بالنسبة للحديث عن التأويل ينبغي التنبيه على أمر من الأمور التي اختلطت على كثير من الناس خاصة في هذا العصر، وهي دعوى أن التأويل قد يدخل في العقيدة بأي وجه من الوجوه، وهذه دعوى باطلة بإطلاق جزماً؛ لأن العقيدة لا يمكن أن يرد فيها التأويل بأي معنىً من معاني التأويل عند من عرف التأويل من الأصوليين، والذين قالوا: التأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لقرينة أو لدليل، تعريفهم هذا -مع سلامته عند الأصوليين- لا يمكن أن يسلم به في أمور العقيدة بإطلاق أبداً؛ لأن التأويل هو صرف اللفظ عن معنىً إلى معنى آخر، وعن لفظ إلى لفظ آخر، واللفظ المغاير يقتضي المعنى المغاير، وهذا الصرف لا يتأتى في أمر العقيدة؛ لأن العقيدة غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فمن هنا لا يتأتى بأي حال من الأحوال أن يدعي بشر بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه باستطاعته أن يعطي معنى آخر لألفاظ الغيب، ومنها ألفاظ العقيدة، فألفاظ العقيدة استقرت على ما هي عليه، فعلى هذا يجب أن نقف على ألفاظها، ومعاني الألفاظ هي التي تفهم بما يمكن أن يفهمه البشر، وما لا يفهم يفوض علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الكيفيات، فمن هنا لا يتأتى التأويل في العقيدة أبداً، وما يرد من النصوص التي تشبه التأويل في العقيدة فإنما هو تفسير نص بنص، لا دخول للعقل فيه ولا لاجتهاد البشر، ولا يمكن لبشر أن يصرف لفظاً من ألفاظ العقيدة عن معنى راجح إلى معنى مرجوح؛ لأن الانتقال من معنى إلى معنى آخر يخرج المعنى الأول من اليقين إلى الشك، ثم يكون المعنيان كلاهما مشكوكاً فيهما ومظنوناً، وهذا لا يتأتى في العقيدة، بل ما كان كذلك لا يكون عقيدة، فلذلك اضطربت عقيدة المؤولة، كل من أول في العقيدة بأي نوع من أنواع التأويل فإن عقيدته مضطربة فيما أول فيه؛ لأنه خرج من المعنى الذي يريده الله إلى معنى آخر ليس عنده عليه برهان ولا دليل، والعقيدة غيب، ولو لم تكن غيباً ما صارت عقيدة، فأي أمر ينتقل من الغيب إلى عالم الشهادة لا يصبح من عالم الغيب ولا يكون عقيدة.
إذاً: فالتأويل في العقيدة لا يرد، إنما يرد التأويل في الأحكام؛ لأن أدلة الأحكام فيها الناسخ والمنسوخ، فيجوز صرف اللفظ من معنى إلى معنى آخر بقرينة النسخ، وكذلك ألفاظ الأحكام فيها المطلق والمقيد وفيها العام والخاص، وفيها ما يسوغ الخروج من لفظ إلى لفظ آخر، سواءٌ أكان هذا المسوغ دليلاً آخر أم قرينة أخرى أم قاعدة شرعية كبرى أم ضرورة أم خصوصية أم نحو ذلك.
أما العقيدة فلا يمكن أن يرد فيها تأويل، ولا نعرف أحداً من السلف وأئمة الدين قديماً وحديثاً ادعى أن في العقيدة تأويلاً، إذاً: فينبغي أن يفهم هذا؛ لأن هذه المسألة ستتكرر كثيراً في دروس العقيدة الطحاوية، وسيفرد لها باب إن شاء الله، وسيأتي لها مناسبة، لكن نذكر بها الآن ليفهم هذا.
وكل من التحريف والانحراف على مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.
فالواجب اتباع المرسلين، واتباع ما أنزل الله عليهم، وقد ختمهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجعله آخر الأنبياء، وجعل كتابه مهيمناً على ما بين يديه من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين: الجن والإنس، باقية إلى يوم القيامة، وانقطعت به حجة العباد على الله، وقد بين الله به كل شيء، وأكمل له ولأمته الدين خبراً وأمرا، وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره، وأنهم إذا دعوا إلى الله والرسول -وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله- صدوا صدودا، وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقا، وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نحس الأشياء بحقيقتها -أي: ندركها ونعرفها- ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات -وهي في الحقيقة جهليات- وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو: نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة ].
هذه الدعوى -وهي دعوى الإحسان أو دعوى الإصلاح ودعوى كل طائفة وكل صاحب منهج أن منهجه هو الأسلم وهو الأصلح- توجد في كل الطوائف التي خرجت عن السنة والجماعة، سواء الطوائف التي خرجت خروجاً اعتقادياً وهي الفرق، والطوائف التي خرجت خروجاً عملياً، وهم أهل الفسق والفجور، فهؤلاء كل منهم يدعي أنه أراد الإصلاح وأراد التوفيق، وهذا من التضليل والإيهام والتلبيس على الناس؛ فإن شرع الله تعالى لا يمكن أن يلفق بغيره، ولا يمكن أن يوفق بينه وبين غيره؛ لأن التوفيق هنا تلفيق، والتوفيق إنما هو بين الأمرين المختلفين على الحق، أما التوفيق بين الحق والباطل فهذا لا يمكن، وكل دعوى توفيق بين الحق والباطل إنما هي تلفيق، وكل الأصناف التي ذكرها الشارح -كالمتكلمة والمتفلسفة- يدعون التوفيق، وعملهم ليس بصحيح، ودعواهم ليست حقيقية؛ لأن دين الله تعالى كامل وشرعه شامل لمصالح العباد في الدنيا والآخرة، ودين الله -أيضاً- لا بد من أن يتضمن قطعاً ما يحقق سعادة البشر في الدنيا والآخرة، فدعوى أن الناس قد يحتاجون إلى شيء من العقليات تقرر لهم عقائدهم أو تقرر لهم الأصول الكبرى والأحكام القطعية الشرعية؛ دعوى باطلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أكمل الدين، والله سبحانه وتعالى هو المشرع وهو العليم بمصالح عباده، فلا يمكن أن يدعي أحد من الناس أن في دين الله نقصاً، ودعوى التوفيق إنما تعني اتهام دين الله بالنقص وأنه بحاجة إلى أن يسد، وأن فيه نوعاً من الخلل، ولا يمكن أن يكون ذلك في دين الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: [ وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدعونه من الباطل الذي يسمونه حقائق، وهي جهل وضلال، وكما يقوله كثير من المتملكة والمتأمرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة، والتوفيق بينها وبين الشريعة، ونحو ذلك ].
وهذه -أيضاً- دعوى عريضة باطلة، دعوى التوفيق بين الشريعة وبين ما يسميه المتصوفة: الحقائق، وهي الجهل والضلال، والمتضادان لا يتفقان أبداً، وعلى سبيل المثال نجد أنهم في حقيقة عقائدهم يعتقدون الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، أو يعتقدون أن من مصادر دينهم الكشف والفيض والذوق وتقديس الأولياء وعلم الغيب ونحو ذلك، وفي الوقت نفسه يدعون من جانب آخر أنهم على العقيدة الصحيحة وعلى السنة، بل يحرصون على إظهار الشعائر الإسلامية، فشعائر الدين هم من أحرص الناس على إظهارها وإظهار الزهد والتنسك، وهذا مما يَفتِن بهم العامة؛ فلذلك نجد في تقرير غلاة المتصوفة والذين جمعوا بين التصوف والفلسفة للاعتقاد أمراً عجيباً، فمثلاً: نجد أحدهم - كـابن عربي على سبيل المثال- يقرر مذهب السلف حتى يظن القارئ أن هذا القائل أو المتكلم من أئمة الدين، ثم لا يلبث أن يعرج على عقيدة غلاة الفلاسفة وغلاة المتصوفة حيث يعتقد أنهم يعلمون الغيب ويعتقد أنهم فوق درجة الأنبياء، ويقرر أن للدين مصادر غير الكتاب والسنة مما عليه المتصوفة ونحو ذلك من الأمور الكفرية الخالصة.
فهذا التلفيق يعتقدون أنه محاولة للتوفيق بين السنة الظاهرة والشريعة وعقيدة المسلمين التي يسمونها الظاهر، وبين الحقيقة في عقائدهم، وهي الزندقة والكفر، ويزعمون أن هذا المنهج هو المنهج الأسلم، وكذلك يضارع هؤلاء غيرهم ممن وضع القوانين والأنظمة والدساتير، فمثلاً: قد يعتبرون الإسلام مصدراً من مصادر التشريع، بل ربما يقولون: إن الإسلام هو دينهم وهو دين الشعب ودين الدولة، ثم بعد ذلك يأتون بقوانين مستمدة من القوانين الوضعية ويجعلونها محكمة ويعمل بها في بلاد المسلمين، ثم يرفعون دعوى أنهم أرادوا التوفيق بين الدين والأنظمة أو بين الدين والسياسة، وإنما أرادوا أن يأخذوا بالدين من جانب وبما في القوانين الأخرى من جانب آخر، ويدعون أن هذا مقتضى المصلحة والتوفيق، وهذا مسلك خطير.
ذكر الشارح أصناف الذين يعدلون عن شرع الله وعن العقيدة من المتصوفة ومن الفلاسفة وغيرهم من الفئات الأخرى التي تعرض عن دين الله، ففي هذا الكلام إشارة إلى أصناف الذين يعدلون عن دين الله.
فذكر الجهل، وهذا فيه إشارة إلى أن هناك فئة من الناس تعدل عن دين الله جهلاً، وذكر في العبارة الثانية الضلال، فالفئة الثانية من الذين يعدلون عن دين الله هم الذين تعمدوا الضلالة من أصحاب الأهواء والبدع، فهؤلاء ضلوا؛ لأنهم لم يكونوا جهلة، بل الغالب أن ضلالهم عن علم وعن عمل.
والصنف الثالث هم الذين فرطوا، وهم الذين يتساهلون في دين الله، يعلمون أن دين الله حق، ويعترفون بذلك ويصدقون، ويعرفون أيضاً أحكام الشرع، لكنهم يفرطون من باب التساهل أو التقصير أو غلبة الشهوات أو غلبة الهوى، وهؤلاء كثر.
والصنف الرابع: الذين يعرضون عن دين الله عدواناً، وهم أشبه بالصنف الثاني، لكن هؤلاء -في الغالب- يقعون في المخالفة لدين الله بنوع من التحدي للشرع وأهله.
والصنف الخامس هم أهل النفاق، ذكرهم في قوله: [وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم] فأهل النفاق الذين يظهرون الإسلام ويدعون أنهم من أهله ومن أنصاره ويبطنون الكيد؛ هم أخطر الفئات كلها، وربما يوجدون في جميع الفئات الأخرى.
كأنه يشير إلى الذين يقعون في الإعراض عن دين الله بسبب الجهل أو التقصير، فهؤلاء جاء إعراضهم عن دين الله بسبب العجز عن المعرفة، والعجز عن القراءة، وقلة الفقه، وهذه إشارة إلى أن الذين يعرضون عن دين الله أو يلفقون في دين الله منهم من لا يتعمد الإعراض عن دين الله، لكنه أتي من قبل تقصيره في فهم الدين وفي إدراك مراد الله، أو عجزه عن العمل بالشرع لأي سبب من الأسباب، فالمسلم قد يعجز أو يضعف أو يجبن أحياناً لأي سبب من الأسباب عن العمل بشرع الله، ولا يسعى إلى أن يقوى الدين وأن يعتز بالإسلام، فهذا يعتبر من المقصرين أو العاجزين، وإلا فالأصل في المسلم إذا أسلم لله سبحانه وتعالى أن يسلم لدينه وشرعه، وألا يتعلل بالعجز وأن لا يتعلل بعلل أخرى؛ لأنه قد لا يدرك علل التشريع، بل الغالب أن البشر لا يدركون جميع العلل في التشريع؛ فلذلك قام الدين على التسليم لله تعالى والتسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم ابتداءً.
ثم بعد ذلك العمل، لا بد من أن ينتج عن التسليم العمل بشرع الله تعالى، فمن اختل عمله لا بد من أن ينقص تسليمه، ومن اختل تسليمه لا بد من أن يختل عمله، والأمران مترابطان، فلا فرق بين العقيدة والشريعة، العقيدة التي هي التسليم والشريعة التي هي العمل، ومن فرق بينهما تفريقاً اعتقادياً ربما يخرج من الملة.
إذاً: سبب هذا العجز هو الخلل في التسليم ابتداءً، فليسلم لله تعالى وليثق بدين الله وبنصر الله، ومن كان هذا حاله لا يمكن أن يقع في الإخلال بدين الله تعالى بدعوى العجز؛ لأن من اتكل على الله فإن الله يسدده ويرشده ويهديه.
فالتسليم لله تعالى هو المقصود، التسليم لله تعالى بالعبادة والطاعة والامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم بحبه وتصديقه واتباع هديه، هذا هو التسليم؛ لأن من مقتضى التسليم التصديق، ومن مقتضى التصديق الاتباع؛ لأن من سلم لله تعالى وسلم لرسوله صلى الله عليه وسلم سلم بالكتاب والسنة، ومن سلم بالكتاب والسنة علم أن الكتاب والسنة يتضمنان الأمر والنهي، فإذا ادعى إنسان أنه مسلم ولم يتبع الأمر اختل تسليمه، ومن ادعى أنه يسلم لله تعالى ولم ينته عما نهى الله عنه اختل تسليمه، ومن ادعى أنه مصدق لله تعالى ولرسوله وبكمال الدين ثم ابتدع انتقض تسليمه؛ إذ كيف تقول بأنك سلمت لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ثم تأتي بدين لم ينزله الله، فمن مقتضى التسليم ترك الابتداع.
ومن التحريف ما هو كفر لا يصل إلى الخروج عن الملة، وهذا راجع إلى عقيدة المحرف، فإذا وقع في أمر مكفر لم يقصده ولم يقصد مناقضة كتاب الله تعالى؛ فقد يكون كفره غير مخرج من الملة.
ومنه ما هو فسق، كتحريف الأحكام، أي: تحريف أدلة الأحكام عن معانيها الحقيقية إلى معان أخرى.
ومنه ما هو خطأ، وهو التحريف الذي يقع فيه المسلم دون قصد، كما وقع فيه بعض أئمة العلم، كتأويل بعض صفات الله، فهو لم يقصد أصل التأويل، إنما وقع فيه عن اجتهاد، فهذا يعتبر خطأً لا يقر عليه، لكنه لا يفسق به ولا يكفر.
فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لـبشر المريسي : العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأساً في الكلام قيل: زنديق، أو رمي بالزندقة. أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته، فإن ذلك علم نافع، أو أراد به الإعراض عنه وترك الالتفات إلى اعتباره؛ فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله، فيكون علماً بهذا الاعتبار، والله أعلم.
وعنه أيضا أنه قال: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب ].
يقصد بمن طلب المال بالكيمياء طائفة من الذين كانوا يحترفون الكيمياء قديماً، فالكيمياء علم من العلوم، لكن هناك طائفة من الدجالين ومن المحترفين قديماً كانوا يتعلمون الكيمياء من أجل أن يراهنوا به العامة، فيأتون للعامي الذي لا يدرك أسرار هذا العلم فيقولون له: نحن نستطيع أن نقلب هذا العنصر من نوع إلى نوع أو من لون إلى لون، فيراهن على ذلك ظناً منه أن هذا مستحيل، فيحولون له السائل إلى جامد والجامد إلى سائل، ويحولون له لون كذا إلى لون كذا وهو يرى ولا يدرك سر التحول من هذا العنصر إلى هذا العنصر، فيغلب ويدفع المال بغير حق، فكانوا -أي: أصحاب الكيمياء أو طائفة منهم- في ذلك الوقت يستعملونها فيما يشبه القمار، يقامرون بها مقامرة ويراهنون بها ويأكلون أموال الناس بالباطل، فكان هذا من الكسب الحرام، وصاحبه في الغالب أنه يفلج في النهاية.
وكذلك طلب غريب الحديث، فبعض الناس لا ينظر من الحديث إلا إلى الغرائب والشواذ، أو إلى الحديث الضعيف أو الموضوع، ويقول: أريد أن أخدم الحديث من هذا الجانب، وهذا مسلك خطير؛ لأن من تعلق بالغريب أو تعلق بالموضوع والضعيف أو تعلق بأمور تضر قلبه فإنه في الغالب لا بد من أن يتأثر بهذا المسلك.
وربما كان في عهد أبي يوسف طائفة من الوضاعين يهتمون بهذه الأمور يلبسون على الناس ويخلطون الأحاديث الصحيحة بالضعيفة وغيرها.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ].
المصيبة أنه في الآونة الأخيرة -بل بعد القرن الثالث الهجري وبعد كلام أبي يوسف والشافعي هذا بمدة- انقلب الحال، فصارت أغلب الفرق التي تدعي السنة تبدأ في تعلم العقيدة بعلم الكلام، فأول ما يبدءون به في تعليم الناشئة والمتعلمين من العقيدة هو علم الكلام، فيقرءون أمثال كتاب الجوهرة، ومقدمات علم الكلام قبل أن يفهموا من العقيدة شيئاً، فمن هنا ظهرت أجيال من المسلمين كثيرة لا تعرف من العقيدة إلا ما كان على نهج أهل الكلام، حتى ظنوا أن هذا هو السنة، والتبس الأمر على كثير من المسلمين إلى يومنا هذا، كما سيأتي تفصيله -إن شاء الله تعالى- في درس قادم.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين ].
قد يفهم بعض الناس من مثل هذه الأبيات أن الشافعي وغيره من أئمة الدين لا يرون تعلم العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وغيرها التي تنفع المسلمين، وهذا فهم خاطئ؛ فإن كلام الشافعي هذا وكلام غيره من أهل العلم الذين قصروا العلم على (قال الله وقال رسوله) يقصدون به العلم الشرعي إذا تلقي وأخذ من غير الكتاب والسنة، فإن هذا مهلكة؛ نظراً لأن السلف كانوا يطلقون العلم على العلم الشرعي، فإذا وردت كلمة العلم في الكتاب والسنة وعلى ألسنة السلف فإنما يعنون بها العلم الشرعي، فكأن الشافعي وغيره يقولون: من طلب العلم الشرعي من غير الكتاب والسنة -كأن أخذه عن مجرد العقول أو عن الفلسفة أو عن علم الكلام أو عن آراء الرجال أو عن أهواء الأشخاص أو عن مصادر التلقي عند الآخرين، كتلقيه عمن يسمون بالأئمة المعصومين عند الشيعة، أو الأولياء عند المتصوفة، أو تلقيه عما يسمى بمصادر الكشف والذوق والأحلام وغيره- من طلبه من غيرهما فطلبه ليس بعلم، إنما هو مهلكة.
إذاً: الكلام لا يندرج تحته ما يتعلق بالعلوم الإنسانية التي تنفع المسلمين أو العلوم التطبيقية؛ لأن تلك ليست علوماً إلا إذا قيدت، فلا يقال في الطب -مثلاً-: علم دون تقييد، بل يقال: علم الطب، علم الفلك، علم الكيمياء، علم الفيزياء، فيقيد.
أما العلم المطلق الذي ورد ذكره في القرآن والسنة بالثناء على أهله والأمر بتحصيله، والأجر على تحصيله؛ فهو العلم الشرعي.
أما غيره من العلوم فإن الإنسان يؤجر فيه بقدر نيته، كما يؤجر طالب التجارة، وكما يؤجر كل من سعى إلى أمر دنيوي فيه نفع للإسلام والمسلمين، فإنه يؤجر عليه بنيته، فالعلوم الأخرى يؤجر عليها الشخص بحسب نيته فيها، لكن ليست هي العلم إذا أطلق في الكتاب والسنة.
الأصحاب هنا هم الأحناف، فـابن أبي العز حنفي، وكذلك الطحاوي -رحمه الله- حنفي، فهنا يقصد الأحناف.
قال رحمه الله تعالى: [وذكر الأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده لا يدخل المتكلمون، ولو أوصى إنسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام. ذكر ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية].
كلام الشيخ واضح، وهو يعني أن أئمة السلف -وقد أشار إلى طائفة منهم، وهم علماء الأحناف في وقته- وقبل وقته كانوا لا يعدون علم الكلام من العلوم، بل يعدونه خارجاً عن معنى العلوم، ولذلك قالوا: إنه لو أوصى إنسان بأنه إذا مات فإن كتبه العلمية توقف على كذا؛ فإن ما يدخل من هذه الكتب في علم الكلام لا يعد من ضمن العلم الذي أوصى به، ولا من كتب العلم، ويخرج من مفهوم كتب العلم.
ولقد أحسن القائل:
أيها المغتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح أصلاً كيف أغفلت علم أصل الأصول
ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم الوجوه، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيراً قليل البركة، بخلاف كلام المتقدمين، فإنه قليل كثير البركة].
لعلنا نورد مثالاً على كلام المتقدمين وكلام المتأخرين، أقصد بالمتأخرين أولئك الذين سلكوا مسلك علم الكلام في تقرير العقيدة، الذين انتهجوا علم الكلام في تقرير العقيدة، فنجد أن الفرق بينهم وبين السلف في تقرير العقيدة واضح جداً، فنأخذ صفة من صفات الله وهي صفة الاستواء، فالسلف يقولون: (الرحمن على العرش استوى) ولا يزيدون، كلمة هي لفظ كلام الله تعالى لا يزيدون فيها ولا ينقصون، وكذلك أتباعهم إلى يومنا هذا، لكن المتكلمين الذين أولوا الاستواء خاضوا في تأويله بألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة وتزيد المتكلم شكاً وريبة، بل تلبس على المعتقد وتجعله لا يستقر على عقيدة، فنجد في كتبهم في تقرير الاستواء أنهم يقولون: الاستواء بمعنى الاستيلاء، ثم يقولون: إن الاستواء يكون بغير مماسة ولا اعتماد، وبغير مكان وبغير زمان، ولا هو مباين ولا محايث، هذه كله في تقرير الاستواء، كلام لا طائل تحته إلا مرض القلب وإدخال الشبهات على الناس، وكل ذلك لم يرد في كلام الله تعالى ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولا على ألسنة السلف، فالسلف يقررون -كما قال الرازي في آخر حياته- أن الرحمن على العرش استوى فقط، بدون خوض؛ ولا يمكن أن يدرك أكثر من معاني الألفاظ الظاهرة، فالله ليس كمثله شيء، لكن نجد في تقرير الاستواء عند بعض المتكلمين أنه قد يكتب عشرين أو ثلاثين صفحة في تقرير معنى الاستواء، فتأتي في ذهنه هذه الشبهات، ويكون عنده الاعتقاد هو النفي وليس الإثبات، فكأنه يصف معدوماً ويزعم أنه ربه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
قال رحمه الله تعالى: [ لا كما يقوله ضلال المتكلمين وجهلتهم: إن طريقة القوم أسلم وإن طريقتنا أحكم وأعلم. وكما يقوله من لم يقدرهم قدرهم من المنتسبين إلى الفقه: إنهم لم يتفرغوا لاستنباطه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالاً منهم بغيره، والمتأخرون تفرغوا لذلك، فهم أفقه!
فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف وعمق علومهم وقلة تكلفهم وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها وضبط قواعدها وشد معاقدها وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدرا].
ذكر الشارح أن ضُلاَّل المتكلمين يقولون بأن طريقة الصحابة والتابعين وأئمة السلف في القرون الثلاثة الفاضلة أسلم في الاعتقاد، لكن طريقة المتكلمين -زعموا- أعلم وأحكم، وهذه دعوى فيها تلبيس وفيها إيهام، فهم يقولون بأن السلف في صفات الله عندهم شيء من طيبة القلوب وسلامة الصدور وعدم القدرة على التعمق في العلوم، فقالوا: غاية ما يقال عن السلف أنهم سليمو القلوب، قلوبهم سليمة، لذلك ما استطاعوا أن يخوضوا في معاني صفات الله وأن يقولوا بذاك الكلام الذي قال به المتكلمون، وهذه شبهة من شبهات ودسائس الشيطان؛ لأن الصحيح الذي نعتقده جزماً أن دين السلف وطريقتهم أسلم وأعلم وأحكم، وأن دعوى المتكلمين بأن طريقتهم أعلم وأحكم دعوى باطلة؛ لأن هذا يعني أنه بقي علم لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بقيت حكمة لم يظهرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل في أمر الاعتقاد.
قد يقال هذا في بعض مسائل الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد متجدد، وقد يدرك الآخر ما لا يدركه الأول إذا آتاه الله علماً وقدرة، فهذا في أمور الاجتهاد قد يرد في بعض المسائل، أما في الجملة فلا شك في أن اجتهاد السلف من الصحابة والتابعين أعلم وأسلم وأحكم من جملة اجتهاد المتأخرين، لكن قد يرد في مفردات المسائل أنه يأتي المتأخر فيعي ما لا يعيه المتقدم في بعض الجزئيات، وهذا في الأمور الاجتهادية.
أما في الأمور العقيدية فلا يمكن، ولا يتأتى أن تكون طريقة المتأخرين أعلم وأحكم؛ لأن الأسلم لا بد من أن يكون أعلم، والأسلم لا بد من أن يكون أحكم، لاسيما في الاعتقاد، وإذا فصلنا بين السلامة والعلم والحكمة فهذا يعني أنا جعلنا للدين ظاهراً وباطناً، فالظاهر هو ما عليه الصحابة والتابعون وسلف الأمة، والباطن هو ما أدركه المتأخرون، وهذا هو بعينه الباطل والضلال، نسأل الله العافية.
الذين شرحوا الطحاوية أغلبهم من المتكلمين، ومن جملة أسباب ذلك أن أغلب شراح الطحاوية من الأحناف المتأخرين، وأغلب الأحناف المتأخرين من أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، مع أن متقدمي الأحناف ابتداءً من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والطحاوي كانوا من سلف الأمة وعلى هدي السلف.
وزخم كتب المتكلمين وكثرتها ليس فيما يتعلق بشرح الطحاوية فقط، بل في سائر العلوم، حتى التبس ذلك على كثير من المسلمين وجعلهم يختلط عليهم الأمر، فقد ابتليت الأمة بأن تعرض كثير من المتكلمين لشروح الكتب والتأليف والتصنيف، بل كانوا أحرص من غيرهم من أئمة الدين على التأليف والتصنيف؛ لأن من منهج السلف أنهم لا يكتبون إلا ما يدينون بأنه حق وأن فيه فائدة.
أما المتكلمون فإنهم يكتبون ما هب ودب، وقد يتكلم أحدهم عن الجزئية المتوهمة الخيالية في مجلدات على أنها حقيقة وأنها عقيدة، ككلامهم عن الأمور التي لم ترد في الكتاب والسنة، مثل كلامهم عن الجوهر والعرض والمباينة والمفاصلة والجسمانية والحركة والأعضاء والأدوات والجهات وغير ذلك من المعاني البدعية التي لم ترد في الكتاب والسنة، فنجد أنهم يكتبون في هذا مجلدات، وهذا جعل كتبهم أكثر من كتب السلف عدداً وزخماً، وابتلي بها المسلمون حتى ظن طائفة من الناشئين ومن شباب المسلمين أن هؤلاء هم على الحق وحدهم، وأنه لا يمكن أن يكون الحق مغموراً ومصنفات أهل السنة مغمورة، والعكس صحيح؛ فإن مؤلفات أهل السنة والجماعة قد تكون أقل نظراً لأنهم لا يكتبون إلا الحق، وأهل البدع كتبهم كثيرة، فلذلك كان أهل البدع أكثر تصنيفاً من أهل السنة وأقدم تصنيفاً، فلو نظرنا إلى أول من ألف في القرن الأول الهجري والثاني وأكثر من التأليف لوجدنا أنهم المعتزلة والجهمية والقدرية، وأما أهل السنة والجماعة فيقررون العقيدة بإيجاز ويقررون الدين بإيجاز ويقررون ما تحتاجه الأمة، ولا يكتبون الفلسفات، ولنعمل مقارنة واحدة بين كتب أهل البدع وكتب أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة مع أنهم عنوا بجميع السنة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح منها وغير الصحيح؛ نجد أن كتب الصحاح عندهم تعد مجلدات محدودة، في حين أنه عند الرافضة كتاب واحد من الكتب اللي يعتبرونها مصدراً من مصادر الدين -وهو بحار الأنوار- في مائة وعشرة مجلدات؛ لأنه كذب، والكذب سهل.
أما السلف فكانوا من المقلين، ولا يؤلفون إلا عند الحاجة، وإذا ألفوا كتبوا بالحق، والحق قليل؛ لأنه لو كثر الحق على الناس ما استوعبوه، فالله سبحانه وتعالى أنزل للبشر في نصوص الكتاب والسنة ما يكفي لمداركهم وما يصلح أحوالهم، وما زاد على ذلك من الفلسفات والخيالات والكذب والفجور فلا حاجة للناس إليه.
فمن هنا نعود ونقول: إن كثرة مصنفات أهل الكلام وأهل البدع ليست ظاهرة صحية، بل هي ظاهرة مرضية، وكثرتها الآن والاهتمام بطباعتها دليل على نشاط أصحاب البدع، وأنهم يكادون أن يكونوا أنشط من أهل السنة -مع الأسف- في إخراج تراثهم.
قال رحمه الله تعالى: [ والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ لعلوم صحيحة، ولا كرهوا -أيضاً- الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين فضلا عن علمائهم.
ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل كثر المراء والجدال، وانتشر القيل والقال، وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه).
وقد أحببت أن أشرحها سالكاً طريق السلف في عباراتهم وأنسج على منوالهم متطفلاً عليهم لعلي أن أنظم في سلكهم وأدخل في عدادهم وأحشر في زمرتهم مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، ولما رأيت النفوس مائلة إلى الاختصار آثرته على التطويل والإسهاب وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] وهو حسبنا ونعم الوكيل ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر