقديس، ولا نستغرب ذلك منهم، إذا عرفنا أن تصورهم في النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعلم الغيب، وأنه يشارك الله في الربوبية، وأن له هيمنة على الكون، فمن الطبيعي إذا كان هذا تصورهم؛ تصور الغلو والتقديس أن يعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم شريك لله في التأثير في ملك الله وخلقه وأمره وتدبيره.
قال رحمه الله تعالى: [ ويظنون أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو هو لهم، ولا إلى أن يطيعوه، فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع، الجميع عندهم توسل به، وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه.
ويظنون أن الله تعالى يقضي حاجة هذا الذي توسل به بزعمهم ولم يدع له الرسول، كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كلاهما متوسل به عندهم.
ويظنون أن كل من سأل الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم، وقول هؤلاء باطل شرعاً وقدراً، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله ].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: يظهر لي والله أعلم أنه يقصد أنهم إذا أخذوا بأسباب النصر، كتب الله عز وجل الغلبة لله ولرسله، كما ورد في القرآن الكريم وفي صحيح الأحاديث التي أثبتت أن المسلمين إذا بذلوا الأسباب واستنفذوا جهدهم أن الله وعدهم بالنصر، فقد يقصد ذلك، أي أن الله كتب في اللوح المحفوظ بمقتضى وعده لا بمقتضى فعل البشر، وهذا الكلام مجمل، وهذا لا مانع من قوله من باب تقوية عزائم المسلمين؛ لأن له مقصداً صحيحاً وإن كانت العبارة موهمة.
الجواب: في غالب كتب الفقه المطولة، وأيضاً في كتب متخصصة في هذا الموضوع، وهناك كتب فصلت في مثل هذه المسائل مثل كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وأيضاً توجيه النصوص والأحاديث في تعظيم قدر الصلاة للمروزي أشار فيه إلى أشياء كثيرة من هذا، فينبغي الرجوع إلى مثل هذه الكتب.
الجواب: هذا موضوع طويل، لكن أوجز التصور عن الفكر العصراني العقلاني فأقول:
هو أولاً: امتداد للمناهج الكلامية الاعتزالية، وزاد عليها بالأخذ بمناهج الغربيين ونظرتهم تجاه الديانات وتجاه الشرائع، فتلخص منهج العصرانيين في أنهم يرون أن الإسلام إنما يدور مع مصلحة البشر، ومصلحة البشر هم الذين يقررونها، هذا ملخص منهج العقلانيين أي أنهم يرون أن الإسلام جاء لإسعاد البشر من حيث رؤيتهم هم، وأن البشر هم الذين يقررون سعادتهم وإسعادهم، فمن هنا أرادوا أن يطوعوا الإسلام لمناهجهم وأهوائهم، لا لأن يسيروا على ما يريده الإسلام، ولذلك يستدلون بالنصوص المجملة، ولا يستدلون بالنصوص المفصلة أبداً ولا يطيقونها، فلا يعرجون على النصوص التي تحلل وتحرم إطلاقاً، لكن يعرجون على النصوص العامة التي فيها ذكر المصالح، وتقرير العدل، ولذلك يستدلون بالقرآن ولا يستدلون بالسنة؛ لأن القرآن فيه مجملات وليس فيه تفاصيل الشريعة، وينفرون من الاستدلال بالسنة إلا الحديث الذي يحلو لهم، إذا أعجبهم قد يستدلون به، وإلا فالسنة ليست لها ميزان عندهم، وهذا تصور لمنهج العقلانيين، وإلا فهو يمثل مناهج أهل الأهواء عموماً، والاتجاه العصراني هو عبارة عن خلاصة المناهج، ورايات الأهواء رفعت من جديد بأسلوب عصري ملبس.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر