فنقول: هذا يرد بالنسبة لأفراد الناس، فأفراد الناس قد يرد عند أحدهم نص من نصوص الكتاب والسنة فلا يعقله، أو يشتبه عليه، أو يظنه لا يمكن عقلاً، لكن إذا تأملنا وجدنا أنه ليس العيب في النص، ولا يمكن أن يكون العيب في الوحي، ولا يمكن أن يكون العيب في كلام الله تعالى ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يجب ويتعين أن نرجع إلى العقل نفسه؛ لأن العقل هو تفكير هذا الإنسان العاقل، وليس العقل شخصية مستقلة مجردة مقدسة أو منزهة عن الخطأ، بل العقل ما هو إلا نتاج التفكير عند هذا الإنسان، والتفكير راجع إلى المفكر نفسه، والمفكر إنسان ضعيف محدود الطاقة، محدود العلم، محدود التصور، محدود الخيال، يعتريه الخطأ والسهو والنسيان والخلل والهوى والوسواس وشبهات الشيطان ونزعات النفس الأمارة بالسوء، كل هذه تعتري العقل.
إذاً: فكيف يقال: إنه عارض النص أو: إنه لا يعقل النص؟! فمسألة تقديس العقل وإعطائه اعتباراً فوق الشرع مغالطة؛ لأنه ليس هناك عقل مجرد بين السماء والأرض يرجع إليه ويقال: إنه معصوم، فالعقل هو نتيجة تفكير العاقل، والعاقل هو هذا الإنسان المحدود الفاني الضعيف المحكوم بعوارض الحياة وعوارض الموت.
إذاً: فلا يتأتى عقلاً ولا شرعاً أن نتوهم أن يعارض العقل الشرع معارضة حقيقية، فلا يصح أن يقال: العقل يشهد بصحة ما دل عليه النقل، فهو الحاكم، كما ذكر عن الرازي وأمثاله.
وهذه مغالطة بمقدمة خاطئة بنيت عليها نتائج خاطئة، فالعقل ليس أصلاً، إنما هو وسيلة، والوسيلة لا يمكن أن تكون أكبر من الغاية، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أن العقل مرشد إلى ما هو أعظم منه، أو دليل على مدلول أعظم، ولا يمكن أن يكون الدليل أكبر من المدلول، فدليل المبصر على طلوع الشمس عينه وبصره، فالعين دلت على طلوع الشمس، فهل هي أكبر من الشمس؟! وهل هي أعظم من الشمس؟! بل لا يمكنها أن تتصدى للشمس دقائق معدودات، فإذا كانت العين دلت على الشمس فصارت دليلاً؛ فهذا لا يدل على أنها أكبر من الشمس، فكذلك إذا كان العقل قد دلنا على صحة الشرع؛ فلا يعني ذلك أنه أكبر من الشرع؛ لأن الشرع كلام الله عز وجل ووحيه، فلا يمكن أن يكون العقل المخلوق الضعيف أكبر من كلام الله وأعظم، أو حاكماً على كلام الله عز وجل وكلام رسوله.
وهناك مثل واضح ضربه شيخ الإسلام ابن تيمية وأورده ابن القيم وأورده الشارح في مقام آخر، وهو مثال على أن العقل إن دلنا على معاني الشرع فلا يعني هذا أنه أكبر، وذلك أن الشرع بمثابة العالم المرجع للأمة، والعقل بمثابة العامي الذي يعرف مكان هذا العالم، فلو افترضنا أن إنساناً سأل هذا العامي فقال له: من أسأل في أمر ديني؟ فعندي مسألة في الدين. فمن البديهي أن العاقل يقول: اسأل العالم وأنا أدلك عليه، فذهب هذا العامي بهذا السائل إلى العالم، فتبين لنا أن هناك دليلاً ومدلولاً عليه، فالدليل هو العامي الذي يعرف بيت العالم ومسكنه، والمدلول عليه هو العالم، فالسائل عندما وصل إلى العالم سأله عن أمر دينه فأخذ العالم يفتي، فلو افترضنا أن العامي قال للسائل: لماذا تسأل العالم، اسألني أنا، فقال: لماذا أسألك؟ فقال: لأني أنا الذي دللتك عليه. فهل يصح هذا؟!
والجواب: لا. إذاً: فكون العقل دل على النقل لا يعني أنه أعظم منه، بل هو وسيلة جعلها الله عز وجل لمعرفة الشرع.
إذاً: فلا يتأتى أبداً أن يكون العقل أعلم، والمتكلمون قالوا: إذا عارض النقل العقل قدمنا العقل.
فينبني على هذا القاعدة السادسة، وهي أنه إذا توهم أحد من الناس التعارض بين العقل والنقل؛ فإنا نقدم النقل بالضرورة، وكذلك إذا لم نفهم نص الشرع، وبعض الناس يقول: كيف نقدم الشرع في مسألة احتار فيها العقل ولم يصل إلى نتيجة؟! ونقول: إذا احتار العقل في فهم الشرع؛ فالشرع هو المقدم من باب التسليم، بمعنى أن نقول: آمنا بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه حق وصدق ولو ما فهمناه، ولا ننكص -نسأل الله السلامة- كما نكصوا، فنقول: نأخذ بالعقل وندع الشرع.
فالشارح يقول: [ لكن إذا جاء ما يوهم من ذلك ] أي: ما يوهم التعارض بين الشرع والعقل؛ [ فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول ].
وهنا مسألة ما تطرقت لها، وهي أننا حينما نقول: الشرع نقصد الشرع الثابت، ولا نقصد الأحاديث الضعيفة أو الأحاديث الموضوعة أو نحوها مما لا يعتقد، لكن الشارح هنا احترز، فهو يقول: [ فإن كان النقل صحيحاً ] أي: إن كان آية أو حديثاً صحيحاً [ فذلك الذي يدعى أنه معقول ] أي: يدعي أنه معارضة من العقل، [ إنما هو مجهول ] أي: أنه جهل من العقل وعدم إدراك [ ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة ]، وهذا كلام سليم، فإذا كان الحديث ضعيفاً أو موضوعاً فلا يصلح أن نأتي به في هذه القضية ونقول هو يعارض العقل، فهنا ستكون دلالة العقل السليم هي الصحيحة.
فلا يتصور أن يتعارض عقل سليم ونقل صحيح أبداً، وليس هناك عقل في الدنيا سليم من العوارض؛ فلا يوجد العقل إلا مربوطاً بالبشر، والبشر ضعيف مهما كان.
إذاً: الفلاسفة الذين قالوا بتقديم العقل كانوا يتصورون للعقل وجوداً مطلقاً، وأحياناً يعبرون به عن الله عز وجل، ويعتبرون الشرائع من فعل الكهنة، فإذا حصل عندهم تعارض بين العقل وشرائع الكهنة قالوا بتقديم العقل؛ لأنهم يقصدون به شيئاً مقدساً لا يأتيه الباطل، وكأنهم يعبرون بذلك عن قدرة الله عز وجل، لكنهم أخطئوا الطريق، فالفلاسفة الذين جاءوا في الإسلام قلدوهم بدون بصيرة ولا روية، وأولئك أبخر منهم، فالذين قعدوا هذه القواعد لا يقصدون عقل الإنسان المحدود في هذا البشر، إنما يقصدون عقلاً مجرداً ليس له وجود إلا في أذهانهم ويفترضونه افتراضاً، وأحياناً يعبرون عن الملائكة بالعقول، وأحياناً يعبرون عن قدرة الله بالعقول، ففرق بين فهم العقل عند الفلاسفة وبين ما يجب أن يفهم في الإسلام، وبين فهم المتكلمين الذين قلدوا الفلاسفة.
فإذا جاء خبر بهذا وخبر بهذا؛ فلابد من الخروج من أحدهما إلى الآخر، ولا يمكن الجمع بينهما؛ إذ لا يمكن الجمع بين الموت والحياة، فنقول: هذا الرجل إما ميت وإما حي، إذاً: اجتمع عندنا مدلولان هما نقيضان، فهذان المدلولان لا يمكن أن نجمع بينهما ولا يمكن أن ننفيهما، فلا نقول: لا يمكن أن يكون حياً ولا ميتاً في وقت واحد، فرفعهما أيضاً مستحيل، وجمعهما مستحيل، إذاً: لابد من أن نرجح الحياة أو الموت، وهذا بتحقيق الخبر.
ومثال ذلك: مسألة شرعية واضحة، فالله عز وجل أخبرنا في كتابه وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة أن الله رفع عيسى إليه، فقال: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] فرفع عيسى عليه السلام ثابت قطعاً بالكتاب والسنة، فهذا الخبر كثير من الناس يعرضه على عقله فيقول: لا يمكن أن يبقى إنسان حياً منذ آلاف السنين، فهنا اجتمع عندنا مدلولان: مدلول عقول هؤلاء البشر المنكرة الملحدة التي تقول: لا يمكن أن يكون عيسى حياً بزعمهم، ومدلول الخبر الذي جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بأن عيسى حي يرزق في السماء وسينزل في آخر الزمان، فهل يمكن الجمع بين المدلولين؟
إنه -بناء على ما سبق- لا يمكن أن يكون حياً وميتاً في وقت واحد، وهل يمكن أن يقال: لا حي ولا ميت؟! لا يمكن، إذاً: لابد من أحدهما، فجاء الخبر عن الله تعالى عن طريق السمع والنقل يقول بأنه حي في السماء رفعه الله إليه، وعقول هؤلاء التافهة تقول بأنه لا يمكن أن يبقى حياً، فنأخذ بدلالة الشرع، وتقديم العقل هنا ممتنع؛ لأن العقل دل على صحة السمع، وإذا كانت عقول الناس المهتدية السليمة المستقيمة أثبتت أن ما جاء عن الله تعالى حق وصدق؛ فقد سلمت ابتداء، وهذه أيضاً مسألة مهمة كان المفروض أن نضعها قاعدة، ولا مانع من أن نضعها قاعدة، وهي أن العقل السليم هو الذي دلنا على صحة السمع، أي: صحة دلالة الكتاب والسنة، وإذا كان العقل السليم هو الذي دل على صحة الكتاب والسنة؛ فهذا يعني: أنه لابد من أن يسلم لهما بالبداهة، لاسيما أن العقل السليم يثبت عصمة الكتاب وعصمة ما صح من السمع، وإذا أثبت العصمة وجب عليه ألا يناقض هذا، ولذلك قد نأتي إلى بعض المتكلمين، ونقول له: أنت الآن استعملت عقلك في تأمل كتاب الله عز وجل. فيقول: نعم، فنقول: ألم تدرك بعقلك أن كتاب الله حق؟ فيقول: بلى والله، أدركت هذا. كما يقول الرازي وأمثاله، يقول: أدركت أن كلام الله حق وصدق لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إذاً: ما دمت تقول: كلام الله حق وصدق، فكيف تقول: إذا تعارضا قدمت العقل؟! فإنك تكون بذلك قد نقضت قاعدتك وتسليمك، فالعقل السليم الذي سلم بأن الحق هو ما جاء عن الله وعن الرسول لو اعترض في جزئية من جزئيات الدين اعتراضاً عقلياً على الشرع يكون بذلك قد انتقض تسليمه كله على طول الخط؛ لأنه أولاً سلم ثم نقض تسليمه، فكذلك المتكلمون الذين قالوا بأن القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حق، ثم جاءوا يقولون: ما تعارض مع العقل من الكتاب والسنة ندفعه أو نؤوله! فهؤلاء تناقضوا ونقضوا قاعدتهم؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع، أي: قبول ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل.
فالشارح قلب الدليل عليهم، فنقول لهم: عقولكم التي سلمت بصحة دلالة النص ثم عارضت صارت مجروحة؛ لأنها شهدت بصحة الكتاب والسنة ثم بعد ذلك قدحت في دلالتهما، فرجع الجرح عليها، إذاً: فالعقل الذي تزعمون أنه معصوم أصبح مجروحاً بعملكم هذا، ولا يصلح أن يكون معارضاً للنص؛ فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، أي: فكان تقديم العقل على الشرع في الاعتبار موجباً عدم تقديم العقل على الشرع في الدلالة، وكان تقديم العقل على الشرع في الدلالة موجباً عدم تقديمه في الاعتبار.
يقول: إذا أردت أن تكرم العقل وتضع له منزلة فيجب ألا تقدمه على الشرع، فقوله: [ فكان تقديم العقل ] أي: تكريم العقل [ موجباً عدم تقديمه ]، أي: عدم تفضيله على الشرع، فتكريم العقل يوجب عدم تفضيله على الشرع، هذا معنى العبارة.
يقول: أنتم تكرمون العقل، فإذا كنتم تكرمون العقل فإن تقديمه على الشرع إهانة له، فلو أن هذا المتكلم قال لأحد الناس: كلامك أفضل من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لاعتبر هذا إهانة لهذا المقول له؛ لأنه فضله على أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، فتفضيل إنسان لا يستحق التفضيل يعتبر إهانة له، فلذلك إذا جئت إلى إنسان -مثلاً- متواضع جالس عند عالم وقلت: أنت أفضل من هذا الشيخ وأكرم وأعز؛ فإنه يظنك تستهزئ به وتهينه.
فكذلك من زعم أن العقل هو من الشرع فقد أهان العقل؛ فهذا معنى قوله: [ فكان تقديم العقل ] أي: تكريمه [ موجباً عدم تقديمه ] أي: عدم تفضيله على الشرع.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم ألا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر