الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسنعرض بإيجاز ترجمة الإمام الطحاوي وسنقف عند بعض النقاط المتعلقة بشخصية الإمام الطحاوي متجاوزين التفصيلات.
أما اسمه ونسبه فهو الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك الأزدي الحجري المصري الطحاوي ، نسبة إلى (طحا) قرية من قرى الصعيد بمصر.
ولد سنة 239هـ على الأرجح، وتوفي رحمه الله سنة 321هـ، فعلى هذا يعد من علماء القرن الثالث الهجري، وهو من أئمة القرون الفاضلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [نشأ الإمام الطحاوي في بيت علم وفضل؛ فأبوه كان من أهل العلم والبصر بالشعر وروايته، وأمه كذلك معدودة من أصحاب الشافعي الذين كانوا يحضرون مجلسه، وخاله هو الإمام المزني أفقه أصحاب الإمام الشافعي وناشر علمه.
قال ابن يونس فيما نقله عنه ابن عساكر في تاريخه: كان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً، لم يخلِّف مثله.
وقال مسلمة بن القاسم في الصلة: وكان ثقة ثبتاً جليل القدر فقيه البدن عالماً باختلاف العلماء، بصيراً بالتصنيف.
وقال فيه ابن النديم : وكان أوحد زمانه علماً وزهداً.
وقال فيه ابن عبد البر : كان من أعلم الناس بسير الكوفيين وأخبارهم وبفقههم، مع مشاركه في جميع مذاهب الفقهاء.
وقال السمعاني : كان إماماً ثقة ثبتاً فقيهاً عالماً، لم يُخلِّف مثله].
عندي: (لم يُخلِّف مثله)، ويبدو أن فيها خطأ، ولعل (لم يُخلَّف مثله)؛ لأن (يُخلِّف) لا بد من أن يكون الضمير المستتر فيها راجعاً إلى مذكور أو معهود، ولا ندري ما المعهود ولا المذكور.
قال رحمه الله تعالى: [وقال ابن الجوزي في المنتظم: كان ثبتاً فقيهاً عاقلاً فهيماً. وكذا قال سبطه.
وقال ابن الأثير في اللباب: كان إماماً فقيهاً من الحنفيين، وكان ثقة ثبتاً.
وقال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها، ثم قال: ومن نظر في تآليف هذا الإمام علم محله من العلم وسعة معارفه].
[ولادته: تتفق كتب التراجم على أنه ولد في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، ويغلب على الظن أنه ولد بدمشق].
وأقول: هذا فهم منكوس تماماً، بل أرى أن من المعلوم بالضرورة أن هذا الفهم معكوس؛ لأن تجديد الدين هو إحياؤه من جديد، إحياؤه بعدما طرأت عليه البدع والمحدثات، وإحياؤه بعدما تغير في سلوك الناس، وإحياؤه بعدما ترك في التطبيق، فالمقصود بتجديد الدين هو العمل به كما عمل به أئمة السلف عقيدة وعملاً، وليس المقصود بتجديد الدين استحداث قواعد جديدة ولا مناهج جديدة، لا في العلوم ولا في العقيدة ولا في الأعمال.
إذاً: من معاني التجديد نفي ما طرأ وما حدث من البدع والمحدثات، سواء في الأفكار والقواعد أو في الأعمال.
وليس المراد ارتكاب أي وسيلة، فالوسائل تحكم بالمصالح والمفاسد وتحكم بقواعد الشرع وبالفقه، أي أن الوسائل ليست بمعزل عن رأي الإسلام، بمعنى أنه ليس كل وسيلة يعمل بها البشر لا بد من أن تباح لمجرد أن تكون دنيوية، فهناك أصول في استعمال الوسائل، وهي أصول الاستدلال وأصول الشرع وأصول الاستنباط وقواعد الدين وأصول الفقه، فهذه أمور يحكم بها أهل العلم لمعرفة ما الوسائل المباحة؟ وما الوسائل المحرمة؟ لكن قصدي أن كون الوسيلة جديدة لا يعني أنها بدعة.. هذا ما أقصده، لا تدخل الوسائل في المبتدعات ولا في المحدثات، إنما الذي يدخل في المبتدعات والمحدثات هو ما يتعلق بالعقائد وما يتعلق بالسنن المنصوص عليها وما يتعلق بالعبادات، فهذه الأمور هي تشريعية توقيفية في أصولها، أو هي توقيفية في نصوصها ولو كانت اجتهادية في الاستنباط، وهي التي لا يجوز الابتداع فيها، وتبقى مسألة الوسائل وعرضها على الشرع وما يجوز فيها وما لا يجوز، هذا هو مجال أهل العلم وأهل الاجتهاد.
أما بعد:
فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم -إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع؛ ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: الفقه الأكبر- وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه].
أما الأسماء الشرعية الواردة على ألسنة السلف والتي اصطلحوا عليها، وهي أسماء تدل بمفهومها ومدلولها وألفاظها على عقيدة أهل السنة والجماعة؛ فهي كثيرة، لكن يمكن بالاستقراء أن نلخصها في سبعة أسماء لهذا العلم:
أول هذه الأسماء وأهمها وأكثرها أصالة وأقربها إلى مفهومات النصوص وأكثرها استعمالاً على ألسنة السلف، وفي مصنفاتهم في القرون الثلاثة الفاضلة: كلمة (السنة)، بمعنى أنهم كانوا يطلقون على العقيدة: السنة، وعلى هذا غالب مصنفات أئمة الدين في القرون الثلاثة الفاضلة، بل لا نكاد نجد مصنفاً يخرج عن هذا الاسم إلا القليل النادر جداً، فأغلب ما صنفه أئمة الدين في العقيدة جعل تحت مسمى (السنة)، والسنة تعني العقيدة، وتعني الإيمان بمفهومه الشامل، وتعني أصول الدين، وتعني -أيضاً- هدي السلف الصالح، فالهدي الذي عليه أهل السنة والجماعة بعد الافتراق يسمى السنة؛ لذلك كان يطلق بإزاء البدعة وبإزاء الفرق، فيقال: هذا صاحب سنة، بمعنى أنه على عقيدة أهل السنة والجماعة ومقابل صاحب أهل البدعة، وإن كان هذا الاسم قد يطلق أحياناً في تسمية جزئية يدل عليها السياق، فقد تسمى رواية الحديث والدراية له، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم سنة، وقد تسمى النوافل سنة، لكن هذه تسمية جزئية مقيدة بالسياق، أما السنة إذا أطلقت عند السلف فإنها تعني العقيدة، فهذا الاسم الأول والأشهر، وهو الأولى بالإطلاق.
والثاني: التوحيد، والتوحيد جزء من العقيدة، لكن سميت به العقيدة لأنه هو أشرف موضوعات العقيدة، وأهم موضوعات العقيدة هو توحيد الله سبحانه وتعالى، فمن هنا سميت العقيدة كلها توحيداً؛ لأن مسائل الاعتقاد كلها تندرج تحت التوحيد المبني على التسليم والتصديق.
الاسم الثالث: العقيدة، وسميت عقيدة لأن المسلم يعقد قلبه بالجزم على أصول الدين، وعلى السنة، وعلى التوحيد.
الاسم الرابع: أصول الدين، وهذا الاسم قد كرهه بعض السلف، لكنه أصبح اصطلاحاً واضحاً، وربما يزول الإشكال إذا وضح مفهومه عند من يطلقونه، فأصول الدين يقصد بها العقيدة والقطعيات والمسائل الكبرى التي تحكم قواعد شرع، والذين كرهوا هذا الاسم أو هذا الوصف من السلف كرهوه لأنه يقسم الدين إلى أصول وفروع، فمن هنا قد يفهم العامة أن الفروع أقل منزلة من الأصول في الاعتقاد والعمل، وأنه ربما يسع الإنسان إذا عرف الأصول واعتقدها الإخلال بالفروع أو ببعضها، وهذا فهم خاطئ؛ فلذلك يرى بعض السلف أن الدين واحد أصوله وفروعه سواء، ولا يجوز أن يقسم إلى أصول وفروع، لكن مع ذلك ساد هذا الاصطلاح عند بعض أئمة الدين المحققين، ورضوه لأنهم يقصدون به العقيدة.
ومن الأسماء التي اشتهرت: الفقه الأكبر، لكن استعماله في أصول الدين أو في العقيدة قليل جداً، وهو -أيضاً- مثل كلمة (أصول الدين)، بمعنى أن الفقه بما يتعلق بالله سبحانه وتعالى وبعبادة الله، وبما يتعلق بمسائل أصول الدين الأخرى القطعية هو الفقه الحقيقي في الدين، فمن هنا سمي الفقه الأكبر، ولا يعنى به الفقه الاجتهادي، أي: فقه الأحكام، ففقه الأحكام يسمى بإزاء هذا الفقه الأصغر، وهذه التسمية يرد عليها تفصيلاً ما يرد على تسمية أصول الدين.
ومن الأسماء المشهورة -وهو السادس-: الإيمان، فقد يسمي بعض السلف العقيدة بمسمى الإيمان، وإن كان الإيمان قد يطلق إطلاقاً خاص، لكنه إذا جاء مطلقاً من غير مفهوم يخصصه في السياق فالغالب أنه يقصد به العقيدة؛ لأنه إذا أطلق يشمل الإسلام ويشمل العقائد الباطنة، يشمل الأعمال الظاهرة ويشمل العقائد الباطنة، فالأصح أن من أسماء العقيدة وإطلاقاتها: الإيمان بمعناه الشامل.
ومن أسماء هذا العلم وإطلاقاته: الشريعة، وهذا إطلاق نادر أيضاً، لكن رضيه أهل العلم، وإن كانت الشريعة في الاصطلاح الدقيق السائد المشهور تعني الأحكام، والعقيدة تعني أصول الدين، ومع ذلك قد يرد في بعض معاني العقيدة إطلاق الشريعة؛ لأن العقائد والأحكام من شرع الله، فهذه أشهر الإطلاقات التي عرفت عند السلف.
فعلم الكلام هو فضول الكلام الذي أطلقته الفرق في مسائل العقيدة وتلفظت به وتكلمت به، ولا يقول به السلف، وليس بتوقيفي.
ومن الأسماء السائدة المبتدعة: الفلسفة، إطلاق الفلسفة على العقيدة، وهذا خطأ فادح؛ لأن الفلسفة حكمها حكم علم الكلام، بل هي أبعد عن الإسلام.
ومن ذلك: التصوف، فبعض الناس -خاصة أهل التصوف والطرق- يسمون العقيدة أحياناً بالتصوف، وهذا الإطلاق كثير عند الغربيين، فالغربيون بحسب مفهومهم يطلقون على عقائد الإسلام: التصوف.
ومن ذلك: الإلهيات، فإطلاق كلمة (إلهيات) على العقيدة الإسلامية الصحيحة خطأ؛ لأن الإلهيات هي الجانب الفلسفي الغيبي المتعلق بالإله عند الغربيين، وهذا اللفظ حكمه حكم الفلسفة وعلم الكلام؛ لأنهم يقصدون بالإلهيات كل كلام في غير عالم الشهادة يتعلق بالله سبحانه وتعالى، سواء في وجوده أو في وحدانيته، أو في أسمائه وصفاته، وأولئك لا يعرفون أي معنى من معاني الإثبات الشرعي فيما يتعلق بالأسماء والصفات، فلذلك يتكلمون فيها بالغيب وبالفلسفة، ويسمون هذا كله بالإلهيات، ومن هنا صنفوا موضوعات العقيدة وكتب العقيدة الإسلامية تحت مسمى (الإلهيات).
ومن الأسماء التي اشتهرت عند الصوفية أنهم يطلقون على العقيدة (علم الحقيقة)، وعلم الحقيقة عندهم قد يكون أوسع من هذا أيضاً، فهو الأمور الباطنية التي يتذوقونها من أمورهم الباطلة التي تخالف ما جاء في الكتاب والسنة، وهو الذي يسمونه علم الظاهر، أو علم الشريعة، أو علم العوام.
ومن الأسماء التي تعلق بها بعض المثقفين -وهي مستوردة- تسمية العقيدة بـ(ما وراء الغيب)، فـ(ما وراء الغيب) كثيراً ما تطلق عند كثير من المفكرين وبعض الكتاب المثقفين، حتى بعض الإسلاميين منهم، بل بعضهم ينقلها بحروفها أو بلفظها الأجنبي دون أن يعيها هو ولا القراء، مثل كلمة (الميتافيزيقا)، فهذه أيضاً من أكثر ما يطلقونه، ولو أردنا أن يفسروها لما فسروها، ككثير من الكلمات التي يحاكون بها الغرب.
فهذه من أشهر الإطلاقات التي ابتلي بها الناس الآن في إطلاقها على العقيدة، وهي إطلاقات مبتدعة: علم الكلام، الفلسفة، التصوف، الإلهيات، علم الحقيقة، ما وراء الغيب، الميتافيزيقا.
ولذلك ينبغي أن تحرر هذه المسألة، وتبين بشكل جيد لطلاب العلم، حتى يعلم ما الذي يؤخذ من الفكر الإسلامي الحديث وما الذي يستغنى عنه؟
فلا بد من وضع ضوابط، أما أن نأخذ كل ما كتب وكل ما قيل فهذا خطأ، فأكثر ما قيل من الفكر الإسلامي يشتمل على حق، ويشتمل على فوائد تفيد هذا الجيل، لكن نخشى أن يكون بديلاً عن العقيدة، بل إني أرى أجيالاً نشأت في بعض البلاد الإسلامية على بعض الكتب الفكرية على أنها هي منبع التصور والاعتقاد، ونشأت على هذا دعوات كبرى تعلقت بمثل فكر سيد قطب رحمه الله وفكر محمد قطب وأفكار آخرين على أنها هي التي يعتمد عليها في التصور الإسلامي، واستغنوا بها عن كتب العقيدة، وهذه الكتب جيدة ومفيدة جداً، لكن بشرط أن نستقي العقائد أولاً من كتب العقيدة، ثم نستفيد من هذه المستلزمات الفكرية الجيدة المفيدة التي قال بها أمثال سيد قطب وغيره رحمهم الله، ووفق الأحياء منهم.
أقول هذه المسألة ولا أعطي فيها رأياً، لكن أثير هذا الإشكال لضرورة الإجابة عليه، فمسألة الفكر الإسلامي والتعلق به تحتاج إلى نظر، والاستغناء بالفكر الإسلامي عن العقيدة، أو تربية الأجيال عليه في التصور والأحكام مسألة خطيرة، وأنا أكاد أجزم بأن بعض الحركات التي مالت إلى التنطع في الدين -كالتكفير والهجرة- كان منشأ ميلها هو تعلقها بفكر بعض المفكرين، ففهمته خطأ بمعزل عن أصول السلف وعقيدة السلف، فلما قرءوا عقائد السلف جعلوا الفكر الإسلامي الحديث هو الميزان، فبذلك انحرفوا، نسأل الله العافية.
إذاً: المسألة تحتاج إلى شيء من التحقيق، وتحتاج إلى شيء من الدراسة.
فالفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية إذا كان يقصد بهما أنهما بديلان عن العقيدة، أو يقصد الاعتماد عليهما في إعطاء التصور الإسلامي الأصيل فهذا خطأ ينبغي تصحيحه، وإذا كانا رافدين للعقيدة فلا مانع بشرط سلامتهما، بمعنى أن تكون هناك مادة عقيدة يدرسها الطالب، ويفهم أن هذا الفكر وهذا الاتجاه أو هذه الثقافة إنما هي رافدة وتعطي التصور الصحيح لما يتعلق بواقع المسلمين المعاصر أو الرد على الشبهات والتحديات المعاصرة، فهذا الجانب جيد ومفيد، لكن بشرط ألا يستغنى به عن العقيدة، وأن لا يكون هو منهج التربية الذي تبنى عليه تصورات الأجيال، وأنا أخشى من هذا الخلل، أي: أن يظهر جيل لا يعرف من العقيدة إلا كتب الفكر الإسلامي، أو لا يفهم من أصول الدين والأمور التي تنبثق منها تصوراته إلا هذا الجانب، أقول: هذا أمر يحتاج إلى تحرير، وفيه نوع من الخطورة جدير بالاهتمام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر