بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول محقق شرح العقيدة الطحاوية في مقدمته: [تأثير الأسباب الطبيعية في مسبباتها بإذن الله]:
هذا النوع من الكلام يلحق بالكلام في القدر، فهو تبع للكلام في القدر، وكأن المقدم هنا اختار هذه المسألة لأنها من أبرز المسائل أو من أهمها عنده، وإلا فهناك بعض مسائل القدر المهمة، وإن كان سيذكر الحسن والقبح في الأفعال، وهو أيضاً موضوع اختياره جيد، لكن مسألة الأسباب ليست أهم قضايا القدر التي خالفت فيها الفرق، لكنها تصلح كنموذج، وقد ضرب مثلاً بعد العنوان، فقال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح ...]، وكان الأولى أن يقول: مثل أن يقال: إن الله يخلق السحاب بالرياح، فهذا مثل للأسباب، وليس هو أهم الأسباب أو أبرز الأسباب.
قال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء، ونحو ذلك، والقول بأن الله يفعل عند الأسباب لا بها يفضي إلى إبطال حكمة الله في خلقه].
هذه المقولة لبعض أهل البدع، وهي أن الله يفعل عند الأسباب، وهي مقولة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، ثم صارت مقولة بعد ذلك لها قواعد، وهي مقولة خاطئة، بل هي من مقولات العقلانيين الذين يقولون: إن فعل الله وإرادته تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذه المسألة ملحقة بمقولة سابقة سبق أن ذكرتها حينما تكلمت عن أول بدع القول في القدر، ومنشأ هذه البدعة: هو القول بإنكار القدر السابق والعلم السابق لله سبحانه وتعالى، الذي قال به غيلان ثم الجعد بن درهم ، ونسب إلى معبد الجهني ، وهو القول بأنه لا قدر، ومعنى: (لا قدر) أن الله لم يقدر الأمور قبل حدوثها، وإنما يقدرها عندما تحدث، وأن الله لا يعلم الأمور قبل حدوثها، وإنما يعلمها عندما تحدث، وهذا مبني على فلسفة عقلية موروثة عن الفلسفة اليونانية، فليست فلسفة حدثت في الإسلام، إنما هي موروثة عن طوائف متفلسفة من أهل الكتاب، وأهل الكتاب منهم طوائف وفرق كانت على الفلسفة اليونانية الخالصة، ومن هنا وسوسوا لبعض المسلمين بهذه المقولات، فنشأت عنها هذه المسائل.
إذاً: فالقول بأن الله يفعل عند الأسباب يعني أنهم يقولون: إن فعل الله يصاحب الفعل ولا يسبقه، بمعنى: أن علمه تعالى بالشيء لا يسبقه، وأن إرادة الله -أيضاً- تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذا يعني إلغاء حكمة الله سبحانه وتعالى وعلمه السابق وتدبيره الذي هو عن علم وحكمة.
قال: [ وأنه لم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، فضلاً عما في هذا القول من مخالفة للكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى يقول: فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:57]، ويقول: وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:164]، ويقول: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14]، ويقول: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52]، ويقول: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق:9]، ويقول: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة:15-16].. ومثل هذا في القرآن كثير.
وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه، فإن الله فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نوراً) ].
يعني هنا أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم تكون سبباً في رحمة الله لمن يصلي عليه.
قال: [ فالله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً حصل بدون السبب، وإلا لم يحصل..]
وجه الشبهة: أنه قد يسأل أمثال هؤلاء المتكلمين من الجهمية والمعتزلة ومن سار على نهجهم فيقول: لماذا جعل الله سبحانه وتعالى للأسباب تأثيراً، مع أن له قدرة مطلقة؟! قد ترد هذه الشبهة، فيقول قائل: لماذا جعل الله الأسباب هي المؤثرة، مع أن الله قادر على أن يستغني عنها؛ فإنه يقول للشيء: (كن) فيكون؟ وقد أجاب المحقق عن ذلك.
قال: [فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً حصل بدون السبب وإلا لم يحصل؟ جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدوراً بدون السبب].
يعني: أن الله قدر أن تكون الأسباب هي الوسيلة لهذه الأمور، فهذه أمور داخلة في قدرة الله، ولا تعني أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأسباب هي مناط القدرة، بل قدرة الله مطلقة، والله سبحانه وتعالى بإمكانه أن يفعل هذه الأمور بدون الأسباب، لكنا نجد إذا تعقلنا هذه الأمور أن في ظهور الأسباب حكمة، وهي دليل على كمال الله سبحانه وتعالى وكمال قدرته وكمال صنعه وتدبيره، فلولا رؤية الأسباب والمسببات لما تبين لنا كثير من وجوه الحكمة، ولما تبين لنا كثير من وجوه التدبير والعظمة في خلق الله سبحانه وتعالى وفي تدبيره وتقديره.
فوجود الأسباب لافت لنظر الخلق إلى هذه الأسباب والتبصر بها والاتعاظ بها، فلو كانت الأمور تحدث دون أن يبرز لها أسباب لخفيت كثير من الحكم الدالة على بديع صنع الله سبحانه وتعالى.
قال: [ وقولهم: إن الله تعالى أجرى العادة بهذه الأسباب، وأنه ليس لها تأثير في المسببات بإذنه، قول بعيد جداً عن مقتضى الحكمة، بل هو مبطل لها؛ لأن المسببات إن كان يمكن أن توجد من غير هذه الأسباب فأي حكمة في وجودها عن هذه الأسباب؟!]
قال: [الثالث عشر: الحسن والقبح في الأفعال عقليان، والثواب والعقاب شرعيان:
وقد ذهبوا في هذه المسألة مذهباً وسطاً، وهو أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة، وأن العقل يدرك الحسن والقبح في الأشياء، والله قد فطر عباده على استحسان الصدق والعدل والعفة والإحسان ومقابلة المنعم بالشكر، وفطرهم على استقباح أضدادها، لكن الثواب والعقاب شرعيان يتوقفان على أمر الشارع ونهيه، ولا يجبان عن طريق العقل ].
مقصوده بذلك: أن الفلاسفة والمتكلمين من المعتزلة والجهمية ومن جاء بعدهم ممن اقتدى بهم يقولون: إن مسلك الحسن، يعني: حسن الأشياء أو استحسانها لدى البشر واستقباحها لدى البشر أمور تدرك بالعقل جملة وتفصيلاً، حتى لو لم يأت الشرع بذلك، وأهل السنة والجماعة لم ينكروا هذه القاعدة، لكنهم قالوا بأنه ليس الأصل في الأمور هو التحسين والتقبيح العقلي؛ لأن العقل لا يدرك كل شيء فيما يحسن وما يقبح، قد يدرك بعض الأشياء وتخفى عليه أشياء كثيرة، لاسيما أن كثيراً من الأمور معلقة بالغيب، إما الغيب الماضي وإما الغيب المستقبل، فلو استقبح العقل شيئاً فلربما كان في علم الله في الغيب أن يكون هذا الشيء المستقبح في العقل حسنا فيما يأتي، والعكس كذلك، فربما استحسن شيئاً وهو في علم الله فيما سيقع قبيح، هذا أمر.
والأمر الآخر: أن التحسين والتقبيح العقليين مجملان ولا يدركان التفصيل، أي: تفصيل الشرائع وتفصيل ما يستحسن، فالواجب شرعاً والمستحب شرعاً أمور تفصيلية لا يدركها العقل مستقلاً، حتى وإن استحسنها كلها فإن استحسانه لها تبع للشرع؛ لأن الشرع لا يأتي إلا بما يوافق الفطرة، وكذلك العكس، فلو افترضنا أن الله لم ينزل الشرائع؛ فهل تدرك العقول لو اجتمعت كلها بجميع قواها تفصيلات ما يصلح للناس وما لا يصلح لهم في كل جزئيات السلوك وأمور الغيب والشهادة؟! لا يمكن.
إذاً: فالشرع لابد منه، والعقل يستحسن المستحسنات في الجملة، لكن لا على وجه التفصيل، ويستقبح المستقبحات في الجملة، لكن لا على وجه التفصيل؛ لأن العقل آلة تعتريها المؤثرات من الهوى والشبهات والشهوات، وأهم ذلك كله الفناء، فالعقل يفنى، والشرع لا يفنى، إلا إذا انقضت الدنيا وانتهى وقت الاختبار والابتلاء وبقيت الأمور للحساب، فإن الناس يحاسبون على هذه الأمور بمقتضى الشرع لا بمقتضى العقل.
فالمقصود أن أهل السنة والجماعة يوافقون على أن للعقل تحسيناً وتقبيحاً، لكن لا على وجه التفصيل، ولا يستغني البشر عن الشرع بالعقل، وليس كل ما يستحسنه العقل حسناً، وليس كل ما يستقبحه العقل قبيحاً؛ لأن العقل آلة تعتريها الأمور التي ذكرتها من الهوى والسهو والنسيان والخطأ والضعف والمحدودية وغير ذلك.
قال: [ الرابع عشر: إثبات فروع العقيدة بخبر الواحد المتلقى بالقبول عملاً وتصديقاً:
فقد احتجوا بخبر الواحد المتلقى بالقبول في مسائل الصفات والقدر، وعذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين، وأشراط الساعة، والشفاعة لأهل الكبائر، والميزان، والصراط، والحوض، وكثير من المعجزات، وما جاء في صفة القيامة والحشر والنشر، والجزم بعدم خلود أهل الكبائر في النار].
قال: [الخامس عشر: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول:
فكل ما ثبت من مسائل العقيدة في الكتاب والسنة والوحي والنبوة يصدقها العقل الكامل الصحيح الذي يستخدم بدقة وإمعان؛ لأن العقل الصريح في دلالته على المراد لا يمكن أن يخالف المنقول الصحيح الثابت؛ لأن العقل والنقل وسيلتان لغاية واحدة: هي الوصول إلى الله، والوسائل التي تؤدي إلى غاية واحدة لا يمكن لها أن تتعارض ].
أظن أن هذه المسألة واضحة، ولكن أحب أن أبين أمراً فيها قد لا يكون المتكلم عرج عليه هنا، وهو مسألة: المقصود بصحيح المنقول، والمقصود بصريح المعقول.
فأما صحيح المنقول فأظنه واضحاً، وهو النص الصحيح الذي هو في كتاب الله تعالى، وما صح من السنة، سواء ما يتعلق بالعقيدة وبالأحكام، وسواء ما يتعلق بأمور الغيب والشهادة، وسواء ما يتعلق بالتكييفات وما يتعلق بعلل وحكم الشرع، كل ذلك إن ورد فيه قاطع في الشرع فلابد حتماً من أن يوافق العقل السليم، لكن تبقى المشكلة في تحديد معنى العقل السليم الذي يحكم في هذا الأمر، وهذه مسألة نسبية، فلا يستطيع أحد من البشر على الإطلاق أن يحدد لنا أن فلاناً من الناس عقله سليم مطلقاً، فالعقل سلامته نسبية، كسلوك الأفراد وصلاحهم، فلا توجد عصمة العقل إلا للأنبياء، وغير الأنبياء عقولهم تتفاوت وإدراكاتهم تتفاوت، ومهما بلغت العقول فإن سلامتها سلامة نسبية.
إذاً: فسلامة العقل أمر مفترض في جملة العقول الصحيحة وليس في أفرادها، وهذا دفع لشبهة ظهرت في المتكلمين، وهي أن يدعي إنسان من المفكرين العباقرة بأنه يستطيع أن يضع موازين للدين يزن بها الشرع، كما فعل الرازي ، فقد ذكر في كتابه: (تأسيس التأسيس) موازين عقلية، وجعلها هي الموازين التي توزن بها أمور الدين، وفي جملة ذلك نصوص الشرع، حتى إنه رد خبر الواحد ورد الأحاديث الصحيحة، وأول صفات الله وأول أخبار السمعيات؛ لأنه حينما حكم قواعده العقلية فيها تنافت معها بزعمه.
إذاً: فالعقل السليم لا يملكه شخص، بل هو عند جملة أهل الحق بمجموعهم، وضابط العقل السليم ضابط واضح، وهو أنه إن وافق الشرع فهو سليم، وإن خالف الشرع فإن فيه قصوراً أو خللاً، فإذا كان صاحبه صاحب بدعة وهوى ففيه خلل، وإذا كان العقل لا يوافق عقول أصحاب الهدى والاستقامة فإن فيه قصوراً عن إدراك مراد الشرع، فمن هنا اعتبر العقل مؤيداً لا مصدراً، فهو يعتبر رافداً ولا يعتبر أساساً.
قال: [ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملت ما تنازع فيه الناس، فوجدت ما خالف النصوص الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر، والنبوات، والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح المعقول لم يخالفه السمع، الذي يقال: إنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟! ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته ].
هذا صحيح؛ فإن الذين حكموا عقولهم في أمور الغيب لو أردنا منهم أن يثبتوا أن العقل استطاع أن يأتي بشيء تفصيلي غير ما جاء به الشرع لما استطاعوا، فالعقل لا يستطيع أن يدرك أمور الغيب، مهما بلغ من القوة والذكاء والحدة، فالمتكلمون الذين حكموا العقول وقعوا في معضلات لا يستطيعون التخلص منها، أول هذه المعضلات أن عقولهم لا تتفق، فعقل من نصدق، إنهم لم يتفقوا على أمر قطعي على الإطلاق، أي: أمر قطعي يثبت في أمر الغيب أنه كما هو في الغيب؛ لأنا لم نطلع على الغيب، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن ما نفوه ليس لديهم برهان على نفيه إلا في مدركات العقل العامة، مثل نفي النقائص عن الله سبحانه وتعالى، فهذا أمر قطعي على جهة الإجمال والتفصيل لا يحتاج إلى أن تعمل فيه العقول، لكن تبقى الدلالة على أن هذا اللفظ منفي معناه عن الله سبحانه وتعالى على مراد الله، كنفيهم الاستواء بالعقل، فهم نفوا ما في أذهانهم، ولم يستطيعوا نفي الاستواء الحقيقي؛ لأن الاستواء الحقيقي الذي يليق بجلال الله تعالى لا نعلمه، أليس كذلك؟! وهل يستطيع عاقل مهما أوتي من القوة والذكاء أن يبين لنا كيف يكون استواء الله؟!
إذاً: الذي نفوه هو وهمٌ في أذهانهم، فهم لما سمعوا قول الرحمن سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] توهموا أن الاستواء كاستواء المخلوق على المخلوق، كاستواء الإنسان على الكرسي، فهل هذا الوهم حق؟! وهل هو قريب من الحق؟! وهل هو محتمل أن يكون حقاً؟!
إذاً: هم نفوا ما في أذهانهم من الوهم؛ لأنهم حينما أثبتوا الأوهام التي في أذهانهم أثبتوها بغير دليل، وحينما نفوها نفوها بغير دليل، وأقحموا العقل المسكين في هذا، وهذه أعظم جناية على العقل، قالوا: إن العقل يحيل أن يستوي الله كاستواء المخلوق. ونقول: نعم يحيل أن يستوي كاستواء المخلوق، لكن هل استواء الله كاستواء المخلوق؟! لقد نسوا أن الله ليس كمثله شيء، وأن الله هو الذي تكلم بهذا، فمن المتكلم بقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ؟!
إذاً: الشيطان لبس عليهم، وجعل أوهامهم عندهم حقائق، وشبهاتهم التي في أذهانهم جعلوها كأنها مراد الله، ومراد الله غير ما في أذهانهم، بل يستحيل من أي أحد من الخلق أن يدرك مراد الله في الكيفيات، يستحيل استحالة مطلقة، ولا مطمع لأحد من الخلق في أن يعرف كيفيات ما عليه أسماء الله وصفاته، وتبقى الحقائق معلومة وتثبت لله على ما يليق بجلاله.
قال: [ السادس عشر: عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه.
يقول شيخ الإسلام في مجموعة الرسائل والمسائل وهو بصدد الحديث عن قاعدة أهل السنة والجماعة في أهل الأهواء والبدع: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء، وغفر للمؤمنين خطأهم، والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين من بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم؛ فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟! فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فيكف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟! وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه ].
هنا ينبغي التنبيه على أمر، ولعله سيأتي -إن شاء الله- مستقبلاً بشكل واف في شرح الطحاوية إذا دخلنا فيه، لكن بالمناسبة أحب أن أنبه إليه؛ لأنه قد يعالج بعض المظاهر التي ظهرت لدى طائفة من طلاب العلم المستعجلين هداهم الله، وهذه المسألة هي مسألة التكفير باللوازم والتكفير بالبدعة المكفرة، أو التكفير بالقول المكفر أو التكفير بالأصل المكفر، وأقصد بذلك: أنَّه ليس كل من ارتكب مكفراً يكفر بشخصه، فضلاً عن الطوائف، وليست كل طائفة ارتكبت مكفراً نحكم بكفرها، وسأضرب لكم مثلاً بعدما ضرب المحقق هنا مثلاً بالخوارج، فهناك مثل آخر في المتكلمين من الأشاعرة والماتريدية، فغلاة المتكلمين منهم خالفوا السلف في قضايا كثيرة، ومع ذلك لم يقل أحد بكفرهم، إلا بعض المستعجلين من المتأخرين هداهم الله، فما قالوه -أي: الأشاعرة وغيرهم- لا يستدعي تكفيرهم، حتى ولو وصل الحال ببعضهم إلى أن يقول بمقولة كفر، فإن تكفيره بعينه أمر يجب أن يتثبت فيه.
وأريد بهذا أن أصل إلى النتيجة الخطيرة التي أردت التنبيه عليها، وهي أن مسألة التكفير لمن لم يستحق الكفر أشد خطأً من ارتكاب صاحب الكفر لما كفر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من هذا وقال: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، يعني: إذا خرج التكفير من شخص مع الاعتقاد؛ فلابد من أن يقع هذا التكفير على أحد الشخصين، فإن كان من أطلق عليه الكفر كافراً -وهذا في علم الله- وقعت عليه، وإذا لم يكن كافراً في علم الله رجعت إلى صاحبها فكفر نفسه من حيث لا يشعر، فيجب التنبه لهذا الأمر.
وهناك أمر آخر متفرع عن هذا، وهو أننا لم نتعبد بالتكفير أصلاً، صحيح أن هناك ما يسمى بالولاء والبراء، لكن هذه قاعدة إجمالية، ليس كل من واليناه لابد فيه من أن يكون على الاستقامة الكاملة، وليس كل من عاديناه لابد فيه من أن يكون على الضلالة الكاملة، بل قد يجتمع الولاء والبراء في شخص واحد، قد يجتمع الولاء والبراء في غالب المسلمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
إذاً: فمسألة التكفير من أشد المسائل خطورة، وأرى الناس بدءوا يلوكونها وكأنها مجرد أحكام عادية ينتزعها الإنسان متى شاء ويلبسها من يشاء، مع أن هذه مسألة خطيرة لم يتعبد بها أولاً، إنما تعبدنا بالتكفير بالجملة لا بالتعيين، فالتكفير بالجملة معروف وأمر سهل ويعرفه أهل العلم، فاليهود كلهم كفار بالجملة، والنصارى كفار بالجملة، والمشركون كفار بالجملة، ومن خالف قطعياً من قطعيات الدين فهو كافر بالجملة، ومن أخل بركن من أركان الدين فهو كافر بالجملة، لكن تعيين أفراد أو جماعات أو فرق مسألة خطيرة لم نتعبد بها، وأهل العلم كانوا يتورعون فيها أشد التورع، ثم إن أكثر الناس يفهم التكفير دائماً على أنه التكفير المخرج من الملة، ومن هنا ينتزع أقوال أهل العلم في بعض المقولات أو في بعض الأشخاص فيكفر بها، مع أن أهل العلم قديماً إذا أطلقوا التكفير في مسائل أهل القبلة؛ فأغلب ما يطلقونه على التكفير الذي لا يخرج عن الملة، الذي هو كفر دون كفر، ويتورعون كل التورع عن التكفير الذي يخرج عن الملة.
قال: [ والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله)، وقال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: إنه أراد قتل صاحبه) ].
والقصد هنا أنه لا يلزم أن يكون من في النار كافراً، فقد يكون عوقب بالقتل ظلماً، فبعض الناس قد يفهم -وهذا فهم الخوارج ومن سلك سبيلهم- من هذا الحديث أن القاتل بغير حق يكفر؛ لأنه كبيرة، ومرتكب الكبيرة عندهم كافراً أخذاً من مثل قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وهذا خطأ، فليس كل من استحق القتل كافراً، وليس كل من قتل أو ظلم كافراً، وليس كل من استحق النار كافراً، بل إن أهل الكبائر هم مستحقون للنار، وهم تحت مشيئة الله إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم، وإن عذبهم لا يخلدهم.
قال: [ وقال: (إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما).
هذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب في حاطب بن أبي بلتعة : (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وهذا في الصحيحين.
وفيهما أيضاً من حديث الإفك: (أن
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: (أنه قتل رجلاً بعدما قال: لا إله إلا الله، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره، وقال: يا
ومع ذلك لم يوجب عليه قوداً ولا دية ولا كفارة؛ لأنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذاً.
وهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون، كما قال تعالى:
فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل، ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم من بعض، ويتوارثون، ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك].
أحب أن أنبه على أمر من النوازل التي حدثت للمسلمين في الآونة الأخيرة، وهو ما يتعلق ببعض الفتن التي ظهرت في أرض الجهاد في أفغانستان، ولن أتكلم عن هذا الأمر بالتفصيل، وأرجو ألا يفهم كما يفعل كثير من المستعجلين، وألا ينتزع مني ما لم أقله، لكني أحب أن أعلق على هذه المسألة بمناسبة الكلام عن مسألة التكفير والتعادي والموالاة والمعاداة ونحو ذلك من أحكام الشرع.
أقول: لقد بدرت من بعض الناس -هداهم الله- بعض الألفاظ والأحكام والمواقف تجاه ما حدث بين الأفغان تخالف منهج السلف، حتى من بعض الذين عقائدهم صحيحة ولديهم شيء من العلم بالسنة، فأرى أنهم تجاوزوا منهج السلف في علاج هذه الأمور، أي: في أثناء الفتن؛ لأن للفتن فقهاً يخالف فقه سائر الأيام والأحوال، ولأن للفتن أحكاماً تخصها، خاصة إذا حدثت الفتن بين فرقتين من المسلمين عملهم واحد في جبهة واحدة وفي مكان واحد كما هو حال المجاهدين، والخلل الذي حصل يتمثل في نظري فيما يتعلق بالمسألة التي ذكرتها في أمور:
أولها: سرعة الحكم بالتكفير أو التفسيق أو التخطئة قبل التثبت.
وثانيها: الخلل في مسألة التفريق بين ما تجوز الموالاة فيه والمعاداة وما لا تنبغي الموالاة فيه والمعاداة.
والأمر الثالث: الحكم على الأشخاص باللوازم التي لا تلزم، فقد سمعنا حكماً على أشخاص من خلال تصرفات أتباعهم، وحكماً على الأتباع من خلال عقائد رءوسهم، وحكماً على الغائبين قبل اللقيا بهم والأخذ عنهم، وحكماً على المجاهدين من الأفغان -خاصة القيادات منهم- بمجرد أمور تخرج إما في جرائدهم وإما في كتب يعلمونها أتباعهم أو نحو ذلك، وهذا تكفير باللوازم.
نعم التخطئة ترد، ووزن الأمور بالموازين الشرعية أمر مطلوب، بمعنى: من هو الأفضل والأقرب للسنة، ومن هو الأبعد والأكثر بدعة، فهذا أمر ليس على المسلم حرج في أن يقوله، لكن الإلزام بما لا يلزم أمر خطير قد ترتبت عليه مواقف خطيرة، هذا أمر.
الأمر الآخر: إدراك المصالح العامة ودرء المفاسد، وهذا أمر غاب عن كثير ممن خاضوا في هذا الأمر، حتى بلغ الحد ببعضهم إلى أن يعتبر الجهاد في أفغانستان كله خطأ، وبعضهم ألغى راية الجهاد في سبيل الله وفسرها بتفسيرات بدعية أو بتفسيرات أهواء أو بتفسيرات شبهات أو شهوات عند أصحاب تلك الراية، وبعضهم -أيضاً- تكلم في المجاهدين بما يمنع دعم المسلمين عنهم، وهذه مسألة خطيرة، فأنا أقول: حتى لو اقتنع واحد منا بأنه ينبغي أو يحسن ألا يدفع التبرع لفلان من الناس من رءوس المجاهدين، فهل هذا من المصلحة العامة المترتبة على موقفه هذا فيما يتعلق بأحوال المسلمين عامة؟!
يجب ألا نبخل على المسلمين عامة، ويجب ألا نبخل على الأفغان من حيث الخصوص، فهناك الشيوعية الملحدة تحارب الله ورسوله، وهناك أناس يجاهدون في سبيل الله على مختلف نزعاتهم وعلى مختلف اتجاهاتهم ومشاربهم، فلو أن المسلمين اضطروا يوماً من الأيام -كما حدث في فترات التاريخ- إلى أن يجتمعوا بفرقهم الضالة والمستقيمة ضد الكفار الخلص فهل يمنع هذا؟
أترك الجواب لكم، فتأملوا واسألوا أهل العلم وارجعوا إلى قواعد الشرع.
وأعود فأقول: إن نصوص الوعيد الواردة في الكتاب والسنة لابد من أن تجمع مع سائر النصوص الأخرى، كتلك النصوص السابق ذكرها وغيرها، ومثال ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فهذه الآية من نصوص الوعيد؛ إذ فيها إشارة إلى خلود القاتل عمداً في النار، ونصوص الوعيد ترد إلى نصوص الوعد، فيرد بعضها إلى بعض، ولا تؤخذ على ظاهرها، بمعنى: أنه لا نأخذ بنص واحد ونجعل الحكم القاطع مبنياً عليه، فالنصوص لابد من أن ننظر إليها بمجملها، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فهذا من النصوص التي تبين ما يغفر وما لا يغفر، وهذا من نصوص الوعد والوعيد في وقت واحد، فنصوص الوعيد -أي: نصوص التخويف والنصوص التي تتعلق بدخول النار وغيرها- ترد إلى نصوص الوعد بمجموعها، وهذا هو النظر المتكامل الذي ينظره أهل السنة والجماعة، لا يأخذون بنص دون آخر، لذلك قالوا: من أخذ بنصوص الوعد دون نصوص الوعيد فهو مرجئ، ومن أخذ بنصوص الوعيد دون نصوص الوعد فهو حروري، خارجي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر