إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [41]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما يدل على فساد علم الكلام وبطلانه حيرة أهله واضطرابهم فيه، ووصولهم إلى طريق مسدود لم يعرفوا فيه ما يعتقدون، فبعضهم لا يدري ما يعتقد، وبعضهم يموت على عقائد عجائز نيسابور، وبعضهم ينتهي به الأمر إلى أنه لا يعرف شيئاً، ثم أجمعوا كلهم على النصح لأصحابهم بترك هذا الطريق، وسلوك طريق السلف أتباع الكتاب والسنة، فلله ما أشد حيرتهم واضطرابهم! وهذا جزاء كل من أعرض عن الكتاب والسنة ونهج سلف الأمة.

    1.   

    مقالات لأرباب علم الكلام في تصوير الحيرة والاضطراب والندم الحاصل في حياتهم

    قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني : إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال:

    لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم

    فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم

    وكذلك قال أبو المعالي الجويني رحمه الله: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.

    وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـابن الجويني ، وهأنذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور.

    وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي -وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي - لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً، فقال: ما تعتقد؟! قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟! أو كما قال، فقال: نعم، فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني -والله- ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته.

    ولـابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق:

    فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري

    سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر

    فلحى الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر

    كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر

    وقال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً.

    وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء ].

    هذا الكلام امتداد لوصف حال المتكلمين، والسعيد من وعظ بغيره، ونسأل الله السلامة والعافية.

    وهؤلاء الذين ذكرهم الشارح رحمه الله ليسوا من المغمورين أو من صغار الحائرين الذين قد لا يؤبه بقولهم ولا بكلامهم، بل هؤلاء من أئمة وأساطين علم الكلام الكبار، الذين رسموا علم الكلام لأهله إلى يومنا هذا، ومع ذلك هذا مصيرهم وهذا تعبيرهم عن نهاية خوضهم وعن نهاية كدهم طول أعمارهم، وهو -والله- تعبير فيه العبرة والعظة لمن اعتبر، لكن من لم يرد الله له الهداية فلا تنفع فيه موعظة، نسأل الله السلامة والعافية.

    الشهرستاني وتعبيره عن النهاية المؤلمة لأهل الكلام

    والشهرستاني هو ممن عرفتم في شهرته في تقرير علم الكلام وانتصاره له، وفي استنقاصه للسلف وكلامه فيهم وتجاهله لمذهبهم، وإعجابه بالكلام والفلسفة، ومع ذلك ينتهي إلى هذه النهاية المؤلمة التي أعلن عنها في آخر المطاف، فقد ذكر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم -نسأل الله السلامة- حيث قال:

    لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم

    يعني مدارس الفكر الكلامي والفلسفي والخوض في مثل هذه الأمور، بمعنى: أنه جرب ودرس وتشرب هذه المذاهب كلها، وحاول أن يعرف طريق الحق، وأخيراً عبر التعبير الرائع الذي لا يعبره إلا من عانى، فقال: (فلم أر إلا واضعاً كف حائر)، وهذا تصوير عظيم، (على ذقن أو قارعاً سن نادم).

    وكلا الأمرين مؤلم ومؤسف، الحيرة والندم.

    أبو المعالي الجويني ناصح مشفق ونادم على ما سلكه من علم الكلام

    ثم أبو المعالي الجويني ، وهو من هو في جلالته وقدره وعلو شأنه في سائر العلوم، إلا أنه زل في بعض مسائل الاعتقاد وترك سبيل السلف إعجاباً بالكلام وأهله، ثم خاض بحر الكلام الخضم، وأخيراً مع علمه وعقله ينتهي إلى هذه النهاية المؤلمة التي حار فيها ورجع كما رجع غيره، حتى إنه نصح من سبقوه ومن لحقوه، وخاصة اللاحقين والمعاصرين له، نصحهم بأن يستفيدوا من تجربته، وهو رائدهم في وقته، بل وبعد وقته، فـأبو المعالي يعتبر من الرواد الكبار لعلم الكلام ومن مؤسسيه، ولا يزال المتكلمون إلى يومنا هذا من أشاعرة وماتريدية ومن نحا نحوهم يعولون على أبي المعالي في الكلاميات التي قررها بعقله وبقواعده الفلسفية التي أنشأها أو قلد فيها غيره، وكذلك بأسلوبه في مخالفة نهج السلف.

    ثم بعد ذلك ندم ورجع ونصح قومه لعلهم يتعظون، فقال: (يا أصحابنا!) يعني: يا أهل الكلام، أو: يا من يسمعون منا، أو: يا أهل مذهبي في الفقه! (لا تشتغلوا بالكلام)، وهذه -والله- نصيحة ممن اشتغل بالكلام، لو جاءت من إنسان آخر لقيل: هذا خصم للكلام، ومن الطبيعي أن يقال هذا، لكن الجويني -كما قلت-: رائد من رواده، ثم يقول هذا الكلام! فهذا أمر فيه موعظة.

    قال: (لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ) أي: من الحيرة والندم والافتراء (ما اشتغلت به).

    ثم قال عند موته: (لقد خضت البحر الخضم) بحر الكلام ومتاهاته التي لا نهاية لها، (وخليت أهل الإسلام وعلومهم)، وأهل الإسلام أهل السنة ولا شك، وعلومهم علوم الكتاب والسنة التي تقف عند النصوص فيما يتعلق بالعقائد، وهو ما خلى أهل الكلام في غير العقيدة، حيث نجد أنه في الفقه والتفسير وغيرهما سار على نهج الأئمة ونهج السلف، لكن في العقيدة خلى أهل السنة وعلومهم.

    قال: (ودخلت في الذي نهوني عنه)، وهذا يدل على أنه كان هناك من يقوم بالحجة على الخلق وينهى عن المنكر، فلا شك في أنه نهي، وهذا دليل على أنه وجد من نهاه وحذره وأشفق عليه.

    قال: (والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـابن الجويني ). نسأل الله السلامة (وهأنذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور) عقيدة الفطرة، وهذا اعتراف ضمني بأنه مع تركه علم الكلام لم يوفق لفقه عقيدة السلف على جهة التفصيل، ولو وفق لها ما شعر بهذه الحيرة، وأي إنسان يعدل عن الحق بإصرار فإنه ولو تاب قد لا يوفق لأن يرجع إلى الحق كمن عاش في أحضان الحق منذ نشأته.

    لذلك ينبغي أن يحذر طالب العلم من أن يؤسس علومه على غير نهج شرعي سليم؛ فإنه يخشى عليه من أن يتأثر فيصعب عليه الرجوع، حتى وإن تاب فإنه يصعب عليه استيعاب مذهب السلف، وقد ذكرت سابقاً -ومن خلال هذه النماذج- أن كل الذين رجعوا من أهل الكلام عن الكلام وسلموا بالسنة واعترفوا لمنهج أهل السنة بأنه حق، كلهم لم يوفقوا بالرجوع إلى السنة كما كان أصحابها عليها، إنما بالتسليم المطلق والقناعة التي عليها العجائز والعوام الذين لا يدركون إلا البدهيات والأمور الفطرية العامة، وهذا اعتراف من واحد من أكابرهم.

    الخسروشاهي لا يدري ما يعتقد

    وقال الخسروشاهي -وهو كذلك من كبارهم، ومن تلاميذ الرازي - لبعض الفضلاء من أهل العلم الذين زاروه، وقد دخل عليه يوماً، ويظهر أن الزائر ممن شرب من علم الكلام، ويظهر أنه من أهل السنة، سواء كان من عوامهم أو من متعلميهم، قال له: ما تعتقد؟ فانظر إليه عند هذه اللحظة الحرجة يسأل هذا السؤال وهو متكلم كبير يزعم أنه هو الذي يقرر حقائق الدين، ثم يسأل سؤالاً لا يسأله إلا مستريب أو جاهل أو شاك أو محتار! وهو فعلاً من المحتارين.

    فمن الطبيعي أن يجيب هذا الرجل الفاضل بالجواب العادي الذي يلامس العقل السليم، فقال: ما يعتقده المسلمون، فهو يحسن الظن بالمسلمين، وأن المسلمين -إن شاء الله- كلهم على خير.

    وهذا جواب حكيم، يقول: ما عندي إلا ما يعتقده المسلمون، أي: العقيدة الحقة، فقال الخسروشاهي : وأنت منشرح الصدر بذلك ومستيقن به؟! فانظر إلى حاله نسأل الله العافية! فاقد لليقين قلق مضطرب، لا يجد فيما يعتقد من الأمور الكلامية التي خاض فيها وترك بها نهج السلف ما يشفي غليله ولا ما يغرس في قلبه اليقين والثقة بالعقيدة، بحيث يلقى الله عز وجل على ثقة بدينه.

    فعبر عن شكه، وقال: وأنت منشرح الصدر لذلك ومستيقن به؟! أو كما قال، فقال المسئول: نعم، فقال الخسروشاهي : اشكر الله على هذه النعمة، أي: لأنك مستيقن ما عندك ريب ولا شك، ثم يقول: لكني -والله- ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، نسأل الله العافية، أقسم أيماناً ثلاثة على أنه لا يدري ما يعتقد بسبب الكلام الذي خاض فيه، وقال: إن هذا هو الحق اللازم الذي لابد منه.. إلى آخره، مع أنه كان قد سب السلف ولمزهم واتهمهم بالتجسيم والتشبيه والحشوية.. إلى آخره، وأخيراً يرجع إلى هذه الحال التي لا هو رجع فيها إلى القول الذي كان يستهدي به ووفق إليه، ولا هو وجد اليقين الذي كان يسعى إليه، نسأل الله السلامة.

    ابن أبي الحديد تائه في معرفة ربه وراد على المتكلمين

    وكذلك ابن أبي الحديد الفاضل المشهور في العراق، كان على طريقة الفلاسفة والصوفية، والفلاسفة والصوفية مع أنهم يزعمون حينما خاضوا في أمور الاعتقاد وأسماء الله وصفاته أنهم يسعون إلى تنزيه الله عز وجل حتى نفوا ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، مع ذلك يخاطبون الله كأنهم يخاطبون المخلوق، كما في أبيات ابن أبي الحديد ، ففيها يخاطب ربه وكأنه يخاطب أحداً من المخلوقات، يقول:

    فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري

    سافرت فيك العقول فما .....................

    أي: عقول الفلاسفة والذين أرادوا أن يخوضوا في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير علم.

    (فما ربحت إلا أذى السفر)

    أما المؤمنون الذين علقوا قلوبهم بالله وآمنوا بالله كما يليق بجلال الله عز وجل؛ فإنهم لم يشعروا بأذى هذا السفر، بل تلذذوا بلذة السفر إلى الله عز وجل.

    (فلحى الله الألى زعموا):

    وهنا يدعو على نفسه وعلى أمثاله، فيقول:

    فلحى الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر

    وكلمة (المعروف بالنظر) تأكيد على أنه يقصد المتكلمين؛ لأن المتكلمين قالوا: إن الله يعرف بالنظر، بمعنى: أنه لا يمكن أن تعرف الله حقيقة المعرفة إلا بفكرك، ولا تعول على الفطرة ولا على الوحي ولا على آيات القرآن والسنة ولا على ما تربيت عليه من نهج الهدى ودين الفطرة الذي نشأت عليه بين والديك والمسلمين، إنما عليك أن تنظر وتتفكر، فلذلك أغلب المتكلمين قالوا: أول واجب على العبد إذا بلغ سن الرشد أن ينظر ويتفكر: من ربه؟ وهل صحيح أن الرب هو الخالق؟ فإن كان هو الخالق فما صفاته وما أفعاله؟ إلى آخره.

    ولا يعولون على العبادة، بل يقفون عند قول: هل هو موجود أم غير موجود؟ وإذا كان موجوداً، فهل هو خالق أم غير خالق؟ فينتهون إلى هذا الحد ولا يصلون إلى شيء، فيقولون: أول ما يجب على العبد إذا بلغ أن ينظر ويفكر، فلما قيل لهم: ليس أحد يستطيع أن ينظر ويفكر بتفكيراتكم ويصل إلى نتيجة، بل تتوارد عليه الشكوك فيهلك؛ قال بعضهم: إذاً: لا نقول: الواجب النظر، بل الواجب على العبد إذا بلغ أن يقصد إلى النظر، فيحاول، فإن استطاع وإلا فهو معذور، أي: يحاول أن يشك ويضطرب في عقيدته، ثم يخرج عن دين الفطرة الذي نشأ عليه.

    والدين الحق الذي قرره الكتاب والسنة وعليه السلف أن الإنسان المسلم إذا نشأ بين أبوين مسلمين فإنه مستصحب لحال الإسلام، فإذا بلغ خمس عشرة سنة كتبت عليه أعماله، ويكفيه ما عرفه من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولوازم ذلك، بل حتى تجديد الشهادة لا يلزمه، فلا يلزم أن يقال له: أنت بلغت، إذاً: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه بفطرته شاهد وبتربيته شاهد وبعيشه بين المسلمين شاهد وعالم، فلا داعي لأن نجدد الشهادتين.

    إذاً: فمن باب أولى ألا نلجئه إلى أن يفكر في وجود الخالق ومن الذي خلق ولماذا خلق.. إلى آخر ذلك من الأمور التي أراح الله عز وجل منها العباد، وكلفهم بفعل الطاعات وترك المعاصي، ولم يجعل هذه الأمور إليهم، بل جعلها من مقتضيات الفطرة السليمة والعقل السليم.

    يقول:

    كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر

    يعني: النظر، أي: أن الاعتقاد لا يكون بالتفكير، يقول: إن هذا خارج عن قدرة البشر؛ لأن البشر لا قدرة لهم على التفكير في الغيبيات وأمور القدر، والأمور المعضلة التي إن لم توصل إلى التشكيك فإنها لن توصل إلى اليقين.

    الخونجي لا يهتدي إلى معرفة الحق لغبش علم الكلام

    وكذلك الخونجي عبر عن أمثاله من أهل الأهواء وأهل الكلام الذين خاضوا في الكلام يريدون الحقيقة فلم يصلوا إلى أي حقيقة.

    قال: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم اعترض على القاعدة على طريقة الرازي والمتكلمين، يضع المرء منهم قاعدة ثم يعترض عليها ويورد عليها الشكوك، ولذلك كل قاعدة عقلية في الغيب لابد من أن يرد عليها من الشكوك ما ينسفها من قائلها ومن مقررها.

    فكل قاعدة عقلية في الغيب لابد من أن يرد من قائلها أو ممن كان على هذا المذهب ما يشكك به فيها، أما أمور الفطرة وأمور العقل السليم والشرع؛ فإنه لا يمكن أن يرد فيها التشكيك إلا من مريض القلب.

    وقولهم: إن الممكن يفتقر إلى المرجح فلسفة أصحابها ما وصلوا فيها إلى نتيجة، ويمكن أن نعبر بالتعبير اليسير لمفهومها عندهم، فهم يقولون بأن هذا العالم المخلوق ممكن الوجود؛ لأنه لا يعقل أن يكون أوجد نفسه؛ ولأنا نرى من مظاهر الكون ومظاهر الأحياء أن هناك ما يحدث وهناك ما يفنى من هذه المخلوقات، فما يحدث يدل على أنه لم يكن ثم كان، إذاً: هو ممكن، وما يفنى يدل على أنه كان ثم لم يكن، إذاً: هو ممكن، ويمكن أن يحدث مرة أخرى مثله أو هو نفسه.

    إذاً: كل الخلق ممكن الوجود، فنشأ عنده إشكال آخر، وهو أن الممكن هذا يحتاج إلى ما لا يمكن أن يخضع لهذا التصور، فلابد من أن يكون لهذا الممكن الذي يوجد ويفنى ويحدث وينقضي موجد، والموجد إذا كان ممكناً وقعنا في الدور، فالممكن يحتاج إلى ممكن.. إلى ما لا نهاية.

    إذاً: لابد من مرجح، وهو الذي وجوده لا يفتقر إلى غيره، يقصدون بذلك الله عز وجل، ويسمونه هم: واجب الوجود، يعني: لازم الوجود، وليس المراد الواجب الشرعي، فهم أقل الناس اهتماماً بالواجبات الشرعية، بل أصحاب مصطلح (واجب الوجود) لا يؤمنون بالشرائع، فهم يقصدون بواجب الوجود اللازم وجوده عقلاً، ويسمونه المرجح.

    ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أي: افتقار المخلوقات إلى خالق وصف سلبي، وكأنه يرى أن عظمة هذا الكون تقتضي عدم وجود الوصف السلبي.. إلى آخره، ثم انتهى إلى لا شيء، نسأل الله السلامة والعافية، فقال: أموت وما عرفت شيئاً. هكذا قال.

    وقال آخر -وذكر أنه الحموي كما ورد في درء التعارض لشيخ الإسلام ابن تيمية -: أضطجع على فراشي. فانظر كيف حاله نسأل الله السلامة! فبدلاً من أن يذكر الله عز وجل ويقرأ أوراده وينام نوماً هنيئاً بعقيدته السلمية الصافية يجلس حائراً طول الليل وينتهي إلى لا شيء.

    يقول: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء -أي: من المتكلمين- حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء! وهكذا يعيش عمره بهذه الترهات التي الكلام فيها متاهات والخوض فيها متاهات والنهاية منها متاهات، نسأل الله السلامة والعافية.

    فهذا تصوير لحال المتكلمين لا يمكن أن يعبر عنه غيرهم، وفي ذلك عبرة وعظة للمتعظين، لكن من يتعظ؟! ومن عافاه الله سيجد في ذلك العبرة والعظة، لكن من ابتلي بالكلام فقد لا يتعظ -نسأل الله السلامة- إلا إن وفق وكان قصده فعلاً أن يبحث عن الحق، دليل ذلك أن كثيراً من المتكلمين المعاصرين الآن بدءوا يرفعون راية الكلام منتصرين لهذا المنهج، ومنتصرين لهذا الاتجاه بمؤلفات وكتب ومحاضرات، ويشنون الحملة تلو الحملة على أهل الحق والاستقامة، ويتهمونهم بالتحجر والتشبيه والتجسيم والحشوية من جديد كما فعل أسلافهم، وبدءوا يهتمون بكتب أهل الكلام خاصة كتب هؤلاء الذين ذكرهم الشارح، فهناك طائفة من المتكلمين المعاصرين بدءوا يعنون بهذه الكتب وينشرونها على أنها البديل ضد التيار السلفي، وهذه مصيبة وداهية؛ إذ لم يتعظوا بمن سبقهم ولم يأخذوا بنصيحة المشفقين من شيوخهم ولا من أهل السنة والجماعة، لكن الأمر لله من قبل ومن بعد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768245356