والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الأعراف:148]، فكان عباد العجل -مع كفرهم- أعرف بالله من المعتزلة؛ فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً.
وقال تعالى عن العجل أيضاً: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [طه:89] فعلم أن نفي رجع القول ونفي التكليم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.
وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم، فيقال لهم: إذا قلنا: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم، ألا ترى أنه تعالى يقول: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس:65]، فنحن نؤمن أنها تتكلم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذا قوله تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، وكذلك تسبيح الحصا والطعام وسلام الحجر، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد على مقاطع الحروف].
يقصد بذلك أن هؤلاء الذين اشتبهت عليهم الصفات -مع أنها محكمة بكلام الله تعالى- جاءتهم الشبهة من حيث إنهم قاسوا الله على خلقه وشبهوا الله بخلقه، فحينما وردت إليهم ألفاظ الصفات لم يوفقوا إلى الأخذ بالقاعدة الشرعية التي بدأ الله بها حينما تقررت قاعدة الإثبات والنفي، فالله سبحانه وتعالى قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ثم قال بعد ذلك: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) ينفي ابتداءً توهم التشابه، فمجرد التوهم والخيال منفي؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، وبعد نفي التوهم والخيال وما يمكن أن ينقدح في الذهن في حق الله تعالى يأتي الإثبات، وهذا إذا عمله الإنسان بهذا التدرج لا يمكن أن ترد إليه أوهام المتكلمين وشبههم، فإن شبهتهم أنهم يقولون: لا نفهم من هذه الصفات إلا ما نعرفه في المخلوقات، ويرد عليهم بما ذكره الله سبحانه وتعالى في المخلوقات نفسها، فإنهم يقولون: لا نفهم الكلام إلا بالجارحة، والجارحة: الفم واللسان ووسائل وأدوات الكلام، فيرد عليهم بأن هناك من يتكلم من مخلوقات الله تعالى بغير الوسائل والأدوات التي مع الإنسان، كالحصى والجمادات كلها، فكلها تسبح ولكن لا نفقه تسبيحها، فإذا كانت كلها تسبح ونحن لا نرى لها ألسنة ولا حناجراً ولا رئات ولا نفساً يخرج ويدخل ولا نرى شفاهاً؛ فمعنى هذا أنها تتكلم كما أقدرها الله سبحانه وتعالى على الكلام من غير أن نعرف الكيفية، فالله وصفها بصفات تشبه صفاتنا من حيث اللفظ، ومع ذلك لا نرى وجه التشابه أبداً، بل نرى التباين كل التباين بين صفات مخلوق ومخلوق، ولله المثل الأعلى، فالله سبحانه وتعالى يتكلم كما يليق بجلاله، وليس كلامه ككلام المخلوقين؛ لأنه ليس كمثله شيء، وإذا تكلم سبحانه وتعالى تكلم بما يليق بكماله وعظمته، وليس بما يتوهمون من أوهامهم التي ركزوها في أذهانهم ثم بنوا عليها أحكاماً.
إذاً: يقال لهم: ما دمتم توهمتم التشبيه فارجعوا إلى ما هو في عالم الشهادة؛ لتعرفوا أن توهم التشبيه لا حقيقة له، فإن هناك من المخلوقات ما هو موصوف بالكلام ومع ذلك لا يوجد الشبه بيننا وبينه، ولا توجد فيه الوسائل التي يتكلم بها المخلوق ككلام المخلوقين.
أي: أن الله تكلم به، هذا معنى (منه بدا)؛ لئلا يقال: إنه بدا الكلام على لسان جبريل، أو بدا الكلام على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أو لسان موسى بالنسبة للتوراة أو عيسى بالنسبة للإنجيل أو نحو ذلك، أو: إن الله سبحانه وتعالى عبر عن كلام مخلوقاته بأنه كلامه، أو أنه خلق أصواتاً فصارت كلاماً، كل ذلك يتنافى مع القول بأنه منه بدا، يعني: أن الله سبحانه وتعالى قاله وتكلم به على ما يليق بجلاله، وليس هذا من عند هؤلاء من أهل العلم، بل هو من النصوص الشرعية.
قال رحمه الله تعالى: [ أي: ظهر منه، ولا يدرى كيفية تكلمه به. وأكد هذا المعنى بقوله: (قولاً)، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! ].
يقصد بذلك أن الله سبحانه وتعالى فسر وبين الكلام هنا، فما قال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى) ثم انقطع الكلام، بل أكد الأمر فقال: تَكْلِيمًا [النساء:164] لأنه قد ينشأ في الذهن: هل الله كلم الله موسى وحياً أو إلهاماً أو مناماً أو خيالاً؟! وتحتمل هذه الاحتمالات عند من لا يفقه الأمور الشرعية أو لا يفقه حقائق النصوص المتعلقة بصفات الله، فلذلك جاء التأكيد في الآية نفسها بما يرد التعطيل ويرد التأويل؛ فإن قوله تعالى: تَكْلِيمًا [النساء:164] يعني: على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى.
وهذا يرد في كثير من الصفات، حيث نجد أن الصفات ترد على أوجه عديدة، فلو أولوا وجهاً من الوجوه ما أولوا الآخر، وإذا أولوا الجميع تناقضت تأويلاتهم، فمثلاً: قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كثير من المؤولة يقولون: (على العرش) بمعنى: على الملك، أي: استولى على الملك، لكن تأتيهم آية أخرى، مثل قوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] فلو أولوها بتأويل فإنه يناقض التأويل الآخر، وهكذا، وقد ورد لفظ الاستواء في القرآن في أكثر من ست آيات، وفي المفهوم في آيات كثيرة، وكذلك في الأحاديث الثابتة.
وكذلك بقية الصفات، فإنا نجد أن كل صفة يؤولونها في نص تنقضها آية أخرى أو حديث آخر، مثل قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، فهذا من الصعب تأويله، فإن أولوه أتاهم مثل قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] .
فما من صفة يؤولونها إلا وينقضها تأويلهم الآخر للصفة الأخرى، ولو أولوا الصفة في موضع فإنا نجد النص الآخر ينقض تأويلهم فلا يستقيم عليه، وهكذا.
هذا الحديث ضعفه المحقق في الهامش، لكن معانيه ثابتة في أحاديث أخرى، منها ما في صحيح البخاري ، وقد أشار إليه إجمالاً أيضاً، فقد ورد في صحيح البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة كذا فيقولون كذا، فنسب إلى الله صفة القول، وصفة القول تثبت صفة الكلام، فصفة القول مرادفة لصفة الكلام، فإن الكلام لا يكون إلا بقول، والقول لا يكون إلا بكلام.
قال رحمه الله تعالى: [ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً؟!
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم، وهو الصحيح؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً].
أي: إذا كان الله لا يكلم هذه الفئة، وهم الذين توعدهم الله بحرمانهم من كلامه؛ فيقتضي هذا بالضرورة أنه يكلم غيرهم من المؤمنين المنعمين المستحقين للكلام، وهذا أمر مفهوم بالضرورة، كما أننا نقول مثل ذلك في الرؤية، وهو ما قاله الشافعي ، وهو أنه لو لم يكن المؤمنون يرونه ما كان للاحتجاب عن الكافرين معنى، فلما حرم الله سبحانه وتعالى الكفار من أن يروه واحتجب عنهم دل هذا بالضرورة العقلية والشرعية وبالمفهوم والمقطوع به أن المؤمنين يرونه، وكذلك الكلام، فإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يكلم هؤلاء عقوبة لهم فإنه في المقابل يكلم غيرهم، ولو كان سبحانه وتعالى لا يتكلم أبداً ما كان لحرمان هؤلاء الذين عوقبوا من الكلام فائدة، فالله سبحانه وتعالى لا يتكلم إلا بالحق.
ثم إن ذكر الكلام والنظر في سياق واحد يدل على أن كل واحد منهما يثبت الآخر، فلو أولوا الكلام هنا دحضوا بالنظر، ولو أولوا النظر دحضوا بالكلام، فكلام الله محكم، ومهما أتوا من باب فإن الأبواب الأخرى تسد عليهم باب التأويل والتعطيل.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال البخاري في صحيحه: باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة. وساق فيه عدة أحاديث].
ساق فيه حديثين، وفي هذين الحديثين ما أشرت إليه سابقاً من أنه ذكر في البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة، ثم يقولون ثم يقول، كما ورد في الحديث، فالقصد بالسياق هنا أن البخاري أورد في الصحيح أن الله تعالى يقول، والقول كلام.
قال رحمه الله تعالى: [فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به].
وكيف يصح أن يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه! وكذلك أيضا ما خلقه في الحيوانات، لا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق. وإنما قالت الجلود: أَنطَقَنَا اللَّهُ [فصلت:21]، ولم تقل: نطق الله، بل يلزم أن يكون متكلما بكل كلام خلقه في غيره، زورا كان أو كذبا أو كفرا أو هذيانا!! تعالى الله عن ذلك. وقد طرد ذلك الاتحادية، فقال ابن عربي :
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه!
ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره، لصح أن يقال للبصير: أعمى، وللأعمى: بصير! لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره، والأعمى قد قام وصف البصر بغيره! ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره، من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك.
وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشراً المريسي بين يدي المأمون ، بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل، وألزمه الحجة، فقال بشر : يا أمير المؤمنين، ليدع مطالبتي بنص التنزيل، ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه، ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال. قال عبد العزيز : تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: اسأل أنت، وطمع في فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن، وهو عندي أنا كلامه - في نفسه، أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟ قال: أقول: خلقه كما خلق الأشياء كلها. وحاد عن الجواب. فقال المأمون : اشرح أنت هذه المسألة، ودع بشراً فقد انقطع.
فقال عبد العزيز : إن قال خلق كلامه في نفسه، فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون فيه شيء مخلوق، وإن قال خلقه في غيره فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه، فهو محال أيضاً، لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره -هو كلام الله! وإن قال خلقه قائماً بنفسه وذاته، فهذا محال: لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا يعقل كلام قائم بنفسه متكلم. فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً، علم أنه صفة لله. هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في (الحيدة).
وعموم كل في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن. ألا ترى إلى قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25]، ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح؟ وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير. وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس : وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام. إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك، غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها، ولهذا نظائر كثيرة.
والمراد من قوله تعالى: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:102]، أي: كل شيء مخلوق، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتما، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة، لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إلى هذا المعنى عند قوله: (ما زال قديما بصفاته قبل خلقه). بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم. فإذا كان قوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوقاً، لا يصح أن يكون دليلاً.
يقصد هنا استدلال الذين قالوا بخلق القرآن وعلى رأسهم المعتزلة والجهمية، وكل من تكلم في خلق القرآن ممن جاءوا بعد هاتين الفرقتين عالة عليهما، حتى المحدثين إلى يومنا هذا، وقد انبرى أحد رءوس البدعة في العصر الحاضر وألف كتاباً قال فيه بخلق القرآن وأنكر الرؤية والشفاعة، وكفر فيه أهل الكبائر، وهذا الكتاب متداول بين طلاب العلم، أسماه الحق الدامغ، وقد حشاه صاحبه بشبهات المعتزلة في خلق القرآن، بل نقل أقوالهم ومصطلحاتهم بحروفها وجعلها مستنداً له في القول بخلق القرآن.
فالشاهد: أن الذين قالوا بخلق القرآن بعد المعتزلة هم عالة على المعتزلة، ولم يأتوا بجديد، وكل أقوالهم وشبهاتهم وردهم للأدلة واستدلالهم الباطل كله مبني على أصول المعتزلة الباطلة من كتبهم ومما قالوه وناظروا به، فالذين أنكروا نزول القرآن وأنه منزل من الله عز وجل وأن الله تكلم به وقالوا بخلق القرآن هؤلاء هم المعتزلة والجهمية، وكل من جاء بعد المعتزلة والجهمية في مسألة القول بخلق القرآن عالة على الجهمية والمعتزلة فيما قالوه، حتى صاحب الكتاب الذي ألف كتاب (الحق الدامغ) وزعم أن القرآن مخلوق وأنكر أن يكون كلام الله، فقد جاء بأدلة المعتزلة على نحو ما قلته في مسألة الرؤية.
فالمسألة واحدة، فكما أنه أنكر الرؤية في كتابه، كذلك زعم أن القرآن مخلوق، وحشد أقوال المعتزلة، ولم يكن يخرج عنها في استدلالاتهم العقلانية ولا في ردهم للنصوص وإيرادهم للشبهات.
وهذه المسألة أعطاها من حجم هذا الكتاب أكثر من حجم الكلام على الرؤية والكلام عن مسألة الشفاعة والقول بأن مرتكبي الكبائر كفار.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن (جعل) إذا كان بمعنى (خلق) يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء:30-31] وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى (خلق)، قال تعالى: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل:91]، وقال تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]، وقال تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:91]، وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29]، وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الإسراء:39]، وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19] ونظائره كثيرة. فكذا قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف:3]].
(جعل) تأتي على معنيين، فإذا جاءت متعدية إلى مفعولين فهي بمعنى صير وحكم، وإذا جاءت متعدية إلى مفعول واحد فإنها تعني الخلق، وكل ما ورد في شأن القرآن بلفظ (جعل) فهو بمعنى (صير)، لا بمعنى (خلق).
وقد فرقوا بين الكلامين على أصلهم الفاسد: أن ذاك كلام خلقه الله في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقا غير الله، وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى].
وأيضاً: فالرسول في إحدى الآيتين جبريل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ؛ إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر.
وأيضاً: فقوله: (رسول أمين) دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسله بتبليغه ولا ينقص منه، بل هو أمين على ما أرسل به، يبلغه عن مرسله.
وأيضاً: فإن الله قد كفر من جعله قول البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، فمن جعله قول محمد - بمعنى أنه أنشأه - فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً، لا من قاله مبلغاً، ومن سمع قائلا يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قال: هذا شعر امرئ القيس ، ومن سمعه يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) قال: هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن سمعه يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-5] قال: هذا كلام الله، إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال: لا أدري كلام من هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذبه. ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً يقول له: هذا كلام من؟ هذا كلامك أو كلام غيرك؟ ].
هناك فرق بين مسألة القول ومسألة الكلام، فإن الكلام لا ينسب إلا إلى المتكلم به الذي صدر عنه، لكن في القول قد يقول الإنسان بقول غيره، كما ذكر في بيت الشعر والحديث والآيات، فإن من نطق بهذا الحديث أو أتى بذكر هذا الشعر نقول: ما قلته كلام من؟ فيقول: هذا البيت لـامرئ القيس ، وهذا الحديث كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه أسند الكلام إلى المتكلم، أما القول فقد يقول الإنسان بقول غيره، وأحياناً ترادف كلمة قول كلمة كلام، لكن السياق هو الذي يحكم بذلك.
وهذا كلام الكلابية وكثير من المتكلمين الذين جاءوا بعد.
قال رحمه الله تعالى: [أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً].
هذا أيضاً قول بعض المتكلمين من أهل الحديث، فهو قول لطائفة من أهل الكلام، وليس قول أكثرهم، فأكثرهم يقولون بالقول الأول أو بنحوه، أي أنه معنىً قائم بالذات، أو هو حديث النفس، أو هو معنىً قائم بالنفس، أو نحو ذلك مما يدور حول أن الكلام عندهم معان وليس حروفاً وأصواتاً، إنما تكلم به جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم.
أما كونه صدر عن الله فهم يزعمون أنه صدر عن الله معاني ترجمت، فلما تكلم بها موسى صارت توراة، ولما تكلم بها محمد صلى الله عليه وسلم بالعربية صارت قرآناً، ولما تكلم بها عيسى صارت إنجيلاً، كذا زعموا، وهذا نوع من الانجذاب إلى قول الفلاسفة والمتكلمين، وإن كان بعض من قال بها يدعي أنه يثبت كلام الله، لكن على تأويل فاسد.
إذاً: القول الأول قول أكثر الكلابية ومن تابعهم من المتكلمين، والقول الثاني قول متكلمة أهل الحديث أو محدثة أهل الكلام.
قال رحمه الله تعالى: [أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم].
هذا كلام السلف، وهو أن الله عز وجل متكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء سبحانه، وأن كلامه من صفاته، وهذا معنى أنه قديم، فكلامه من صفاته، وصفات الله عز وجل كذاته أزلية، لكن صفات الله عز وجل على نوعين: منها صفات ذاتية، ومنها صفات فعلية، ومنها ذاتية وفعلية، فبعض أهل العلم قال: إنها ثلاثة أنواع، وبعضهم جعل الذاتية الفعلية داخلة في الفعلية، وبعضهم جعلها داخلة في الذاتية.
أما الصفات الفعلية فهي كالنزول والمجيء، وأما الصفات الذاتية فهي كالحياة والعلم والقدرة، أما الصفات التي قد تكون ذاتية فعلية فهي كالكلام، فمن حيث إن الله عز وجل متكلم تكون صفة ذاتية، لكن من حيث حدوث الكلام تكون صفة فعلية، فالله عز وجل يتكلم إذا شاء ومتى شاء، كما كلم موسى وكما كلم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وكما يكلم الناس يوم القيامة، يكلم الخلائق جميعاً بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، كما أنه يكلم كل عبد ويحاسبه على أعماله ليس بينه وبينه ترجمان، فيحاسب العباد جميعاً حساب رجل واحد ويكلمهم جميعاً وكأنه يكلم رجلاً واحداً، على ما يليق بجلاله، وهذا أمر غير مفسر بالنسبة لقدرة عقول البشر.
فهذا دليل على أن الله يتكلم متى شاء، فهذا النوع داخل في أفعال الله، فالله يفعل الكلام متى شاء، لكن صفة الكلام -وهي أن الله عز وجل قادر على الكلام متى شاء وأنه متكلم- صفة لازمة، بمعنى: أنها أزلية، وهذا معنى القديم.
والسلف كانوا يكرهون كلمة (قديم)، لكن أحياناً يعبرون بها بناءً على أنها عمت بها البلوى، خاصة بعد القرن الرابع إلى وقت قريب، فصار الناس يتكلمون بها لإيضاح العقيدة اضطراراً.
والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته، وأهل السنة إنما سئلوا عن هذا، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه.
ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع.
ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه فرق بها بينهم، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176] ].
الأغلوطة هي الأمر العقلاني المحير، فكل أمر ينبني على التعجيز والتعقيد العقلي والتحيير فإنه يسمى أغلوطة يغالط بها الإنسان من غير أن يفقه، فكل ما غالط به أهل الكلام والفرق أمور الشرع يعتبر أغلوطات، ولهذا نجدهم لا يتفقون على شيء منها، فكل واحد يتكلم بفهمه، وكل واحد له فهم غير فهم الآخر، وكل واحد يعتقد ما لا يعتقده الآخر، فهم يتجادلون على لا شيء، وهذا أمر بدهي، كلما تجادلوا في أمر الغيب تجادلوا على أوهام، فهذا خصمه يتوهم شيئاً وهو يتوهم شيئاً آخر، فيتنازعون على أوهام، وكل واحد ينازع في غير محل النزاع عند الآخر، فلذلك إذا قيل للمتكلمين أو أهل الأهواء في أمر خالفوا فيه الدين: حرروا مسألة النزاع أو موطن النزاع لا يمكن أن يحرروه.
أما الاجتهادات في الأحكام فيستطيع الناس بسهولة أن يحرروا موضع النزاع فيها ويتفقوا على شيء وينطلقوا من هذا الاتفاق، أما أصحاب الأغلوطات فلا يمكن أن يتفقوا إلا على أوهام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر