فمنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن ناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك). الحديث، أخرجاه في الصحيحين بطوله ].
مثل هذا الحديث صريح في إثبات الرؤية، بل إنه محكم، وكثير من أحاديث الرؤية محكمة في إثبات الرؤية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث عن عظمة الله عز وجل وعن نعيم الجنة، فسأله بعض الصحابة سؤالاً صريحاً في الرؤية موجهاً إليه صلى الله عليه وسلم، وهو المبلغ عن ربه، فقالوا: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟)، وهم عرب، والنبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم ويتكلم بلسان عربي مبين، وليس في سياق الحديث -وكذلك الأحاديث الأخرى- ما يدل على أن المقصود بالرؤية غير رؤية البصر، بل الحديث يشهد آخره لأوله: (هل نرى ربنا؟)، فإذا تكلم المتكلم عن الرؤية في مثل هذا السياق فهل تنصرف لغير الرؤية البصرية؟! والجواب: لا، ثم بعد ذلك تأكيد ذلك بتشبيه رؤية الله عز وجل ووضوحها وتحققها برؤية الناس للشمس والقمر ليس دونهما سحاب، والشمس والقمر بأي شيء يريان سوى البصر؟! وهل يستطيع الأعمى الكفيف أن يدعي أنه رأى الشمس وهو لا يملك الآلة للرؤية؟!
وكذلك الإشارة إلى السحاب، فالسحاب شيء مادي يحجب العيون عن الرؤية، ولا يحجب القلوب، ولو كان الأمر كما قالت المعتزلة: إن الرؤية قلبية، لما كان لذكر السحاب فائدة؛ لأن السحاب هو الذي يحجب رؤية العين، لكنه لا يحجب رؤية القلب؛ لأن الرؤية القلبية أمر ليس بمادي ولا يمكن أن يخضع للعوائق المادية المنظورة.
إذاً: فالإشارة إلى السحاب دليل على أن الرؤية بصرية فعلاً؛ لأن السحاب إنما يحجب أبصارنا عن رؤية الشمس والقمر، ومن هنا صار الحديث محكماً ودليلاً قاطعاً على أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم في الجنة على ما يليق بجلاله.
وحديث صهيب رضي الله عنه المتقدم رواه مسلم وغيره ].
في هذا الحديث زيادة فائدة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرؤية في معرض نظره بعينه إلى القمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة عنده جلوساً، فنظر إلى القمر، فلما نظر إلى القمر تذكر الرؤية في الآخرة فقال: (إنكم سترون ربكم)، وليس المقصود تشبيه القمر بالله عز وجل، إنما المقصود تشبيه رؤية الله عز وجل في الجزم بها ووضوحها وتأكيدها برؤية القمر ليس دونه سحاب ليلة أربع عشرة، إذ هو أوضح ما يكون، ثم في نفس النص قال: (إنكم سترون ربكم عياناً) وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ومعنى (عياناً): بالعين الباصرة، فهذا تصريح بالعيان الذي هو فعل العين الباصرة.
هذا أيضاً فيه تصريح بإمكان الرؤية، وقد أورد هذا الحديث بعض المعاصرين الذين أنكروا الرؤية تبعاً لمن سبقوه، لكنه ذنب، فزعم أن الرؤية غير ممكنة؛ لأن الله عز وجل جعل بيننا وبينها رداء الكبرياء! مع أنه دليل على إمكان الرؤية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما نفى رؤية الله عز وجل من قبل عباده، إنما ذكر الحاجب الذي يحجبهم عن الرب، فما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء، وهذا أمر متعلق بقدرة الله عز وجل، فإذا رفع الله عز وجل عنهم هذا المانع رأوه، فهو دليل على أن الرؤية ممكنة لكنها دونها حاجز، وهذا الحاجز خاضع لقدرة الله.
إذاً: الرؤية ممكنة، لكن الله عز وجل حجبهم برداء الكبرياء، والله عز وجل الذي حجبهم برداء الكبرياء قادر على أن يرفع هذا الحجاب إذا شاء، وقد ثبت أنهم يرونه تبارك وتعالى.
هنا أشار إلى أمرين: إلى مسألة الرؤية والتكليم، فقوله: (ليس بينه وبينه حجاب) يعني: عن الرؤية، (ولا ترجمان) يعني: عن التكليم، وهذا متعلق بلقاء الله عز وجل يوم القيامة في المحشر قبل الرؤية التي تثبت للمؤمنين، متعلق بما يسميه أهل العلم الرؤية العامة، وهي أن جميع الخلائق يوم القيامة يرون ربهم، لكن الرؤية تختلف من شخص إلى آخر، فالمؤمن يرى ربه رؤية المسرور، والكافر يرى ربه وهو حسير البصر نادم كئيب خجل من ربه عز وجل، فلا يتمتع بالرؤية كما يتمتع بها المؤمن، فلذلك قال: (وليلقين الله أحدكم يوم القيامة)، فليس المقصود به مجرد اللقاء العام؛ لأن هذا لقاء خاص لكل فرد، (وليس بينه وبينه حجاب) عن الرؤية (ولا ترجمان) في مسألة سماع كلام الله عز وجل، فيرى الله عز وجل ويسمع كلامه، وهذا على القول بالرؤية العامة، وهل هي بصرية خالصة أو قلبية أو بعضها بصري وبعضها قلبي، أو هي بصرية للمؤمنين ولغيرهم، أو أن الكفار والمنافقين يدركون أن هذا ربهم لكن لا يستطيعون رؤيته مما لقوا الله به من أعمال غير صالحة، هذا مسألة خلافية.
وإثبات الصوت لله عز وجل اختلف في أحاديثه، أما مسألة النداء أن الله ينادي عباده، وأنه عز وجل يكلمهم؛ فهي ثابتة بنصوص قطعية، فمسألة الصوت وردت فيها أحاديث صححها الكثير من أهل العلم، وبعضهم حسنها، وبعضهم ضعفها، والضعيف إذا لم يرتق إلى درجة القبول لا يثبت به صفة.
لكن الراجح -والله أعلم- أن أحاديث إثبات الصوت مرتبطة بأحاديث إثبات النداء، وأحاديث إثبات التكليم والنداء ثابتة بأسانيد صحيحة، ولذلك قال كثير من السلف: إنه لا يعقل أن الله عز وجل ينادي عباده ويكلمهم بمجموعهم وبأفرادهم بغير صوت؛ لأنه ورد في النصوص أن العباد يسمعون كلام ربهم، والسماع لا يكون إلا لصوت، هذا قول السلف، فلذلك رجحوا إثبات صفة الصوت بناءً على أن الأحاديث التي وردت فيها حسنة، وبعضهم صححها، وقد أشار الألباني في أحاديث إثبات الصوت إلى هذا الحديث نفسه، أشار إليه في سلسلة الأحاديث الصحيحة وحسنه وصححه، وأيضاً ذكره في صحيح الجامع الصغير.
إذاً: فمسألة الصوت -كما قال السلف- مرتبطة بمسألة إثبات النداء وإثبات الكلام لله عز وجل على ما يليق بجلال الله، بغير تكييف ولا تشبيه، فإذا عقل أن يثبت في النصوص النداء والتكليم فكذلك يثبت الصوت إذا ورد بأسانيد صحيحة، فما أدري لماذا جنح المحقق -عفا الله عنه- إلى التنصل من إثبات هذه الصفة، وليته أشار إلى أن الخلاف فيها وارد؛ لئلا يشعر كلامه بالجزم بنفيها، أما أن الخلاف فيها وارد فصحيح؛ لأن بعض أهل العلم قالوا: لا يلزم من إثبات النداء وإثبات التكليم إثبات الصوت، فهؤلاء لم يثبت عندهم حديث الصوت، أما الذين ثبت عندهم فلا إشكال عندهم على الإطلاق.
وصنف آخر يؤول الآيات ويؤول الأحاديث التي لا يمكن ردها، لكنَّه تأويل متعسف، فهم يفسرون الرؤية بأنها قلبية أحياناً، وأحياناً يقولون: يرى إلى غير جهة مع نفي الفوقية والاستواء والعلو، وهذا مذهب متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فإنهم يقولون بالرؤية لا في جهة، مع أنهم في الجملة لا يعدون من نفاة الرؤية، لكن تفصيلاتهم حول الرؤية تشبه قول المعتزلة، بل يكاد بعض أهل العلم يقول: إنهم يقولون بنفي الرؤية، حتى إن المعتزلة قالوا لهم: أنتم تنفون الرؤية بهذا، فإذا قلتم: يرى إلى غير جهة فهذا نفي للرؤية، لأنه لا تعقل رؤية إلى غير جهة، وإذا قلتم يرى فأثبتوا الاستواء والفوقية والعلو.
يشير بذلك إلى أن الذين أنكروا الرؤية لم يكن إنكارهم يعتمد على أدلة من الكتاب والسنة، بل كانت أصولهم معارضة للكتاب والسنة، والذين تولوا كبرهم في ذلك هم الجهمية والمعتزلة، فالجهمية والمعتزلة مصادر التلقي عندهم تتميز بما يأتي:
أولاً: لا تنحصر في الكتاب والسنة.
ثانياً: لا يقدمون فيها الكتاب والسنة على المصادر الأخرى، بمعنى أنهم حينما ضلوا فأشربوا قواعد عقلانية قرروا بها العقيدة ووقعوا أيضاً في تقديم هذه القواعد على الكتاب والسنة وتحكيمها.
فالجهمية وكذلك المعتزلة وكل من أنكر الرؤية شبهتهم عقلية فلسفية وليست من الوحي في شيء، فلذلك لما قيل لهم: هذا كلام الله ورسوله جاءوا بداهية أخرى وقالوا: كلام الله ورسوله نعود به إلى العقل، فما صدقه العقل أخذنا به وما كذبه كذبناه أو رددناه أو أولناه، وهكذا الأهواء يجر بعضها إلى ما هو أشد إلى أن يقع صاحب الهوى في كفر صريح وهو يدعي أنه ينصر الحق.
إذاً: هم على أصول غير الكتاب والسنة، بل أخذوها عن آراء وقواعد الفلاسفة المبنية على الأوهام والتخرصات.
قال رحمه الله تعالى: [ وكيف تعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله الذين نزل القرآن بلغتهم؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)، وفي رواية: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)، وسئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]: ما الأب؟ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟! ].
المقصود هنا أن أمور العقيدة لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة، وأن نصوص الكتاب والسنة لا تفسر إلا عن علم، وأتى بكلام أبي بكر رضي الله عنه، حيث توقف في تفسير أمر من عالم الشهادة، فالأب ليس من أمور الغيب، إنما هو من النعم التي أنعم الله بها على عباده، لكن نظراً إلى أن أبا بكر رضي الله عنه وقتها لم يكن يجزم بمعنى الأب -لأن العرب تفسر الأب بأكثر من تفسير- توقف عن أن يفسرها؛ نظراً لأنها من كلام الله، وهو لا يجزم بمراد الله عز وجل، وهذا في أمور تتناولها عقول الناس، وهو من عالم الشهادة، فكيف بالأمور التي لا تدركها العقول وهي أمور العقيدة كالرؤية وكلام الله عز وجل؟!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر