قبل أن نبدأ بالشرح أحب أن أشير إلى المقصود ببعض العبارات التي بدأ بها، وإن كان سيشرحها شرحاً عاماً ثم سيشرع في ذكر أقوال الفرق على وجه التفصيل.
فقوله: (إن القرآن كلام الله) هذا معروف، لكن قوله: (منه بدا) معناه أن الله سبحانه وتعالى تكلم به، ومنه بدا القرآن، أي: الكلام، وهذا رد لقول من قال بأن القرآن إنما خرج من مخلوق، أو بدا من مخلوق. فبعضهم يقول بأن القرآن بدا من جبريل ثم سمعه النبي صلى الله عليه وسلم. وبعضهم يقول: إن القرآن بدا من مخلوقات أخرى خلقها الله، وبعضهم يقول بأن الله خلق الحروف والأصوات، فكانت بداية القرآن من تلك الحروف وتلك الأصوات.
وبعضهم يقول بأن الله سبحانه وتعالى خلقه على لسان مخلوق آخر، سواء أكان هو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم أم غيرهما، أي: نطق به ناطق من العقلاء الناطقين ونحو ذلك. فالذين زعموا هذه المزاعم ادعوا أن القرآن بدأ من المخلوقين أو من المخلوقات على اختلافات بينهم كثيرة.
وقوله: (بلا كيفية) يرد التوهم الذي يحصل والذي خاض به الخائضون فقالوا: إننا إذا قلنا بأن القرآن بدأ من عند الله تعالى فهذا يعني أنه نطق به كما ينطق المخلوق. فهذا مردود بأن الله ليس كمثله شيء، وبأننا لا نعرف كيف تكلم الله، لكن الله تكلم به ومنه بدأ.
وقوله: (بلا كيفية قولاً) المعنى: أن الله قاله، ما بدأ منه خلقاً كما يزعمون، ولا بدأ منه معاني ثم ترجمت هذه المعاني على ألسنة بشر، ولا بدأ منه كلاماً نفسياً، إنما بدأ قولاً، ولذلك يسمى قول الله، فيقال: قال الله تعالى، فالقرآن قول الله، وليس بفعل مستقل عن ذات الله سبحانه وتعالى، وليس بخلق، وليس بمعان نفسية، وليس أموراً معقولة حولها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ألفاظ كما يزعمون، أو نحو ذلك مما قالوه.
وقوله: (وأنزله على رسوله وحياً) بمعنى: أنه حينما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينزل على قلبه بمجرد العلم اللدني كما يزعم كثير من أهل التصوف وأهل الفلسفة، فهم يزعمون أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم مشتمل على القرآن، وأنه نطق به من معان موجودة في قلبه، وأهل السنة يقولون: المنصوص أن الله أنزله، ولم يشتمل عليه قلب النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، إنما وعاه قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأدركه، لكن أيضاً سمعه منزلاً عليه صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أن الله أوحى به إليه بأنواع الوحي المعروفة شرعاً، ولم يكن ذلك بمعان انصبت ولا بفيض ولا بنتيجة العقل الفعال ولا باشتمال قلب النبي صلى الله عليه وسلم على العلم اللدني ولا بنحو ذلك من الأمور التي قال بها المبطلون، إنما كان منزلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع الوحي الشرعية.
وقوله: (وصدقه المؤمنون حقاً) بمعنى: على الحقيقة، والحقيقة نوعان: منها ما يعلم ومنها ما لا يعلم، فما يعلم هو حقيقة الصفة وحقيقة الكلام وحقيقة التنزيل وأن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه، وما لا يعلم هو كيفية الوحي، وكيفية كلام الله تعالى به، أما كيفية الوحي فهي معلومة عند النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [ هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة ].
هذه التسعة تعود إلى أربعة أقوال رئيسة، سأذكرها بعدما ينتهي من سرد الأقوال التسعة.
قال رحمه الله تعالى: [ أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من المعاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم أو من غيره. وهذا قول الصابئة والمتفلسفة ].
هذا القول قالت به طوائف من الفلاسفة الإسلاميين الذين ظهروا في الإسلام، وكلمة الإسلاميين أدق في وصفهم من (المسلمين)، فكلمة (الفلاسفة المسلمون) لا تصح، إما (إسلاميون) فتصح، وإن كان الناس استعملوا هذه العبارة الآن على غير وجهها الصحيح، فالإسلامي من ينتسب للأمة الإسلامية أو الحضارة الإسلامية أو التاريخ الإسلامي أو إلى زمن فيه مسلمون أو إلى دولة إسلامية وإن كان كافراً، فيسمى إسلامياً بمعنى أنه عاش في عصر الإسلام، كما يقال: جاهلي حتى لو كان من النصارى أو اليهود أو من الذين على الحنيفية، يقال: هذا رجل جاهلي، أو شاعر جاهلي، بمعنى أنه منتسب لفترة الجاهلية.
وكذلك كلمة (إسلامي) أرى أنها لا تدل على الإسلام، إنما تدل على الانتساب للتاريخ الإسلامي أو للحقبة الإسلامية، فكذلك الوصف بالنسبة للفلاسفة، فالفلاسفة الذين ظهروا في الإسلام أغلبهم ما دخل الإسلام، والذين دخلوا الإسلام أغلبهم اعتقد اعتقادات توجب إخراجه من الإسلام، فلذلك ينبغي أن نقول: الإسلاميون.
فالفلاسفة الإسلاميون هم على هذا القول، أي: القول بأن الكلام من العقل الفعال أو نحو ذلك، ويعبرون عن هذا أحياناً بالفيض، ويعبرون عنه أحياناً بتعبيرات أخرى، فقول الصابئة المتفلسفة أظهره الفلاسفة الإسلاميون الذين ظهروا بعد القرن الثالث في تاريخ الإسلام.
أغلب الأشاعرة المتكلمين على هذا القول، ولا يشذ عنهم إلا بعض الأشاعرة من أهل الحديث وبعض الفقهاء وبعض الأصوليين؛ فإنهم قد يقولون بقول أهل السنة، لكنهم قليل، أما غالبية الأشاعرة فإنهم على هذا القول، أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى، يقصدون به نفي أن يكون الله تعالى تكلم به بحرف وصوت على ما يليق بجلال الله تعالى، هذا المقصود به، فكأنهم يقولون: إن القرآن أشبه بقوالب أو معان عامة إذا ترجمت إلى اللغات تتحول إلى الألفاظ التي يتكلم بها الناس، فهي أشبه بالمعاني العامة التي تنقسم إلى: أمر ونهي، وخبر واستخبار، فإذا جاءت إلى قلوب الأنبياء ثم تكلموا بها تحولت إلى حروف وأصوات. هذه فلسفتهم، وما ذلك إلا انهزام أمام الجهمية والمعتزلة، هذه انهزامية أمام الجهمية والمعتزلة؛ لأن جميع المعتزلة يقولون: إنكم إذا قلتم بأن الله تكلم بحرف وصوت لزمكم أن تثبوا بقية الصفات؛ لأن هذا يعني قيام الأفعال به، وأنتم تنكرون قيام الأفعال به، فلذلك اضطروا إلى القول بأن القرآن معنى واحد قائم بذات الله، ومعنى أنه قائم بذات الله أن الله متصف به، وهذا المعنى إذا عبر عنه البشر بلغاتهم تحول إلى الكتب التي نزلت، فإذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم باللغة العربية عن المعاني التي أرادها الله صارت قرآناً، وحينما عبر عنها موسى عليه السلام صارت توراة، وحينما عبر عنها عيسى صارت إنجيلاً، وهذا هروب من الإثبات.
وفي الحقيقة لو تأملناه لوجدنا أنه يؤول إلى القول بأن القرآن مخلوق وليس منزلاً، لكنهم ما جرءوا على أن يصادموا السلف؛ لأن السلف كان لهم قوة وهيمنة، وكانت كلمتهم في هذه المسألة واضحة جداً، ولا يستطيع أحد أن يقاومهم، وإلا فلو تأملنا هذا القول لوجدنا أن مؤداه إنكار أن يكون الله تكلم بالقرآن، وإثبات أن القرآن مخلوق غير منزل.
فإذا قلنا: إن القرآن ما صار قرآناً إلا حينما تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا يعني أنه مخلوق، وإذا قلنا بأن التوراة ما صارت توراة إلا حينما نطق بها أو كتبها موسى عليه السلام فهذا يعني أن الله لم يتكلم بها.
وهذا أيضاً قول عجيب، وهو أيضاً هروب من الإثبات وانهزام أمام هجوم المعتزلة والجهمية في مسألة كلام الله تعالى؛ فإن الأزلي هو الأول الذي ليس قبله شيء، هذا معنى الأزلي، فالأزلي يعني: الذي ليس له بداية، ونحن نعلم أنه ليس هناك شيء ليس له بداية إلا الله سبحانه وتعالى، فهم حينما قالوا بأنها حروف أزلية كأنهم ألحقوها بخصائص الله، فإذا ألحقوها بخصائص الله فإنهم بذلك يلزمهم أحد أمرين: إما أن تكون كلام الله تعالى، وعليه فلا داعي لمثل هذا الكلام، ولمثل هذا اللجوء إلى التعبير الموهم، وإما أن يقولوا: إنها غير كلام الله تعالى، وبذلك يثبتون أزلياً غير الله، فيلزمهم أحد الإلزامين بالضرورة، فإذا قالوا: هو حروف وأصوات أزلية ليست هي كلام الله فهذا يعني أن هناك مع الله أزلياً غيره.
وإذا قالوا بأنها حروف أزلية تكلم الله بها في الأزل فلماذا لا يتكلم بها الآن كما يليق بجلاله؟! فالأمر فيه إعضال، وما ألجأهم إلى ذلك إلا الاستجابة لهجوم المعتزلة الفكري أو لهجومهم الفلسفي، وكذلك هجوم الجهمية.
هذا قول ناقص، فهو يشمل بعض قول السلف، لكنه ناقص وفيه انحراف أو حيدة عن إثبات الحق، فإنه إذا كان تكلم الله بعد أن لم يكن متكلماً فما الذي يمنع أن يكون الله قد تكلم؟! أليس الأكمل أن يكون الله تكلم من قبل ويتكلم من بعد ويتكلم متى شاء على ما يليق بجلاله؟! إن هذا أكمل من أن يقال بأن الله تكلم بعد أن لم يكن متكلماً.
فهذا القول يعتبر إخلالاً بالكمال، فكلام الكرامية إخلال بالكمال، فإن من كان قادراً على الكلام في الأزل إلى الأبد أكمل ممن قدر على الكلام بعد مدة.
هذا تعبير عن القول الثاني تماماً كما سيأتي، فالسادس ما هو إلا تعبير آخر عن القول الثاني.
هذا تلفيق بين القول الثاني والقول السادس.
أيضاً هذا تلفيق آخر للقول الثاني.
هذا هو الحق، وهذا الذي تقتضيه النصوص، فإن الله تعالى لم يزل متكلماً، بمعنى: أنه يتكلم كما يشاء إذا شاء، فمشيئة الله لا راد لها، وعموم المشيئة ثابت بالنصوص القطعية، وعموم المشيئة أيضاً يشمل جميع ما يتعلق بأفعال الله تعالى، فالله تعالى يفعل ما يشاء، ومن أفعال الله تعالى الكلام.
و(متى شاء) بمعنى: في أي زمن، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يخلق بكلمة (كن)، وخلق الله لا ينتهي، وبدليل أن الله سبحانه وتعالى كلم أنبياءه السابقين، وبدليل أن الله سبحانه وتعالى يكلم عباده يوم القيامة، كما ورد في النصوص الصحيحة أن الله سبحانه وتعالى ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد.
وهذا ثابت في النصوص، وهذا في المستقبل، والكلام في الماضي ثبت من خلال تكليم الأنبياء وغيرهم، ومن خلال كلمة (كن)، فإن كلمة (كن) خلق الله بها الخلق ولا يزال يخلق بها، فإذا أراد شيئاً قال له: كن.
و(كيف شاء) معناه أن الكيفية التي يتكلم الله بها راجعة إلى مشيئته، فلا يقال: كيف يتكلم؟ فما دام أن مشيئته عامة فالله يتكلم كيف يشاء، وهذا يعني أننا لا نخوض في الكيفية.
وقول أهل السنة: (يتكلم بصوت يسمع) ليس من عندهم، بل ورد في الحديث الصحيح أن الله تعالى ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، فالقريب والبعيد يسمعون كلام الله تعالى على نحو واحد.
فالسلف في تقرير العقيدة يستندون على النصوص الشرعية ولم يأتوا من عند أنفسهم بشيء.
ومعنى (أن نوع الكلام قديم) أنه صفة من صفات الله تعالى في الأزل، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، فكون الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن لا يعني أن القرآن قديم من حيث الكلام به، لا يلزم ذلك لئلا يقال بأن الكلام أزلي مع الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أنه منفصل عن الله أو عن أفعال الله، وهذا القول هو المأثور عن أئمة السلف.
قال رحمه الله تعالى: [وقول الشيخ رحمه الله: (وإن القرآن كلام الله):
(إن) بكسر الهمزة، عطف على قوله: (إن الله واحد لا شريك له)، ثم قال: (وإن محمداً عبده المصطفى)، وكسر همزة (إن) في هذه المواضع الثلاثة؛ لأنها معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: نقول في توحيد الله].
فالقول الأول: أنه مخلوق -بزعمهم- خلقه الله منفصلاً عنه. وهذا قول الجهمية والمعتزلة، ثم تابعهم عليه متأخرة الخوارج ومتأخرة الرافضة وكذلك الزيدية، والزيدية معتزلة وشيعة، وتابعهم على ذلك أفراد من المتكلمين وبعض الفلاسفة ومن نحا نحوهم.
وقد تركنا قول الفلاسفة لأنه قول خامس، لكن لا يرجع إليه غيره، فهو قول منفرد، فإذا أفردنا أقوال أهل الأهواء فهي أربعة، وإذا جمعنا معها قول أهل السنة والجماعة تكون خمسة.
والقول الثاني: أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار. وهذا قول الكلابية، وهو قول بعض الأشاعرة وبعض الماتريدية وكثير من المتكلمين، وهو القول الثالث بترتيب المؤلف.
وهذا القول يرجع إليه القول السادس، فهو تعبير آخر عنه، ويرجع إليه القول السابع والقول الثامن، فالسابع والثامن ما هما إلا جمع ومحاولة توفيق بين القول الثاني والقول الثالث والقول الرابع كذلك.
والقول الرابع يرجع أيضاً إلى الأول، فما هو إلا تعبير آخر عن القول الأول بترتيبنا، وهو الثاني بترتيب المؤلف، فالرابع يرجع إلى ما سماه ثانياً، وهو القول الأول بالنسبة لاعتباره عند أهل الأهواء.
وما سماه خامساً هو القول الثالث، وما سماه تاسعاً هو القول الرابع، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو القول الحق.
والخامس الأخير هو قول من زعم أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس، وهذا القول ما ظهر إلا متأخراً جداً، يعني: ظهر في آخر القرن الرابع وما بعده.
أما الأقوال الأربعة السابقة فالقول الأول منها هو القول الحق، وبقية الأقوال قيلت في القرن الثاني والقرن الثالث. فالقول بأنه مخلوق ظهر في القرن الثاني، والقول بأنه معنى واحد قائم بالذات لم يظهر إلا في القرن الثالث، وكذلك القول بأنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل ما ظهر إلا في القرن الثالث وما بعده، وإن كان بعض الجهمية قد قال بنحوه، لكن لم يكن على هذا النحو.
والقول السادس إنما قال به الرازي وقال به أبو البركات بن ملكا الطبيب الفيلسوف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر