[ والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وفي الصحيح عنه أنه قال: (من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً).
وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يحمد الله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه، فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه، ثم يصلي على النبي، ثم يدعو بعده بما شاء) رواه أحمد وأبو داود ، وهذا لفظه، والترمذي والنسائي ، وقال الترمذي : حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة).
وفي سنن أبي داود والنسائي عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل كما يقولون، فإذا انتهيت سل تعطه).
وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضاء لا سخط بعده، استجاب الله له دعوته).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة)، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي ، وقال الترمذي : حديث حسن.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما ترد على داع دعوته: عند حصول النداء، والصف في سبيل الله)، رواه أبو داود ].
المقصود هنا بالصلاة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بمعنى الدعاء له، يعني: الدعاء والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من المعلوم أنه ليس المقصود العبادة للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا اللفظ دليل على أن الدعاء يسمى صلاة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء له، سميت صلاة من باب إطلاق الكل على الجزء، هذا أمر.
الأمر الآخر: الأحاديث التي مرت كلها صحيحة.
ذكر في مجموع هذه الأحاديث أن التوسل هو بالدعاء، وأن حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد حبه واتباعه بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تعبدنا بها مقيدة في ألفاظ الدعاء الواجبة، مثل الصلاة، وغير الواجبة مثل كثير من الأدعية في الأوراد وغيرها، ثم أيضاً أمرنا أمراً مؤكداً بالصلاة عليه كلما يذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، وعدم الصلاة عليه جفاء، ولذلك ينبغي أن تكون الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بكل وجوه الصلاة، بالنطق، وبالكتابة، باللسان والقلم، والأحاديث التي مرت كما قلت كلها صحيحة، بعضها أشار شيخ الإسلام إلى صحتها، والباقي كله صحيح، وتعرفون أن شيخ الإسلام قل أن يستدل بغير الصحيح، وقد يستدل بالضعيف إما للاعتضاد كما سبق، وإما لأنه عنده صحيح وإن ضعفه أهل العلم.
فيكون مقصود السائل: أي يا رسول الله إن لي دعاء أدعو به، أستجلب به الخير، وأستدفع به الشر، فكم أجعل لك من الدعاء، قال: (ما شئت) فلما انتهى إلى قوله: (أجعل لك صلاتي كلها؟ قال له: إذاً تكفى همك ويغفر ذنبك)، وفي الرواية الأخرى: (إذاً يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك)، وهذا غاية ما يدعو به الإنسان من جلب الخيرات ودفع المضرات، فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب واندفاع المرهوب، كما بسط ذلك في مواضعه ].
لا يزال الشيخ يذكر أنواع الأدعية المشروعة، وكأنه بذلك يشير إلى أن ما شرعه الله عز وجل وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من أنواع الأدعية كافيان عما يبتدعه الناس من التوسل بغير الله أو الاستشفاع بغيره، أو الأيمان المحرمة، أو السؤال بجاه الآخرين، إلى آخره مما ذكره من النماذج التي يقع فيها المبتدعة.
وهنا يشير إلى أنواع التوسلات التي هي الأدعية المشروعة وأنها أصناف كثيرة.
إحداها: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم، فيقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصرني على عدوي.. ونحو ذلك، فهذا هو الشرك بالله.
والمستغيث بالمخلوقات، قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها؛ وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، وإنما هو شيطان دخله وأغواه لما أشرك بالله، كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك، ومثل هذا واقع كثيراً في زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري، وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري، وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة الاستغاثة بي أو بغيري، وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم، وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية، كما ثبت ذلك، فهذا أشرك بالله، نعوذ بالله من ذلك.
وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي، كما يفعله طائفة من الجهال المشركين، وأعظم من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة إليه أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص، والكعبة قبلة العوام.
وأعظم من ذلك أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول: إن السفر إليه مرات يعدل حجة، وغلاتهم يقولون: الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة.. ونحو ذلك، فهذا شرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه.
الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها.
فهذا أيضاً لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة، وإن كان السلام على أهل القبور جائزاً، ومخاطبتهم جائزة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يغفر الله لنا ولكم، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم).
وروى أبو عمر بن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام).
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)، لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء ولا غيره.
وفي موطأ مالك أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ].
أما غيره فالمشروع من المسلم إذا أتى إلى قبر أخيه المسلم الميت، فإنه يسلم عليه، ويخاطبه بالسلام، وهذا الخطاب فيه دلالة غير قاطعة على أنهم يسمعون، لكن كيف يكون سماعهم؟ هذا أمر غيبي، لكن لم يثبت أنهم يردون.
وأيضاً فإنهم قد يسمعون، لكن ليس سماعاً مطلقاً، وإنما يسمعون القدر الشرعي، أعني أنك إذا أتيت وسلمت عليهم هذا السلام الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم أو مثله فإنهم يسمعون، لكن لا يسمعون الداعي لهم.
وقد تنازع الناس في هذه المسألة بسبب ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح: أنه لما دفن موتى المشركين في غزوة بدر، خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره الله عز وجل، فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً.. وذكر لهم أنه وجد ما وعده ربه حقاً، فالصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: هل يسمعون؟ فذكر أنهم أسمع منهم له، وهذه والله أعلم حادثة عين، إما خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبذلك الموقف؛ لأنه ليس هناك دلالة على عموم هذا في جميع الأموات وجميع المخاطبين والمخاطبين.
إذاً: الظاهر والراجح أن أهل القبور من المسلمين إذا سلمت عليهم يسمعون السلام، أما هل يردون أو لا يردون فهذه مسألة خلافية، لكن غير السلام، مثل قراءة القرآن عليهم، والصلاة عندهم، وإهداء الأشياء عند القبور لهم، الله أعلم أنهم لا ينتفعون به، ولا يردون على المخاطب كما يقال في السلام.
وكما قلت: الحديث الذي ساقه ابن عبد البر ضعيف، فلا يعتمد عليه في أن صاحب القبر يرد السلام.
ومذهب الأئمة الأربعة مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد .. وغيرهم من أئمة الإسلام: أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة.
واختلفوا في وقت السلام عليه، فقال الثلاثة مالك والشافعي وأحمد : يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه.
وقال أبو حنيفة : لا يستقبل الحجرة وقت السلام، كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم.
ثم في مذهبه قولان ].
تلاحظون المفارقات العجيبة، وهذه كثيرة في أتباع الأئمة الأربعة أو غيرهم من المشاهير الذين لهم من يقتدي بهم، نجد أنه لو قارنا بين آراء ومواقف هذه الأمة تجاه نشر السنة ونفي البدعة، وجدنا أن أتباعهم أبعد الناس عنهم، فنجد أبا حنيفة رحمه الله شديد في هذه المسألة، في حين أن المنتسبين له الآن من الماتريدية والأحناف هم أكثر الناس وقوعاً في المخالفة، يعني: ليسوا على مذهب إمامهم، فهو -كما ترون- خالف الأئمة الثلاثة في أنه حتى في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يرى ألا يستقبل القبر خوفاً من البدعة، أو سداً لذريعة توجه الناس في قلوبهم إلى غير الله عز وجل، ومع ذلك فإن أتباعه من أكثر الناس في هذا العصر وقوعاً في خلاف قوله، وهذا كثير.
وما من جماعة شذت عن السنة إلا نجد الرد عليها -إذا كانت تنتسب إلى إمام من أئمة السنة- في أصول إمامها الذي تنتسب إليه، وينبغي أن ننبه على هذه المسألة الآن، وأرى أن من أحسن الردود على الأشاعرة في تأويلهم صفات الله عز وجل كتب الأشعري ، من أجل ألا يقال: والله هذا مذهب الوهابية، مذهب الحنابلة، هذا مذهب ابن تيمية ، فنأتي بالدليل من أئمتهم، وهذا كثير جداً، ليس في جزئيات، بل في أصول الدين، وليس فقط في جوانب الصفات والأمور النظرية، بل حتى في جوانب العبادة، فأغلب الناس الآن تنتسب للأئمة الأربعة، فينبغي أن نبين لهم أن هؤلاء الأئمة الأربعة كلهم على السنة، وكلهم على خلاف ما عليه أتباعهم الآن، وكلهم أيضاً يذمون ويسبون الأصول والبدع التي عليها أتباعهم الآن، فهم الآن يشتمون أئمتهم وهم لا يشعرون، فينبغي التنويه على هذا والاهتمام به، وتبصير المسلمين ونصحهم في مثل هذا الجانب؛ لأن الناس ابتلوا بالانتماء للمذاهب الأربعة، وإذا كان كذلك فمن الأفضل أن نقيم عليهم الحجة، بل نعيدهم إلى الحق، بهذا الانتماء والانتساب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم في مذهبه قولان: قيل يستدبر الحجرة، وقيل يجعلها عن يساره، فهذا نزاعهم في وقت السلام ].
قوله: (يجعلها عن يساره) أي: إذا كان في المسجد؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم تكون الحجرة عن يساره، فكأنه يقول: يدعو في المسجد متجهاً للقبلة، فلا يتجه للقبر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فهذا نزاعهم في وقت السلام، وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة ].
ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك ، فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعاً لكانوا هم أعلم بذلك وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم.
والداعي يدعو الله وحده، وقد نهى عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى، كما نهى عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)، فلا يجوز أن يصلى إلى شيء من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم؛ لهذا الحديث الصحيح.
ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شيء من القبور لاسيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء، فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى فدعاء الميت نفسه أولى أن لا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى.
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئاً، لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين.
ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته، فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك، وهذا يفضي إلى الشرك؛ لأنه في حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له في ذلك من الأجر والثواب، وبعد الموت ليس مكلفاً، بل ما يفعله من ذكر لله تعالى ودعاء ونحو ذلك، كما أن موسى يصلي في قبره، وكما صلى الأنبياء خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ببيت المقدس، وتسبيح أهل الجنة والملائكة، فهم يتمتعون بذلك، وهم يفعلون ذلك بحسب ما يسره الله لهم ويقدره لهم، ليس هو من باب التكليف الذي يمتحن به العباد ].
كأن الشيخ يشير بهذا إلى ما ورد أن بعض الأنبياء تكون لهم حياة وأعمال خاصة بهم في القبور، وهذا لا يدل على أنهم يجيبون السائل، ولا أنهم ينتفعون بهذه الصلاة، لكن هي من باب الصلاة العامة التي سخر الله فيها جميع الخلق، فليس ذلك من باب التكليف ولا من باب زيادة الكرامة، إنما هو من باب الخضوع لله عز وجل كتسبيح الحصى وتسبيح الملائكة وغير ذلك.
ولا يلزم من جواز الشيء في حياته جوازه بعد موته، فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة، وكان يجوز أن يجعل مسجداً، ولما دفن فيه حرم أن يتخذ مسجداً، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً).
وفي صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
وقد كان صلى الله عليه وسلم في حياته يصلى خلفه؛ وذلك من أفضل الأعمال، ولا يجوز بعد موته أن يصلي الرجل خلف قبره، وكذلك في حياته يطلب منه أن يأمر وأن يفتي وأن يقضي، ولا يجوز أن يطلب ذلك منه بعد موته.. وأمثال ذلك كثير.
وقد كره مالك وغيره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا اللفظ لم يرد، والأحاديث المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة، بل كذب، وهذا اللفظ صار مشتركاً في عرف المتأخرين يراد به الزيارة البدعية التي في معنى الشرك، كالذي يزور القبر ليسأله أو يسأل الله به أو يسأل الله عنده.
والزيارة الشرعية هي أن يزوره لله تعالى للدعاء له، والسلام عليه كما يصلي على جنازته، فهذا الثاني هو المشروع، ولكن كثير من الناس لا يقصد بالزيارة إلا المعنى الأول، فكره مالك أن يقول: زرت قبره؛ لما فيه من إيهام المعنى الفاسد الذي يقصده أهل البدع والشرك.
الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه، وتقدم أيضاً أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره ].
إذاً: الشيخ هنا استكمل المراتب الثلاث للدعاء المشروع والدعاء غير المشروع، وهي:
المرتبة الأولى: أن يدعو غير الله سواء كان ميتاً أو حياً دعاء عبادة، فإذا دعاه فإنه يقع في الشرك.
والثانية: أن يطلب من الميت أن ينفعه بالدعاء أو نحو ذلك، أو يطلب من الميت أي طلب، لا على سبيل الدعاء، أو يتوجه إليه، أو يدعو الله متوجهاً إلى الميت، كل هذه الصور تدخل في المرتبة الثانية، وهذا كله بدعة إذا ما قصد به عبادة المدعو أو سؤاله من دون الله.
المرتبة الثالثة: السؤال بالغيب، وهذه مر التفصيل فيها، إن قصد القسم فهي حلف بغير الله وهذا لا يجوز، وإن قصد التوسل فهذا بدعي؛ وإذا قصد الجاه أو جاه فلان أو عمل فلان أو رتبة فلان أو فضله، فإن فضل الإنسان لا ينفع غيره ولا يستطيع الإنسان أن ينتفع بفضل غيره ولا بجاه غيره.. إلى آخره مما ورد تفصيله. والله أعلم.
كأنه الآن يلخص ما مضى يعطي الخلاصة في مفهوم التوسل؛ لأن أصل الموضوع في هذا الكتاب هو التوسل والوسيلة، أي: ما المفهوم الصحيح والمفهوم غير الصحيح، والمفهوم الشرعي واللغوي كما مر، ثم ما هي الصور الصحيحة للتوسل المشروع والصور الفاسدة للتوسل الممنوع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا يجوز أن يتوسل ويتوجه بدعاء كل مؤمن، وإن كان بعض الناس من المشايخ المتبوعين يحتج بما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستعينوا بأهل القبور)، فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58].
وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه غير مشروع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك؛ عن اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك؛ ولعن أهله تحذيراً من التشبه بهم، فإن ذلك أصل عبادة الأوثان، كما قال تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، فإن هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروهم، ثم اتخذوا الأصنام على صورهم، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف.
فمن فهم معنى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده، وأنه يستعان بالمخلوق فيما يقدر، وكذلك الاستغاثة لا تكون إلا بالله، والتوكل لا يكون إلا عليه، وما النصر إلا من عند الله، فالنصر المطلق -وهو خلق ما يغلب به العدو- لا يقدر عليه إلا الله، وفي هذا القدر كفاية لمن هداه الله. والله أعلم.
وهذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الشرك هو كذلك في شرائع غيره من الأنبياء:
ففي التوراة أن موسى عليه السلام نهى بني إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله؛ وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعهم، كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد)، وقد قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ [الشورى:13]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:51-53]، وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:30-32].
وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره من الأولين والآخرين، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع ].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد..
الجواب: أنا أظن أن هذا من البخل والشح في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تكفي، وإن كانت اصطلاحاً على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، لكن أرى أن فيها شيئاً من الجفوة التي لا تليق به.
الجواب: هذه أظنها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي حكمة صائبة، لكن لا تعني أن الإنسان يبدأ تعلمه بمعرفة الجاهلية، هذا خلل وخطل، فلا يصح أن نعتبر هذه الحكمة دليلاً، ولا أنها تنصب على معنى أن المسلم يشرع له أن يبدأ بتعلم غير العلوم الشرعية، ويقرأ ما هب ودب، لكن القصد أن المسلم ينبغي له بعدما يتفقه في دين الله عز وجل، أن يطلع على أصول الضلالة والكفر والفساد، فيردها ويرد عليها ويحمي الأمة من غوائلها.
الجواب: الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من السلام غير مشروع؛ لأنه إما بدعة وإما وسيلة إلى البدعة، هذا إذا لم يستقبل القبر، أما إذا دعا مستقبلاً القبر، يعني: زاد مجرد السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم أخذ يدعو بأدعية لنفسه مستقبل القبر فهذه بدعة مغلظة.
المسلم مشروع له أن يدعو في كل مكان، ومن ذلك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والروضة، لكن إن قصد قرب القبر، إن لاحظ في دعائه وتوجه قلبه إلى القبر، فهذه بدعة، سواء كان قريباً جداً أو ليس بقريب، والمسجد الآن واسع جداً، فلو أنه دعا في أقصى المسجد من جهة الغرب مثلاً، وكان قصده الدعاء قرب القبر فهذه بدعة؛ لأنه علق قلبه بغير الله.
فإذاً: لا شك أن قصد الدعاء عند القبر يعتبر بدعة، أما وقوع الدعاء عند القبر قدراً، دون القصد القلبي فهذا أمر لا حرج فيه؛ لأن المساجد من مواطن قبول الدعاء.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر