في هذه المسألة يرد على المتكلمين من الأشاعرة ونحوهم الذين أثبتوا الرؤية بكلام لم يعهد عن السلف ولم يرد في النصوص، بل يناقض النصوص، وسبب ذلك جدالهم للجهمية والمعتزلة الذي ألجأهم إلى مثل هذه المقولات، وأي إنسان يصاب بالجدل لا بد من أن يتأثر بأقوال خصومه؛ لأن الجدل -خاصة في أمور الغيب وأمور الدين التي لا تؤخذ إلا من النصوص- لابد من أن يؤدي بصاحبه إلى أن يسلك مسالك عقلية لا يتخلص منها ويأخذ من خصومه ما لم يكن له على بال، بل يلزم نفسه في الخصام والجدل والتمحل بأمور قد تخرج عن أصول العقيدة الصحيحة، فهؤلاء المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية أثبتوا الرؤية؛ لأنهم ليسوا ممن ينكر ما ثبت بنص الشرع، بل يثبتون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من حيث تقرير العقيدة يقررون العقيدة بالعقول، فأصول العقيدة يقررونها بالعقول، فلما لجئوا إلى تقرير الرؤية بالعقل مع الشرع، والعقل لا طاقة له بمثل هذه الأمور، ولا يمكن أن يطلع الغيب؛ اضطروا إلى أن ينفوا أشياء لم تنف بالنصوص وأن يثبتوا أشياء لم تثبت في النصوص، فمما نفوه مما لم يرد في النصوص أن قالوا: إن الله يرى لا إلى جهة أو إلى غير جهة، وسبب ذلك أنهم تأثروا بالمعتزلة في نفي العلو بالذات لله عز وجل، ونفوا الاستواء كما يقره السلف، ونفوا الفوقية كما تفهم من الشرع، فلما نفوا العلو أو أولوه ونفوا الفوقية أو أولوها، وكذلك الاستواء اضطروا حين أثبتوا الرؤية إلى أن يقولوا: يرى إلى غير جهة؛ لأنهم لو قالوا: إن الله عز وجل يراه المؤمنون ولم ينفوا الجهة للزم من إثبات الرؤية إثبات العلو وإثبات الفوقية؛ لأن كل ما يرى لابد من أن يرى إلى جهة مقابل الرائي، وليس المقصود بالجهة الجهة المخلوقة، إنما الجهة التوجه، توجه البصر، فالبصر لا بد من أن يتوجه إلى شيء، والله عز وجل شيء، وله وجود ذاتي سبحانه، فإذا رأته أبصار المؤمنين يوم القيامة في الجنة فإنما يرونه فوقهم، تعالى الله عما يزعم الذين نفوا العلو، فالله عز وجل يراه المؤمنون من فوقهم، والفوق كمال، والعلو كمال، لكن لا يلزم من إثبات الفوقية والعلو أن نلتزم لفظ (جهة) إلا على سبيل قصد العلو بذاته أو الفوقية بذاتها.
أما الجهة التي هي من المخلوقات فلا تليق بالله عز وجل؛ لأن الله عز وجل لا يحويه شيء من مخلوقاته، فهو فوق جميع الخلق، ومن هنا تلازم إثبات الرؤية مع إثبات الفوقية والعلو، كما أنه أيضاً يجتمع في الرؤية تعلق القلب وتعلق البصر بالله عز وجل.
فالأشاعرة والماتريدية من أهل الكلام -لا المحدثون والفقهاء- الذين قالوا: يرى إلى غير جهة. رد عليهم فقال: هل تعقل الرؤية بلا مقابلة؟! وليس المقصود أن نشبه مقابلة رؤية المخلوق للخالق بمقابلة رؤية المخلوق للمخلوق، بل من المقصود هنا أن هناك أمراً يفهم من النص بالضرورة، وهو أن المؤمنين إذا رأوا ربهم -والله عز وجل فوق سماواته- فإنهم يرونهم من فوقهم.
ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، ويقصد الشارح بقوله: (لا في جهة) إلى غير جهة، ولا يقصد بـ(في) هنا الظرفية، وإلا فالله عز وجل ليس في جهة بمعنى أن هناك جهة تحويه، تعالى الله، إنما جهة العلو، فالعلو جهة والفوقية جهة، فمن هنا لا يصح أن يقال: يرى لا في جهة؛ لأن هذا نفي للعلو والفوقية، وكل هذا الكلام لا يليق بالمسلم أن يقوله في حق الله عز وجل، لكن السلف تكلموا به اضطراراً لنفي شبهات قال بها طائفة من المتكلمين حتى فتن بها العامة، فكان لا بد من الرد من قبل طلاب العلم.
فيقول: إذا قالوا: يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته؛ فهذا افتراض جدلي يرده كل من سمعه بفطرته السليمة، أي: يرد بالفطرة بعيداً عن التقعيدات والتفلسف، ويحكى أن الجويني كان يقرر على المنبر تأويل الاستواء لله عز وجل وتأويل الفوقية الذاتية والعلو، فأراد أحد الطلبة أن يرد عليه بأيسر أسلوب، فقال له: أخبرني عن هذه الضرورة التي يجدها الداعي في قلبه إذا دعا الله عز وجل، يعني ضرورة التوجه إلى الله سبحانه، فالإنسان إذا دعا الله مستحضراً ما يقول يشعر بالتوجه إلى فوق، أليس كذلك؟ على أي وضع كان قائماً أو مضطجعاً، فإذا دعا الإنسان ربه دعاءً بقلبه مستحضراً شعر بجميع مشاعره أنه يتوجه إلى فوق، بل هذا في الحيوان، فالحيوان إذا مسته ضرورة شخص بصره إلى السماء.
فالتوجه إلى الفوق فطرة فطر الله الناس عليها حين يلجئون إلى الله عز وجل.
فإثبات فوقية الله عز وجل واستوائه على عرشه إثبات فطري، والنص جاء يؤيده، فنفي أن تكون الرؤية إلى فوق وإلى العلو إنما هو استجابة لآراء الفلاسفة.
قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية، وقالوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة؟! ].
أهل الكلام ألزم بعضهم بعضاً، فالمعتزلة يتناقشون دائماً مع المتكلمة من الأشاعرة في قضايا كثيرة، ومنها: مسألة الرؤية، فالمعتزلة ينكرون الرؤية ولا يبالون، فالأحاديث يردونها والآيات يؤولونها؛ لأن قاعدة دينهم: الاعتماد على العقل، وما خالف العقل عندهم من الشرع أولوه أو ردوه ولا يبالون.
لكن أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية يسلكون مسلكاً آخر في مسألة الرؤية، وهو الأخذ بالنصوص، فلما قالوا بالرؤية ثم قالوا: إلى غير جهة قال لهم المعتزلة: هذا لا يصلح، فإما أن تثبتوا الرؤية كما أثبتها أهل الحديث، فإذا أثبتموها فأثبتوا لوازمها، وهي العلو والفوقية لله عز وجل وسائر ما يلزم بذلك من اللوازم الفطرية، وإما أن تنكروا الرؤية، أما أن تقولوا: يرى، ثم تقولون: إلى غير جهة؛ فهذا لا يعقل، فأنتم نقضتم أصلكم بهذه العبارة، وهذا إلزام صحيح من الناحية العقلية.
في هذا المقطع بين أن الرؤية يفرق فيها بين الدنيا والآخرة، فرؤية الله عز وجل في الدنيا غير ممكنة، ولما طلبها موسى حينما كلمه ربه، وطمع بعد الكلام في الرؤية بين له أنه لا يستطيع أن يرى ربه في هذه الدنيا؛ لأن الله لم يقدره، وليس بإمكانه وطاقته المحدودة في هذه الدنيا أن يرى ربه.
فمن هنا لما تجلى الله عز وجل للجبل لم يطق الجبل رؤية الله، فالإنسان من باب أولى ألا يطيق؛ لأن قلبه مضغة ضعيفة، هذا في الدنيا.
أما في الآخرة فإن الله عز وجل يقدر المؤمنين على الرؤية على نحو لا يكون إلا يوم القيامة، ولذلك فأحوال يوم القيامة كلها تخالف أحوال الدنيا في أمور كثيرة، فالشمس تدنو من الخلائق، ومع ذلك لا تحرقهم كما تحرقهم في الدنيا لو نزلت، وعلى هذا فإن الإنسان في هذه الدنيا غير قادر على رؤية الله؛ لأنه لم يقدره الله عليها، أما في يوم القيامة فالله عز وجل يحدث له من القدرة والتحمل ما لم يكن في الدنيا، والإنسان لا يطيق رؤية بعض المخلوقات التي خلقها الله تعالى فكيف يطيق رؤية الله؟! فهذه الشمس إذا حدق بعينه فيها مدة طويلة عجز وربما يعمى، وهي مخلوقة من مخلوقات الله عز وجل، فكيف يطمع في أن يرى الله؟!
وهذا فيه رد على الذين يزعمون أنهم يرون ربهم بأعينهم، وأظن أن الشيطان يتبدى لهم، وهم طائفة من المتصوفة وأهل الضلال، فلا يمكن لأحد أن يرى ربه في الدنيا، بل يستحيل ذلك كل الاستحالة، فالنصوص التي وردت في نفي الرؤية تعني نفي الرؤية في الدنيا، والنصوص التي وردت في إثبات الرؤية تعني إثبات الرؤية يوم القيامة من قبل عباد الله عز وجل الذين ينعمهم الله عز وجل وينعم عليهم بالرؤية، نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً منهم.
هذه مسايرة اضطرارية لأهل الكلام، والسلف قاعدتهم: أنهم يحرمون مثل هذا الكلام إلا لضرورة، ومن الضرورات التي ألجأتهم إلى هذا الكلام: أن الناس ابتلوا بمثل هذه الشبهات في أيام طفرة المعتزلة وانتشار أفكارهم، ثم بعد ذلك حينما كثر علم الكلام وكثرت كتبه، وصار يدرس ويعلم في حلق التعليم في كثير من البلاد الإسلامية؛ صار الأمر يوجب ويلزم بيان خطأ هؤلاء في هذه المسائل العقدية الحساسة الخطيرة.
وكلامه هنا بقوله: [ وما ألزمهم المعتزلة ]: يشير إلى متكلمة الأشاعرة والماتريدية الذين يقولون: إن الله عز وجل يرى لا إلى جهة أو إلى غير جهة، والعبارة واحدة.
يقول بأن هذه فلسفة أصل منشئها كلام المعتزلة وشبهاتهم وقواعدهم العقلية، والمعتزلة -مع أنهم يعتمدون على القواعد العقلية- يردون هذا الكلام.
وقوله: [وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام] يعني بالإلزام أنهم قالوا: حينما قلتم: يرى إلى غير جهة جانبتم العقل والمنطق والقواعد وأصول الاستدلال. وقالوا لهم: إن أخذتم بالقواعد العقلية التي أخذنا بها، وأخذت بها الجهمية، وسائر الفلاسفة؛ فيلزمكم أن تقولوا: لا يرى.
وإذا أخذتم بالنصوص الشرعية التي أخذ بها أهل الحديث فيلزمكم أن تقولوا: يرى، وكلمة: (لا إلى جهة) لا معنى لها؛ لأنه لا يعقل أن يرى إلى غير جهة، فإن أثبتم الرؤية فأثبتوا العلو كما أثبته أهل السنة، وإن نفيتم الرؤية نفيتم العلو، وإن نفيتم العلو نفيتم الرؤية، فهما متلازمان، وهذا صحيح من الناحية المنطقية بالنسبة لقواعدهم التي يتحاكمون إليها.
ثم قال: [ لم يلزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه ]، يعني: وافقوهم في نفي الفوقية لله عز وجل، ونفي العلو، وقالوا كلاماً ممرضاً للقلوب، ولولا أن المؤلف ساقه ما أجزت لنفسي أن أنطق بكلمة منه.
لكن أقول: ما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه عز وجل لا داخل العالم ولا خارجه، وهذه فلسفة ليس لها معنى.
ولا يجوز في حق الله عز وجل مثل هذا الكلام، لا يقال: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا أنه داخل العالم أو خارجه بالمعنى المفهوم في عالم الشهادة؛ لأن مسألة داخل وخارج، ولا داخل ولا خارج، هذه تصورات مبنية على تخيل الإنسان للمخلوقات، فما هو داخل وخارج إنما هو علم الشهادة، والله عز وجل أعظم وأجل، وهو سبحانه ليس كمثله شيء، وهو سبحانه بكل شيء محيط، وهو الحي القيوم.
فلذا لا يجوز مثل هذا الكلام نفياً ولا إثباتاً، بل يثبت ما أثبته الله لنفسه، وينفى ما نفاه الله عن نفسه، ولا يجوز للناس أن يزيدوا على ذلك؛ لأن كل كلام عن الله عز وجل بنفي أو إثبات أكثر مما في النصوص إنما هو قول على الله بغير علم، وتحكم في أمر الغيب، وتشبيه لله بخلقه؛ لأن الإنسان إذا نفى أو أثبت فلا ينفي أو يثبت إلا بناءً على معلومة مستقرة في ذهنه، والإنسان ليس لديه في النفي والإثبات معلومة إلا من خلال علم الشهادة، وما عدا ذلك غيب لا يستطيع أن ينفي فيه أو يثبت إلا ما نفاه الشرع أو أثبته، وإذا كان هذا في سائر أمور الغيب فكيف بالله عز وجل؟!
ويقصد بذلك: أن قول الأشاعرة الذي ينفون الجهة ويثبتون الرؤية أقرب إلى الحق من قول المعتزلة والجهمية الذين ينفون الرؤية نفياً مطلقاً.
فهم يثبتون أن الله عز وجل موجود وقائم بنفسه حسب تعبيرهم، لكن يقولون بأنه لا يرى ولا في جهة.
وكلمة (الجهة) ينبغي أن نستبعدها، لكن قد يطلقها السلف اضطراراً للتعبير عن العلو والفوقية؛ لأن الذين ينفون العلو والفوقية يقولون للسلف: إذا قلتم بأن الله عز وجل فوق عباده، وأنه العلي؛ فقد قالوا: إذاً أنتم أثبتم الجهة؛ لأن العلو جهة.
والسلف يقولون: لا مانع من أن نأخذ من معنى الجهة المعنى الصحيح، وننفي المعنى الباطل، فالجهة لها معنيان: معنى العلو والفوقية لله عز وجل، فهذا حق.
ومعنى المكان، أو الحيز، كما تقول: الجهة الشمالية من هذا المسجد، أو: الجهة الجنوبية، فهذا المعنى لا يجوز أن يطلق على الله عز وجل؛ لأن المكان وصف من أوصاف المخلوقات، والجهة على هذا الاعتبار وصف من أوصاف المخلوقات، والله عز وجل لا يوصف إلا بما وصف به نفسه.
إذاً: نقول: الله هو العلي سبحانه، وهو القاهر فوق عباده، فإن قال المعتزلة والجهمية: هذه جهة قلنا: سموها ما تشاءون، إنما نحن نثبت العلو والفوقية كما جاءا في النص.
فإن أردت بها أمراً وجودياً كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى، وهذه المقدمة ممنوعة، ولا دليل على إثباتها، بل هي باطلة، فإن سطح العالم يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر.
وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً، فالمقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار ].
مثل هذا الكلام من الكلام الممرض للقلوب، لكن لما بليت به الأمة وصار في المصنفات والكتب والمؤلفات التي تدرس كان لابد من الدفاع عن الحق.
فقوله: [ ويقال لمن قال بنفي الرؤية ] وهم: الجهمية والمعتزلة الذين يقولون بنفي رؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، يقول: نقول لهم: ماذا تريدون بالجهة التي من أجلها نفيتم الرؤية؟! والمعتزلة وأتباعهم إلى اليوم ليس عندهم حجة شرعية، فقد ثبت تواتراً بالقرآن والسنة رؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، لكن عندهم شبهات يسمونها حججاً عقلية، يقولون بزعمهم: لا يعقل أن تكون هناك رؤية إلا بجهة، وعلى هذا ينفون الجهة حتى العلو والفوقية بالمعنى المفهوم عند السلف، فمن هنا قالوا: إذاً: لا تعقل الرؤية؛ لأنه يلزم منها الجهة، فلا أحد يرى، ولا شيء يرى إلا ويكون في جهة، إما أن تراه فوق أو تحت أو يمين أو شمال، فعندهم أن الله عز وجل إذا كان يرى فلابد من أن يكون في جهة، وعندهم ممنوع أن يكون الله في جهة؛ لأنهم ينفون العلو الحقيقي، والفوقية الحقيقية.
وأهل الباطل إذا جاءوا بقاعدة فاسدة جرتهم إلى قاعدة فاسدة أخرى، وهكذا، وتكون النتائج فاسدة، وكل مشكلة ينشأ عنها مشكلة، حتى كادوا ينكرون البدهيات، وهذا ما حصل.
فهو يقول: [ يقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها: أتريد بالجهة أمراً وجودياً، أو أمراً عدمياً؟! ].
ومعنى كلامه: أننا نناقش من نفى الرؤية لأنها تلزم الجهة، فيقال له:
تعال لنتفق وإياك على معنى الجهة، فإن كنت تريد بالجهة شيئاً مخلوقاً، فالله عز وجل لا يحتاج إلى مخلوق، هذا معنى الأمر الوجودي، وإن كنت تريد بالجهة مجرد الوجهة حتى خارج المخلوقات؛ فهذا أمر عدمي، فالوجهة في الذهن، وليست في الواقع، فمجرد تصور الوجهة تصور ذهني، فإن وجد شيء في الوجهة صار في الجهة، وإن لم يوجد شيء في الوجهة صارت الوجهة مجرد تصور في الذهن، والذهن ليس له ما يقيده؛ لأنه يتصور العدم، وأما الوجود فإنه إذا رآه علمه، أو إذا اطلع عليه بأي وسائل من وسائل العلم علمه.
أما ما عدا ذلك من الألفاظ المجردة -مثل كلمة جهة أو جنوب أو شمال- فهذا إذا كان مجرداً في الذهن لا ينتهي إلى نهاية، فالإنسان قد يتخيل كلمة شمال إلى ما لا نهاية، حتى ما وراء الوجود.
إذاً: فإذا كان تصورهم للجهة التي نفوا بها الرؤية تصوراً وجودياً؛ فنحن لا نقول بأن الله عز وجل يوجد في مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
لكن نثبت له الرؤية، ولا يلزم أنه يحويه شيء من مخلوقاته.
وإن أرادوا بالجهة أمراً عدمياً، بمعنى: مجرد التصور الذهني؛ فلا داعي لأن نجادل في أمر مجرد في الذهن ليس له وجود، إنما هو خيالات.
ثم قال بعد ذلك: [ فإن أردت بها أمراً وجودياً كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى ]، وهذا عند المعتزلة والجهمية، ولا يصح.
ومقصودهم: أنه لا يمكن أن يرى الشيء إلا إذا كان موجوداً في شيء غيره، وكل هذه فلسفات خيالية جاء بها الفلاسفة قبلهم ثم نقلوها عنهم.
يقولون: كل شيء لا يوجد في غيره لا يرى، هذا معنى هذا الكلام، وأرادوا أن يطردوا هذه القاعدة، فقالوا: ما دمنا نقول: كل شيء ليس في شيء موجود لا يرى؛ والله عز وجل ليس في شيء موجود؛ فالله عز وجل لا يرى! وهذا غير صحيح، وقد يصح جدلاً، وإلا فسينقضه الشارح بعد قليل، فهذه القاعدة لا تصح؛ لأن المخلوقات أحكامها أحكام معلومة عند الناس من خلال المشاهدة، لكن الله عز وجل ليس كمثله شيء، فلا يقاس بخلقه، ولا يقاس به خلقه.
وقد افترض الشارح افتراضاً صحيحاً فقال: ما دمتم تقولون هذا؛ فإن هناك ما ينقضه من الواقع، وهو: أن هذا العالم المخلوق له نهاية، ونهايته ليست في مخلوق آخر، وإلا فسيلزم التسلسل الممنوع عقلاً، فالمخلوقات تنتهي إلى نهاية، هذه النهاية يجب ألا تكون في مخلوق آخر، وإلا لزم التسلسل.
إذاً: لابد للعالم من نهاية، فالمخلوقات لابد لها من نهاية، إذا كان لابد لها من نهاية ألا يتصور عقلاً أن الإنسان لو أقدره الله عز وجل على مشاهدة نهاية الخلق فإنه يمكن أن يشاهد نهاية الخلق؟!
إذاً: قولهم بأنه لا تجوز رؤية الله؛ لأنه لو جاز أن يرى فلابد من أن يكون في مكان يحويه، أو في مخلوق يحصره، هذا غير صحيح، فالقاعدة وهمية من وساوس الشيطان لا أصل لها في العقل السليم والفطرة، إنما هي من خطوات الفلاسفة التي لا تستند على أي أصل علمي صحيح.
يقول: [ وهذه المقدمة ممنوعة، ولا دليل على إثباتها، بل هي باطلة؛ فإن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر ].
ثم يقول: [ وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً كانت المقدمة الثانية ممنوعة ].
والمقدمة الثانية هنا غير موجودة، لكنها تضمنها اللفظ.
وأصل الكلام منقول عن أحد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية باختصار، فالمقدمة الأولى نصها في منهاج السنة في المجلد الثاني في صفحة ثلاثمائة وثمان وأربعين، وهي أن الله ليس في جهة عند المعتزلة والجهمية.
والمقدمة الثانية: أن كل ما ليس في جهة لا يرى!
إذاً: النتيجة عندهم قامت على مقدمات باطلة فكانت باطلة، فالمقدمة الأولى: أن الله ليس في جهة خطأ، ومقدمة ممنوعة، ولا يقال هذا في حق الله عز وجل.
والمقدمة الثانية: أن كل ما ليس في جهة لا يرى، إذاً: فالنتيجة عندهم أنه لا يرى، تعالى الله عما يزعمون.
فمثل هذا الكلام مبني على أوهام، والأصل أن المسلم لا يجوز له أن يقف عليه إلا إذا عمت به البلوى، أو انتشر الكلام فيه، أو كان ممن يدرس مثل هذا الكتاب الموسع، فلا بأس أن يستفيد؛ لأن هذا الكلام كتب وصدر وهو موجود الآن في كتب أهل الكلام، ونجد في الآونة الأخيرة أن هناك طائفة من أهل الأهواء حرصت على إخراج كتب الكلام حتى كثرت الآن، وفيها هذه الشبهات، فمن الخير أن تحصن طائفة من طلاب العلم بمثل هذه الأمور؛ ليدافعوا عن العقيدة.
هذه الجملة قواعد عند السلف يمكن أن نلخصها هنا على النحو الآتي:
أولاً: أن الدين لا يتلقى إلا من الكتاب والسنة، وأنه لا يتلقى عن الأشخاص وعن الناس.
ثانياً: تفسير معاني النصوص إنما يتلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
ثالثاً: أنه لا يعتمد في الدين من المنقول إلا ما نقل عن الثقات.
رابعاً: أن السلف لم ينقلوا نص القرآن واحده، إنما نقلوا نصه وتفسيره نظمه ومعناه، وجعلوه مصدراً من مصادر تلقي الدين في نظمه ومعناه.
خامساً: أن من لم يسلك في هذه الأصول سبيل السلف فإنما يتكلم في الدين برأيه.
سادساً: من تكلم برأيه في الدين فإنه آثم وإن أصاب، ومن أخذ بالكتاب والسنة -يعني: عن اجتهاد سائغ- فهو مأجور وإن أخطأ.
أحدها: أنه لا يراه إلا المؤمنون.
الثاني: يراه أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك.
الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار. وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف ].
والقول الرابع لعله يجمع بين هذه الأقوال، فهناك قول رابع قال به بعض أهل العلم، وهو أن الرؤية في المحشر تأتي بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: يراه فيها جميع الخلائق على ما يليق بجلال الله عز وجل، وهذه الرؤية لكل إنسان بحسبه، فالمؤمن يرى ربه عز وجل رؤية تنعم وتلذذ وسرور، والكافر والمنافق يرى ربه رؤية حسرة، فلا يتمتع برؤية ربه عز وجل.
والمرحلة الثانية: يتبدى الله عز وجل فيها للخلائق فيراه المؤمنون والمنافقون، ولا يراه الكفار، وقالوا: سبب ذلك أن الله عز وجل أطمع المنافقين في الرؤية ليظنوا أنهم نجوا، فيكون ذلك أنكى في العقوبة لهم؛ لأنهم كانوا يمكرون في الدنيا ويخادعون، فأراد الله عز وجل أن يمكر بهم ويخادعهم في الآخرة.
فإذا رأى المنافقون ربهم مع المؤمنين وعلموا أن الكفار لم يروه في هذه المرحلة زاد طمعهم؛ ليكون ذلك أشد لحسرتهم إذا حجبوا في المرحلة الثالثة.
وفي المرحلة الثالثة: يراه المؤمنون دون المنافقين والكفار، قالوا: لأن هذا تقتضيه عمومات النصوص الكثيرة والتي تواردت في سياق الرؤية في المحشر.
ولعل هذا هو الذي يجمع بين ما ورد في النصوص، وعلى أي حال فالرؤية يوم القيامة على نوعين:
النوع الأول: الرؤية في المحشر التي ذكرناها هنا، وهذه اختلف فيها أهل العلم: هل هي من نوع الرؤية التي تكون في الجنة أو تكون رؤية بحسب الحال، أو على وجه آخر يختلف؟ وهل هي رؤية حقيقية بصرية أو رؤية قلبية؟ فهذا كله محل خلاف، وإن كان جمهور السلف يقولون: ظاهر النصوص أنها رؤية عينية، لكنها تختلف بحسب حال الشخص وإيمانه.
وهذا النوع أيضاً صح في الأدلة، ولا يجوز لأحد إنكاره، لكن لا يكفر من أنكره؛ لأن النصوص ليست صريحة في رؤية المحشر العينية كما في رؤية الجنة.
أما النوع الثاني -وهو رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأبصارهم- فهي رؤية بصرية عينية حقيقية أدلتها يقينية قطعية ومتواترة، ولا يسع أحداً بعد العلم بها أن ينكرها، ومن أنكرها فقد اتفق السلف على تكفيره، خاصة إذا كان ممن تقوم عليه الحجة، وعرف معنى الرؤية وأدلتها؛ إذ قد يحدث من الجهلة إنكار الرؤية؛ لأنهم لا يعرفون معناها ولا يفقهون نصوصها، فقد يرد من عامي أو شبه عامي لم يفهم معاني نصوص الرؤية إنكار الرؤية على سبيل الجهل، أما من علم وأقيمت عليه الحجة وأنكر بعد بيان الأدلة فإنه لا شك في كفره.
أما من أنكر الرؤية في المحشر فإن كان إنكاره إنكار تأول؛ فلا يكفر وإن ابتدع وخالف منهج السلف.
هذا هو قول جمهور السلف لم يخالف فيه أحد منهم، لكن في القرن الرابع وما بعده ظهرت طوائف من ضلال المتصوفة، وضلال الفلاسفة والباطنية يزعمون لبعض شيوخهم أنهم يرون ربهم رؤية عينية، وهذا باطل، فالسلف قد اتفقوا بإجماع على أنه لا أحد يرى ربه في الدنيا بعينه، وما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم في المعراج على تقدير أنه رآه بعينه على الرأي المرجوح؛ فإن هذا يعد استثناءً، وهو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأحد غيره بعده ولا قبله.
إذاً: فهذا الإجماع شذ عنه طائفة من المتصوفة، وطائفة من الفلاسفة، وطائفة من الباطنية.
قال رحمه الله تعالى: [ ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة: منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صلى الله عليه وسلم.
وحكى القاضي عياض في كتابه الشفا اختلاف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في رؤيته صلى الله عليه وسلم ].
يعني: في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج.
قال رحمه الله تعالى: [ وإنكار عائشة رضي الله عنها أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، وأنها قالت لـمسروق حين سألها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب.
ثم قال: وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها، وهو المشهور عن ابن مسعود ، وأبي هريرة واختلف عنه، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه)، وروى عطاء عنه: أنه رآه بقلبه. ثم ذكر أقوالاً وفوائد، ثم قال: وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص، والمعول فيه على آية النجم، والتنازع فيها مأثور، والاحتمال لها ممكن ].
آية النجم ليس فيها جزم قاطع بأنه رأى ربه بعينه، بل آية النجم تؤيد الرؤية القلبية، لقوله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، وقوله عز وجل قبل ذلك: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، فيفسر أحد النصين الآخر، فإذا قيل في الأولى: إن المقصود بها: أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه؛ فإنه يكون رأه بقلبه؛ لأن الله عز وجل قال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11].
وإن كان بعض المفسرين يقول: ما كذب الفؤاد ما رآه بعينه، لكن ظاهر النص عند بعض المفسرين يدل على أن الرؤية رؤية قلبية: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] يعني: ما رأى الفؤاد.
وكذلك يدفع احتمال الرؤية العينية: أن قوله تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم:12] قيل: إنه في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بقلبه، وأن قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل بعينه؛ لأن قوله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] يدل على أن الرؤية حدثت مرتين، وهذه إنما تنطبق على رؤية جبريل.
فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته الحقيقية مرتين:
المرة الأولى: حينما جاءه بالوحي في غار حراء، فقد سد عليه الأفق حتى أصيب بالرعب من منظره، ثم رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى على صورته الحقيقة.
فنظراً لهذه الاحتمالات في تفسير النصوص لا يوجد في آيات النجم ما يدل على أن الرؤية بصرية إلا دلالة بعيدة، في حين أن سياق الآيات يدل على أن الرؤية قلبية، خاصة قوله عز وجل: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11].
الإشارة إلى الإمكان كثيراً ما تأتي في المسائل التي جرى فيها الخلاف، خاصة المسائل التي جر المتكلمون أهل السنة إلى الكلام فيها، أي: المسائل التي دخل فيها النظر العقلي.
وبعض الناس يظن أن الإمكان معناه: جوازه أو وقوعه، فإذا قال أحد العلماء: إن رؤية الله عز وجل في الدنيا ممكنة، فقد يفهم بعض الناس أنها واقعة.
وليس هذا هو المقصود، بل المقصود الإمكان عقلاً، أي يتصور عقلاً أن الله عز وجل يقدر عباده على أن يروه، لكنه ما أقدرهم، هذا معنى: ممكن، وليس معنى (ممكن) أنه محتمل أن تقع، فلا يمكن أن تقع؛ لأن الله عز وجل قدر ألا تقع الرؤية جزماً، وليس عند السلف في هذا شك، وهو اتفاق بين السلف، فالإجماع قائم على أنه لا أحد يرى ربه بعين رأسه في الدنيا، إنما الرؤية بالعين في الآخرة، لكن عندما يقولون: (ممكن) كما قالوا في الرؤية، وكما قالوا في غيرها؛ فإنهم يقصدون بالإمكان: التقدير العقلي، أي: ليس هناك ما يمنع أن يرى الناس ربهم في الدنيا لو أن الله أقدرهم على ذلك.
وهذه المسألة ما دامت معلقة بقدرة الله عز وجل فهي ليست محل جدال، ولا ينبغي أن تكون محل جدال، لكن السلف ابتلوا باستعمال عبارات المتكلمين، مثل: الممكن والجائز، والواجب.. إلى آخره، والتي يقصد بها مفاهيم غير مفاهيمها الشرعية، فاضطروا إلى استعمالها دفعاً لشبهات المتكلمين.
وقد روى مسلم أيضاً عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
فيكون -والله أعلم- معنى قوله لـأبي ذر : (رأيت نورا) أنه رأى الحجاب، ومعنى قوله: (نور أنى أراه؟): النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته، فأنى أراه؟! أي: فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته؟! فهذا صريح في نفي الرؤية. والله أعلم. وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك ].
هذا الكلام جيد من وجه، يعني: قوله: [ نحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه ]، بمعنى: لأن نتكلم ونجتهد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل -يعني: هل رآه على حقيقته أو لا، وإن كان هذا أمراً غيبياً- خير لنا من أن نخوض في أمر يتعلق برؤيته لربه عز وجل بغير دليل قاطع، ومعنى هذا: أنه ينبغي أن نسلم بالنصوص التي وردت دون أن نتعدى المعاني المفهومة منها، ولا نخوض في أمر ليس عليه دليل شرعي، وهذا حق، والسلف كانوا عليه، لكن اضطروا لزيادة التفصيل والقول بما لم يرد به الشرع دفعاً لتوهمات وشبهات المتكلمين، فإذا كان لابد للمتكلم من أن يتكلم في أمر غيبي فلأن يتكلم في الأمور الغيبية المتعلقة بالمخلوقات -كجبريل عليه السلام- خير له من أن يتكلم في الأمور الغيبية المتعلقة بذات الله عز وجل.
وهذا أصل ينبغي أن يحرص عليه طالب العلم، فلا يلجأ إلى الكلام عن الله عز وجل وصفاته وأسمائه وأفعاله إلا اضطراراً حينما تلجئه الضرورة العلمية إلى الدفاع عن العقيدة، أو دفع شبهات الناس وما يقولونه.
أما لمجرد العلم، أو لمجرد افتراض الشبهات، أو الترف العلمي فهذا مما لا ينبغي أن يكون، وألا يعني هذا الاتهام لمخافة الله عز وجل، لكن يعني التورع عن الكلام فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وإن لم نفهم النصوص التي وردت -كنصوص رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه- فإنه ينبغي لنا أن نسلم ولا نخوض بأكثر مما نفهمه من ظواهر النصوص، وعلى هذا فإن المتأمل لمجموع نصوص رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج يجد أنها تتجه من خلال مجموعها إلى أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه رؤية قلبية، وأنه رآه بفوائده، ولذلك لما سئلت عائشة : هل رأى ربه؟ استنكرت السؤال؛ لأنها فهمت أن السؤال عن الرؤية العينية، ولا يشكل على هذا إلا الرواية التي ثبتت عن ابن عباس في البخاري وغيره أنه رآه بعينه، ولولا هذه الرواية لما وجد إشكال والله أعلم، ولربما اتفق السلف على أن الرؤية رؤية قلبية.
ومع ذلك فإن الرواية عن ابن عباس مضطربة، فـابن عباس ثبت عنه أيضاً عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين، ففسرها بأنها بقلبه، وقد تحمل تلك على هذه، وربما كان مراده -والله أعلم- أنه رأى ذات ربه عز وجل، لا شيئاً آخر فعبر عن الذات بالعين؛ إذ قد يعبر عن الذات بالعين، كما يعبر عن الذات بالوجه.
وفي كلام الشارح وجه آخر لا أحب أن أذكره؛ لتعلقه بأساليب المتكلمين في تقرير الدين، خاصة في تقرير النبوة، وتقرير الوحي.
فالتأويل الصحيح: هو الذي يوافق ما جاءت به السنة، والفاسد: المخالف له، فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق، ولا معه قرينة تقتضيه؛ فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد؛ لم يكن بياناً ولا هدى، فالتأويل إخبار بمراد المتكلم لا إنشاء ].
يقصد بذلك أن نصوص الغيب التي وردت في كلام الله عز وجل -خاصة ما يتعلق بصفات الله- جاءت محكمة، وهذا معلوم بالضرورة؛ لأنها ليست قابلة للاجتهاد، ومعنى كونها جاءت محكمة: أنها جاءت على ظاهرها على ما يليق بجلال الله عز وجل، وعلى ما يليق بالأمور الغيبية التي لا تقاس بعالم الشهادة.
إذاً: فالذين أولوا خرجوا عن مقتضى مراد الله عز وجل، ودليل ذلك: أنهم حينما أولوا أولوا لشبهات خارجة عن منطوق النصوص، بل وحتى عن مفهوماتها، أي: لم يكن التأويل بسبب قرائن ودلالات توجد في النص نفسه، إنما التأويل لشبهات في أذهان المؤولين، فحينما قيل للجهمية: لم أنكرتم الأسماء والصفات؟ ما قالوا: لأنَّا ما فهمنا من النص كذا، بل قالوا: لأننا لا نفهم موجوداً يقبل التسمية والصفة إلا مخلوق محدث، أو نحو ذلك، ولأننا لا نفهم من هذه الأسماء والصفات إلا ما نفهمه في عالم الشهادة، فخوفاً من أن نقع في التشبيه نعتبر هذه الأسماء والصفات مجرد ألفاظ ليس لها معان، وأن الله لا يوصف ولا يسمى، تعالى الله عما يدعون.
وكذلك إذا قيل للمعتزلة: لم أولتم الصفات أو أنكرتموها؟ لا يقولون: لأن النصوص دلت على ذلك، أو: أولنا لقرائن تحف بنصوص الغيب تدل على تأويلها، بل يقولون: أولنا؛ لأننا لا نفهم من هذه الصفات إلا ما في المخلوقات، فمن أجل أن ننزه الله عن صفات المخلوقات نؤولها.
إذاً: جاءوا بأمور هي أوهام في أذهانهم وليست حقائق، ولا تدل عليها النصوص.
قال رحمه الله تعالى: [ وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس؛ فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا وكذا؛ كان إخباراً بالذي عناه المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقا كان كذبا على المتكلم.
ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة:
منها: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى، ومنها: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له، كقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] ].
المقصود: أن القرينة التي جاءت تدل على إثبات الصفة لله عز وجل، يعني: حف بكلام الله عز وجل ما يدل على أنه أراد حقيقة الصفة على ما يليق بالله عز وجل.
فقوله عز وجل: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فيه تأكيد لصفة الكلام، فقوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ) يدل على وجود الكلام، وقوله تعالى: (تَكْلِيمًا) يدل على تأكيد الكلام حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله.
قال رحمه الله تعالى: [ و(إنكم ترون ربكم عياناً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب) ].
هنا دلت القرينة على أن الرؤية رؤية عينية، وهي قوله: (عياناً)، هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين وغيرهما متواتر بمجموع أسانيده وألفاظه، والرؤية لا تفهم إلا برؤية بالعين، لكن جاءت قرينة مؤكدة على أن الرؤية عينية، وهي قوله: (عياناً)، يعني: بالعيون، فالله عز وجل ينعم على عباده في الجنة بأن يروه بأعينهم.
قال رحمه الله تعالى: [ فهذا مما يقطع به السامع له بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة؛ كان صادقا في إخباره، وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه؛ فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه، وهو تأويل بالرأي، وتوهم بالهوى.
وحقيقة الأمر: أن قول القائل: نحمله على كذا، أو: نتأوله بكذا، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده دفع معناه، وقال: أحمله على خلاف ظاهره.
فإن قيل: بل للحمل معنى آخر لم تذكروه، وهو: أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره، ولا يمكن تعطيله؛ استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالة لا ابتداء.
قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده، وهو إما صدق وإما كذب، كما تقدم، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده، بل يقرن بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره، إذا قصد التعمية على السامع حيث يسوغ ذلك، ولكن المنكر أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده، كيف والمتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز، ويكرره غير مرة، ويضرب له الأمثال ].
فأصول الدين كلها بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فروعه، ومعلوم أن ألفاظ العقيدة غير قابلة للاجتهاد، ولو كانت قابلة للاجتهاد ما صارت عقيدة.
فالذين أولوا لابد من أن يلزم من تأويلهم الاستدراك على الله عز وجل، والاستدراك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ما جاءونا بأدلة تثبت صحة التأويل، بل جاءوا بشبهات، قالوا: لا يعقل كذا إلا كذا، إذاً: لابد من أن نقول فيه كذا.
ثم إنهم حينما عدلوا عن ألفاظ الشرع، وعن حقائق ألفاظ الشرع؛ ما سلموا مما فروا منه، بل قالوا على الله بغير علم، وتحكموا في ألفاظ الشرع بغير علم، واختلفوا في المراد، فصار الناس الذين تابعوهم لا تستقر لهم عقيدة، ولا يدرون ماذا يعتقدون، في حين أنهم لو أبقوا -كما فعل السلف- نصوص الشرع على ما جاءت، وأثبتوا لله ما أثبته لنفسه حقيقة على ما يليق بجلال الله عز وجل مع نفي المماثلة والتشبيه؛ لما حصل الإشكال إطلاقاً، ولما وقعوا فيما وقعوا فيه، وكل شبهة أثاروها بسبب التأويل رد عليها السلف بما يكفي ويشفي، وسيأتي نماذج في ذلك مستقبلاً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر