تكلم الشارح عن استحالة استقلال العقول بمعرفة أصول الدين على التفصيل، فالعقول لا تستقل بمعرفة العقيدة ولا بإدراكها على وجه التفصيل، وكأنه بذلك يشير إلى أن من أصول العقيدة ما تدركه العقول على وجه الإجمال، وهذا صحيح في الجملة، ومع ذلك لا تستغني العقول عمَّا يرد من الهداية ومن البيان ومن الأخبار في أمور الغيب عن الله سبحانه وتعالى كما بعث بذلك رسله؛ لأن العقول وإن أدركت بعض الإجماليات إلا أن هذا الإدراك لا ينفع، بمعنى أن تكليف البشر وحسابهم مبني على ما جاء به المرسلون في توحيد الله تعالى، وفي شرعه وأمره وخبره ووعده ووعيده.
وإدراك العقول للأمور الإجمالية هو إدراك فطري يدركه الإنسان بفطرته وعقله السليم، لكن مع ذلك لا يمكن أن يدركه كل البشر، بمعنى أنه لو ترك البشر بلا رسالات ولا أنبياء لأدركت طائفة قليلة منهم قضايا إجمالية عامة من أمور الدين، وهذه القضايا الإجمالية لا ينتفع بها البشر، مثلاً: الفطرة والعقل السليم لا بد لهما من أن يدركا ضرورة وجود الخالق لهذا الخلق، ومع ذلك قد تعمى عقول كثير من البشر عن هذا الإدراك، والعقل السليم والفطرة قد يدركان ضرورة البعث، لكن أكثر البشر لا يدركون هذا؛ لأن هذا أمر خفي لا يدرك إلا بتأمل قوي وبعقول راجحة كبيرة وبذكاء، وهكذا، فالأمور الإجمالية التي تدرك بالعقول والفطرة لا تفيد البشر؛ لأن البشر يحتاجون إلى أمور تفصيلية، سواء ما يتعلق بتوحيد الله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وحقوقه، وما يتعلق بتفصيلات الشرع، فمن المحال أن تستقل العقول بمعرفة حقوق الله تعالى وشرعه وما يرضيه على وجه التفصيل.
هذا -في الحقيقة- جزء من عمل المرسلين، وليس هو أول دعوتهم، وليس هو المفتاح وإن كان جزءاً من مفتاح الدعوة؛ لأنا إذا تأملنا آيات الله -كما قال أئمة السلف الذين قرروا التوحيد- وتأملنا الأحاديث وتأملنا سير المرسلين وما جاء به الرسل مما ذكره الله عنهم فسنجد أن أول ما يدعون إليه هو عبادة الله، وهي مفتاح الرسالات، ويتبع ذلك بالضرورة توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، لكن لم يكن أول ما جاءوا به هو التعريف بالله فقط؛ لأن معرفة الله يدركها أكثر الأمم حتى الأمم الكافرة والمشركة والأمم الضالة، والله سبحانه وتعالى أرسل المرسلين إلى أمم تعرف الله ولا تنكره، إلا أمماً شذت كفرعون وقومه فقط، فهم الذين ورد في القرآن أنهم جحدوا الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء يستثنون، أما بقية الأمم فلم يرد دليل قاطع ولا دليل ظني على أنها كانت لا تعرف الله، إنما كانت تعرف الله وتعبد غيره، فالتعريف بالله دخل ضمن الدعوة إلى توحيده، وإلا فالهدف والغاية الأولى ومفتاح الدعوة للمرسلين هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ونبذ الشرك.
قال رحمه الله تعالى: [ ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان:
أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
والثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم] .
عندنا ثلاثة أصول جاء بها المرسلون، وهذه الأصول تندرج فيها أمور الدين كلها، فالأصل الأول -كما أشار إليه ولم يذكره نصاً- هو عبادة الله تعالى، وهو الاعتقاد؛ لأن قمة الاعتقاد هي عبادة الله بتوحيد الإلهية، أما توحيد الربوبية والأسماء والصفات فإنه من مستلزمات العبادة لله تعالى بحق، فأول الأصول التي جاء بها المرسلون وأعظمها، والذي ينبغي أن يكون أصلاً لكل دعوة ولكل داعية: عبادة الله تعالى وحده ونبذ الشرك، وما يتبع ذلك من ضرورة معرفة الله تعالى بذاته وأسمائه وصفاته، وما يتبع ذلك من ضرورة الاعتراف بالربوبية لله وحده، ونتيجة ذلك وأوله وخاتمه هو عبادة الله وحده بما شرعه الله، هذا هو الأصل الأول.
الأصل الثاني: الشرائع التي تبين للناس ما يريده الله منهم على وجه التفصيل، فكل الأنبياء أتوا بشرائع، سواء منهم من أنزل عليه كتاب وشريعة مستقلة ومن كان تابعاً لشرع من سبقه كالكثير من النبيين، فالرسل أتوا بشرائع وكتب منزلة، والنبيون إنما جددوا شرائع من سبقهم من المرسلين وعملوا بها، وربما يكون بعض الأنبياء قد أنزلت عليهم شرائع، والله أعلم، وهذه مسألة خلافية كما هو معروف، والمهم أن الأصل الثاني الذي جاء به جميع المرسلين هو الشرائع الهادية للناس لأن يعبدوا الله على شرعه، وأن يطيعوا أمره ويجتنبوا نهيه، والأوامر والنواهي التي جاءت عن الله تعالى في الشرائع تفصيلية وليست إجمالية.
الأصل الثالث: البشارة والنذارة، فكل النبيين جاءوا بهذا الأصل، كل نبي بشر قومه المطيعين بوعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين في الدنيا وبالجنة في الآخرة، وكل نبي توعد قومه الذين كفروا بما توعدهم الله به في الدنيا وبما توعدهم الله به في الآخرة.
إذاً: فجميع الأنبياء جاءوا بهذه الأصول الثلاثة: بالتوحيد أولاً، وبالشرائع ثانياً، وبالوعد والوعيد ثالثاً.
قال رحمه الله تعالى: [ فأعرف الناس بالله عز وجل أتبعهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه؛ ولهذا سمى الله ما أنزله على رسوله روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فقال تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53].
فلا روح إلا فيما جاء به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به، وهو الشفاء كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44] فهو -وإن كان هدى وشفاءً مطلقاً- لكن لما كان المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فلا هدى إلا فيما جاء به].
يقول المحقق في الهامش مقتبساً من كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم : [للإنسان ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، وإما أن يجحده.
فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة، فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به.
والنوع الثاني: من يعرف الحق لكن يخالف نفسه، فهذا يوعظ بالموعظة الحسنة، وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا؛ فإن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته، وأما الجدل فلا يدعى به، بل هو من باب دفع المعارض، فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن، وقال تعالى: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ولم يقل: بالحسنة كما قال في الموعظة؛ لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من المخالفة والمدافعة، والمجادلة بعلم كما أن الحكمة بعلم، وقد ذم الله تعالى من يجادل بغير علم في غير موضع من كتابه ] .
قال رحمه الله تعالى: [وأما ما يجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجاتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي والمحدث والحاكم ما لا يجب على من ليس كذلك].
وقد ذكر ابن أبي العز شيئاً من الفروق جيداً، وكذلك المحقق، لكن يحسن أن نذكر ضوابط كبرى للفارق بين الإيمان الإجمالي ومتى يجب وعلى من يجب، وبين الإيمان التفصيلي ومتى يجب وعلى من يجب؟
الضابط الأول في التفريق بين الإجمال والتفصيل: أن هناك من إجماليات الدين ما لا يعذر فيه أحد، كأركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
فهذه الأصول بإجمال دون دخول في تفصيلاتها لا يعذر أحد في جهلها، وكل يستطيع الإدراك لها ما دام عاقلاً مميزاً، فلا بد من أن يدرك هذه الأمور على وجه الإجمال.
وفي الجوانب العملية هناك من الدين ما لا يسع جهله، كأركان الإسلام الخمسة، نعم بعضها مبني على الاستطاعة كالحج، لكن إدراكها والإيمان بأنها واجبة، وكذلك القيام بها حال الاستطاعة أمر لا يعذر فيه أحد.
فهذا القدر من الإيمان الإجمالي لا يمكن أن يتخلف عند عاقل إدراكه والعمل بما يستطيع منه.
الضابط الثاني: أن هناك ما تستطيع طائفة من المسلمين العلم به ويبلغهم علمه.
فكل من استطاع أن يأخذ علماً من العلوم الشرعية الضرورية وجب عليه أن يحصله، وعلى هذا فإن طلب العلم على وجه الإجمال واجب، يعني: يجب على المسلم أن يتعلم ضروريات دينه حتى ما يزيد على الإجماليات التي ذكرتها؛ لأن هناك أموراً تفصيلية يجب على من يستطيع تحصيلها علماً أن يحصلها.
إذاً: القاعدة الثانية: أنه يجب تحصيل العلم الشرعي على من يستطيعه بقدر استطاعته.
فالعلم علمان: علم يتعلق بالتبحر في العلم لأجل استنباط الأحكام وتعليم العلم للمسلمين ونشره والدعوة إليه، فهذا ينبغي أن تنبري له طائفة من المسلمين، ولا يجب على الجميع، فمن قامت به الكفاية كفى عن البقية.
وعلم يجب تحصيله على الجميع، وهو تحصيل الأمور الضرورية في العقيدة والأمور الضرورية في الشريعة.
الضابط الثالث: الإدراك بقدر الاستطاعة، بمعنى أنه لا يجب على كل إنسان أن يفهم أو أن يستوعب كل ما بلغه، إنما استيعابه بقدر إدراكه، فبعض الناس قد يبلغه الدليل من الآية أو الحديث لكن لا يدرك فقهه، فمن هنا لا ينبغي له أن يخبط فيه أو يتكلم بغير علم، فالإدراك العلمي والتبحر فيه لا يمكن إلا لطائفة من البشر وهبهم الله مواهب زائدة، وهم أهل الذكر، وهم الذين يستطيعون الاستنباط، أهل الفقه في الدين الذين يملكون إدراك معاني النصوص واستنباط ما يفهم منها على ضوء قواعد الاستنباط الشرعي، وكل درجة لها طائفة من الناس، فالإيمان الإجمالي الذي ذكرته لا يعذر فيه أحد، والعلم بما يمكن تحصيله من ضرورات الدين لا يعذر فيه من يستطيع التحصيل.
أما العلم التفصيلي؛ فهو الذي قد يعذر فيه بعض الناس إذا حصلت الكفاية بالآخرين، وهو التبحر في العلم بالدين.
والجهل منشؤه تقصير الإنسان في طلب العلم؛ لأن الجهل جهلان: جهل القادر على التعلم، وهذا عليه أغلب الجاهلين، يعني: كل إنسان -مهما كان عنده من ضعف القدرة- لا بد له من أن يستطيع أن يعرف شيئاً من الفقه في الدين تسلم به عقيدته وتستقيم به أموره ويكون على السنة، فغالب الناس عندهم القدرة على أن يحصلوا شيئاً من الفقه في الدين ولو لم يكونوا من أهل العلم المتمكنين أو من أهل الذكر.
إذاً: الجهل هو العلة الأولى للتفريط، وهو أعظم أبواب التفريط في دين الله سبحانه وتعالى، وأول ما أتي منه المسلمون وآخر ما أتوا منه باب الجهل، والجهل مصيبة.
أما إعراض القلوب فهو النفاق، نسأل الله العافية، وأما إعراض الأعمال فهو الفسق والفجور، فكثير من الناس يكره مظاهر الدين ويكره السنة؛ لأنه يحب الفجور والفسق، فيعرض عن دين الله إعراضاً مقصوداً متعمداً.
والإعراض أيضاً كثير، سواء في الفرق وأهل الأهواء والابتداع أو في أهل الفسق والفجور، خاصة أولئك الذين يؤثر فسقهم في الأمة، فهؤلاء الغالب فيهم النزعة إلى الإعراض المتعمد عن دين الله، كما يحصل من بعض الولاة على مدار التاريخ؛ لأن هؤلاء فسقهم يؤثر في الغالب في الأمة، وقد يشرعون له، وقد يبثون فسقهم بوسائلهم التي يملكونها، وهؤلاء قد تكون منهم طائفة إعراضها عن دين الله تعالى -أي: عن العمل بالسنن- وإعراضها عن الهدى إعراض مقصود، بل الإعراض كله مقصود، ولا يسمى إعراضاً إلا إذا كان مقصوداً.
ومن وجوهه أيضاً: عدم التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم التسليم أحياناً يكون نظرياً وأحياناً يكون عملياً وأحياناً يجمع بين الأمرين، بمعنى أن عدم التسليم أحياناً يكون في القلب، فيفرط الإنسان فيما جاء عن الله؛ لأنه لم يسلم بذلك اعتقاداً، فيفرط الإنسان ببعض السنة لعدم تسليمه بذلك، كما نجد من الناس من يشكك في بعض السنن الثابتة، فهذا يختل تسليمه ولو كانت سنناً يسيرة، كالسواك مثلاً، حيث يأتي الإنسان يجادل في أن السواك لم يثبت في السنة، أو يتعلل بأي تعليلات فينفي سنة السواك، فمن فعل هذا فقد اختل تسليمه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يصدق.
فاختلال التسليم قد يكون في القلب بعدم التصديق، وقد يكون في العمل، وقد يشمل الأمرين وكذلك من آمن بسنة ولم يعمل بها وهو قادر عليها اختل تسليمه، مثل إنسان قال: أنا مقر للرسول صلى الله عليه وسلم ومصدق له بأن الصلاة مفروضة. ولكنَّه لا يصلي ولا يؤدي الصلاة، فهل يصح تسليمه؟! هذا تسليمه نظري ولا ينفعه تسليمه هذا، فهذا مفرط؛ لأنه أخل بالتسليم، إذاً: الإخلال بالتسليم يشمل أمرين: يشمل الإخلال بالتلقي والاستدلال، ويشمل الإخلال بالعمل والاعتقاد، ومعنى الإخلال بالتلقي والاستدلال أن يتلقى الإنسان دينه من غير مصادره الشرعية، من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف، يتلقى الدين بمشربه هو، فقد يكون -مثلاً- متصوفاً فيفرط في الدين بأن يتلقى الدين عن المنامات أو عن أقوال الرجال، أو عما يسمى بالكشف أو الذوق، فهذا فرط في دين الله.
وقد يكون من خلل التلقي التعويل على العقل وعلى الأهواء، وهذا -مع الأسف- كثر في هذا الزمن بشكل مزعج، حيث نجد أناساً قد يكون بعضهم محسوباً من أهل الخير ومحسوباً من الدعاة والمثقفين والمفكرين، فإذا بدأ يتكلم في أمور الدين وأصوله وقضاياه بدأ يتكلم بنزعته هو، ولا يعول على النصوص ولا على أقوال السلف، بل ربما يتنكب لأقوال السلف، فهذا يعتبر مفرطاً في دين الله؛ لأنه اختل منهج التلقي عنده، حيث تلقى دينه من مزاجه.
ولا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً يدينونه إلا أن يكون موافقاً لدينه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم السلام].
تجري على ألسنة الناس ألفاظ في أسماء الله وصفاته لم ترد في الكتاب والسنة، وقوله: [وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه به العباد] يعني: من الأقوال التي لا تصح، أو التي هي عبارة عن مقولات إما متوهمة وإما فيها قدح في أسماء الله وصفاته تعالى الله عما يصفه به المبطلون ذوي الأوصاف الخبيثة، فهناك من العباد من وصف الله بأوصاف قبيحة، كالمشركين، فالمشركون وصفوا الله بأوصاف قبيحة، وكذلك اليهود وصفوا الله بالعيوب تعالى الله عما يزعمون، فقد وصفوه باللغوب، وهو التعب، ووصفوه بالعجز ووصفوه بالبخل، بل إنهم يجسمون الله تعالى الله عما يزعمون، فالله نزه نفسه عما يصفه به هؤلاء العباد، وهناك نوع آخر من الوصف قد لا يكون قدحاً مباشراً، لكنه كلام عن الله بغير علم، وهو أخطر على الأمة من الأول؛ لأن النوع الأول لا يقول به إلا مبطل، وتنفر منه الطباع السليمة، ولا يمكن أن يقبله أحد من المؤمنين، لكن النوع الثاني -وهو الكلام عن أسماء الله وصفاته بما لم يرد في الكتاب والسنة بدعوى التنزيه- هو الذي أشكل وأوقع الأمة في الحرج، فأوقع طوائف من الأمة في الخروج عن السنة والابتداع والقول بعلم الكلام الذي شغل المسلمين عن الهدى والحق، وستأتي أمثلة لهذا وسنتكلم عنه على التفصيل، ولعلي هنا أورد ما يتبين به المراد، فأقول: إن قوله: [عما يصفه به العباد] على نوعين: الأول: الأوصاف القبيحة التي وصفه بها المشركون واليهود والمشبهة ونحوهم، وهذه معلومة والنفور منها عند جميع الخلق معلوم، وهناك نوع آخر، وهو الكلام في الله سبحانه وتعالى وفي أسمائه وصفاته بأمور قد يقصد بها التنزيه لكنها متخيلة وليست على الحقيقة، ثم إنها مبتدعة، كقول المتكلمين عن الله تعالى: إنه ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر ولا مباين ولا محايث ولا فوق ولا تحت ولا بحد ولا يتكلم .. إلى آخر ذلك من المعاني التي هي أشبه بوصف المعدوم كما سيأتي، فهذا سوء أدب مع الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يوصف بما وصف نفسه، والله وصف به نفسه وله تعالى من الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة ما يتضمن كل كمال.
وهذا هو قول الأئمة، وليس من عندي، ولكن أكرره ليتبين خطأ المتكلمين الذين قالوا على الله بغير علم.
أقول: إن أهل العلم أجمعوا على أن ما في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الكمال له تعالى ومن أوصاف الكمال له تعالى يغني عن كل ما يمكن أن يتلفظ به بشر بأي لغة، ويغني عما يمكن أن يتصوره البشر بأي خيال، فكل كمال يمكن أن يتصوره أحد ويتكلم فيه أحد ففي القرآن والسنة ما يغني عنه، فأسماء الله العظمى -الله، الحي، القيوم، الرحمن، الرحيم، العلي، العظيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر سبحانه- أسماؤه هذه أعظم من أن يأتي البشر بأكبر منها، بل لله من الأسماء والصفات ما لا يطيقه البشر في الدنيا، حجبه الله بعلم الغيب عنده، ولذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ربه بمحامد من أسماء لله وصفاته؛ لأنه أفضل الخلق، فيعرف لله في ذلك الوقت من المحامد ما يلهمه الله إياه ولم يكن يعرفه في دنياه، وهذا يدل على أن الله له من العظمة والكمال والجلال ما لا يمكن أن يخطر بخيال بشر، وأن أسماء الله وصفاته التي وردت في الكتاب والسنة تجمع كل كمال يمكن أن يتخيله البشر، فمن هنا كان ما يصفه به العباد من غير ما ورد في الكتاب والسنة رجماً بالغيب؛ لأن الله ليس كمثله شيء سبحانه.
قال رحمه الله تعالى: [ وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه به العباد إلا ما وصفه به المرسلون بقوله: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182] فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثم سلم على المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد].
إذا أردنا أن نعرف مدى خطأ المتكلمين الذين تكلموا بتلك الصفات بغير حق على نحو يدركه الإنسان بعقله وفطرته؛ فإنا سنقارن بين أقوالهم وما أخبر الله تعالى به عن نفسه، فالمتكلمون قالوا بأن الله ليس بجسم ولا بعرض ولا بجوهر، فلو أنهم اكتفوا بقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-3] ألا يكون هذا أكمل من كلامهم وأوفى وأسلم وأعظم وأسمى وأجل؟! هذه مقارنة يسيرة، فلم يخوضون في مسائل الجسم والعرض والجوهر؟!
أليست هذه الألفاظ من خصائص المخلوقات؟! والله ليس كمثله شيء، فالله كفاهم لو أنهم وقفوا على حدود الله سبحانه وتعالى، كفى عباده الخوض في أمور الغيب، وأعظم الغيب وأخطره هو ما يتعلق بذات الله وأسمائه، لكن نسأل الله العافية، فالقلوب قد تمرض.
وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير القرون، ثم خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم وافترقوا، فأقام الله لهذه الأمة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم)].
حفظ الدين -كما هو معلوم- يقوم على ركيزتين من خلال استقراء النصوص وأقوال السلف:
الركيزة الأولى: ما تكفل الله به من حفظ مصادره بحفظ الذكر وهو القرآن والوحي، وهذا ضمان من الله، فلذلك سخر الله من أهل العلم من حفظ الحديث إلى أن استقر وبان الصحيح من غير الصحيح، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى ما كانت تتهيأ لأمة من الأمم في الزمان الماضي.
إذاً: فالحفظ الأول هو حفظ الذكر نفسه، حفظ القرآن، ومعلوم أن الله تكفل بحفظه حتى إنه لم يستطع أحد أن ينال منه ولو بحرف من الحروف، وهذه معجزة.
ثم بحفظ السنة بالأسلوب العلمي الدقيق الرائع العجيب الذي اهتدى إليه السلف في ضبط الحديث درايته وروايته.
والركيزة الثانية من حفظ الدين: بقاء طائفة على الحق ظاهرين، وهذه الطائفة فسرت بتفسيرات، فمنهم من فسر هذه الطائفة بأهل الحديث وأهل العلم وأهل الفقه في الدين، وهذا يعني أن من كان على نهجهم فهو منهم، ولا يعني أنهم المقصودون فحسب، لكن لأنهم هم القدوة وهم الأسوة وهم المثل فسر بهم الحديث، ومن كان من عامة المسلمين على سمتهم ونهجهم فهو منهم.
ومنهم من فسره بأعم من هذا المعنى فقال: هم أهل العلم وعامة من كان على السنة. والمعنى واحد ولا فرق، لكن أهل العلم نوهوا في تفسير حديث الطائفة المنصورة على ذكر أهل العلم؛ لأنهم هم الجماعة، وهم الذين تقتدي بهم الأمة، وهم الذين يحفظ الله بهم الدين علماً وعملاً، وغيرهم من عامة المسلمين إذا كانوا على هديهم فهم تبع لهم.
إذاً: حفظ الدين يقوم على الركيزتين: على حفظ مصادره وعلى وجود من يقوم به، فلا بد من أن يبقى من أهل العلم من هو حجة على الخلق إلى أن يأذن الله برفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالاً فيفتوا بغير علم فيضلوا ويضلوا، وهذا في آخر الزمان.
قال رحمه الله تعالى: [ وممن قام بهذا الحق من علماء المسلمين: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي -تغمده الله برحمته- بعد المائتين؛ فإن مولده سنة تسع وثلاثين ومائتين، ووفاته سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
فأخبر رحمه الله عما كان عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري ، ومحمد بن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر