هنا ينبغي أن نستذكر القولين السابقين في الإشهاد:
القول الأول: هو القول بأن الإشهاد تم فعلاً على الصورة التي وردت في الحديث، وهو أن الله عز وجل أخرج بني آدم من ظهره، وأشهدهم إشهاداً فعلياً على كيفية لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنها غيبية، وأنهم نطقوا وشهدوا على أنفسهم، وأن هذا مشهد واقعي فعلي صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعض أصحاب هذا القول قالوا: إن هذا الحديث مفسر للآية، فالآية مجملة وهذا مبين، ولا شك في أن الإجمال يرد إلى التفصيل، والمجمل يرد إلى المفصل.
أما القول الثاني الذي انتصر له الشيخ ابن أبي العز هنا فهو القول بأن الإشهاد لم يحدث بصورة مشهد فعلي، إنما كان تعبيراً عن دلائل الفطرة، عبر الله بذلك عن دلائل الفطرة، وأن الإشهاد يتمثل بالبراهين والأدلة التي أقام الله بها الحجة على العقلاء، وهي خلق الكون، وخلق الإنسان، وآيات الله المنظورة، والوحي، ودلالة الفطرة والعقل السليم، ونحو ذلك من البراهين العلمية والعملية التي تقوم بها الحجة، فهذا بمثابة الإشهاد.
ومال الشارح إلى تضعيف أحاديث الإشهاد، لأن الآية لا تدل صراحة على فعل الإشهاد على نحو ما ورد في الحديث، وهذا فيه تكلف كما سيأتي.
والقول الأول الذي أنكره مال الشيخ إلى سواه هو القول الذي عليه كثير من السلف، وعليه أغلب أهل الحديث، وهو الذي تقتضيه النصوص الشرعية، وهو أن الإشهاد تم فعلاً على نحو ما جاء في الحديث، سواء كان ذلك تفسيراً للآية، أم أن الآية لها معنىً آخر على خلاف بين أصحاب هذا القول.
أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة ].
سينكر الشيخ هذه الأمور بعدة وجوه كما سيأتي.
قال رحمه الله تعالى: [ والثاني: أن الآية دلت على ذلك، والآية لا تدل عليه لوجوه:
أحدها: أنه قال: مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف:172] ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قال: مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف:172] ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
الثالث: أنه قال: ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172]ولم يقل: ذريته ].
هذه الاعتراضات الثلاثة يجاب عليها بجواب واحد، فالإشكال فيها واحد، وهو مسألة مرجع الضمائر، فالأحاديث تشير إلى أن الله عز وجل أخذ من ظهر آدم ذريته وأشهدهم، وأنهم نطقوا، وأن الله كلمهم قبلاً، يعني: كفاحاً.
والآية فيها إشارة إلى بني آدم، فكأنه -أي: الشارح- يقول: إن هناك فرقاً بين آدم وبني آدم، فإذا كان الأمر كذلك فالآية لا تدل على هذا الإشهاد الحقيقي، إنما تدل على أمر معنوي.
والجواب عليه: أنه لا تنافي بين الأمرين، فالآية مجملة والحديث مبين، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أن ما يتعلق بالضمائر؛ إذ الأحاديث أشارت إلى آدم بنفسه، وأن الإشهاد حدث عليه وعلى من أخذ من ظهره، والآية أشارت إلى مجموع بني آدم، ما يتعلق بذلك لا تنافي فيه بين الأمرين كما قال أهل العلم؛ لأنه يجوز -بل ربما كان من لوازم أخذ ذرية آدم من ظهره- أن يكون أخذ ذرية بعضهم من ظهور ذرية بعض.
وكل ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل، فما الذي يمنع أن الله عز وجل حينما أخذ من آدم ذريته جعل الذرية تتداخل، وما هناك ما يمنع من هذا، بل شواهد النصوص وقرائن الأدلة تدل على هذا، وهو أن الإشهاد تم بهذه الطريقة: أن الله أخذ ذرية آدم من ظهره هو، ولزم من ذلك أخذ ذرية كل شخص من ظهره، وكل ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل التي لا حد لها، فلا داعي لتكلف إنكار الإشهاد الحقيقي واعتباره مجرد إشهاد معنوي أو ميثاق معنوي مع أنه يمكن الجمع بينهما.
وقد ذكرت وجه الجمع بأنه لا تنافي أبداً في أن يكون الميثاق حدث فعلاً وبقي أثره، والناس في الدنيا لا يذكرون مشهد الميثاق لو لم يأت به القرآن، ونسيانهم له لا يعني نسيان أصل العهد، وهذا مما يحدث في حياة الناس، فالإنسان مثلاً قد تحدث له حادثة في مرحلة من مراحل عمره، حادثة لها شيء من التفاصيل، وينبني على هذه الحادثة مواقف معينة أو عقود أو عهود، ثم يمضي الزمن وينسى الحادثة، فيأتي من يذكره، فقد لا يذكر إلا العهد، ولكن ينسى التفاصيل، فعلى هذا تقوم الحجة بما عرفه الإنسان من ثمار الحادث وما ترتب عليه من عهود وإشهاد ونحو ذلك، ولو نسي التفاصيل.
وكذلك الميثاق، فقد يكون الله عز وجل قدر لبني آدم ألا يستذكروا كلهم تفاصيل الإشهاد، لكن بقي موجبه، وبقيت لوازمه، وهذا أمر يدركه كل عاقل في آيات الله عز وجل الشرعية والكونية.
قال رحمه الله تعالى: [الرابع: أنه قال: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172] أي: جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار كما تأتي الإشارة إلى ذلك، لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] .
السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:173]، فذكر حكمتين في هذا الأخذ والإشهاد: ألا يدَّعو الغفلة أو يدَّعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173] أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقولهم: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:10] .
العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:174] .
وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد على الفطرة، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه لا يتبدل ولا يتغير، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، والله أعلم].
والأمر الآخر: أن كل ما ذكره من هذه الاعتراضات ينصب على مسألة واحدة، وهي: أن الإشهاد الفعلي الذي تم لا يوجد له ذكر عند البشر الآن، وأنه كيف تقوم الحجة به عليهم وهم لا يتذكرونه، وهذا مردود بما ذكرته وبأمور أخرى:
أولها: أنه جاء النص -وهو الحديث الصحيح- في الخبر عن الإشهاد تفصيلاً على نحو ما جاء في الحديث، وعلى هذا فيلزم أن نسلم بالنص، فما دام قد ثبت فلا بد أن نسلم بأن التفاصيل التي وردت فيه حق، وأنها جرت، وهي أمور غيبية لا نستطيع أن نتحكم فيها برد ولا تأويل ولا بتحكم بأي نوع من أنواع التحكم، وإنما لا بد من التسليم والتصديق بأنها حدثت فعلاً.
ثم إن ظهر لنا نوع من التعارض بين ظاهر الآية وظاهر الحديث فلنلتمس وجوه التوفيق بين الأمرين، ووجوه التوفيق ميسورة على نحو ما ذكرت، فلا داعي للتكلف.
الأمر الثالث: أن هذه النزعة -وهي نزعة الهروب من إثبات أمر غيبي- نزعة كلامية ما كان ينبغي أن يقع فيها أحد ممن ثبت لديه الحديث، لكن يظهر أن الشارح -والله أعلم- ما ثبتت عنده أحاديث الإشهاد، فركز على مفهوم الآية.
وقد أشار إلى شيء من هذا حينما أشار إلى أن هذه الأحاديث موقوفة على بعض الصحابة، وإلا فلا يتصور من مثل ابن أبي العز رحمه الله أن يتكلف رد أمور ثبتت بالأحاديث، لا سيما أنه ممكن جداً الجمع بين مدلول الحديث ومدلول الآية.
ثم إن أكثر ما ذكر من وجوه الرد إنما يتماشى مع قواعد العقلانية قديماً وحديثاً، وهذه النزعة نزعة عقلانية جاءت من أهل الأهواء من أمثال القدرية والمعتزلة والجهمية وأهل الكلام، ولذلك نجد أن أكثر من نصر هذا القول -وهو إنكار الإشهاد الفعلي- هم أهل الكلام، وقد قال بشيء من ذلك بعض السلف، لكن بدون تكلف، قالوا به لأنهم وجدوا له تفسيراً وتأويلاً يرون أنه تقتضيه معاني اللغة فقط، وإلا فما ردوا هذا الرد المباشر.
إذاً: فهذه النزعة نزعة عقلية ما كان ينبغي أن يقع فيها أهل السنة أو أهل العلم المقتدى بهم في الدين، وهي نزعة رد النصوص بمثل هذه التأولات والاحتمالات والاستبعادات العقلية التي لا تقاوم الأخبار الغيبية، فالأخبار الغيبية يؤمن بها كما جاءت، فإن لم نجد لها تفسيراً من عقولنا، ولم نجد وجوهاً نجمع بها بين نص ونص، فلنتهم عقولنا، ولا نتهم النص ليرجع الأمر إلى الشك في نص ثابت، ومع ذلك يبقى احتمال أن أكثر الذين ردوا القول الأول من أئمة العلم لا يصححون الحديث، أو لم يبلغهم المسند الصحيح منه، فربما بلغتهم بعض الآثار الضعيفة أو الموقوفة أو نحو ذلك.
الشيخ أبو منصور الماتريدي يعتبر من أكابر المتكلمين الأوائل، وله في تأويلات النصوص مواطن كثيرة معروفة في كتابه التوحيد، وعلى هذا لا نستغرب أن ينصر هذا القول، بل من الطبيعي أن ينصره؛ لأنه يخالف القاعدة العقلية التي يسير عليها المتكلمون في بعض أمور الغيب وفي أفعال الله عز وجل، خاصة الذين ينكرون أفعال الرب، فإن الحديث عندهم لا بد أن يؤول، وإذا أمكنهم أن يردوه ردوه، وإذا ما أمكنهم فلا بد أن يؤولوه، فعلى هذا لا يصح أن يرتبط بأقوال هؤلاء، ولا يعتمد عليها كأقوال يرجح بها؛ لأنهم إنما خالفوا السلف في هذه الأمور وإن وافقوهم في أمور أخرى.
قال رحمه الله تعالى: [ولاشك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ، والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135].
وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به ].
هذا فيه محاولة رد الإشهاد الحقيقي، وهذا أسلوب المتكلمين، وفيه تكلف، والشيخ رحمه الله كان من المتوقع أنه يقف عند قوله: [ ولهذا تفطن ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث]، فهذا في الحقيقة أمر ينبغي أن يوقف عنده، فهؤلاء هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وحق لهم أن يهابوا، ولماذا لا نهاب أمر غيبياً أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم إن المسألة ليست مجرد هيبة، بل هي مقتضى الإيمان والتسليم والإذعان لله عز وجل وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإنسان عليه أن يخشى الله عز وجل ويخافه، ويجب أن يسلم ويذعن، ولا شك في أن المسلم لا يجرؤ على أن يقول في الغيب شيئاً، لكن الأمر أكبر من ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟! بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية؛ فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها، وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب؛ فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو دين التربية والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه -على الصحيح- حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح؛ فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف:38]، وقال ليعقوب بنوه: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، وإن كان الآباء مخالفين للرسل كان عليه أن يتبع الرسل، كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8].
فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه؛ فهذا اتبع هواه، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170].
وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق.
فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل، فإنه مركوز في الفطر، وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب -والترائب: عظام الصدر- ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا، ومحال توهم عمل الطبائع فيها؛ لأنها موات عاجزة ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير ].
يشير هنا بعمل الطبائع إلى قول كثير من الفلاسفة والعقلانيين وغيرهم الذين يزعمون أن تدبير الكون وتنظيمه وما فيه من حركة وتبدل وأحوال ناتج عن السنن الكونية التي ينبثق منها الخلق والحياة، وأحياناً يعبرون عنها بالطبيعة أو الطبائع أو القوة المحركة أو العقول أو نحو ذلك، وكلها ترجع إلى معنى واحد، وهو أن هناك مدبراً من دون الله عز وجل، فأحياناً يجعلون الكون بسننه وطبائعه وقواه المحركة هي الخالق وهي المخلوق، وأحياناً يزعم بعضهم أن الله عز وجل وكل إلى هذه الطبائع تدبير الكون، ويعبرون عنها أحياناً بالعقول، وأحياناً بالملائكة، وأحياناً بالقوى المحركة، وأحياناً بالأرواح، وأحياناً يجمعون بين ذلك كله، وهذه الطائفة ترجع فلسفتهم إلى أن الله عز وجل وكل تدبير الكون إلى أحد من خلقه، وهذا كله باطل، لكن الله عز وجل جعل القوى والطبائع من الأسباب، وجعل الأسباب مؤثرة في مسبباتها، وكل ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل وتدبيره، وأنه سبحانه قيوم على جميع الحق، وما يحدث من شيء في هذا الكون إلا بعلمه وتدبيره سبحانه، ولا يتنافى هذا مع وجود الأسباب والسنن الكونية، بل هذا من بديع صنعه تعالى وإتقانه لخلقه.
قال رحمه الله تعالى: [ فإذا تفكر في ذلك، وانتقال هذه النطفة من حال إلى حال؛ علم بذلك توحيد الربوبية، فانتقل منه إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده؛ كيف يليق به أن يعبد غيره؟! وكلما تفكر وتدبر ازداد يقيناً وتوحيداً، والله الموفق، لا رب غيره ولا إله سواه ].
الجواب: هذا الحديث صحيح، ومما ورد في الحديث مما يفسره أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من ذلك الضرير الذي جاء إليه أن يتوضأ ويصلي ويطلب من الله عز وجل أن يتقبل دعاء شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيدعو له، وهذا أمر مشروع، فالضرير طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، بمعنى: أن يدعو له، وهذه شفاعة في الدنيا لا تتعلق بشفاعة الآخرة، فهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يُكشَف ضره، فهذا معنى الاستشفاع به والتوسل به، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى الأمر الشرعي، ولا مانع يمنعه صلى الله عليه وسلم من أن يدعو له؛ لأن هذا حق، والنبي صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة، لكن عليه أن يصلي لله عز وجل ويتوجه إلى الله بأن الله يقبل هذه الوسيلة، وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، هذا هو المشروع، وهذه الصور الحقيقية لا علاقة لها بما يفعله أهل البدع، فهذه الصورة مشهورة، نبه عليها السلف وأئمة العلم من أهل السنة قديماً وحديثاً ولا إشكال فيها، لكن هل ما يفعله أهل البدع هو على هذه الصورة؟!
الجواب: لا؛ لأنهم يتمسحون بالذوات ويدعونها من دون الله، ويرجون منها النفع والضر بما لا يقدر عليه إلا الله، ويطلبون منها ما لا تستطيع وما لا تملك، فليس في حديث الضرير أي شبهة، فضلاً عن أن تكون دلالة لأهل البدع.
الجواب: الذي أعرفه أنها ثابتة ومستفيضة، وأهل العلم استندوا على أنها صحيحة، وقد تكون بعض أسانيدها غير صحيحة، لكن قتل خالد بن عبد الله القسري للجعد صحيح، وقتله بموجب فتوى الأئمة؛ لأن شره متعد ومقولته مقولة كفر، وكذلك بقية الأشخاص الذين قتلهم خالد بن عبد الله القسري ، ولذلك سماه السلف: قصاب الزنادقة.
الجواب: إذا اتبع هواه في أمر يخرج به عن مقتضى الدين، أو يخل بالعبادة، بمعنى أنه عبد غير الله بهواه بأي نوع من أنواع العبادة؛ فهذا شرك كفري، وإذا كان هواه دفعه إلى أن ينكر أصلاً من أصول الدين القطعية فهذا كفر، خاصة إذا أقيمت عليه الحجة وبين له الحق، أما اتباع الهوى في المعاصي، وفي البدع الجزئية التي دون الكفر، واتباع الشهوات؛ فهذا أمر يعد من الذنوب، وقد يكون من الموبقات التي ورد فيها الوعيد، لكن لا يخرج به الإنسان من الإسلام.
الجواب: الاشتراكية لا شك في أنها مبدأ مادي وبعيد عن الإسلام كل البعد، ومذهب منحرف، وهي مذهب ضال، لكن الناس يعبثون بالألفاظ، فبعض الناس -مثلاً- قد يطلق على وجود التكافل في الإسلام كالزكاة والصدقات ونحوها من الأمور المشروعة أنها نوع من الاشتراكية، وهذا من الناحية اللفظية قد يصح، لكن هذا تلبيس؛ فالاشتراكية مبدأ لا يعترف بالزكاة ولا يعترف بالأصول الشرعية، ولا يعترف بالإسلام أصلاً، فهي مبدأ هدام يقوم على المساواة بين الخلق، والله عز وجل ما ساوى بين الخلق، إنما عدل بينهم، فلذلك يجب أن تتنبهوا لهذا، فكثير من الناس يقولون: إن الإسلام جاء بالمساواة، وهذا غير صحيح، فهل المساواة تعني أن يستوي المؤمن والكافر؟! وأن يستوي الجاد والهازل؟! وأن يستوي العامل والقاعد؟! إذاً: ما جاء الإسلام بالمساواة، وإنما جاء الإسلام بالعدل، أما المساواة فظلم، فلو جئنا لأي واحد ممن يدعون المساواة، أو يقول: الإسلام جاء بالمساواة، فأخذنا بعض ماله لجاره الفقير؛ فهل سيعترف بالمساواة أم سينكرها؟!
إذاً: المسألة ليست مسألة دعاوى مساواة ولا اشتراكية، فالإسلام دين إلهي وضعه الله عز وجل لخلقه، فلا يجوز أن نقارنه بغيره، ولا نقارن غيره به، ولا يجوز أن ندعي أن هذه الشعارات تقرب من الإسلام ولا يقرب منها، فهذه شعارات باطلة، وما يوجد من وجوه التشابه في بعض هذه المبادئ؛ فهذا لا يقتضي أن بينهما شيئاً من التوافق، فالإسلام يقوم على التسليم لله عز وجل، حتى لو أن إنساناً عمل بالإسلام وما سلم قلبه لله لن ينفعه الإسلام وهو يعمل بالإسلام، فكيف بمن يقول بالاشتراكية؟!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر