وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، ولقد صدق رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) رواه البخاري وغيره، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لا يرد، قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية وأسأله عنها. وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية: إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله ].
أولها: الفهم الصحيح لمعنى قوله عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، على قراءة الوقف، ذلك أن السلف لهم فهم وأهل الكلام والمبتدعة لهم فهم آخر، فالسلف في فهمهم لقوله عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] يفسرون التأويل هنا بمعنى: تأويل الكيفيات في أخبار الغيب في صفات الله عز وجل وفي أفعاله وفي أمور الغيب الأخرى، فهذه فيها ما لا يعلم تأويله إلا الله، وهو الكيفيات التي هي غائبة عن الحواس وعن العقول.
فهنا التأويل يكون بمعنى: معرفة الكيفية لأمور الغيب، وهذه لاشك في أنه لا يعلمها إلا الله عز وجل، هذا فهم السلف، إذاً: التأويل هنا بمعنى: ما تئول إليه حقيقة الكيفيات، لا بمعنى التفسير.
أما أهل الأهواء المتكلمون ومن سار على سبيلهم فإنهم يفسرون معنى قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، بمعنى: معاني كلام الله عز وجل وحقائقه، يقولون في صفات الله عز وجل: ما يعلم تأويلها إلا الله، بمعنى: لا يعلم حقائقها ولا معانيها إلا الله، وهذا خطأ، فالحقائق والمعاني تعلم، إنما الكيفيات هي التي لا تعلم.
فعلى هذا يجعلون حقائق الصفات والأمور الغيبية ومعانيها من المتشابه الذي لا يعلم أبداً، ولذلك صاروا في تفسير نصوص الشرع في الصفات وغيرها على قولين: منهم من يقول: هذه النصوص لا نفهم منها شيئاً أبداً ونفوضها؛ لأن معناها متشابه وحقائقها متشابهة في ذلك، ومنهم من ضل فذهب يؤولها بما يستقيم عقلاً، فقال: لا نثبت معاني ألفاظها ولا حقائق ألفاظها، لكن نبحث لها عن معان أخرى تئول إليها وهي المعاني المرجوحة، فقالوا في قوله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]: الاستواء هنا من المتشابه حقيقته ومعناه، فمنهم من قال: الاستواء لا نعلم له حقيقة أبداً ونفوض أمره إلى الله، وهؤلاء هم المفوضة، ومنهم من قال: نصرف اللفظ -وهو الاستواء- عن معناه الحقيقي، وعن الفهم الذي تفهمه مداركنا إلى معنى آخر نبحث عنه في دلالات اللغة، فبحثوا في دلالات اللغة فوجدوا أن من معاني الاستواء بزعمهم: الملك والسلطان والاستيلاء، مع أن في هذا نظراً، فصرفوا الألفاظ عن معانيها وحقائقها.
فقوله عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] على الوقف على لفظ الجلالة، يقول السلف في معناه: وما يعلم الكيفيات إلا الله، أما المعاني والحقائق فلا شك في أن الله عز وجل قصد بكلامه معاني وحقائق تدركها عقولنا ومداركنا، لكنها تثبت لله عز وجل من غير تشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وتثبت على ما يليق بالله عز وجل وبجلاله سبحانه.
وأهل الأهواء يقولون في قوله عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، يقولون: إن الراسخين في العلم يعلمون صرفه عن معانيه إلى معان أخرى، أي: التأويل المرجوح، يزعمون أن الراسخين في العلم يلزمهم أن يصرفوا كلام الله عز وجل في أسمائه وصفاته عن معانيها المفهومة على ما يليق بجلال الله عز وجل إلى معان أخرى مرجوحة لقرينة دفع التشبيه.
قال رحمه الله تعالى: [ وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور. ويروى هذا عن ابن عباس ، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفاً فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً -وهي المتشابه- كان ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب.
وأيضاً فإن الله قال: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين ].
فالتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه.
وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله: أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه؟ فقال: نمرها كما جاءت ونؤمن بها ولا نقول: كيف وكيف.
ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
وقيل:
علي نحت القوافي من أماكنها وما علي إذا لم تفهم البقر
فكيف يقال في قول الله الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث وهو الكتاب الذي: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]؟! إن حقيقة قولهم أن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وأنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه! هذا حقيقة قول المتأولين ].
فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه -وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة حقيقة- فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين لا تقدرون على سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي؛ فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟! فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه وإلا أقررناه؛ قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع، ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى، وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام، ويلزم حينئذ محذوران عظيمان:
أحدهما: ألا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيئول الأمر إلى الحيرة.
المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول؛ إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصة النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه، وإن خالفته أولوه، وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية ].
وأغلب قواعد التأويل قواعد عقلية، بل كلها قواعد عقلية، بمعنى: أن السبب الذي جعل المؤولة يؤولون دعواهم أن بعض ما يرد في الشرع لا يعقل، فهؤلاء يرد عليهم -كما ذكر الشارح- من وجوه:
أولها: أن عقول الناس تتفاوت، بل لا يمكن أن يتفق اثنان من كل وجه على شيء من الأشياء من جميع الوجوه؛ لأن تصورات الناس تختلف.
الوجه الثاني: أن العقل الذي يزعمون أن له قواطع وله دلالات وأنه يحكم ويرد إليه الشرع غير معلوم فعقل من هو؟! فكل واحد يدعي أن عقله هو المحكم، إذاً: فمن نصدق؟!
فيقال للمؤولة: أنتم ما اتفقتم على التأويل، ثم لما فتحتم باب التأويل ولجه جميع المبطلين، حتى ألحدوا إلحاداً كاملاً، فالقرامطة فسروا جميع أمور الشرع بتفسيرات غريبة جداً، حتى أركان الإسلام وأركان الإيمان فسروها بأسماء رجال.
ثم من دونهم كالرافضة، فقد أولوا نصوص الشرع، حتى ما يتعلق بالأحكام منها، وفسروها بالتأويل تفسيرات حمقاء وساذجة وغريبة جداً؛ لأنهم فتح لهم باب التأويل؛ حتى الألفاظ التي لا تحتمل المعاني التي قالوا بها من حيث اللغة، جعلوا لها معاني غريبة جداً وشاذة؛ لأنهم يقولون: أنتم فتحتم باب التأويل، وهذا تأويلنا.
فعلى سبيل المثال: قالوا في قوله تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الإسراء:60] قالوا: هم بنو أمية، وبعضهم قال: عائشة ، والبقرة المذكورة قالوا: هي عائشة ، والجبت والطاغوت عندهم أبو بكر وعمر ، فإذا قيل لهم: هذا تأويل لا يصح، قالوا: أنتم فتحتم باب التأويل، وهذا تأويلنا وهذا ما تقتضيه أصولنا.. إلى آخره.
إذاً: انفتح باب التأويل ولم ينغلق، وصارت عقول الناس تتفاوت في هذا، فمنهم من يعقل، ومنهم الأحمق الذي لا يعقل، والذي يعقل أيضاً في عقله قصور.
إذاً: ما هو العقل الذي يحكم؟ إنه عقل وهمي، وإذا كان المراد عقول هؤلاء الناس من البشر؛ فعقول البشر قاصرة، فالعقل الذي نعني به تفكير الإنسان ما فهم نفسه.
فلو قلت لأي عاقل: أين عقلك؟ أين يتمركز عقلك؟ فلن يعطيك جواباً يجزم به، وكذلك لو قلت له: هل عقلك في رأسك؟ هل هو في قلبك؟ هل هو بين الرأس والقلب؟ كيف تعقل؟ كيف تتم عملية العقل؟
إذاً: العقل ما عرف نفسه، فكيف -إذاً- يحكم في شرع الله ودينه؟!
المهم أن شبهة المؤولة إلى يومنا هذا زعمهم أن العقل يحيل بعض معاني النصوص، فيقول: إنها مستحيلة، وعلى هذا خرجوا من مقتضى نص الشرع، ولم يصلوا إلى قرار، وكل منهم ذهب مذهباً لا يمكن أن يكون هو الحق؛ لأن الحق لا يتشتت كما تشتتوا هم. نسأل الله السلامة.
الجواب: غريب هذا السؤال، ويبدو أنه من الخلط الذي صار الآن عند الشباب، أو عند طوائف منهم.
فلا يلزم من الرسوخ في العلم كبر السن، لكن الغالب وسنة الله في عباده أن كبار السن أعلم وأرسخ وأكثر تجربة فقط، وقد يوجد عالم صغير إذا أعطاه الله مواهب وقدرة ووفقه الله عز وجل لتلقي العلم الشرعي على أصوله الشرعية، فسيبرز بسرعة، فيكون من صغار السن ويكون من الراسخين، ويكون من أهل الحل والعقد في الأمة، ومن أهل العلم، كما كان ابن عباس رضي الله عنه، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر ونحوهم، كانوا علماء يعدون من الراسخين وهم صغار في السن، لكن الغالب أن الأكبر سناً يكون أقدر، وأكثر تحصيلاً، وأكثر تجربة، وأثبت في كثير من الأمور، ولا يمنع ذلك من وجود علماء صغار، فالعالم من توافر فيه العلم والرسوخ مع العقل والحكمة، واقتفاء السنة والاستقامة، فهو عالم راسخ ولو كان عمره عشرون سنة.
الجواب: الفرق بينهما أن تأويل الأمر -أي: الأمر الشرعي بـ(افعل) أو (لا تفعل)- بالامتثال، أما العمل فمجرد فعله يكون تأويلاً، قبل أن تكون مأموراً به، فقد لا يدخل في هذا المجال، قد يدخل في مجال المباح، فمجرد وقوعه تأويل له.
أما الأمر فيتوجه العمل به لأنه مأمور به شرعاً، فالفرق بينهما خفيف وليس كبيراً، وبعض أهل العلم يعدهما واحداً، بل حتى شيخ الإسلام ابن تيمية -وهو الذي فرع هذا التفريع- كثيراً ما يذكر أن الأمر والعمل بمعنى واحد.
الجواب: السؤال عن الآيات أو عن النصوص للاستعلام ولطلب العلم الشرعي ليس فيه حرج، أما إذا كان للتعنت أو لإظهار القدرة العلمية، أو للكشف عن قدرة المسئول؛ فهذا مما نهى الله عنه، لكن مجرد السؤال عن مثل هذه الأمور لطلب العلم، أو لإشكال لا يزول إلا بالسؤال هذا له ضوابطه، فإن كان السؤال مما يشكل في القدر أو في معاني أسماء الله عز وجل وصفاته مما يشكل على السامعين؛ فلا يجوز علناً، ينبغي أن يكون السؤال بين السائل -طالب العلم- والعالم، وإذا ورد السؤال على العالم على وجه يجهله السائل ووجد أن السؤال غير لائق فينبغي أن ينصرف عن الجواب عنه، ويحيل السائل على وقت آخر يجيبه فيه، إلا إذا خيف الإشكال في السؤال، بمعنى أنه لابد من الإجابة عنه خوفاً من أن يرسخ الإشكال.
المهم أن الأدب في السؤال أن يكون على الضوابط الشرعية، فإذا كان السؤال مما يثير، لكن السائل جاد فينبغي ألا يسأل هذا السؤال المثير علناً فيفتن الناس، وأن يكون قصده فعلاً الوصول إلى الحق، فهذه المسألة ترجع إلى هذا الضابط.
وليس كل من بدا له أمر أثاره، أما ظهور هذه الظاهرة بين كثير من المتعالمين أو طلاب العلم الصغار فينبغي أن يعالج.
يعني: كثرة الأسئلة في أمور قد تكون إما من المعضلات أو تكون من التوافه، وإشغال الناس بها، وأحياناً يعلقون بها الحكم على الناس والولاء والبراء والموقف من السائل والمسئول والسامع.. إلى آخره، هذه الأمور لا تجوز، وقد كثرت كثيراً أسئلة لا فائدة منها أو تثير إشكالات كبيرة في الدين، أو من التوافه التي لا يجوز التعلق بها وشغل الناس بها.. إلى آخره.
فهذه كثرت ولا شك، وتحتاج إلى علاج، وهذه الأمور دائماً تصحب كل موجة إقبال على العلم الشرعي، فنحن -بحمد الله- الآن في موجة إقبال على العلم والتدين، وهذا من الأمور التي تبشر بخير، لكن تكون فيها هذه الظواهر ويجب أن تعالج، فدائماً يصحب الإقبال على أي شيء من الأشياء -سواء في الدين أو في غيره- يصحبه بعض الأشياء في بداية الأمر والتجاوزات، فلابد من تسديد الناس وعلاجهم ونصححهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر