قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا).
ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحله، والمراد بقوله: (أهل قبلتنا) من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)، وعند قوله: (والإسلام والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء) ].
هذا على قول مرجئة الفقهاء، وهو أن الإيمان هو التصديق والقول فقط.
قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (ولا نخوض في الله ولا نماري في دين الله).
يشير الشيخ رحمه الله تعالى إلى الكف عن كلام المتكلمين الباطل وذم علمهم، فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم وغير سلطان أتاهم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23] ].
وهنا يؤكد قاعدة معلومة عند السلف، وهي أنه لا يجوز الخوض في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بأكثر مما ورد في الكتاب والسنة، لكن قد يكون من القول الجائز رد بعض مفردات النصوص إلى قواعد الأسماء والصفات، فهذا أمر جائز؛ لأنه يحتاج إليه الناس بعد وجود الأهواء وعدم وجود التعطيل والتشبيه والتمثيل، فإن السلف قد يتكلمون أحياناً ببعض الفروع التي ترجع إلى أصول تقررت في الكتاب والسنة، فمثلاً: قد يرجعون إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة التي خاض فيها الخائضون إلى مثل قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
فهذا أمر طبيعي لا يعد من الخوض، فرد آيات الله بعضها إلى بعض، وتفسير آيات الله بعضها ببعض، وتفسير الآيات بالأحاديث والأحاديث بالآيات أمر لا يعد من الخوض، إلا إذا وصل إلى درجة المراء والتكلف.
فالكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته سبحانه بأكثر مما ورد في النصوص لا يجوز، بل هو من أشد المحرمات وأعظمها ومن أعظم الآثام، وما يضطر إليه بعض السلف من الكلام عن شبهات القوم من أهل الكلام أمر لا يعد قاعدة، إنما هو شذوذ عن القاعدة باستثناء اقتضته بالضرورة، وبعض طلاب العلم قد يستبيح لنفسه أن يقرأ كتب أهل الكلام ويتكلم أو يخوض في بعض ما خاض فيه أهل الكلام، بدعوى أنه يريد الاطلاع، فنقول: هذا لا يجوز، بل هو إثم بحد ذاته، حتى وإن اعتقد أنه يضمن سلامة عقيدته.
فمجرد الاطلاع على كتب أهل الكلام لغير ضرورة يقدرها أهل العلم ولغير حاجة يعد من أعظم الآثام وأعظم الكبائر؛ لأنها تؤدي إلى الخوض في ذات الله وأسمائه وصفاته بأكثر مما ورد في الكتاب والسنة، وإلى القول على الله بغير علم، وقد يقول قائل: أنا أقرأ ولا أعتقد ما أقرأ، فنقول: حتى مجرد قراءتك لما خاض به الخائضون هي بحد ذاتها إثم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى مع عمر بن الخطاب صحيفة من التوراة نهاه أشد النهي وغضب واحمر وجهه، مع أنه يعلم أن عمر -وقد هداه الله- لا يزيغ لمثل هذه الورقة، لكنه أراد أن يسد باب الاطلاع على كتب أهل الباطل، إلا لضرورة يقدرها أهل العلم للدفاع عن الإسلام أو الرد على أهل الأهواء أو حماية عقيدة المسلمين إذا انتشرت الأهواء، وهذا يجب أن يكون بحدود ضيقة، وأن يتولاه أشخاص تتوافر فيهم شروط يقدرها أهل العلم.
أما أن ينبري لهذا كل طالب علم وكل من قدر على القراءة ممن هب ودب فهذا لا يصح، وأقول هذا؛ لأني أرى بوادر تساهل كثير من طلاب العلم في قراءة مثل هذه الكتب، وهذا تفريط، فيجب أن نتناصح فيه.
قال رحمه الله تعالى: [ وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه. وقال بعضهم: الحق سبحانه يقول: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشفت له حقيقة ذاتي ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب ].
هذه العبارات فيها نظر، فلها معنى صحيح ولها معنى فاسد، أما المعنى الصحيح فإنه إن قصد بقول: (من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي) الوقوف عندها بالإقرار والتصديق والإيمان وعدم الخوض فصحيح، وإن قصد بالقيام مع أسمائه وصفاته بعض مفاهيم الصوفية في تمثل الأسماء والصفات الإلهية في أخلاقهم وسلوكهم، كقول بعضهم بأنه يتكلم على لسان الرب أو نحو ذلك؛ فهذا أمر لا يصح، فالعبارة موهمة.
وعلى أي حال فالسلف قد ينقلون مثل هذه العبارات لأنها تحمل معنى صحيحاً، والمعنى الفاسد يستبعد، لكن في زماننا هذا نجد أن مثل هذه العبارات لابد من التنبيه عليها؛ لأن الناس لم يعد عندهم الالتزام بالعقيدة، بمعنى: أنهم لم يتشربوا العقيدة كما تشربها الأولون، فمن هنا كان لابد من التنبيه على أن مثل هذه العبارات قد تحتمل معنى فاسداً.
قال رحمه الله تعالى: [ ويشهد لهذا: أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات، وقال الشبلي : الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب ].
هذه العبارة مجملة موهمة قد تحمل معنى صحيحاً بتكلف لا يفهمه الناس إلا بعد جهد جهيد، وقد تحمل معنى فاسد أيضاً، وقد اتكأ على مثل هذه العبارة كثير من ضلال الصوفية وضلال الفلاسفة وضلال الباطنية وأهل البدع والأهواء الذين أرادوا أن يطعنوا في أصول الإسلام من خلال مثل هذه العبارات التي تخرج من هؤلاء الذين قد يزكيهم بعض أهل العلم، مثل الشبلي رحمه الله، ويكون في مثل هذا الكلام فتنة، فقوله: (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) هذه العبارة لا تفهم إلا بتكلف شديد، والمعنى الصحيح إذا أردنا أن نفسرها به نحتاج إلى أن نجلب كثيراً من العبارات والمصطلحات والمفاهيم من أجل أن نصححها، وظاهرها عدم الصحة، لكن نظراً لأن الشبلي -كما قال أهل العلم-: قد يتكلم أحياناً بعبارات فيها اضطراب، فلعل هذه من عباراته المضطربة، فقوله: (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) كأنه يريد أن يقول: إن التمادي في التفكر في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته على جهة التكييف خلاف الأدب.
قال رحمه الله تعالى: [ وقوله: (ولا نماري في دين الله) معناه: لا نخاصم أهل الحق بإلقاء شبهات أهل الأهواء عليهم التماساً لامترائهم وميلهم؛ لأنه في معنى الدعاء إلى الباطل وتلبيس الحق وإفساد دين الإسلام.
قوله: (ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين):
فقوله: (ولا نجادل في القرآن) يحتمل أنه أراد: أنا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ واختلفوا وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، بل نقول: إنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين ... إلى آخر كلامه، ويحتمل أنه أراد: أنا لا نجادل في القراءات الثابتة، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح، وكل من المعنيين حق، ويشهد بصحة المعنى الثاني ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سمعت رجلاً قرأ آية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهة، وقال: كلاكما محسن ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) رواه مسلم .
نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسناً فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا، ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه لـعثمان رضي الله عنه: أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم. فجمع الناس على حرف واحد اجتماعاً سائغاً وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور؛ إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة ورخصة من الله تعالى، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه.
كما أن ترتيب السور لم يكن واجباً عليهم منصوصاً، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني، وكذلك مصحف غيره، وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية، بخلاف السور، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد جمعهم الصحابة عليه، هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء، قاله ابن جرير وغيره.
ومنهم من يقول: إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولاً، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيراً عليهم وهو أوفق لهم أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة، وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام إلى أن المصحف مشتمل على الأحرف السبعة؛ لأنه لا يجوز أن يهمل شيء من الأحرف السبعة، وقد اتفقوا على نقل المصحف العثماني وترك ما سواه، وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب، وهو: أن ذلك كان جائزاً لا واجباً، أو أنه صار منسوخاً، وأما من قال عن ابن مسعود رضي الله عنه: إنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال: قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: هلم وأقبل وتعال، فاقرءوا كما علمتم. أو كما قال.
والله تعالى قد أمرنا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فكيف بمناظرة أهل القبلة؟! فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن، وليس إذا أخطأ يقال: إنه كافر قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول بكفر من تركها، والله تعالى قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، ولهذا ذم السلف أهل الأهواء وذكروا أن آخر أمرهم السيف، وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً).
قوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين): تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله: (وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً).
قوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ) هو جبريل عليه السلام، سمي روحاً لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين، وهو أمين حق أمين صلوات الله عليه، قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195]، وقال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21] وهذا وصف جبريل، بخلاف قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ [الحاقة:40-41]، فإن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فعلمه سيد المرسلين) تصريح بتعليم جبريل إياه إبطالاً لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسه إلهاماً.
وقوله: (ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين) تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين؛ فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أن القرآن كلام الله بالحقيقة غير مخلوق، بل قوله: (ولا نخالف جماعة المسلمين) مجرى على إطلاقه: أنا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه؛ فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة.
قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) ].
هذه العبارة تحتها كثير من القواعد وكثير من الفرعيات والأصول أيضاً التي تحتاج إلى توجيهها، لاسيما أن مسألة التكفير في عصرنا من المسائل التي عمت بها البلوى، وابتلي بها بعض المنتسبين إلى الإسلام، وسأعرض هنا بعض القواعد الهامة وأترك البقية والتفصيل إلى درس لاحق، لكن نظراً لأهمية الموضوع أحب أن أهيئ الأذهان ببعض المسائل حول التكفير، فأقول: أولاً:
إن أغلب الذين يخوضون الآن في التكفير يخوضون بغير علم، فلا يحيطون بالنصوص ولا بقواعد الشرع ولا بأقوال السلف ولا بأحوال الأمة وتنزيل الأحكام عليها، وأكثرهم من المتعالمين المغرورين الذين ليس عندهم إلا التعالم.
ثانياً: أن مسألة التكفير من المسائل التي تعد أول ما افترقت فيه الأمة؛ لأنها نوع من التنطع في الدين، والتنطع في الدين قد لا ينتبه له الناس؛ لأن صاحبه في الظاهر ينشر الصلاح والاستقامة، والناس بفطرتهم وبحبهم للإسلام يحبون الصلاح والاستقامة، فقد يغفلون عن نزاعات التشدد ونزاعات التنطع في الدين التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن التكفير لا يصح أبداً أن يتناوله كل الناس ولا طلاب العلم، فتكفير الأعيان لا يتناوله إلا العلماء الراسخون.
وأحكام التكفير من حيث هي مذكورة في الكتب، وليس لأحد فيها فضل، لكن تنزيل الأحكام على الأشخاص أمر لا يمكن أن يتأتى إلا بجهود متضافرة من أهل العلم، والتكفير له شروط وضوابط، وله محاذير، وله أصول لابد من أن يطبقها أهل العلم، وقد تنطبق في عصر ولا تنطبق في عصر آخر، وتقال في ظرف ولا تقال في ظرف آخر؛ لأحوال الناس، فقد يكون في ظرف من الظروف أحوال المسلمين كلها استثنائية، كأن يكون عند المسلمين شيء من الإعراض والجهل والبدع والتخلف والبعد عن فقه دين الله عز وجل، وقد يكون الأمر ليس كذلك، كما في عهد السلف، حيث كان الأمر بيناً والحجة ظاهرة، ولا يزيغ أو يخرج إلى التكفير إلا إنسان تعمد خرق القواعد، إذاً: هذه المسائل يجب ألا يتناولها إلا الراسخون في العلم.
الأمر الرابع: وهو مهم جداً، وبه افتتن كثير من الشباب، وهو ما يظنه بعض الناس من أن تكفير الناس أمر في ذمته، وأنه ما لم يخرج هذه العهدة من ذمته فلن يعيش سعيداً بين الناس، وهذا غير صحيح، وكأنه لا يمكن أن يتم دينه حتى يكفر من يكفر، وهذه مزلة خطيرة جداً تجعله لا يرجع إلى العلماء ويستعجل ويتهور.
خامساً: أن التكفير أغلبه يبدأ بلوازم قبل أن يكون تكفيراً صريحاً وهذا هو بيت القصيد، فالتكفير أحياناً يبدأ على شكل نوازع وانطباعات وآراء ووجهات نظر يتساهل فيها العلماء وطلاب العلم، ثم تنمو حتى توصل إلى التكفير الضيق، ثم يتوسع التكفير، وأقصد بذلك أنه من بذور التكفير الحكم على القلوب والنيات، والاستعجال في إطلاق الأحكام قبل إقامة الحجة والأخذ بأصول العذر ونحو ذلك، ثم بعد ذلك الأخذ باللوازم.
ولذلك تجد أن التكفير أول ما يبدأ بمثل هذه الظنون، ثم بعد الظنون يبدأ بتكفير جزئي، فيكفر شخص أو هيئة، ومع مرور الزمن يكفر بلوازم تتعلق بالشخص أو الهيئة، فيقال -مثلاً-: من والى هذا الشخص أو والى هذا الهيئة فهو كافر، ومن لم يعلن كفر الكافر فهو كافر، وهكذا، وهذه نتائج طبيعية مع الزمن لابد أن تكون، والسعيد من وعظ بغيره.
ولنا في الأحداث القريبة والبعيدة شيء من العبرة، فقد حصلت قبل سنين أحداث التكفير والهجرة في مصر، ثم تفرقت الأمة، واحتوى كثير من شباب الأمة سفهاء الأحلام الذين يتعلموا عند العلماء، ثم جاءت الفتنة التي استهدف أصحابها بيت الله عز وجل، وكان أساسها التكفير، ثم الأحداث الأخيرة وما حدث من تفجيرات وغيرها من أمور شنيعة ضيعت الأمة وأوقعت ما أوقعت مما نعلم، فهذا كله نتيجة التكفير من أناس ليس لهم علم ولا فكر، مع عدم رعاية مثل هذه الظواهر وعلاجها من قبل طلاب العلم والمشايخ والولاة بشكل كافٍ.
فلذا يجب أن يتنبه طلاب العلم لمثل هذه المسائل؛ لأنها أصبحت ظواهر موجودة، وما دامت ظواهر موجودة فلابد أن تعالج، ولا تبرأ الذمة بالسكوت عنها، وكان بعض طلاب العلم الناصحون يقولون ذلك قبل أن تحدث الأحداث الأخيرة، فكان بعض الناس يقول: ربما يكون ذلك نزعات فردية، وليست مشكلة خطيرة، ولما وقع الفأس في الرأس تبين الناصح من الغافل.
فلذا يجب أن نتنبه وألا تتكرر العبرة مرة أخرى، وأنا أقول: بإمكان طلاب العلم أن يسهموا إسهاماً كبيراً في علاج ظواهر التشدد والتنطع في الدين والتكفير؛ لأن هذا يحمي الأمة ويجمع كلمتها على مشايخها وولاتها، وبإذن الله -إذا تضافرت الجهود- يضمن عدم تكرار مثل هذه الأعمال الشنيعة التي روعت الأمة وأوقعت الأمة في حرج، وكان مصدرها وأساسها هو الغلو في الدين، نسأل الله السلامة، والله أعلم.
السؤال: ما معنى قول الطحاوي : (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء)؟
الجواب: قول الطحاوي : (والإسلام والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء) قد يقصد به معنى صحيحاً، وهو أن الإسلام والإيمان ينطبقان على الدين نفسه، فأصلهما واحد، أما إذا أخذنا كل عبارة بمفردها فلاشك في أن معناهما مختلفان، فهما يجتمعان في أمور ويختلفان في أمور، وهذا سيأتي ذكره على التفصيل فيما بعد.
وكل ما جاء في المتن ليس بصحيح على الإطلاق، فالشيخ الطحاوي رحمه الله من السلف، وقرر عقيدة السلف، إلا أنه فيما يتعلق بمسائل الإيمان رأى أن الخلاف بين المرجئة الذين ينتمي إليهم في مذهبه الفقهي -وهم الأحناف- وبين أهل السنة خلاف لفظي؛ فكأنه أراد أن يتوسط في استعمال الألفاظ المحتملة لتحتمل معنى صحيحاً يجمع بين قولي السلف ومرجئة فقهاء الأحناف، هذا ما أفسر به اضطراب عبارات الطحاوي رحمه الله في مسائل الإيمان، فقد اضطرب اضطراباً كثيراً، أما ما عدا ذلك فقد وافق السلف في كل شيء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر