هذه العبارة فيها نظر، وسيأتي استدراك الشارح عليها، فقول الطحاوي رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) ليس على إطلاقه كما قد يفهم منه، فظاهر العبارة يفهم منه أن أي ذنب من الذنوب دون ما يخرج من الملة لا يكفر به المرء، وهذا فيه نظر؛ لأن مسألة الاستحلال ليست شرطاً دائماً لتكفير من ارتكب بعض الذنوب، فالمسألة فيها نظر، وسيأتي الكلام عنها عند استدراك المؤلف.
قال رحمه الله تعالى: [ أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين)، يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب، واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية ].
يقصد: أن مسألة التكفير من المسائل التي تميز فيها أهل الأهواء عن أهل السنة على اختلاف درجات أهل الأهواء، وأهل الأهواء أغلبهم مكفرة، ومنهم من لا يكفر بأي ذنب، أي: لا يكفرون بالذنوب مطلقاً، وربما لا يكفرون بأي عمل من الأعمال، كالمرجئة، فعلى هذا يكون من السمات التي تشترك فيها الأهواء جميعاً مخالفة أهل السنة والجماعة في مسألة التكفير، وغالب أهل الأهواء يقولون بالتكفير ولوازمه، أو بلوازم التكفير فقط كما سيأتي، وبعض الأهواء لا يكفر، لكنه يشارك المكفرة كالخوارج والمعتزلة في كثير من الأصول، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والموقف من الولاة، والسمع والطاعة لهم، والموقف من أهل السنة ونحو ذلك، حتى المرجئة الجهمية الذين لا يكفرون أبداً، ويرون أن كل من عرف الله فقد آمن ولو ارتكب أي ذنب، فإن مواقفهم فيها ما يدخل في لوازم التكفير، أعني مواقفهم التاريخية مع أهل السنة والجماعة.
فقول الشيخ: إن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت فيه الفتنة، يشير به إلى أن جميع أهل الأهواء يتسمون بمخالفة أهل السنة في مسألة التكفير، وأول الأهواء خروجاً في تاريخ الأمة كان مبدؤها مسألة التكفير.
الذين لا يكفرون من أهل القبلة أحداً صنفان: أولهم: غلاة المرجئة الذين هم الجهمية ومن سلك سبيلهم، وعلى طريقهم الفلاسفة الجهمية، وعلى طريقهم الزنادقة وبعض أهل الكلام، وكثير من غلاة الصوفية.
والصنف الثاني: من يترددون في إطلاق الكفر على من حكم الشرع بكفره من الذين يتسمون بالإسلام، كالجهمية وغيرهم، فهؤلاء بعضهم من مرجئة الفقهاء وبعضهم من الفقهاء الذين لا يتبعون المرجئة لكن لهم بعض الاجتهادات، خاصة فقهاء أهل الكلام الذين عندهم نزعة كلامية، فأغلبهم يتردد في إطلاق الكفر حتى على من حكم بكفره شرعاً ممن يتسمى بالإسلام.
فلذلك بعض الناس يفهم خطأ أن هذا الحديث كله ينطبق على جميع الكفار، وأن هناك خلافاً بين المسلمين في مسألة تكفير الكفار، وهذا غير وارد، فلم يرد البحث هنا عن مسألة تكفير الكفار الخلص؛ لأن من المعلوم من الدين بالضرورة تكفير اليهودي وتكفير النصراني وتكفير المشرك وتكفير من لم يسلم ولا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا تكفيره ليس محل البحث، وهذا الخلط الذي ذكرته هو الذي أوقع كثيراً من المثقفين وبعض المفكرين وبعض أدعياء العلم وبعض قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي في أن يترددوا في الحكم بكفر الكافرين الخلص؛ لأنهم ظنوا أن هذه الأحكام في إطلاق الكفر تنسحب على اليهود والنصارى.
وهذا جهل مطبق، بل رأيت وسمعت وقرأت عن بعض المنتسبين للعلم أنه يشكل عليهم هذا الأمر، وأتعجب حقيقة: لماذا يشكل عليهم هذا الأمر؟! حيث ظنوا أن قواعد التكفير تنسحب على اليهود والنصارى! وهذا أمر غير وارد، بل أمر مفروغ منه، فما بعد حكم الله حكم ولا بعد قول الله قول، إنما نتردد في الأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها؛ والأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها هي رد بعض أفراد العمل والاعتقادات التي تصدر من الناس إلى قواعد الشرع ونصوص الشرع الصادرة ممن يتسمون بأهل القبلة، أما الكفار الخلص فليسوا محل حديث، ولا يجوز لأحد أن يتردد في كفرهم؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن المجمع عليه عند المسلمين جميعاً، حتى الفرق الضالة تقول بكفر الكفار الخلص من اليهود والنصارى والمشركين.
قال رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً ].
لو أن إنساناً يدعي الإسلام أنكر أو تردد في إثبات وجوب الزكاة أو في إثبات وجوب الصيام أو في ثبوت وجوب الحج أو في ثبوت وجوب الجهاد أو في ثبوت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما تواترت به النصوص، بمعنى: أنه اعتقد أن هذا لا يجب شرعاً، ونفى ما تواترت به النصوص من الواجبات؛ فإنه بذلك يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا محل اتفاق، وكذلك من أنكر المحرمات القطعية أو تردد في ذلك أو شك تديناً لا شك جهل؛ إذ قد يوجد جاهل لا يدري، لكن الذي يدين بعدم تحريم الربا أو بعدم تحريم الزنا أو بعدم تحريم الخيانة والغدر أو بعدم تحريم دم المسلم ونحو ذلك، أو يشك في ذلك؛ فإنه بذلك يكفر، وإذا أنكره فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
إذاً: الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة والمحرمات المعلومة من الدين بالضرورة -أو القطعية على تعبير كثير من أهل العلم- من أنكرها يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان جاهلاً يعلم.
يقصد بذلك أن الذين تكثر عندهم البدع بحيث تكون هي الأصل عندهم يكثر عندهم الفجور بحيث يكون هو الأصل؛ فإن هؤلاء مظنتهم النفاق والردة، وليس جزماً؛ لأننا لابد من أن نقيم عليهم الحجة، لكنه يقصد بذلك أننا نعرف ظواهر النفاق والردة بالبدع والفجور، فالناس الذين تكثر عندهم البدع إلى حد أنهم لا يعملون بالسنة ويكثر عندهم الفجور إلى حد أنهم لا يقيمون شعائر الإسلام ولا يحلون ما أحل الله ولا يحرمون ما حرم الله؛ فهؤلاء يظن بهم أنهم أهل نفاق وأهل ردة، لكن مع ذلك لا نحكم بنفاق الواحد منهم وردته إلا بعد استنفاذ الأصول الشرعية من إقامة الحجة والتأكد من توافر شروط الكفر وانتفاء موانعه.
قال رحمه الله تعالى: [ وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب ].
يقصد بهذا: أن العبارة التي أوردها الطحاوي رحمه الله قد تفهم أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا قول المرجئة، والشيخ رحمه الله قد يميل إلى قول مرجئة الفقهاء في بعض الألفاظ وإن كان يوافق أهل السنة عملياً، فهذه اللفظة محتملة، فقد يقصد بها الانتصار لقول مرجئة الفقهاء من الأحناف، وهو حنفي، وقد يقصد التعبير عن مذهب أهل السنة والجماعة بتعبير يقرب الأحناف إلى أهل السنة والجماعة في هذه الجزئية.
وقول الشارح: [ وفرق بين النفي العام ونفي العموم ] يقصد به أن هناك فرقاً بين أن نقول: إن المسلم لا يكفر بأي ذنب مطلقاً، وبين أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً، فالنفي العام: هو أن يقال بأنا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، هذا نفي عام، وهذا لا يجوز، فليس بصحيح أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، بدليل أن الذنوب تتفاوت، فالشرك هو أعظم الذنوب، ولاشك في أنه مكفر.
بل هناك ما هو دون الشرك من المكفرات، فالنفي العام هو الممنوع الذي لا يقره أهل السنة، وهو أن نقول بأنه لا يكفر أهل القبلة بأي ذنب مطلقاً.
لكن نفي العموم هو أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً إلا إذا استحل الذنب ولو كان صغيراً وقامت الحجة، وهذا قول صحيح؛ لأن الخوارج والمعتزلة وكثير من الأهواء يكفرون بكل ذنب، وأهل السنة لا يكفرون بكل ذنب، كما أن المرجئة لا تكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا هو النفي العام الذي لا يجوز، والصحيح هو نفي العموم، أي: ليس كل ذنب يكفر به صاحبه.
قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله)، وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح وأعمال الجوارح تبع، إلا أن يضمن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده، أو نحو ذلك ].
لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر! والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر! وهذه المنزلة بين المنزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار ].
الفرق بين المعتزلة والخوارج فرق فلسفي، وليس فرقاً علمياً، فكلهم يكفرون بالكبيرة، لكن الخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا كافر خالص، والمعتزلة ينفون عنه الإيمان، ونحن نقول: يلزم من نفي الإيمان الكفر، لكن المعتزلة جاءت بأسلوب فلسفي كعادة أهل البدع، حيث يأتون من عندهم باختراعات في الدين، فنظراً لأنهم ما توافر عندهم النص القطعي على كفر من ارتكب الذنب قالوا بأنه لا مؤمن ولا كافر، وهذه المنزلة بين المنزلتين التي ما استطاعوا أن يفسروها إلى الآن؛ لأن نصوص الشرع كلها ليس فيها أن هناك حالة ثالثة، بل إما أن يكون المرء مؤمناً، ودرجات الإيمان تتفاوت تفاوتاً عظيماً، أو يكون كافراً، ودرجات الكفر تتفاوت.
فهم يقولون: لا نسميه مؤمناً، فأخرجوه من الإيمان، ونلزمهم شرعاً بأن يدخلوه في الكفر، لكنهم فروا مما قالت الخوارج؛ لأنهم قاموا بردة فعل ضد الخوارج، ومسألة الحوار بينهم وبين الخوارج هي التي جعلتهم يتكلفون مذهباً وسيطاً بزعمهم، وهو أنه -أي: مرتكب الكبيرة- إذا لم يتب في الدنيا فهو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، هذا في الدنيا، وفي الآخرة بينهم تشابه، لكن عند التفصيل نجد أن بينهم شيئاً من الفروق الفلسفية، فالخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وعذابه عذاب الكافرين والمشركين، وليس بينه وبينهم فرق، والمعتزلة تقول بأنه مخلد في النار أيضاً، وتقول بمنع الشفاعة كما تقول الخوارج، لكنها تقول بأن عذاب مرتكبي الذنوب في الآخرة -وإن كانوا مخلدين في النار ولا تشملهم الشفاعة- غير عذاب المشركين، وهذه من عندهم جاءوا بها تخلصاً من موافقة الخوارج.
يعني: لا يكفرون بالأعمال، إنما يحصرون التكفير في الاعتقادات البدعية.
قال رحمه الله تعالى: [ لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً ].
هذه النزعة ظهرت الآن على ألسنة بعض المنتسبين للعلم، وكتبوا فيها مؤلفات، وأثيرت القضية بين المشايخ وطلاب العلم بشكل فيه لبس وفيه غموض، وأنا أشم في رائحة إثارة هذه القضية تأثراً بجماعة التبين والتوقف، حيث تثار الآن قضية العذر بالجهل وعدم العذر بالجهل، وقضية أن الكفر هو الكفر الاعتقادي فقط، فهذه مسألة -في الحقيقة- تحتاج إلى تفصيل.
فهناك من يتبنون أن الكفر لا يكون إلا الكفر الاعتقادي، وألفت في هذا مؤلفات، والمسألة فيها لبس، حتى إن بعضهم انتزع من بعض المشايخ والعلماء موافقة على مثل هذا القول مع أن الأمر يتضمن مذهباً آخر هو أشبه بمذاهب الواقفة ومذاهب بعض أهل الكلام القديمة؛ بل بمذاهب بعض معتدلة الخوارج إن صح التعبير أو غيرهم، بل أحياناً قد يوافقون مذاهب بعض المرجئة خاصة مرجئة الفقهاء، فالمسألة فيها لبس.
فلذلك أقول: لا ينبغي أن نسلم بهذا المبدأ، وهو القول بأنه لا يكون الكفر كفراً إلا إذا كان اعتقادياً، فهذا غير صحيح ولا تدل عليه النصوص، بل هناك نصوص تدل على أن بعض الأعمال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، وبعض الأقوال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، ثم إن ترك الأعمال إذا كثر، وفعل الموبقات إذا كثر، بحيث صار الإنسان يفعل كل الموبقات مما يقدر عليه ويترك جميع الواجبات فإنه بذلك يكفر ولو لم نعرف اعتقاده.
إذاً: المسألة فيها تفصيل، فالكلام ليس على إطلاقه، وأقول: إن المسألة أثيرت الآن وتأثر بها كثير من طلاب العلم غير المتخصصين في العقيدة، فصار فيها لبس، وأرجو التنبه لذلك، والحذر من إطلاق مثل هذه الأحكام، كالقول بأنه لا يكون الكفر إلا بالاستحلال أو لا يكون الكفر إلا إذا كان اعتقادياً، أو القول بمسألة عدم العذر بالجهل مطلقاً، فهذه مسائل تحتاج إلى تحرير؛ لأن الناس يتلاعبون فيها بالألفاظ، ولكل إنسان فيها مفهوم، فينبغي أن تحرر أولاً، ويحرر المقصود ثانياً، ويفصل فيها ثالثاً، من ادعى أن هذه قواعد لازمة وأنها هي التي عليها السلف فأظنه ما صدق، السلف يفصلون، فقد تختلف أحوال الناس في مسألة العذر بالجهل أو الاستحلال أو الكفر الاعتقادي والعملي، تختلف أحوال الناس من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن شخص إلى شخص ومن بيئة إلى بيئة.
قال رحمه الله تعالى: [ فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، أو يقولون بكفر كل مبتدع، وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة؛ فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك، والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: (وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) ].
والحديث عن التكفير كان يجب أن يكون قبل هذا الوقت من قبل طلاب العلم وأهل العلم المعنيين بأمر الأمة، وأظن أن المشايخ وكثيراً من طلاب العلم قد أدوا بعض الواجب في ذلك، لكن ليس بالقدر الكافي في نظري.
الأمر الآخر: أنه ليس صحيحاً أن الكلام لم يكن إلا في هذه المناسبة أو في هذه الظروف، بل قد مرت مناسبات كثيرة من المناسبات التي تستدعي الحديث عن التكفير والتحذير من بواعثه ومن نزعاته وضرورة نصح المسلمين فيه وشباب المسلمين خاصة، وهذا أمر ضروري تقتضيه نصوص الشرع.
ثم إنا نجد من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمواجهتهم للبدع والمشكلات أنهم واجهوا قضية الخوارج -التي هي قضية التكفير- بقوة لم يواجهوا بها غيرها من البدع.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأهواء جملة، وذكر الخوارج الذين هم أصل التكفير تفصيلاً، وحينما ذكر أهل الأهواء حذر منهم وأمر بجهادهم بالرد عليهم ونحو ذلك، لكنه خص الخوارج بوجوب قتالهم، وقد يقول قائل: لماذا الخوارج؟ وهل الخوارج أخطر عقيدة؟! والجواب: لا، بل هناك ما هو أخطر من عقائد الخوارج، كالرافضة والباطنية والجهمية وغيرهم، لكن -كما ذكر أهل العلم، واستقرأ هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه- لكون الخوارج أكثر فساداً في الأرض؛ لأنهم أناس يواجهون المسلمين بالقوة والسيف؛ ولأنهم من طبائعهم أنهم لابد من أن يهلكوا أو يهلكوا، فمن ينزع نزعة الخوارج أو ينزع نزعة التكفير لا يعيش بين الناس مستريحاً، بل إما أن يؤذي الناس ويقاتلهم ويفعل كل ما يخل ويفسد، وإما أن يقضى عليه، فلذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب قتال الخوارج ووعد من قتلهم.
ولذلك فرح الصحابة لما تحققوا أن الخوارج الذين قتلوهم في النهروان هم الذين وعد النبي صلى الله عليه وسلم من قتلهم بأن له الجنة، وفرح الإمام علي رضي الله تعالى عنه بذلك فرحاً شديداً، وكان الصحابة إذا سمعوا بالخوارج هبوا لقتالهم، ولما سمعوا بالقدرية حذروا منهم، مع أن القدرية أكفر من الخوارج، فالخوارج ما كفروا كلهم، ولا قيل بكفرهم، لكنهم مع ذلك أمر بقتالهم، والصحابة قاتلوهم واستبشروا بقتالهم وفرحوا بذلك، وكانوا كلما ذكر لهم فئة خارجية يهبون لقتالها امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ظهر الشيعة جادلوهم بالكلمة وأقاموا عليهم الحجة، ثم لما سمعوا بالقدرية كذلك جادلوهم بالكلمة وأمروا بهجرهم حتى أصر بعض رءوسهم من أهل البدع، فكانوا يأمرون بقتل الرءوس فقط، هذا أمر.
الأمر الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في نصوص أخرى خوارج يأتون بعد الخوارج الأولين، من ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنه (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية) إلى أن قال: (فإذا لقيتموه فاقتلوهم فإن لم قتلهم الجنة).
ولا أعرف أن هناك فئة ظهرت من الخوارج الآن ما عدا التكفير والهجرة، وقد انقرضت، لكن سمات الخوارج بدأت تظهر، وأول سمات الخوارج التكفير، والتكفير وجد عند فئات من أبناء المسلمين وإن كانت قليلة والحمد الله.
فأغلب أبناء المسلمين على الرشد -إن شاء الله- وعلى الاستقامة، ولاشك أن سائر شبابنا -والحمد الله- فيهم تعقل وفيهم علم وفيهم فقه، لكن يوجد شذوذ في طوائف من الشباب، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وكم يجر الشذوذ على الأمة في دينها ودنياها إذا أهمل من وبال على أهل الخير خاصة وسائر المسلمين عامة، وشواهد ذلك بدأت، إذاً: لماذا ينزعج بعض الناس من الحديث عن نزعات التكفير ونحن نراها ونسمعها فعلاً؟! فأنا أعلم أن نزعات التكفير موجودة فعلاً، وتزداد الآن، وأن بعض طلاب العلم والمشايخ الذين يعرفونها يحاولون علاجها، وبعضهم ربما يتردد في العلاج ظناً منه أنها لن تصل إلى حد الخطورة، وأقول: إنها وصلت إلى حد الخطورة، وحوادث التفجير ونحوها دليل ذلك.
فكل حوادث العنف والقوة تنتج عن هذه النزعات، سواء أكانت تكفيراً خالصاً أم استعداداً للتكفير أم براءة من المخالفين، أم استباحة لوسائل العنف، كلها ترجع عاجلاً أو آجلاً إلى التكفير، فمن هنا أقول: إن سمات التكفير ظهرت، وسمات الخوارج ظهرت بنزعات في أفراد وفي جماعات وفي اتجاهات، فإذا ظهرت فلابد من الحديث عنها، وأرى أنه لا يسع طلاب العلم السكوت، بل لابد من التحذير حتى لا يقع كثير من شبابنا الذين لم ينهلوا من العلم الشرعي بقدر كاف، والذين تحكمهم العواطف وقلة التجربة وعدم الرجوع إلى الراسخين في العلم في التكفير من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
إذاً: محل الحديث في التكفير هم الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، الذين يسمون أهل القبلة، فهؤلاء هم الذين يتكلم عن التكفير فيهم.
إذاً: من سمات أهل التكفير إعلان التكفير وإشهاره، ولا يعني ذلك أن أهل السنة لا يكفرون من يكفر، لكن ليس من سمتهم التكفير، وليس من طبعهم التكفير، وليس همهم التكفير أصلاً إلا بمقتضى النصوص الشرعية وبتوافر أمور الاجتهاد.
وهذه المسألة خفيت على كثير من أبنائنا من بعض المثقفين وبعض قليلي العلم، يظنون أنهم يجب عليهم أن يكفروا، وأنهم تعبدوا بإعلان التكفير، وأن من لم يكفر منهم فقد داهن، وأن مقتضيات الولاء والبراء أن ينبش عن أحوال الناس ويحكم على الجماعات والأفراد والهيئات والمؤسسات والدول، وهذا ما هو بصحيح، بل هذه فتنة، ومن تتبع هذه الأمور حري أن يقع في الفتنة ما لم يتداركه الله عز وجل فيترك هذه الأمور.
فالمسلم عليه أن يسير كما أمره الله عز وجل، فيطلب العلم الشرعي، ويؤهل نفسه إذا كان عنده استعداد للتبحر في العلم الشرعي، فإذا وصل إلى مستوى المجتهدين عمل بقواعد الاجتهاد، وسيجد بالضرورة أنه ليس من شروط إسلام المسلم أو تدين المتدين أو صلاح الصالح أن ينبش عن أحوال الناس.
فهذا يفهم أنه يجب أن تحترز من إطلاق الكفر على غيرك؛ لأنك لا تعلم الغيب، ولست من أهل الاجتهاد الذين يملكون الحكم بالكفر، بل أهل الاجتهاد أكثرهم يتورع عن الحكم بالكفر، إذاً: يجب أن يتوقف المسلم في إطلاق الكفر على الأشخاص والهيئات والجماعات وغيرها حتى على أهل البدع؛ لأن أهل البدع يتفاوتون، فمنهم من يكفر ومنهم من لا يكفر، ثم إن للتكفير شروطاً وله موانع لا يتحقق استجلاؤها والاجتهاد فيها إلا على أيدي العلماء الراسخين.
إذاً: الصحيح هو أنه ورد الوعيد في التكفير، فإذا كان كذلك وجب أن يحذر المسلم من أن يكفر غيره أو أن يقول بكفر أحد، وهذه مسألة خطيرة جداً على ذمة المسلم ودينه ومصيره.
القاعدة الخامسة: من يتناول التكفير؟ هل لكل مسلم أن يبحث في مسألة التكفير ليكفر من يشاء ويترك من يشاء؟ أو لكل من استطاع أن يقرأ النصوص أن يكفر أو لا يكفر؟
أقول: مسائل التكفير ينبغي ألا يبحث فيها إلا من قبل المتخصصين الذين تتوافر عندهم شروط الاجتهاد، وتتوافر فيهم صيغة الرسوخ في العلم مع الرأي والتجربة وإدراك قواعد الشرع وإدراك أحوال الأمة بالتفصيل.
فلا ينبغي لكل مسلم أن يتناول التكفير، بل لا ينبغي لكل طالب علم أن يتناول التكفير، بل لا ينبغي للعالم بمفرده أن يستقل في مسألة إطلاق الأحكام على المسلمين، لاسيما في هذا الوقت الذي خفي فيه كثير من الأمور، وغمض فيه كثير من أحوال المسلمين، فلابد من التأني في إطلاق الأحكام، ولا يتم ذلك إلا من قبل أهل العلم الراسخين في العلم.
هذه بالنسبة إلى الأحكام، لكن تطبيق الأحكام على الهيئات والأشخاص والمؤسسات والجماعات ونحوها له أسلوب آخر لا يلجأ إليه إلا في الحالات النادرة وعند الضرورة، ولذلك تجد كلام السلف في أحكام التكفير كثيراً جداً جملة وتفصيلاً، لكن كلامهم في الأعيان تجده قليلاً جداً، حتى إن بعضهم كان يتردد في تكفير من تبين كفره عند عموم الأمة، وقليل من أهل العلم من كان يطلق التكفير، خاصة أهل العلم الكبار، ككبار الصحابة، بل كل الصحابة، فالصحابة واجهوا أهل البدع وما كفروهم، حتى أولئك الذين قاتلوا الخوارج، وأول خصم وأشد خصم على الخوارج هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ذلك لما قيل له: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. وكذلك سائر الصحابة لما واجهوا القدرية، ولما واجهوا أقوال كثير من الشيعة وغيرهم، فإنهم كانوا يترددون في تكفير الأعيان والأشخاص، أما التكفير بالأحكام فأمره واضح وسهل، بأن يقال: من فعل كذا فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من اعتقد كذا فهو كافر، فهذه مسألة سهلة؛ لأنها حررت علمياً عند السلف، لكن السلف يفرقون بين هذا وبين إطلاق الأحكام على الأشخاص، ولذلك -كما قلت- تجد كبار أهل العلم من الصحابة إلى يومنا هذا يندر عندهم التكفير، بل بعضهم لم يؤثر عنه أنه كفر أحداً مع أنه لا تنقصه عقيدة الولاء والبراء، ولا تنقصه الغيرة على دين الله عز وجل، كالإمام أحمد رحمه الله، فما كفر إلا في حالات نادرة جداً أقام الحجة فيها بنفسه، كتكفيره من قال بخلق القرآن؛ لأنه علم يقيناً أن الحجة قامت، وأن شروط الكفر توافرت، وأن موانع التكفير منتفية، فأطلق الكفر بعد ذلك، أما فيما عدا ذلك فإنك تجد الإمام أحمد تورع كثيراً عن إطلاق الكفر حتى فيمن كفرهم السلف قبله.
وأقول: الخلل الحاصل الآن عند كثير ممن يدعون العلم هو سرعة تطبيق الأحكام على الأعيان، فينزل الدليل على القضية مباشرة، فيكفر الشخص، مع أنا نعلم يقيناً أنه ما توافرت عنده شروط التكفير، ولا اجتهد في معرفة ما يعارض إطلاق التكفير من الموانع الشرعية المعروفة، مثل: الإكراه، ومثل: التأول، ومثل: الجهل، وغير ذلك مما هو معروف ويحدث عند كثير من المسلمين في بعض العصور والأمكنة والأزمان.
وعلى هذا فإن تكفير الأشخاص وتكفير الأعيان وتكفير الهيئات وتكفير الجماعات وتكفير الدول أمر خطير يجب ألا يسود بين الناس، ويجب أن يترك لأهل العلم الراسخين، وإذا أدرك بعض طلاب العلم أن هذا الأمر بدأ يظهر بكثرة الثرثرة في هذه الأمور وجب عليهم أن يناصحوا الناس وأن يعظوهم في ذلك وأن يذكروهم بتقوى الله عز وجل، فلا يتحدث في هذه الأمور بغير علم، وأغلب ما يتكلم فيه الناس الآن عواطف بناء على الشائعات بدون تثبت وبدون معرفة لهذه الأحكام التي أشرت إليها.
لذا ينبغي أن نفرق في مسألة الأشخاص بين من يعلم ومن لا يعلم، ومن أقيمت عليه الحجة ومن لم تقم عليه، ومن يشترط أنه علم وسمع وتواتر عنده الأمر ومن لا يشترط فيه ذلك، ومن يمكن أن يكره أو يمكن أن يجهل أو يقع في الأمر المحظور ضرورة ونحو ذلك، ومن ليس كذلك، لاسيما في أحوال المسلمين اليوم، ففي أحوال المسلمين اليوم نجد كثيراً من الأمور انقلب من الحال العادية إلى أحوال الضرورات، وأضرب لهذا مثالاً واحداً وكثيراً ما أضربه؛ لأنه من أوضح الأمثلة، حيث يدل على أن أحوال المسلمين يجب أن نتأنى فيها في إطلاق الأحكام بالكفر أو نحوه عليهم.
ففي البلاد التي يحكم فيها بالقانون الوضعي -نسأل الله العافية- قد يضطر مسلم إلى أن يحمي عرضه باللجوء إلى القانون الوضعي، فلا يحمي عرضه إلا باللجوء إلى القانون الوضعي، أليس هذا الوضع محرجاً؟! إنه إذا ما لجأ إلى المحكمة القانونية سينتهك عرضه غداً، فيمكن أن تؤخذ ابنته أو زوجته؟ أليست هذه معضلة؟
وهناك مسألة أخرى جاءت فيها أسئلة فعلاً واجهتها وواجهها غيري، والمشايخ يواجهونها أكثر منا، حيث يقول السائل: أنا في بلد مسلم من بلاد الإسلام، لكن يلزمني أن أحلق لحيتي، وأن أترك الصلاة جماعة، ولا أصلي إلا خفية، ويلزمني أحياناً أن أتساهل في عرضي، فبنتي تختلط بالشباب في الجامعة، وتسبح معهم في المسابح رغم أنفي، وتختار صديقاً، وإذا عارضت أسجن ... إلى آخر ذلك من المآسي التي لا نحب أن نجرح بها أفئدة المؤمنين، يقول: أنا مضطر لأن أسافر إلى بلد الشرك؛ لأني سأصلي وأحمي عرضي وأدعو إلى الله عز وجل وأعمل بشعائر الدين تحت ظل قانون كافر خالص في فرنسا أو أمريكا أو ألمانيا أو أي مكان، فما رأيكم؟! أليس السفر من بلد الإسلام إلى بلد الشرك محرماً في الأصل؟! وإذا كان اختياراً وتفضيلاً لبلد الكفار ألا يكون كفراً؟! فما رأيكم في هذه الحالة؟ فمن يتتبع أحوال المسلمين يجد أن مفردات الضرورات كثيرة جداً، وهناك ما هو أعظم من ذلك، فهناك ما يمس جماعات المسلمين ومجتمعاتهم لا أفرادهم.
إذاً: فالمفتي الذي لا يعتبر هذه الأحوال لا أظنه يصيب الحق، ولذا لما نظر في الأمر بعض الذين عندهم تدين بغير بصيرة كفروا المجتمعات المسلمة على هذا الأساس، فإذا سئلوا عن السبب ذكروا هذه الأحوال على أنها موجبة لتكفير المجتمع المسلم، فمن هنا قالوا بأقوال الخوارج.
وقد يقال: ألا يجب الدفاع عن العرض ومدافعة المنكر ومدافعة الشر قبل وقوعه؟
فنقول: بل يجب على المسلمين ذلك، ولكننا نتكلم عن الحكم على أمور ليست بإمكان كثير من المسلمين الآن، وفرق بين ما يجب وبين علاج الواقع، فأنا أتكلم عمن لا يستطيع، فالإنسان إذا لم يستطع حماية نفسه إلا بالأساليب التي ليست مشروعة هل يلجأ إلى الأساليب التي ليست مشروعة؟ وهل الغاية هنا تبرر الوسيلة؟!
الأمر الثاني: أن المسلمين الذين هذه أحوالهم في البلاد الأخرى لا يستطيعون أن يعملوا إلا أشياء تضر بهم وتضر بالأمة وتضر بالمجتمع، بل أحياناً قد يتصرف الإنسان تصرف متشنج يحمي فيه نفسه وعرضه، لكن بعد ذلك تتضاعف المشكلة أكثر، فينتهك عرضه وينهب ماله ويؤذى أقاربه ويؤذى أصدقاؤه، وتصير المشكلة جماعية بعد أن كانت فردية.
فكثير من المسلمين اليوم جهلة، وأحوال المسلمين الآن أكثرها واضحة ليست خفية، فلا نبن الأمور على أحكام وهمية، نعم يجب على المسلمين أن يكونوا متمسكين بدينهم، وألا يقع هذا الذي حصل، يجب ألا تكون البدع موجودة في المسلمين؛ لأنها هي التي أدت إلى ضعف اليقين وضعف الإيمان في الناس حتى صار ما صار، ويجب ألا يهيمن التصوف والخزعبلات على عقول المسلمين التي أدت إلى هذا الوهم والسلبية، والأمر لله من قبل ومن بعد، فالتقصير حصل والمآسي حصلت، فنحن لا نفترض وقوع أشياء نخشى أن تقع ونقول: يجب أن نتفاداها قبل أن تقع؛ بل نحن نتكلم في أمور وقعت في المسلمين.
فهذا كله جرنا إليه مسألة أنه ينبغي للمسلم ألا يتعجل في التكفير؛ لأنه ليس كل من وقع في مثل هذه المحظورات، أو وقع في البدع، أو وقع في الأمور التي ورد النص بالتكفير فيها خاصة نحكم بكفره؛ إذ الأحوال تنقلب أحياناً إلى العكس، فأغلب الأحكام يعذر المسلمون فيها على الأقل في التكفير، ولا نقول: ليس فيهم فسق ولا فجور! فلا شك أن أكثر المسلمين فيهم بدع وفيهم فجور وفيهم فسق وفيهم إعراض عن شرع الله عز وجل، ولولا ذلك ما صاروا إلى ما صاروا إليه؛ لأن الله عز وجل ضمن لهم إن تمسكوا بدينه أن ينصرهم ويمكن لهم في الأرض، لكن التقصير حصل، وما دام قد حصل فما العلاج؟ هل العلاج أن يكفر الناس بعضهم بعضاً؟! لا، بل العلاج يكون بالطريقة الشرعية، وهي رد المسألة إلى المجتهدين الراسخين في العلم مع حصول الشروط وانتفاء الموانع؛ إذ الموانع الآن موجودة في أكثر المسلمين ما بين جهل وإكراه واستضعاف وعدم إقامة الدليل والتأول ... إلى آخر ذلك.
فهناك مجموعات أو جماعات أو أفراد -خاصة الذين ما أخذوا العلم على أصوله الصحيحة، ولا تعلموا على أيدي العلماء، وما عرفوا كيف يتناولون أصول الولاء والبراء ويرجعونها إلى قواعد الشرع، ولا عرفوا أقوال أهل العلم الراسخين في العلم- أخذوا نصوص الولاء والبراء ونصوص الوعد والوعيد فنظروا فيها ففهموا أنها تستدعي التوقف في إسلام جميع المسلمين أو أكثر المسلمين، وأنه لا بد من التبين قبل الحكم بالإسلام، وهذه النزعة هي من جنس التكفير، والغالب أنها تؤدي إلى التكفير، وقد كثرت في بعض المنتسبين للعلم الشرعي ممن لم يتعلموا على العلماء ولم يعرفوا قواعد الشرع.
فبعض هؤلاء يقول: إن المسلمين الأصل فيهم الإعراض عن الإسلام، وبعضهم يقول: الأصل فيهم الردة، وبعضهم يقول: الأصل فيهم عدم تحقق الإسلام، ولا يحكم بالردة ولا الكفر، إذاً: نتوقف في إسلام أهل القبلة إلا من عرفته وأقمت عليه الحجة وتبين لي أنه مسلم، فمن هنا قد لا يصلون وراء كل أحد من عامة المسلمين، وقد لا يتعاملون التعامل الشرعي مع كل أحد، فقد لا يردون السلام، فبعضهم إذا سلم عليه مسلم آخر ما تبين له حاله يقول: صباح الفل، صباح الخير، أو: أهلاً وسهلاً، ولا يقول: وعليكم السلام، يقول: أخشى أنه غير مسلم، فأكون قد وقعت في الإثم.
وقد يستغرب من هذه الظواهر، وقد يقول قائل: أين هي؟ وأقول: إنها موجودة، وإن كانت -والحمد الله- قليلة، ولكن ليس عندنا عصمة من الله عز وجل، فهذه الظواهر وصلت إلينا كما وصل التكفير إلى بعض من كانوا شذاذاً لتساهلنا وعدم عنايتنا بهذه الأمور، فالتبين موجود الآن وظهرت له مؤلفات وكتب وله زخم كبير بين طائفة من المنتسبين للعلم، وتثار قضاياه، خاصة في مصر وفي أفغانستان وفي بعض البلاد الإسلامية.
فلذلك أقول: إنه ينبغي أن نحذر ونُحذِّر ونتنبه للنزعات الأولى الممهدة للتكفير، ومن هذه النزعات التشدد والشدة في الكلام في الولاء والبراء إلى حد يوقع الناس في الحرج مع آبائهم وأقاربهم، ومع شيوخهم وزملائهم، ومع المسئولين وأهل الرأي والمشورة فيهم، ومع كبار القوم وذوي الهيئات .. إلى آخره، فإذا وجدت الشدة إلى حد يخرج عن الحد الشرعي المعروف عند أهل العلم؛ فاعرف أن هذه نزعة يخشى منها أن تصل إلى التكفير، فيجب أن تعالج، فالبراء والولاء أمر شرعي، لكن له ضوابطه وموازينه، فينبغي أن يرجع فيه إلى أهل الفقه الراسخين، خاصة إذا انبثق عنه مواقف وتعامل، فقد تجد بعض الناس قد هجر عمه أو خاله أو قريبه، فتسأله: لماذا؟ فيقول: في بيته كذا من المعاصي، وعنده كذا من التقصير، وليست تلك مكفرات، ولكن تجده أنه عامله معاملة الكافر، أو قريباً من معاملة الكافر، فلا يأكل ذبائحه، ولا يجيب دعوته الواجبة، وقد لا يشارك في الأمور الواجبة له شرعاً، وهذا ناتج عن شدة القول بالبراءة.
وبعض الناس تجده يعد أصدقاءه على الأصابع، والبقية يتبرأ منهم، ويقول: ما أجد على الدين الصحيح إلا فلاناً وفلاناً! وهذا ليس صحيحاً، فإن الصالحين كثيرون، فإذا وجد تشدد في الولاء تضيق دائرة الولاء إلى حد غريب لا يعرفه أهل العلم وأهل الاستقامة.
أقول: مثل هذه الأساليب لا يفعلها إلا أحد اثنين: إما جاهل، وهذا يجب أن يعلم، وإما صاحب هوى، فإذا لم يصحح عمله ولم يوجد من طلاب العلم من يبين له أن هذا غلط فستتجارى به الأهواء وربما يصل إلى التكفير، والله أعلم.
وأعظم من ذلك استباحة الأعمال التي تعد من الفساد في الأرض، كاستباحة التفجيرات، والإحراق، والنسف، والنكاية بالآخرين إلى حد يتلف النفوس، أو إلى حد يخل بالأمن، أو إلى حد يوقع المؤمنين ويوقع أهل الخير في فرقة، أو إلى حد يستعدي الأشرار على الأخيار؛ لأن الأشرار لا يميزون، فمن كان متديناً وفعل شيئاً حسب أن فعله من الدين.
إذاً: ألا يجب الأخذ على يد السفيه ممن ينتسب للتدين؟! لا سيما أن مثل هذه الأفعال خطير على الدين وعلى المسلمين أعظم من خطر الكثير من أفعال الكفار أنفسهم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل أحد من أهل الأهواء غير الخوارج؛ لأن عملهم يؤدي إلى الفساد في الأرض، ويؤدي إلى الإخلال بالأمن؛ ولأنهم يستحلون دماء المسلمين، ويستحلون النكاية بالمخالف بكل وسيلة، ونزعات التكفير تؤدي إلى هذا حتى لو لم تصل إلى التكفير، فبعض الناس يقول: هذه مجرد عواطف، أو مجرد وجهة نظر أو اجتهادات خاطئة أو جهل، ونقول: هذه مصيبة أن نترك هذه العواطف وهذا الجهل وهذه الاجتهادات الخاطئة ولا نعالجها بكل وسيلة، ولو بإعلان مثل هذه الأمور، إذا عسر العلاج بالستر بين المسلمين، فإذا عسر العلاج بالستر فلابد من إعلانها لا سيما أن الأمر قد وقع فيه الفأس على الرأس، فلا بد لطلاب العلم من أن يعالجوا مسألة نزعات التكفير، وسمات التكفير والظواهر والآراء والمواقف التي تؤدي إلى التكفير في النهاية، ومن ضمنها هذه الأساليب التي ذكرتها.
وقد يقول قائل: إن من علاج التكفير أو من تفادي وقوع التكفير إنكار المنكرات، وهذا حق يجب أن يقال؛ لأن من أسباب ظهور التكفير كثرة المنكرات، فنجد شباباً حدثاء الأسنان ما عندهم فقه، وما عندهم تجربة، وليس لهم صلة بالمشايخ الذين يرشدونهم يرون منكرات كثيرة في المجتمعات الإسلامية، ويرون الضيم على المسلمين في كل مكان، فلا يعرفون كيف يعالجون هذه الأمور على القواعد الشرعية، فيقعون في الأحكام الشديدة والتكفير، فيجب إنكار المنكرات، ويجب النصح للمسلمين، لكن لا يعني هذا عدم الأخذ بأسباب العلاج الأخرى من التحذير من التكفير، وتعليم الناس قواعد الشرع، وإرجاع الأمور إلى أصولها الشرعية، وكشف من يصر على التكفير إذا كان ممن يتصف بالخير، خاصة إذا صرح، فهذا كله من الأسباب.
ولا شك أن أعظم سبب لوجود التكفير وجود المنكرات والإعراض عن دين الله عز وجل في أكثر البلاد الإسلامية، ولا يشك في هذا ولا يجحده إلا جاهل، لكن هناك بواعث أخرى نعرفها ونستطيع علاجها، وربما يسهم بعضنا فيها وهو لا يشعر، فأنا الآن أتكلم مع طائفة من طلاب العلم، ولست أتكلم للناس جميعاً، فأنا أكلم هذا الصنف لأنهم يدركون هذه الظواهر ويستطيعون علاجها ويرونها في المجتمع، أعني الثرثرة وكثرة الكلام وشحن القلوب، كما تفعل بعض النشرات وغيرها بغير بصيرة وهدى، كالكلام في العلماء، والكلام في الولاة، والكلام في المظالم، فهذه قضايا عامة كبيرة لا تستوعبها عواطف الصغار ولا عواطف النساء ولا عواطف العوام ولا عواطف كثير من أبناء الأمة، فالثرثرة فيها مصائب من ورائها، إلا أنها سمة من سمات كثير من حركات المسلمين المعاصرة، أو سمة من سمات العصر الحديث، فالأسلوب الصحفي ليس مبرر لطالب العلم أن يجاري وينشر بين أهل الخير هذه القضايا، فهي الممهدة للتكفير، وهي الممهدة للعنف.
وكذلك الثرثرة في مسائل علمية كبيرة لا يستطيع الناس الحكم فيها، كمسألة الكبائر وحكم أهلها، ومسألة الكفريات وحكم أهلها، والبدع بأشكالها وحكم أهلها، وما يقع في قضايا الحكم بغير ما أنزل الله ونحوها، فهذه قضايا كبيرة لا يستطيعها الصغار ولا الكثير من الناس، فهذه تناقش عند أهل العلم، نعم تبين للناس في الكتب وتبين للناس في المحاضرات، ولكن ببيان يناسب الناس، تبين القواعد والأحكام والأصول، وتبين القضايا الرئيسة التي تناسب عقول الناس، لكن إصدار الأحكام على الأشخاص، وتطبيق الأحكام على الهيئات، وتطبيق الأحكام على الدول، وتطبيق الأحكام على الجماعات في المجالس عند من هب ودب من أسباب ظهور نزعات التشدد والتشنج والتكفير.
وكذلك الكلام في مثل البيعة والخروج وإلزام الناس بما لا يلزم، كأن يقال: من فعل كذا فهو مبتدع، ومن فعل كذا فهو فاجر، فتوضع قواعد على غير أصولها، فلذلك كانت سمة أهل العلم أنهم إذا جلسوا في المجالس العامة يقرءون كتباً تناسب العامة، ويطرحون قضايا تناسبهم، ويطرحون أحكاماً تتعلق بأعمالهم اليومية التي يدركونها، أما القضايا العامة الخطيرة -كقضايا التكفير- فلا يتعرضون لها في مثل هذه المجالس.
ومن الظواهر المزعجة التي بدأت تكثر في مجتمعاتنا الآن كثرة الثرثرة في القضايا الخطيرة في الأشخاص والهيئات والجماعات وفي مصالح الأمة العظمى مع وجود من ينتسب للعلم، وربما يشارك الناس ويؤيدهم أو يسكت ويصمت في مثل هذه المجالس، ولا يبين ولا يعظ، فيظن الناس أن هذا مشروع، بل ربما يدعي بعض القاصرين ممن ينتسبون للعلم أن هذا مشروع.
وكذلك تحريم حمل البطاقات، وتحريم حمل العملة، نعم هناك ناس يتورعون عن هذه الأمور تورعاً، وهذا شيء راجع إليهم وأمرهم إلى الله عز وجل، ونحسبهم -إن شاء الله- من الصالحين، لكن أن يجعلوا هذا ديناً، ويتهموا من خالفهم، وإذا قيل: إن المشايخ أفتوا بضرورة حمل البطاقة التي فيها صورة اتهموا المشايخ؛ فهذا ما أردت أن أنهى عنه.
وهذه مجرد أمثلة، وأعود إلى ما بدأت به، وهو أن الكلام بالتكفير أمر ينبغي أن يتفاداه الناس إلا عند الضرورة، وأرى أنه في مثل الأحوال التي نعيشها الآن من الضروري لطلاب العلم أن يبينوا للناس القواعد الصحيحة في التكفير، وأن يجلى الأمر وإن أدى هذا إلى الكتابة في الصحف وإلى استعمال وسائل الإعلام المشروعة وإلى محاضرات وندوات ودورات، فأدعو طلاب العلم إلى مثل ذلك في هذه الظروف؛ لأن الأمر وصل إلى حد الإضرار بالمسلمين، والإضرار بأهل الخير، ووصل إلى حد أن ظهرت ظواهر نخشى أن تكون اتباعاً لما عليه الخوارج، ونحن حديثي عهد بقصص التكفير والهجرة، وبجماعة التبين والتوقف، والسعيد من وعظ بغيره.
وهذا اجتهادي، وأسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين التوفيق والسداد والرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: هذا الكلام -في الحقيقة- كلام عاطفي، فمن حجب العلماء عن الشباب؟! فهذا الكلام فيه نظر، فالعلماء أبوابهم مفتوحة، ودروسهم وقلوبهم مفتوحة للشباب، نعم هناك بعض الأمور لظروف اقتضتها، حيث أصبح الناس تحكم حياتهم الأساليب الحديثة والعمل الرسمي، فالعمل الرسمي والمواعيد أمور تحكم حياة الناس كلهم، ولكن من حجب الشباب عن المشايخ؟! لا سيما أن الوسائل ممكنة، فالشباب الذين لا يمكنهم الحضور إلى المشايخ يستطيعون أن يسمعوا أشرطتهم، ويقرءوا كتبهم، ويتصلون بهم بالهواتف، ويتصلون بهم عبر تلاميذهم الوسطاء، فالمسألة ليست صحيحة إلى هذا الحد، نعم قد يكون في التفاف الشباب على مشايخهم وعلمائهم صعوبة؛ لأن الظروف اختلفت منذ زمن، ولكن لا نسمي ذلك حجباً؛ لأننا نعرف أن المشايخ ما أوصدوا أبوابهم، والوصول إليهم متاح.
الجواب: الضابط هو قوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فأنا أردك إلى أمر واقعي جداً، فالمقياس هو تطبيق أهل العلم الراسخين في العلم، فالمعتدلون من أهل التدين هم المقياس.
الجواب: نعم. هذا السؤال وجيه لكنه غير صحيح، أنا لا أقول: إن طلاب العلم يستطيعون أن يحجروا على الناس ألا يتكلموا، الناس الآن عودهم الإعلام وعودهم الواقع وعودهم اختلاطهم بالأمم بأن يثرثروا فيما يشاءون، لا، الذي أنا أتكلم فيه هو الثرثرة باسم الدين وباسم الشرع، وباسم طلاب العلم، وأن يتصدر ذلك ناس من المربين للشباب، من الدعاة، من طلاب العلم، أن يجعلوا ذلك منهجاً لهم، أما أن نكمم أفواه الناس أو نستطيع أن نتحكم في ألفاظ الناس هذا أمر لا نستطيعه، لكن أن يكون ذلك حسبة، وأن يكون هذا منهجاً لبعض طلاب العلم يربون عليه العوام ويربون عليه الشباب هذا هو الذي أنا أنكره، فيجب على طلاب العلم أن يبينوا، وإلا فمن الأصل حتى في تاريخ الإسلام القديم والعوام إذا تحدثوا بحديث يتكلمون في كل شيء، وقد يعزلون وينصبون .. ما لنا ولهم؟! العوام يجروننا إلى أن نتبنى مناهج خاطئة! حتى كثير من المثقفين وكثير من الأدباء وغيرهم ممن لم يلتزموا الشرع قد يثرثرون في هذه الأمور، ما لنا وما لهم؟! الواقع لا يفرض نفسه علينا، ولا يجعلنا نتخطى المنهج السليم، أنا أقول: يجب على طلاب العلم أن يبينوا للناس أن هذه الأمور يجب ألا يتكلم فيها إلا أهلها وأن لا يجاروهم، وإذا اجتمعوا في المجالس يذكروهم بهذا الأمر، ويناصحونهم بأنه لا يجوز، وأنتم اشتغلوا فيما يسعكم وفي ذكر الله وما والاه، إلى غيره من الأمور التي تهم الناس.
إذاً: أنا أقول: فرق بين الواقع وبين مجاراة الواقع، أما أن يكون نشأ من عدم وجود من يتكلم فيها ويوضحها فهذا ليس صحيحاً على إطلاقه، وكنت أتمنى أن أكثر طلاب العلم إذا حضروا مثل هذه المجالس -كما قلت- أن يقرروا الأصول، لكن الحاصل أحياناً غير ذلك، وهذا ما أقصده، أنه أحياناً يحصل غير ذلك، أن طالب العلم يجاري مثل هذا الحديث ويشارك فيه ويكون له رأي يثرثر مع المثرثرين، هذا هو الذي أنا أخطئه وأرى أنها سمة ظاهرة، أنا لا أتكلم عن ظواهر أو أمور قد تحدث من شخص أو شخصين، أقول: إنها ظواهر كثيرة يعلمها الكثير من طلاب العلم فيجب علاجها، أما أن نتحكم في الناس أو نضبطهم هذا أمر قد لا ندركه، فالأمر لله من قبل ومن بعد، قد لا نستطيع، لكن نعمل ما يسعنا ولا نقع في الخطأ مجاراة للناس والله أعلم.
الجواب: سبق أن تكلمت في هذا الموضوع بقريب من هذا الكلام منذ خمس سنوات ومنذ سنتين ومنذ ثلاث سنوات، وبعض الكلام نشر لكن على غير هذا التصعيد أو على غير هذا السياق، وبعض هذا الشيء يوجد ضمن كتاب الخوارج الذي صدر أخيراً في (سلسلة الأهواء) الحلقة الرابعة، كما يوجد ضمن كتاب جديد اسمه (من قضايا الصحراء)، الفقرة الأخيرة منه في هذا الموضوع، طبعاً السلسلة مناسبة للعامة، أنا أتكلم الآن في مجلس أنا أقول: إنه من المجالس الخاصة، كلامي هذا لا أرى أنه ينشر إلا بتقعيد وتفصيل وعرض على المشايخ وأهل العلم، بتقعيد وتفصيل وببيان وبأسلوب يناسب عامة المخاطبين، لا يعني هذا أن ما أقوله لكم لا أرى أن يثار، لا، أرى أن يثار لكن يثار بما يناسب الناس، ما هو بكلام خاص، لكن التعبير والتقعيد الذي ذكرته أنا أظنه لا يناسب إلا أمثالكم من طلاب العلم.
وأما بالنسبة لصياغة مثل هذه الأمور بالأسلوب الذي يناسب عامة الناس فكما قلت، أنا بدأت به على شكل معالجات مناسبة في كتاب الخوارج وفي الكتاب الآخر، وربما إن شاء الله إذا تهيأ وقت، وإذا رأيت أن هذا مناسب بعد استشارة أهل العلم ومشايخنا الكبار أن مثل هذا الأمر ممكن أن ينشر؛ فلا حرج عندي..
الجواب: الذي فهمته أن قصد الشاطبي رحمه الله أن التكفير باللوازم أو التكفير بما يئول إليه القول لا يعني بالضرورة أن يكون كفراً من كل الوجوه، أو يكفر به صاحبه، لا سيما وأنه ينكر ذلك، ومثال ذلك أن تعطيل أسماء الله كفر، فلو فرعنا على هذه المسألة لقلنا: إن المؤول الذي أول صفات الله عز وجل يئول قوله إلى التعطيل، فهل يكون قوله كفراً لمجرد أن قوله يئول إلى التعطيل وهو قد لا يلتزم ذلك أو لا يعتقده؟! والجواب: أنه لا يلزم كل من قال بالتأويل -مع أن قوله يئول إلى التعطيل- أن يكون قوله كفراً ولا أن يكون كافراً، هذا ما فهمته من العبارة.
الجواب: كتاب الاعتصام في الجملة من أجود الكتب التي رسمت المنهج في كثير من مسائل العقيدة، خاصة فيما يتعلق بالأهواء والافتراق ونحو ذلك، وأغلب ما فيه يوافق منهج السلف، وصاحبه حريص على التزام منهج السلف الصالح، وقد وفق في كثير من الأمور في استقراء منهج السلف وتقعيده ووضعه على شكل مناهج وقواعد وأصول يمكن أن تكون مرجعاً لطلاب العلم، ومع ذلك فيه بعض المسائل التي خالف فيها السلف، لكنها مسائل معدودة هي أشبه بالزلات، ولا تدخل في المخالفات المنهجية، مثل مخالفته للسلف في مسألة التحسين والتقبيح، ومثل موافقته لبعض المتكلمين في بعض المسائل في الصفات وغيرها، فعنده بعض الأشياء التي هي أشبه بالاجتهادات التي لا تصل إلى حد أن نقول: إنه فارق أهل السنة في هذه الأمور أو في بعضها، فعنده زلات أشبه بزلات بعض الأئمة الذين خالفوا السنة ويعدون من أهل السنة ووافقوا المتكلمين في بعض المسائل أمثال النووي والبيهقي ونحوهما.
الجواب: هذه مقولة ليست صحيحة، بل لا يقول بها إلا صاحب هوى أو جاهل؛ لأن هذه الكلمة مطلقة تحتاج إلى قيود كثيرة، وإطلاقها بهذه الصورة لا يستقيم مع القواعد الشرعية؛ لأن جملة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) فيها حكم على الناس بالمجازفة، نعم هناك أمور لا شك أنها قد تنطبق على هذه القاعدة، لكن يجب أن يعبر عنها بغير هذا التعبير، فالكفار من اليهود والنصارى والمشركين لا شك أنهم كفار، ولا أظن مسلماً يجادل في ذلك، ومن تردد في هذا فهو إما جاهل وإما صاحب هوى ربما يكفر بذلك.
فهذه العبارة بهذا الحال مطلقة لم تقيد؛ مع أن هناك من يكون كفره كفراً عملياً، أو كفراً أصغر، أو كفراً في الخصال وليس كفراً في الاعتقاد، يعني: فيه خصلة كفر، فلا يصح أن نقول: من لم يكفره فهو كافر، فكل أصحاب المكفرات الذين لا يخرجون من الملة لا يصح في حقهم إطلاق أن من لم يكفرهم فهو كافر، وأكثر أنواع الكفر بين أهل القبلة من النوع الذي لا يخرج من الملة، مثل قتال المسلمين حيث سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذا كفر عملي غير مخرج من الملة، وكذلك تصديق الكاهن، وكذلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله في مسائل كثيرة هي كفر دون كفر، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في أحوال الكفر، والذي يطلق عليه الكفر منها لا يعني أن فاعلها كافر خارج من الملة، ولا أنه ليس من المسلمين، إنما هي من كبائر الذنوب التي تسمى كفراً من باب التغليظ أو من باب الكفر المجازي كما يقول بعض أهل العلم، أو من باب الكفر العملي غير الاعتقادي، أو الكفر بمعنى المعصية، وكل هذه ألفاظ صحيحة.
فهذه الكلمة على إطلاقها لا تصح، لا سيما في هذه الظروف وهذه الأيام التي كثر القول فيها، ووجد من الجهلة من يقول بمثل هذه اللوازم الخاطئة، أنه من لم يكفر الكافر فهو كافر، فالمهم أن القاعدة فيها نظر، وتحتاج إلى تفصيل، وأكثر من يطلقونها يطلقونها على معنى غير صحيح.
الجواب: هذه المسألة فيها خلاف كثير بين أهل العلم، فهل تارك الصلاة إذا كان يعتقد وجوبها وتركها كسلاً وتهاوناً يكفر كفراً يخرج من الملة أم لا؟
فالصلاة خصت بنصوص كثيرة في مسألة تاركها؛ لأنه وردت أحاديث كثيرة في كفر تارك الصلاة والتغليظ في ذلك، فلذلك اختلف أهل العلم، فمنهم من يقول: إن من تركها وداوم على تركها كافر، وكفره يخرج من الملة، وتترتب عليه أحكام الكافرين حتى وإن لم نتبين اعتقاده، ومنهم من قال: لا شك أن تركها من أعظم الذنوب، وأن من تركها متهاوناً يرتكب ذنباً عظيماً، لكن ما دام يعتقد أنها واجبة فلا يخرج من الملة، والذي عليه أغلب المحققين أن من ترك الصلاة بالكلية فلم يصلها أبداً؛ فإن هذا قرينة على أنه معرض عن شرع الله عز وجل وعن دينه؛ لأن الصلاة أعظم شعائر الدين، وأنه بذلك تجري عليه أحكام الكافر الخالص، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر