قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).
هذا متعلق بما أطلقه أهل الأهواء في زمن المؤلف رحمه الله، وهو الطحاوي صاحب الأصل، ثم إن هذه المصطلحات تتعلق بما اشتهر من كلمات في عهده في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع، ثم أضاف إليها الذين جاءوا بعد من أهل الكلام في القرن الخامس والسادس عبارات جديدة، فلعلنا نقف عند مفاهيم هذه العبارات وقفة لتكون قاعدة لما سيأتي من أمثلة وموازين على ضوء ما ذكر الشيخ.
فقوله: (وتعالى عن الحدود والغايات)، يقصد أن الله عز وجل منزه عن أن يحد بأي نوع من الحدود الزمنية، والحدود المكانية، والكيفية، والعمق، والمسافة، ونحو ذلك، كل هذا يسمى حدوداً.
وكذلك الغايات، أي: النهايات، والنهاية تدل على ما ذكرته، والحدود والغايات بينهما ترابط، فإن القول بالحدود يلزم منه القول بالغايات، فبين العبارتين نوع ترادف، وهذه العبارات التي جاءت لم يكن السلف يتكلمون بها، بل كانوا يبدعون من قالها، لكن لما قيلت احتملت معنيين كما سيأتي في الشرح، فالمعنى المتبادر للأذهان هو الذي نفاه الشيخ، فالشيخ هنا قرر ما تقتضيه الفطرة كعادة السلف في ذلك الوقت قبل أن يكثر تشقيق هذه العبارات والتفصيل فيها إلى حد يحتاج إلى مزيد بيان.
فمن البدهي أن الله عز وجل منزه عن الحدود المعلومة في عالم الشهادة، ومنزه عن الغايات المعلومة في عالم الشهادة، لكن لا يعني ذلك أنه تعالى منزه عن الكمال الذي يسميه أهل الأهواء حدوداً وغايات، فلله عز وجل من صفات الكمال، ولله عز وجل من الأسماء والأفعال ما سماه أهل البدع حدوداً وغايات من أجل أن ينفروا فطر الناس من العقيدة السليمة، فمن هنا ينبغي التنبه إلى هذا المعنى الذي سيأتي تفصيله.
وكذلك الأعضاء يقصدون بها الأعضاء المعهودة في المخلوقات، كاليد، والرجل، والوجه وغيرها، والأدوات هي الأمور التي تستعمل عند المخلوقات عادة، لكنهم يدخلون في مفهوم الأدوات الرجل، والقدم، واليد ونحو ذلك.
فهذه الأمور -الأركان، والأعضاء، والأدوات- لا شك في أنها بالفطرة منفية عن الله عز وجل بمفهومها عند البشر، فهي منفية عن الله عز وجل إطلاقاً وحتماً؛ لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، وله الكمال المطلق، لكن أهل الأهواء الذين نفوها يقصدون بنفيها نفي ما ورد من صفات الله عز وجل، فيسمون صفات الله الواردة أركاناً وأعضاء وأدوات، فيسمون: اليد، والرجل، والوجه، والنفس أركاناً وأعضاء وأدوات، فمن هنا كان لابد من التفصيل.
وقول الشارح ينبني على النفي الفطري، ففي وقته لم يكن الناس قد تعمقوا في هذه المسائل، لكن بدأت بوادرها، فكان يقصد النفي الفطري؛ لأن الله عز وجل يتعالى عن هذه الأمور التي يفهمها البشر في عالم الواقع والشهادة، وإلا فإن الله عز وجل له من الصفات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي قد يسميها بعضهم من المبطلين أركاناً، وأعضاء وأدوات؛ تمويهاً وتشبيهاً وتلبيساً.
المقصود بالجهات الست: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، ثم الفوق، والتحت.
هذا الكلام أيضاً كلام مجمل، فالمسلمون بفطرتهم كلهم -إلا الذين دخلهم شيء من الأهواء- يعرفون أن الله عز وجل لا تحكمه الجهات التي تحكم المخلوقات، لكن قد يدخل في نفي مفهوم الجهة ما هو من كمال الله عز وجل، وهو العلو والفوقية والاستواء، فقد يسميها كثير من المبطلين جهة، ومن هنا ينفون العلو والاستواء والفوقية بدعوى أنها جهة، فكان لابد من التفصيل، لكن الإمام الطحاوي رحمه الله نفاها بالنفي الفطري المعروف عند سائر السامعين قبل أن تتحقق هذه الأمور بالتشقيقات الفلسفية، هذا أمر.
فيقولون مثلاً: اليد ركن، أو اليد عضو، أو اليد جسم، أو اليد عرض، أو اليد تتكون من مجموعة جواهر.. إلى آخره، إذاً: فلا يليق أن نصف الله باليد. فيقعون ويوقعون في التعطيل والتأويل، ونحو ذلك من الأمور الأخرى، كل هذه الأمور بدأت تظهر من جديد على أساس أنها معاول ووسائل للتأويل والتعطيل الذي سلكه المبتدعة.
وقد ذكر الشارح هؤلاء بقوله: [ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي ]، بمعنى أنهم يتفاوتون في المفهوم منها، فكل يفهمها بحسب ما لديه من قواعد وعقائد سابقة وخلفية إن صح التعبير؛ ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، النفاة الذين هم أهل الكلام والجهمية والمعتزلة، هؤلاء كلهم نفاة.
وقوله: [ ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به ]، يعني أن النفاة الذين يستعملونها لنفي صفات الله وتعطيلها يقولون لمن أثبت الصفات: إنه قال بالحد، أو يقول بالغايات، أو يقول بالأركان، ويرون أنه يقول بالأعضاء، أو أنه يقول بالأدوات، أو أنه يقول بالجسمية، والعرضية، والجوهرية.. إلى آخره، ولذلك وصف المتكلمون السلف بأنهم حشوية ومجسمة، وحاشاهم.
قوله: [ وبعض المثبتين لها ] يقصد هنا المشبهة الممثلة [ يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف ]، حيث يبالغون في الإثبات إلى حد لم يرد في الكتاب والسنة، فيثبتون الحد، والغاية، والركن، والعضو، والأداة بألفاظ بدعية وبمعانٍ لا تليق بالله عز وجل، وتناقض قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وهؤلاء هم المشبهة الممثلة المجسمة، وهم -بحمد الله- في الأمة قليل.
يقول رحمه الله تعالى: [ وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً ]، يعني: لا ننفي ولا نثبت، لا هذه الأمور ولا غيرها مما يرد من الأمور المشتبهة.
نعم النقائص المحضة ننفيها دون تردد، والكمال المحض الواضح الذي ليس فيه إشكال نثبته بلا تردد، لكن أغلب الألفاظ وما يثبه الناس وينفونه مما لم يرد في الكتاب والسنة من الأمور المشتبهة التي تحتمل معنى باطلاً وتحتمل معنى حقاً، فهذه لابد أن يتوقف فيها على القواعد التي ستأتي.
في هذا المقطع أجمل مجموعة من القواعد العظيمة التي قررها السلف؛ أجملها إجمالاً لأنه كان الأمر في عصر الشارح واضحاً عند كثير من أهل العلم، أما الآن فنحتاج إلى أن نستقرئ هذه القواعد الإجمالية بشيء من التفصيل، والتي تحكم ما ذكره سابقاً من الكلام عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء، وسائر الألفاظ المبتدعة، هذه القواعد تتلخص فيما يلي:
القاعدة الأولى: أنه في باب الأسماء والصفات والأفعال يثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفى عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، هذه القاعدة الأولى وهي المرجع، وهي الأصل.
القاعدة الثانية: أن الكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله بما لم يرد في الكتاب والسنة نفياً وإثباتاً بدعة في الأصل، ولم يخالف في ذلك أحد من السلف، لكن قد يضطر العالم إلى الكلام فيما ابتدعه الناس ضرورة من أجل بيان الحق وتثبيته، ونفي الباطل والرد على أهله، هذا أمر قد يضطر إليه العالم، بمعنى: أنه لم يوجد أصلاً من السلف من أجاز لنفسه أن يتكلم عن أسماء الله وصفاته وأفعاله بشيء لم يرد في الكتاب والسنة لغير حاجة ابتداء، لكن ما فعله بعض السلف من الكلام في الأمور التي أحدثها أهل البدع؛ فإنما لجئوا إلى ذلك اضطراراً تقريراً للحق ودفاعاً عن العقيدة؛ لأن البدعة إذا اشتهرت أو عمت بها البلوى لابد من الكلام فيها لتصحيح العقيدة ولنفي الباطل ولإقرار الحق والدفاع عن عقيدة السلف.
إذاً: تبقى القاعدة سليمة، وما حدث من بعض السلف من الكلام في أمر لم يرد في الكتاب والسنة إنما حدث اضطراراً لعموم البلوى.
القاعدة الثالثة: أن هذه الألفاظ التي ذكرها الشارح عن أهل الكلام ونحوها تبين لنا جزماً بالاستقراء أنه لم يرد في الكتاب والسنة لا نفيها ولا إثباتها، فهذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون، كالحدود، والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات والأعراض والجسم والجوهر والمباينة والمفاصلة والجهة ونحو ذلك، كل هذه الأمور لم يرد في الكتاب والسنة نفيها مطلقاً ولا إثباتها مطلقاً، إذاً: نحتاج إلى أن نرجع إلى القواعد العامة، كقوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
القاعدة الرابعة: أن هذه الألفاظ إذا وردت على لسان أحد من الناس فلا تنفى إطلاقاً ولا تثبت إطلاقاً، حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن قصد قائلها معنىً صحيحاً يدل على الكمال أخذنا هذا المعنى، ورددناه إلى ألفاظ الشرع، أما اللفظ المبتدع فيرد مطلقاً، وما يحمله من معنى يرد إلى ما ورد في الكتاب والسنة، وما كان فيها من معنى فاسد فإنه يرد مع لفظه.
القاعدة الخامسة: أن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء وصفات وأفعال الكمال لله عز وجل يفي بكل ما يمكن أن يتصوره البشر من الكمال، وبكل ما يمكن أن ينطقون به بأي لسان من الكمال لله عز وجل، فأي كمال يمكن أن يتصور وأي كمال يمكن أن ينطق به البشر بأي لغة من اللغات؛ فلابد أن يوجد في الكتاب والسنة ما يدل عليه وزيادة، بل من أسماء الله عز وجل ما يشمل كل كمال يمكن أن يتصور، كاسم الجلالة (الله)، وكالحي القيوم، والأحد الصمد، وكالعلي العظيم، وكثير من أسماء الله عز وجل تتضمن الكمال المطلق، فلو نطق جميع البشر بأنواع الكمالات لاشتمل عليها هذا اللفظ وهذا الاسم لله عز وجل.
وإنما أردت بهذا أن أقرر ما ذكره السلف من أنه لا يمكن أن يتوهم أن يرد في ذهن أحد من الناس أو على لسانه كمال نحتاج إلى أن نثبته ولم يرد في الكتاب والسنة مثله أو ما يزيد عليه.
فإذا جاء إنسان وقال: الله عز وجل منزه عن الأعضاء، فظاهر كلامه أنه حق لأول وهلة؛ لأنه قد يفهم المعنى المباشر، وهو الأعضاء المعلومة عند المخلوقات، والله عز وجل ليس كمثله شيء، لكن إن كان المتكلم صاحب بدعة ومعروفاً بالاعتزال أو بالتجهم، أو بالحذلقة والجدال والمراء، أو بالتفلسف والتعالم والغرور، وأطلق هذه الكلمة ونحن نعرف من قرائن أحواله أنه متكلم أو متحذلق أو متعالم فلا يجوز له ولا يجوز لنا أن نأخذ هذا الكلام على إطلاقه، فنقول: نعم كلمة (أعضاء) لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ماذا تريد بالأعضاء؟ إذ يحتمل عندنا مراد من ينفي عن الله الأعضاء -تعالى الله عما يتصوره المشبهة والممثلة وما يزعمه النفاة والمعطلة- احتمالين، فنقول له: ماذا تقصد بالأعضاء؟
فإن قصد بالأعضاء الجسمية المعهودة للمخلوقات فنفي ذلك حق، ولكن ينفى بدون إشارة إلى الأعضاء، فلا داعي لأن نقول: إن الله عز وجل منزه عن الأعضاء التي هي أعضاء المخلوقات لأن هذا أمر بدهي؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فنقول له: نزه الله بما نزه به نفسه تسلم من هذه الفلسفات، فقل: ليس كمثله شيء سبحانه، أو قل: هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أو نحو ذلك من النفي المجمل الكامل الذي ينفي كل نقص عن الله عز وجل.
إذاً: إذا كان المتكلم يريد المعنى الباطل المعهود في الأذهان فنقره على ذلك، لكن نبين له أنه أخطأ في إطلاق كلمة أعضاء؛ لأنها قد تحتمل المعنى الآخر.
وقد يحتمل أن يقصد النافي للأعضاء نفي صفات الله عز وجل التي توهم أنها إثبات للأعضاء، فقد يكون قصد هذا المتكلم من المتفلسفة أو من أتباع الفرق الذين ابتلوا بالكلام في هذه الأمور -كالأشاعرة والماتريدية، والجهمية والمعتزلة ومن سار على سبيلهم أو تأثر بالفلاسفة- قد يكون قصده بنفي الأعضاء نفي ما أثبته الله لنفسه عز وجل من اليد والوجه والقدم والرجل ونحو ذلك مما هو ثابت في الكتاب والسنة، فنقول له: إن كنت تقصد بهذا نفي ما أثبته الله لنفسه فهذا باطل، لا يجوز لك أن تنفي ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته الله لنفسه حق، فقولك هذا لا تقر عليه، وتسميتك لهذه الصفات أعضاء خطأ.
إذاً: المعنى الذي نفى به كلمة (عضو) إن قصد به ما يتبادر إلى الذهن من مشابهة المخلوقات؛ فهذا منفي عن الله عز وجل، وإن قصد به ما ورد في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل التي يتوهم أنها تشبه صفات المخلوقات فيقال له: عبارتك ليست صحيحة، فنفيك للأعضاء من حيث إنها تشبه أعضاء المخلوقين حق، لكن بهذا التعبير خطأ، ونفيك للأعضاء بمعنى صفات الله عز وجل التي سميتها أعضاء باطل، ولا يجوز لك أن تنفي بهذه الطريقة، بل تنفي ما نفاه الله عن نفسه، وتثبت ما أثبته الله لنفسه.
وبقي المعنى الصحيح لكلمة أعضاء، وهو إثبات الصفات، فنقول: نثبت لله الصفات، وهو المعنى المقصود عند المتكلم حينما أخطأ، لكن نستغني عن كلمة (أعضاء) لأنها لم ترد في الكتاب والسنة، ولأن الله عز وجل وصف نفسه بصفات معينة تليق بجلاله، ولأن هذا اللفظ يشتبه الأمر فيه، فننفيه.
فلابد من أن يقصد أحد أمرين: إما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية والاستواء، وإما أن يقصد بالجهة المكان الذي يحصر الموجود.
فإن قصد بالجهة المكان الذي يحصر ويحيط بالموجود؛ فنقول: الله عز وجل لا يحيط به شيء، وهو سبحانه أعظم وأجل من أن تحيط به المخلوقات، فهذا المعنى منفي عن الله فعلاً، لكن لماذا سميته جهة؟!
وإما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية، فنقول له: أخطأت في نفي الجهة؛ لأنك حينما سميت العلو والفوقية جهة بهذا اللفظ أخطأت، فالعلو والفوقية والاستواء ثابتة لله عز وجل، لكننا لا نسميها جهة.
وكذلك لو أطلق إنسان الجهة على الله عز وجل على سبيل الإثبات وليس على سبيل النفي، فقال: أنا أطلق على الله الجهة، نقول له: ماذا تقصد؟ فإن قال: أقصد بالجهة أنه تحيط به الأشياء، قلنا: هذا باطل، ونرد اللفظة ومعناها الباطل، وإن قصد بإثبات الجهة إثبات العلو والفوقية والاستواء فنقول له: المعنى الذي قصدته بالجهة -وهو العلو والفوقية والاستواء لله عز وجل- صحيح، لكننا لا نحتاج إلى كلمة (جهة)؛ لأنها مشتبهة، فأخذنا المعنى ورددنا اللفظ، وهكذا كل مثال يرد من هذه الأمور المشتبهات، فما فيه من معنى صحيح نأخذه، لكن نرد اللفظ؛ لأن اللفظ مشتبه، وما فيه من معنى باطل نرده مع لفظه مطلقاً.
المشبهة الأوائل كـداود الجواربي وهشام بن الحكم وما نسب إلى الكرامية وما نسب إلى المقاتلية على درجات، فمنهم من يدعي التشبيه والتمثيل الكامل، حتى إنه يتكلم عن الله عز وجل بالحد والمسافة، ويتكلم عن الله عز وجل بوصف لا يعرف إلا في المخلوقات كالنوع والكيفية، فهذا التشبيه وجد في الرافضة الأوائل كالجواربية والجواليقية ونحوهم، وهناك نوع آخر من التشبيه، وهو المبالغة في الإثبات على نحو ما ذكر سابقاً، مثلاً: يقولون: إن الله عز وجل -تعالى الله عما يقوله الظالمون- موصوف بالحد، أو يقولون: إن الله موصوف بالجهة، ولا يقصدون ما يعنيه السلف من العلو والفوقية، إنما يقصدون المعنى الباطل الذي ذكرت، وأحياناً يقولون: قابل لوصف الأعضاء أو نحو ذلك، تعالى الله عما يزعمون، لكنهم لا يحددون تفصيلاً، إنما يقولون هذا إجمالاً، يعني: لا يتورعون عن القول بالأعضاء والأركان والأدوات والحدود والغايات والجهات ونحو ذلك، لكنهم لا يفصلون، ويقولون: إن إثبات الصفات يدل على هذه المعاني، يعني: يأتون بمعان مبتدعة جديدة، ويقولون: إثبات الصفات يدل عليها، وهؤلاء كالكرامية، وكالمقاتلية، والمشبهة المتأخرة الذين انتهوا؛ لأن التشبيه مر بمرحلتين: المرحلة الأولى في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، وكان تشبيهاً شنيعاً بمعاني التشبيه الساذجة التي لا تليق حتى حكايتها، فلما اصطدموا بأقوال أهل العلم وبجهود السلف وما فعلوه تجاههم -حتى إنهم كفروهم وحكموا بقتلهم- تراجعوا عن التشبيه الكامل، فقالوا بالتشبيه المجمل، لكنه أيضاً تشبيه بدعي نفاه السلف وتبرءوا منه، وهو التشبيه الذي لا يتكلم في التفصيلات، لكن يعطي لأسماء الله وصفاته معاني لم ترد في الكتاب والسنة، وتوهم السامعين، مثلما ذكرت، فلا يتورعون عن إطلاق الحدود والغايات والأركان والأعضاء على الله تعالى إجمالاً، وهذا التشبيه انقرض وانتهى، أما المشبهة الأوائل الرافضة؛ فقد انقلبوا إلى معطلة وتحولوا إلى جهمية ومعتزلة مع بقائهم على مذهب الرفض، كما ذكرت في السابق.
أي: لا يعلمون الله كيفية، وإلا فسيأتي التفصيل في معنى الحد، فهناك حد عبر عنه السلف من باب الإخبار لا من باب الصفة لله عز وجل؛ لأن السلف يفرقون بين الإخبار والصفة.
فالإخبار: البيان، وإذا أردت أن تبين فلابد أحياناً أن تزيد، مثاله: إنسان قال لك: ما معنى الأول؟ فتأتي له بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تفسيره للأول بالذي ليس قبله شيء، وإنسان قال: ما معنى الآخر؟ فتقول: الآخر اسم الله عز وجل جاء خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الذي ليس بعده شيء، فلو أن إنساناً ما فهم العبارة، وقال: هل معنى الأول القديم الذي ليس قبله شيء؟ تقول: نعم. وليس معنى ذلك أنك أثبت الاسم القديم، لكنه شرح لمعنى الأول، فالشرح إذا لم يتعد الحد اللغوي الصحيح يجوز بحدود المصلحة والحاجة.
إذاً: فالسلف ينفون كلمة (حد)، لكن قد يخبرون عن المباينة والمفاصلة لله عز وجل عن مخلوقاته بالحد، لئلا يتوهم أحد حلول الله عز وجل في مخلوقاته.
فقوله: [ أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته ].
يعني: لا يقولون بالطول، والعرض، والعمق، والكثافة ونحو ذلك مما خاض به الخائضون، لا يقولون بذلك ويتورعون عن الكلام فيه، ويبدعون من تكلم؛ لأنه نوع من الحد، والله عز وجل ليس كمثله شيء.
قصده أنهم لا يشبهون يعني: لا يتكلمون في التشبيه، لا يقولون: يشبه كذا، ولا مثل كذا، ولا فعله يشبه كذا، ولا صفته مثل كذا.. إلى آخر ذلك مما تورع عنه السلف، ورأوا أنه من الباطل الذي لا يجوز أن يجري على ألسنتهم.
[ ويروون الحديث ]، أي: يروون الحديث الثابت في الصفات، ونحن نعلم بالبداهة أنهم يروون الحديث إجمالاً، لكن هنا نص على أمر مهم، وهو أنهم يروون الحديث في الصفات حتى وإن إشكل على بعض السامعين، لذلك ذكروا أنه من الفوارق البينة بين السلف وخصومهم أن السلف يروون الأحاديث في الصفات، ولا يجدون في ذلك غضاضة، بل إنهم يجدون في هذا متعة؛ لأنها عن الله عز وجل، وفي تعظيمه وإجلاله، على عكس أهل الأهواء، فإنهم يترددون في رواية أحاديث الصفات، ويكرهون روايتها، حتى إن بعضهم كان إذا وقف وقفاً على مدرسة أو كذا اشترط ألا تقرأ فيها أحاديث الصفات، فإذا وقف مكتبة أو أهدى مكتبة اشترط ألا يكون فيها أحاديث الصفات، وبعضهم كان يسمع البخاري ، فإذا جاء إلى آخر أبواب البخاري وبدأت أحاديث الصفات ترك الدرس وتخلى عنه؛ لأنَّه يكره أحاديث الصفات.
فهذا معنى قوله: [ ويروون الحديث ] فالسلف يروون الحديث وليس عندهم في ذلك شيء، فمادام قد ثبت الحديث في صفات الله عز وجل فإنهم يروونه حتى ولو كرهه بعض السامعين أو بعض أهل الأهواء الذين لا يثبتون الصفات، فلذلك قالوا: من أشد الأمور على أسماع أهل الأهواء أحاديث الصفات، وهذا حق، وإلى اليوم تجدهم إذا رويت أحاديث الصفات لا تسلم من تعليقاتهم ومن لمزهم، وإذا نظرت لتحقيقاتهم أو إلى أعمالهم -كما هو حاصل من كثير من المتكلمين الآن إذا تعرضوا لكتب السلف- تجدهم يعلقون على أحاديث الصفات بتعليقات تدل على أنهم يكرهونها، وهي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
سئل عبد الله بن المبارك : بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش بائن من خلقه، قيل: بحد؟! قال: بحد. انتهى.
ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً؛ فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته، وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد؛ فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة ].
هذا يصلح مثالاً لما ذكرته سابقاً، وهذا المثال كله ورد تفصيله على ألسنة السلف، وهو كلمة الحد، فقد يأتينا إنسان متفلسف فيقول: الله عز وجل منزه عن الحد، فنستفصل منه، ونقول له: ماذا تريد بالحد؟ إن أردت بالحد أن الله عز وجل منفصل عن مخلوقاته ووجوده غير وجود المخلوقات وأسماؤه وصفاته وأفعاله غير أسماء وصفات وأفعال المخلوقات فنعم، فالله عز وجل يثبت له الحد بهذا المعنى، ولذلك قال ابن المبارك بإثبات الحد؛ لأنه كان في خراسان، وخراسان في وقت عبد الله بن المبارك اشتهرت فيها مذاهب الجهمية، والجهمية ينكرون أسماء الله وصفاته ويزعمون أن إثباتها يقتضي الحد، بل يزعمون أن إثبات العلو والفوقية والاستواء يقتضي الحد، يقصدون بالحد الذي ينفونه أن الله له وجود غير وجود المخلوقات؛ ذلك أن مذهبهم كما قال الجهم : إن الله في كل شيء وفي كل مكان، قال ذلك حينما أشكل عليه قول سني له: أين ربك الذي تعبد؟ هل تحسه؟ هل تراه؟ هل تعقله؟ إلى آخره.. فجلس أربعين يوماً يفكر ماذا يقول، ثم خرج ببدعة وقال: هو ذا في الهواء، هو ذا في كل شيء! تعالى الله عما يزعم.
إذاً: هم لا يعتقدون أن لله وجوداً غير وجود المخلوقات، فمن هنا ينفون الحد، أي: أن يكون لوجود الله حد ينفصل عن وجود المخلوقات، فلما نفوه أثبته ابن المبارك رداً عليهم، فقالوا: بحد؟ قال: نعم بحد. أي: أن الله وجوده غير وجود المخلوقات، هذا معنى الحد في قول ابن المبارك ، فهذا المعنى للحد أثبته السلف، وبعضهم أطلق لفظ الحد من باب الإخبار لا من باب الإثبات، وهذه المسألة ينبغي أن نعرف فيها ألفاظ السلف التي أثبتوا بها ما لم يثبت في الكتاب والسنة، فهم يقصدون الإخبار ولا يقصدون الإثبات، فهم لا يقصدون الوصف، كإثبات الصانع، وكالجهة، والقِدَم، والحد، فهذه يتكلم بها بعض السلف من باب التفسير والبيان والإخبار، لا من باب الاسم أو الصفة.
فـابن المبارك حينما قال: (بحد)، يقصد أن الله عز وجل وجوده غير وجود مخلوقاته، فهذا المعنى من الحد مثبت، لكن لفظ الحد نستغني عنه.
ثم قال بعد ذلك: [ ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره ]، فهذا القدر مثبت عند السلف، أما الحد بمعنى العلم والقول، بمعنى أن نحد الله بعلمنا بأن نعلم كيفية وجود الله، أو نقول بذلك؛ فهذا ننفيه.
فقوله: [ وأما الحد بمعنى العلم والقول ] يقصد الحد بمعنى العلم بالكيفية أو القول عن الكيفية، فهذا منتف بلا منازعة.
إذاً: إذا ورد عن السلف نفي الحد فإنهم يقصدون الكيفية، وإذا ثبت عن السلف إثبات الحد فإنهم يقصدون المفاصلة والمباينة، وأن وجود الله عز وجل ليس كوجود مخلوقاته.
قوله: (ينظر إليه المؤمنون بالأبصار) يعني: يوم القيامة، وهذا أمر بدهي ما كان يحتاج إلى احتراز عند الأوائل، لاسيما أن القائل من أوائل العباد النساك، فهذا من كلام سهل بن عبد الله التستري ، وهو من أوائل العباد النساك الذين ترتكز عليهم الصوفية في بدعها وتنسب إليه ما لم يقله وما لم يفعله، كما أن له رحمه الله بعض الشطحات، لكنها ليس كشطحات الصوفية، ويلحظ في هذا السند أن كل رجاله من أوائل المتصوفة الذين لم تختل عندهم العقيدة، لكن عندهم شطحات في السلوك والعبادة، والمقصود سلوك التصوف وليس سلوك الأخلاق.
فـأبو القاسم القشيري معروف من كبار المتصوفة الأوائل، وكذلك السلمي من كبار المتصوفة الأوائل، ومنصور بن عبد الله كذلك، وأبو الحسن العنبري كذلك، وسهل بن عبد الله التستري من أكابر العباد والنساك الأوائل الذين حصل منهم الشطحات.
والمقصود أن هذا القول من التستري يدل على أن العباد الأوائل -إذ هو من عباد القرن الثالث- كانوا على عقيدة السلف، فلذلك نجد بالاستقراء أنهم في القرن الثاني والثالث من أقوى الناس دفاعاً عن العقيدة ومن أحسن الناس تعبيراً عن العقيدة وتقريراً لها، ومن أكثر أهل العلم وأهل التقوى والصلاح غيرة على العقيدة ورداً على أهل البدع، وبه نفهم أن الانحراف العقدي العلمي للصوفية ما بدأ إلا في القرن الرابع وما بعده، نعم الانحراف في العبادات وفي المفاهيم بدأ مبكراً، لكن الانحراف العقدي ما بدأ إلا مع بداية الطرق البدعية.
وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه ثابت بالأدلة القاطعة، قال تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] ، وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] ، وقال تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116] ، وقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54] ، وقال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41] ، وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة لما يأتي الناس آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء..) الحديث.
ولا يصح تأويل من قال: إن المراد باليد بالقدرة؛ فإن قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] لا يصح أن يكون معناه: بقدرتيَ مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، فلا فضل له علي بذلك! فإبليس مع كفره كان أعرف بربه من الجهمية، ولا دليل لهم في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71]؛ لأنه تعالى جمع الأيدي لما أضافها إلى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان اللفظيان للدلالة على الملك والعظمة، ولم يقل: (أيدي) مضاف إلى ضمير مفرد، ولا (يدينا) بتثنية اليد مضافة إلى ضمير، الجمع فلم يكن قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] نظير قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
ولكن لا يقال لهذه الصفات: إنها أعضاء أو جوارح أو أدوات أو أركان؛ لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد الصمد لا يتجزأ سبحانه وتعالى، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية تعالى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:91]، والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع، وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة، وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى؛ ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى، فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب ألا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً؛ لئلا يثبت معنى فاسد أو ينفى معنى صحيح، وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل.
وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى الله عن ذلك، وإن أريد بالجهة أمر عدمي -وهو ما فوق العالم- فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع عال عليه ].
هذا أمر بدهي، فإذا قصد بالجهة العلو فهذا حق، لكن تسميتها جهة على هذا النحو الملبس فيها نظر، فنفي الجهة نفي للعلو، أما نفي الجهة بمعنى أن ينفى عن الله عز وجل أنه يحصره شيء من مخلوقاته؛ فهذا أمر بدهي ولا يحتاج إلى أن يتكلم فيه أحد؛ لأنه لم يقل به عاقل حتى أجل أن يُنفى.
قال رحمه الله تعالى: [ ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كان قبل الجهات، وأن من قال: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواء سمي جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً، بل أمر اعتباري ] .
قوله: (اعتباري) يعني في الذهن، كما نقول في اصطلاحنا: أمر مفترض، والافتراض لا يبنى عليه شيء، فالافتراض توهم، فما يقوله أحد هؤلاء المبطلين من أنه ليس موصوفاً بالجهة يقصد به وجود شيء في ذهنه، والذي في ذهنه أمر لا يثبت ولا ينفى، إنما هو العدم والخيال، فالجهة ليست أمراً وجودياً، وإن قصد بها أمراً وجودياً فمعنى هذا أنه يقصد المخلوقات التي هي الجهات، ومعلوم أن الله عز وجل لا يوجد في مخلوقاته، وهذا أمر بدهي بدون أن نقرره، إذاً: فنفيه هنا نوع من العبث، لكن قد يتوهم من الجهة أمراً في نفسه اعتبارياً افتراضياً وهمياً، فهذا أمر لا تعلق عليه أحكام، فنقول: لا نعلق الأحكام على أوهامك أيها القائل أو أيها المتكلم.
قال رحمه الله تعالى: [ ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيها لا نهاية له، فليس بموجود.
وقول الشيخ رحمه الله تعالى: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه الله؛ لما يأتي في كلامه: أنه تعالى محيط بكل شيء وفوقه، فإذا جمع بين كلاميه -وهو قوله: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات)، وبين قوله: (محيط بكل شيء وفوقه)- علم أن مراده أن الله تعالى لا يحويه شيء ولا يحيط به شيء كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تعالى هو المحيط بكل شيء العالي على كل شيء ].
هذا ما أشرت إليه سابقاً، فقد ذكرت في القاعدة السابقة أن هذه الألفاظ الأصل أنها مبتدعة وتترك ولا تستعمل، هذا الأصل فيها، لكن إذا اضطر المتكلم من أهل العلم إلى الكلام بها فليتكلم بالحق على جهة التفصيل، ولا يترك السامع أو القارئ في متاهة.
قال رحمه الله تعالى: [ لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى، وإلا تسلط عليه وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى ].
يعني: بدل أن نقول: لا يحيط به شيء من مخلوقاته نقول: إنه عز وجل بكل شيء محيط. وينتهي الإشكال، وبدل أن نقول: لا يحويه شيء من مخلوقاته، نقول لفظ الشرع، وهو أن الله عز وجل بكل شيء محيط، هذا قصده بالألفاظ الشرعية، فنعتصم بالألفاظ الشرعية فهي أولى وأبعد عن الشبهة والفتنة.
قال رحمه الله تعالى: [ الثاني: أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي، وفي هذا نظر، فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع؛ فإن العالم ليس في عالم آخر وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم.
ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن (سائر) بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، وهذا أصل معناها، ومنه السؤر، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء، فيكون مراده غالب المخلوقات لا جميعها؛ إذ (السائر) على (الغالب) أدل منه على الجميع، فيكون المعنى: أن الله تعالى غير محوي كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء تعالى الله عن ذلك، ولا يظن بالشيخ رحمه الله تعالى أنه ممن يقول: إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده: أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته أو أن يكون مفتقراً إلى شيء منها، العرش أو غيره.
وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه، فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع، كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجُهّال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا -كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم- يكون العرش فوقه ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم؛ فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة.
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني : سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاد بعد روايته حديث النزول يقول: سئل أبو حنيفة ؟ فقال: ينزل بلا كيف. انتهى.
وإنما توقف من توقف في نفي ذلك لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش، ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: محيط بكل شيء وفوقه إن شاء الله تعالى ].
قولهم: (لا مباين ولا محايث)، المباين: المفاصل، يعني: المنفصل، والمحايث: الملاصق والمخالط.
الجواب: لا تصح نسبة سفيان الثوري إلى التصوف، وأما إبراهيم بن أدهم رحمه الله فبعيد عن التصوف في معناه البدعي، لكن عنده بعض مسالك العباد، ومع ذلك فهو بعيد عن التصوف كل البعد، وهو إمام له نهجه الذي هو نهج السلف في العلم والعمل والاعتقاد، أما سفيان الثوري فمعلوم أنه أبعد الناس عن هذه المقولة.
الجواب: ابن أبي العز في هذا الشرح وجه كلام الطحاوي على أحسن المحامل، وهكذا ينبغي أن نحمل كلام أئمة السلف على أحسن المحامل، فبعيد أن الطحاوي وأمثاله من أولئك الأئمة في ذلك العصر يقصدون بهذه العبارات ما يقصده المتكلمون من نفي صفات الله عز وجل، فهو مثبت للصفات، ولذلك ينبغي في مثل هذا الكلام أن نحمل قول الطحاوي بعضه على بعض، فـالطحاوي رحمه الله في نفس هذه العقيدة قرر الصفات كما قررها السلف، إذاً: يمتنع أن يكون قصده نفي الصفات وتأويلها كما يقصد المتكلمون، فعلى هذا فاعتبار ذلك من أخطاء الطحاوي نوع من التجوز والمبالغة، بل هو من العدوان والظلم.
أما أن يقال: أخطأ في التعبير؛ فهذا أمر سهل، فأهل العلم ينبغي ألا يقولوا مثل هذا التعبير، والشارح تمنى أن الطحاوي رحمه الله لم يعبر بهذا الكلام، لكنه حمله على المحمل الصحيح الحسن، ورد كلام الشيخ الطحاوي بعضه إلى بعض، فحمله على أنه لم يرد المعنى الباطن قطعاً، فعلى هذا قد ينفى عنه الاتهام.
الجواب: هو لا يقصد بالغايات العلة والحكمة التي نسميها غاية؛ بل يقصد بالغايات الغايات المادية، وهي الحدود.
الجواب: لا يظهر أن في هذا إشكالاً، فالمؤمنون ينظرون إلى ربهم بأبصارهم يوم القيامة، وهذا من غير إحاطة ولا إدراك، والإدراك على معنيين، لكنه قيده بإدراك النهاية، فكأن تفسيره الإحاطة، فالمؤمنون يرون ربهم بأبصارهم لكن لا يحيطون به عز وجل، هذا معنى الكلمة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تضامون في رؤيته) بمعنى: لا تتزاحمون في الرؤية من وضوحها، فالله عز وجل لا يحتاج الناس في رؤيته إلى أن يتزاحموا كما أن معنى (ولا تضامون) لا ينكر عليكم، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر