هذا السؤال إنكاري، حيث يقول: فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل؟
النوع الأول: تأويل الخبر الوارد في الكتاب والسنة، سواء كان هذا الخبر يتعلق بعالم الغيب أو يتعلق بعالم الشهادة، فإن تأويل الخبر هو اعتقاد عين المخبر به، كقوله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فهذا خبر جاءنا عن الله عز وجل، فتأويله حقيقة الاستواء، تأويله أن الله عز وجل استوى على عرشه، ليس له معنى آخر، وهذا تأويل فطري سليم يناسب الفطرة والعقل السليم، ثم إنه يتناسب مع فهم العرب للغتهم، ثم إنه هو الحق الذي يقتضي صدق خبر الله عز وجل؛ لأن الله أخبرنا بأخبار غيبية وأخرى غير غيبية.
فالخبر لابد من أن يكون هو عين التأويل، والخبر لابد من أن يكون هو عين المخبر به، ومعنى (عين المخبر به): أن هذا الخبر الذي جاء عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم تأويله هو ذات المخبر به، ليس شيئاً آخر، فلا نبحث له عن تفسير بعيد؛ لأن الله عز وجل لا يقول إلا الحق والصدق؛ ولأن الخبر إن كان غيبياً فلا سبيل إلى معرفته إلا من خلال ما تكلم الله به، وما تكلم الله به له معنى يدركه الذهن والعقل، وإن كان من عالم الشهادة فسيراه الإنسان بمداركه وحواسه.
المهم أن هذا النوع الأول -أي: تأويل الخبر-: هو أن تعتقد حقيقة المخبر به كما أخبر الله به، وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، كإخبار الله عز وجل عن الاستواء، وإخبار الله عز وجل عن أحوال البعث، وإخبار الله عن الرؤية، وإخبار الله عن أشراط الساعة، فإن تأويل هذا الخبر هو اعتقاد عين المخبر به دون زيادة ولا نقص.
إذاً: تأويل الأمر فعل المأمور به، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، أي: يتأول قوله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:1-3].
فتأويل الأمر كما قالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر صلى الله عليه وسلم بأن يسبح ويستغفر، فصار ذلك عادة له في ركوعه، فهنا أول معنى الآية بالفعل، وكل أمر ونهي يأتي في القرآن والسنة فإن تأويله بامتثاله.
والصنف الثاني: ما لا يمكن إدراكه حتى تقع، فيكون وقوعها تأويلها.
فقد ترى رؤيا فتسأل بعض أهل العلم بها فيفسر لك الرؤيا فتقع كما فسرها، فهذا نوع من التأويل، فتفسير ذلك الشخص لك صار تأويلاً للرؤيا؛ لأنها وقعت على نحو ما فسر.
وأحياناً لا تسأل عنها، أو تسأل فلا تجد من يخبرك، فتصبر حتى يقع تأويلها وهو وقوع ما يصدق الرؤيا، والنوعان متشابهان، لكن هذا يكون بإدراك البشر وهذا لا يدرك إلا بعد الوقوع، فكل ذلك يعد من التأويل الحقيقي الذي لا مجال للعدول فيه عن المعاني الصحيحة إلى التخرصات أو الظنون.
وقد لا يكون العمل عن سابق أمر، فتأويل الأمر هو العمل به، لكنه أحياناً يكون العمل نفسه تأويلاً، بمعنى: أنه مآل للشيء، وكل هذه المعاني تعود إلى معنى المآل والتفسير.
فهذه أنواع التأويل عند السلف، وما عداها في الأمور الشرعية يعد تكلفاً، وأحياناً يعد إفراطاً، وقد يعد ضلالاً، وقد يعد كفراً، كما سيأتي في أنواع التأويل الأخرى.
لعلنا نقف بعض الوقفات عند هذا المقطع، فقوله: (لا يعلم تأويله الذي هو حقيقته) يعني: الإخبار عن اليوم الآخر، ويقصد بالحقيقة الكيفية؛ لأنه كثيراً ما يلتبس مفهوم الحقيقة عند الناس، فالمنفي هنا هو الكيفية، فالذي لا يعلم تأويله من أخبار اليوم الآخر وأخبار الصفات وأخبار الغيب هو الكيفيات.
أما الحقيقة التي هي إثبات المعنى؛ فهذا أمر يجب أن يقال به، وإلا فستكون ألفاظ الشرع جوفاء لا معنى لها، فإذا قيل: إن لفظ الشرع لا تفهم حقيقته أو لا نؤمن بحقيقته؛ فكأنا جعلنا ألفاظ الشرع جوفاء لا معنى لها، لكن المنفي هنا حقيقة الكيفية لا حقيقة المعنى، فكلام الله له حقيقة وهي المعاني، وكلام الله له معان وهي الحقيقة، لكن المنفي هو الكيفية، وهذا ما يقصده المؤلف هنا، لذلك احترز بقوله: [ لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى ]، وهذا هو الكلام الصحيح، فالعلم بالمعنى معلوم، فقوله عز وجل عن اليوم الآخر وأخباره وتفصيله له معانٍ، وإخباره عن الصراط والميزان والحوض، وإخباره عن الاستواء، وغير ذلك، كله لابد من أن يكون له معان؛ لئلا نعطل ألفاظ كلام الله من المعنى الذي يجب، لكن حقائق الكيفيات هي التي لا نعلمها.
فـابن جرير وأمثاله من أئمة العلم إذا قالوا: قال أهل التأويل، فإنما يقصدون به أهل التفسير الذين يفسرون كلام الله عز وجل، والتأويل عند السلف هو تفسير المعاني بقواعد التفسير الصحيحة، يسمى: تأويلاً على ما ذكرت في الأصناف الخمسة، وكتفسير آيات الله عز وجل باللغة، وكتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وتفسير القرآن بفهم الصحابة، وهكذا، فهذا يعد تأويلاً لأنه من باب التفسير الصحيح، ولا يعد تأويلاً من باب العدول عن المعنى الراجح المفهوم إلى معنى مرجوح مظنون.
إذاً: فقول ابن جرير وغيره في التأويل يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه، لكن قد يفسر الكلام بمعنى لغوي صحيح أو معنى شرعي صحيح، إذاً: فمفهوم السلف للتفسير هو على نحو قواعد التفسير المعهودة عندهم.
الجواب: بينهما فرق، فالأول يتعلق بالاعتقاد، والثالث يتعلق بالمعاني.
فالأول: يتعلق بأنه يجب على المسلم إذا جاء الخبر عن الله أن يعتقد حقيقته، ويكون هذا تأويله، فإذا جاء قول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]؛ فإن تأويله: الإيمان بأنه استواء حقيقي، هذا تأويله، ليس له أكثر من الاستواء.
أما النوع الثاني: فيرجع إلى المآل، يرجع إلى الأمور الخبرية التي تتعلق بالأحداث، كأحداث يوم القيامة، فتأويلها وقوعها إذا وقعت، فالأول يتعلق باعتقادنا الآن، أما الثالث فيتعلق بالمصير الذي سيكون عليه الخبر حين وقوعه، فتأويل اليوم الآخر على النوع الأول: الجزم بأن الله يقصد به حياة أخرى يكون فيها الحساب والجزاء والعمل.. إلى آخره، هذا يسمى تأويلاً.
وعلى النوع الثالث: يقصد بالتأويل: وقوعه إذا حدث، بمعنى: أن كل الناس حتى الكفار إذا حدث اليوم الآخر وقع لهم تأويله، فقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53] يعني: هل ينتظرون إلا وقوع اليوم الآخر؟
وهذا يتبين بالمثال المضاد، فالمبطلون الذين أخطئوا في النوع الأول من التأويل قالوا في الاستواء: إنه الاستيلاء .. إلى آخر ذلك من المعاني.
فهذا التأويل خرج عن مفهوم السلف للتأويل؛ لأنهم يرون أن التأويل الإيمان بحقيقة اللفظ دون لجوء إلى المعاني الإضافية، أو إلى معان من باب اللوازم وتأكيدها على أنها هي المعنى، والانتقال من الحقيقة إليها، فالتأويل الذي يخرج عن مفهوم اللفظ وحقيقته لا يعد تأويلاً معتبراً عند السلف، إنما يعد تأويلاً مذموماً.
وكذلك النوع الثالث له مفهوم عند السلف ومفهوم عند المخالفين، فالسلف يفهمون من تأويل يوم القيامة وقوعه، وأنه سيقع، إضافة إلى أنهم يفهمون من تأويله الإيمان به.
لكن المبطلين يرون أن مفهوم اليوم الآخر حياة أخرى ليست حياة بعث، إنما هي حياة أخرى تتجدد بالروح في هذه الحياة الدنيا، وهو ما يسمونه بالتناسخ.
إذاً: أولوه بتأويل باطل، وزعموا أن اليوم الآخر حياة أخرى تنتقل فيها الروح من الجسد إلى جسد آخر في الحياة الدنيا، وليس في يوم القيامة، ولذلك زعموا أن أرواح الناس بحسب أعمالهم، فزعموا أن أرواح المؤمنين تكون الحياة الأخرى لها في حواصل طير أو حيوانات أليفة، وأن أرواح الكفار تكون في حشرات وغيرها، فهذا تأويل باطل لليوم الآخر؛ إذ ما عندهم قناعة بأنه سيقع يوم آخر يكون فيه جزاء وحساب، إنما أولوه تأويلاً باطلاً.
الجواب: لا مانع؛ إذ الأصل أن السلف يفهمون من التأويل الحقيقة التي يئول إليها الكلام، لكن هذا الكلام قد يكون خبراً، فتأويله وقوعه، وقد يكون أمراً، فتأويله تنفيذه والعمل به، وقد يكون خبراً أيضاً، فتأويله الإيمان بحقيقته، وقد يكون رؤيا، فتأويلها تفسيرها وتأويلها وقوعها، وقد يكون عملاً، فتأويله نفس الفعل وإن لم يسبقه أمر، وهذا يختلف عن الثاني، فالثاني فعل أمر، والثالث: الفعل ولو لم يسبقه أمر صريح، فإنه يعد تأويلاً، والله أعلم.
الجواب: أما تفسيق مثل أبي حنيفة فهو خطأ ولا يجوز، نعم تكلم فيه بعض أهل العلم المعاصرين له، لكن ما عليه جملة السلف وما استقر عليه أمرهم في شأنه هو الذي عليه المعول، فلا نذهب إلى بعض تصرفات العلماء أو زلاتهم التي قد يكون فيها فتنة للأمة، وقد يكونون رجعوا عنها، وقد تكون مواقف فعلوها لأمور لها ملابسات وظروف، فهذه الأمور كلها لا تخرجنا عن الأصل، وهو أن عامة السلف يترحمون على أبي حنيفة ويرونه -رحمه الله- من أئمة الدين ومن أئمة السلف، هذا ما عليه عامة السلف وجمهورهم، وإن لم يجمعوا على ذلك، فلا يلزم إجماعهم في مثل هذه الأمور، فتفسيقه أو تبديعه أظن أنه نوع من الجناية، ولا ينبغي أن يجرؤ طلاب العلم على هذه المسألة.
الجواب: قد يكون من تفسير الصراط أنه الحبل؛ لكن كونه ممتداً من السماء إلى الأرض لا أدري ما المقصود به؛ وقد يكون ما قرأه الأخ أو سمعه مرتبطاً بنص معين له علاقة بهذا المعنى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر