لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم فالراجح: أنه لا يجوز له أن يعيد الصلاة؛ لأن المسألة فيما يسوغ وما لا يسوغ، المسألة في الأمور الخلافية، وإلا ففيما أعلم أن القاعدة عند السلف أنه إذا صلى المأموم خلف إمام يخالفه في بعض الأمور الفقهية، ثم إن هذا الإمام عمل أموراً يرى هذا الذي صلى خلفه أنها فيها نظر -يعني: ليست من الأمور التي تبطل الصلاة، أو تبطل الصلاة عنده، لكنها اجتهادية بين أهل العلم- فلا يجوز له أن يعيد الصلاة، وسيأتي أمثلة لهذا.
فالأمور الاجتهادية لا يجوز للمأموم أن يعيد بسببها الصلاة فيما خالفه فيه إمامه، ولو كان في أمر يرى أنه يبطل الصلاة ما دام من الأمور الاجتهادية، وهذا هو الراجح حفاظاً على معنى الجماعة، وتجنباً للفرقة.
[ ولو علم أن إمامه يصلي على غير وضوء فليس له أن يصلي خلفه، لأنه لاعب وليس بمصل ].
هذه محل إجماع وليست من الأمور الخلافية.
هذه قاعدة عظيمة، ومن القواعد التي يحتاجها المسلمون في كل مكان وفي كل زمان، ولو امتثل المسلمون هذه القاعدة لانحل كثير من الخلافات بينهم، ولما وجد كثير مما يوجب النزاعات وشحناء القلوب والفرقة واضطراب الأمور عند المسلمين فيما بينهم، لا سيما في وقتنا هذا، حيث نرى بعض مظاهر المخالفة لهذه القاعدة قد تؤدي أحياناً بمجتمعنا وبكثير من المجتمعات الإسلامية إلى أمور مفاسدها تضر بالإسلام والمسلمين، وتضر بالأمة في مجموعها فضلاً عن ضررها اللاحق بالمتنازعين.
فكثيراً ما نجد بعض المجتهدين في الحسبة أو غيرها قد يصدر عمن يعد مسئولاً أو يعد مرجعاً لهم ما لا يعجبهم من الأحكام أو القرارات، فتجد الواحد منهم متذمراً، وربما يحتال بكل حيلة للخروج من هذه الأوامر، وربما يعلن المعارضة ويفت في عضد من حوله ممن يعملون لمصلحة الإسلام والمسلمين.
أقول: إن هذه الأمور موجودة -مع الأسف- عند بعض المنتسبين إلى الخير، فقد لا يعجبهم رأي يصدر عن شيخ لهم أو عن مسئول، أو عن مرجع، فلا يعملون بهذه القاعدة، بل يعملون بالعكس، فربما ينكرون الإشكالات بدعوى أن هذه أمور تؤدي إلى مفاسد، وربما تفسر كثير من الأعمال والقرارات وغيرها بتفسيرات فيها حكم على القلوب ونحو ذلك.
فلنتأمل هذه القاعدة، وأرى أنه يجب علينا جميعاً أن نمتثلها، وأن نعود أبناء المسلمين على مثل هذا الأمر فإن مصلحة الجماعة مقدمة، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية، فيجب أن نتعود ونعود من حولنا على مسألة الطاعة لمن اجتهد في موارد الاجتهاد.
فالشارح يقول بأن إمام الصلاة، وأمير الحرب، وعامل الصدقة، ويقاس عليهم كل مسئول تحت إدارته من يعمل من المسلمين يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف خير من الفرقة، وهذه القاعدة العظيمة كثيراً ما تحدث النزاعات بين المسلمين بسبب إهمالها أو تركها أو جهلها، فيحسن التركيز على مثل هذه القاعدة، خاصة في وقتنا الذي كثرت فيه الآراء والاجتهادات والنزاعات بين المسلمين، وكثرت الفرقة والاختلاف والنزاع في مثل هذه الأمور التي ينبغي أن يتعود فيها المسلم على الصبر، واحتمال الرأي المرجوح عنده ما دام صادراً ممن له ولاية عليه، بل يجب ما هو أكثر من ذلك؛ لأن المسلم إذا رأى أن كلامه يخالف هذه القاعدة -حتى لو لم يعمل ما يناقضه- فيجب عليه أن يسكت للمصلحة ودرء المفسدة.
قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض.
ويروى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لما حج مع هارون الرشيد فاحتجم الخليفة وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لـأبي يوسف : أصليت خلفه؟! قال: سبحان الله! أمير المؤمنين! يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع ].
يظهر أن أبا يوسف يرى عدم جواز الصلاة بذلك، ويرى وجوب الوضوء بعد الاحتجام، ومع ذلك صلى ولم يعد الصلاة، ولما قيل له ذلك قال هذا الكلام العظيم، الذي هو قاعدة: سبحان الله! أمير المؤمنين! يعني: أترك الصلاة خلف أمير المؤمنين لمجرد مخالفة في أمر اجتهادي.
[ وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه، لا على المأموم، والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظوراًً اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به، فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد.
يعني: من أهل القبلة من المسلمين، فيخرج بذلك الكفار الخلص، وقد يسمون فجاراً، فالمقصود أن أهل القبلة أبراراً كانوا أو فجاراً يجب أن يصلى عليهم وتشهد جنائزهم ويدفنوا في مقابر المسلمين.
قال رحمه الله تعالى: [ وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطاع الطريق، وكذا قاتل نفسه ].
هذه فيها خلاف؛ فبعض أهل العلم قالوا: قد يكون أهل البدع المكفرة متأولة، وكذلك قطاع الطريق قد يكونون من الجهلة أو نحو ذلك، فهؤلاء يصلى عليهم، وبعضهم يرى عدم الصلاة، والمسألة خلافية.
قال رحمه الله تعالى: [ خلافاً لـأبي يوسف ، لا الشهيد خلافاً لـمالك ، والشافعي رحمهما الله على ما عرف في موضعه.
لكن الشيخ إنما ساق هذا لبيان أنا لا نترك الصلاة على من مات من أهل البدع والفجور، لا للعموم الكلي.
ولكن المظهرون للإسلام قسمان: إما مؤمن، وإما منافق.
فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له، ومن لم يعلم ذلك منه صلي عليه، فإذا علم شخصٌ نفاق شخص لم يصل هو عليه، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه ].
لذلك ينبغي التنبيه على مسألة كثيراً ما يرد عنها السؤال، وهي أنه إذا كان إنسان يعرف أن أحد المسلمين عمل عملاً يخرجه من الملة، يعني: يعرف أنه منافق خالص في النفاق، فهل يجوز له أن يعلن للناس أنه لا تجوز الصلاة خلفه؟
والصحيح: أنه ما دام مستور الحال فلا يجوز له الصلاة خلفه، ويجب ألا يتكلم، بل يترك الأمر على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله وكان الصحابة يفعلونه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا علم نفاقاً في أحد تركه، ولم يقل للناس: لا تصلوا عليه.
أقول هذا لأنه كثيراً ما ترد أسئلة في هذا الموضوع، حيث يقول المرء: أنا أعرف أن فلاناً الميت فيه كذا وكذا، كأن يكون -مثلاً- تاركاً للصلاة بالكلية، أو نحو هذا، فهل أقول للناس: لا تصلوا عليه؟
أقول: لا؛ بل نسكت عنه ما دام أن الناس لا يعرفون حاله، فدع الأمر على ما هو عليه، فيصلي عليه على أساس أنهم يجهلون حاله، وأنت ما دمت تعرفه لا تصل عليه، وإذا قال لك أحد ممن لا يعرفه: ما رأيك؟ تقول: أرى أنك لا تصلي عليه، مع أنه هذه المسألة مسألة خلافية، لكن أن تعلن أو أن تشهد أو أن تقول للناس: لا تصلوا عليه؛ فهذا لا يجوز، ولا ينبغي، وهو خلاف السنة.
قال رحمه الله تعالى: [ وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة ؛ لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين، وقد نهى الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وأخبر أنه لا يغفر لهم باستغفاره، وعلل ذلك بكفرهم بالله ورسوله، فمن كان مؤمناً بالله ورسوله لم ينه عن الصلاة عليه، ولو كان له من الذنوب الاعتقادية البدعية أو العملية الفجورية ما له، بل قد أمره الله تعالى بالاستغفار للمؤمنين، فقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].
فأمره سبحانه بالتوحيد والاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات، فالتوحيد أصل الدين، والاستغفار له وللمؤمنين كماله، فالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسائر الخيرات إما واجب وإما مستحب، وهو على نوعين: عام وخاص، أما العام فظاهر، كما في هذه الآية، وأما الدعاء الخاص فالصلاة على الميت، فما من مؤمن يموت إلا وقد أمر المؤمنون أن يصلوا عليه صلاة الجنازة، وهم مأمورون في صلاتهم عليه أن يدعوا له، كما روى أبو داود ، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) ].
يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار ].
يعني: على سبيل الجزم، ينبغي أن يفهم هذا؛ لأنه يجب أن نفرق بين الحكم العام، وبين الحكم على المعين أو للمعين.
أما الحكم العام بأن المؤمنين من أهل الجنة فهذا نجزم به إن شاء الله، ونشهد أن المسلمين والمؤمنين من أهل الجنة، هذا حكم عام قطعي، ولا شك فيه، وأن الكفار الخلص من أهل النار، وهذا أيضاً حكم قطعي يجب أن يعتقده كل مسلم.
ومن الأمور التي قد تخفى على كثير من الناس اليوم -بل اختلط فيها بعض من يدعون الثقافة والفكر والعلم أحياناً- مسألة الكفار الخلص، فالكفار الخلص لاشك أنهم من أهل النار، فاليهود والنصارى والمشركون والمنافقون الخلص والملاحدة من أهل النار جزماً، هذا الحكم العام، فنجزم بأنهم من أهل النار كما نجزم بأن المسلمين المؤمنين هم أهل الجنة، فالحكم العام أمر لا بد من اعتقاده.
لكن الحكم على المعين هو الذي يجب أن يتحرز فيه المسلم، وهو أن تقول: فلان ابن فلان من المسلمين من أهل الجنة جزماً، تعتقد ذلك وتقسم عليه، فهذا لا يجوز، وكذلك العكس، فلا تجزم بأن فلاناً ابن فلان -وإن كان كافراً خالصاً- من أهل النار، بحيث تتألى على الله عز وجل، أو تقسم على ذلك، فهذا مما لا يجوز.
إذاً: فرق بين الحكم العام الذي هو قطعي، وبين الحكم على المعين الذي هو أمر غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل.
وقد ميز الله بين المسلمين والكفار، وبين من يستحق الجنة ومن يستحق النار، لكن يبقى التخصيص في المسلمين هل كلهم يدخلون الجنة من أول وهلة أم أن منهم من قد يدخل النار -وهم أهل الكبائر إذا لم يغفر الله لهم- ثم يخرجون من النار إلى الجنة؟ هذا أمر تفصيلي معلوم، لكن مصير جميع المسلمين في الجملة إلى الجنة، ومصير جميع الكفار في الجملة إلى النار، ويبقى المعين، فهذا أمر لا بد فيه من الاطلاع على الغيب، ولا يطلع على الغيب إلا الله عز وجل، إلا من ورد ذكره بالنص، فمن شهد له الله عز وجل أو شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة وجبت الشهادة له، ومن جاءت الشهادة له بالنار -عياذاً بالله- وجبت الشهادة له بذلك إذا ذكر تعيينه.
قال رحمه الله تعالى: [ يريد أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار، إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم؛ لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسنين، ونخاف على المسيء ].
أحدها: أن لا يشهد لأحد إلا للأنبياء، وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية ، والأوزاعي .
والثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث.
والثالث: أنه يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون، كما في الصحيحين: (أنه مر بجنازة فأثنوا عليها بخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ومر بأخرى فأثني عليها بشر، فقال: وجبت -وفي رواية كرر (وجبت) ثلاث مرات- فقال
وقال صلى الله عليه وسلم: (توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيئ)، فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار ].
هذا على سبيل القرائن والعلامات، ولا نقول بالجزم، يعني: يعرف أهل الجنة بقرائن وعلامات، وترجى لهم الجنة بذلك، ويعرف أهل النار بقرائن وعلامات، ويخشى عليهم.
أما الجزم فإن هذه الأدلة لا تدل على الجزم، لكن ما ورد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هذه القصة توقيفي لنعلم أنه لا يمكن أن يقوم أحد مقام النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الشهادة للمعين، فينبغي ترك الشهادة للمعين، وتبقى شهادة المؤمنين قرينة فقط، أما الجزم فلا نستطيع أن نجزم، فعلى هذا يكون الرأي الثاني هو الرأي الصحيح، وهو الذي تتجه إليه الأدلة، ودليل أصحاب القول الثالث إنما هو مظنة، والظن في هذه الأمور لا يصح.
لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]... الآية، وقال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36] ... الآية ].
قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف):
قال الشارح في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ].
من أصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون على أحد من المسلمين بالكفر، ولا بالشرك ولا بالنفاق، إلا إذا تبين شيء من ذلك، يعني: توافرت شروط وقوع الكفر من الشخص وانتفت الموانع، وتوافر الشروط يزيد وينقص، أي: شروط وقوع الكفر بحسب حال الشخص، وبحسب الزمان وبحسب المجتهد.
فعلى هذا لا يتأتى لأكثر أفراد المسلمين أن يحكموا على أحد بالكفر؛ لأنهم ليسوا من أهل العلم، لأن شروط التكفير لا بد من إدراكها إدراكاً جيداً بفقه تراعى فيه قواعد الشرع، وتراعى فيه النصوص الشرعية، ويراعى فيه حال الشخص، ويراعى فيه أسلوب إقامة الحجة، ويراعى فيه معرفة إقامة الدليل وكيف يكون.
ثم لا بد أيضاً من معرفة تامة، فلا يمكن أن نحكم على معين إلا بعد أن تنتفي الموانع، فالإكراه قد يعذر به، والتأول قد يعذر به، والجهل قد يعذر به، وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي لا يعرفها إلا أهل العلم.
ولذلك فإن مسألة التكفير من المسائل الخطيرة التي يجب ألا يتناولها إلا أهل العلم، ويجب أن نفهم أنا لسنا متعجلين بها، وأن عامة الناس وكثيراً من طلاب العلم ليس عليهم أن يبحثوا عن أحوال الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول، ليس عليهم ذلك، بل هذه الأمور ترجع إلى أهل العلم الراسخين، وأنهم ما تعبدوا بإشهار الكفر وإعلانه، وأن الحكم بالكفر حكماً عاماً أمر يختلف عن الحكم على المعين اختلافاً كبيراً، فكثير من الأمور التي يكون فعلها كفراً، أو قولها كفراً، أو اعتقادها كفراً؛ لا يحكم على من فعلها بأنه كافر، ولذلك نجد أن السلف كثيراً ما يطلقون الكفر على الحالات والأقوال والاعتقادات، لكن يندر جداً حكمهم بالكفر على المعين.
أقول: يندر جداً، بل إن بعض الأئمة لم يؤثر عنه أنه كفر أحداً حتى وقت اشتداد الأهواء وشدة أهل البدع وتسلطهم على المسلمين، فإنا لا نعرف من الأئمة من حكم على المعين إلا في حالة نادرة، وكثير من أئمة الهدى -وما أكثرهم- لم يؤثر عنهم تكفير المعين.
إذاً: المسألة خطيرة، فلا تجوز الشهادة من طائفة أو جماعة على المعين بكفر ولا بشرك ولا بنفاق إلا بعد معرفة الأصول الشرعية بذلك، وليس كلما يعرف يقال، فليس كل من تناول هذه الأمور يستطيع أن يصل فيها إلى الحكم بالكفر القاطع، وبعض الأشياء لا يحكم بها الفرد، إنما لا بد من توافر اجتهاد المجتهدين، خاصة في الحالات التي تتعلق بالمصالح الكبرى، وفي الأمور التي ينبني عليها الحكم على جماعات أو أفراد أو أمم أو مجتمعات.
وكذلك قوله: (لا نرى السيف على أحد من محمد صلى الله عليه وسلم) هذه قاعدة عامة، تشمل الأفراد والجماعات والولاة وغيرهم، فلا يجوز رفع السيف إلا فيما أباحه الله عز وجل.
الجواب: في الجملة نعم، لكن ما يجزم عليه، الحكم العام غير الجزم وغير الشهادة، ولذلك إذا تكلم الناس عن معين أصل كلامهم في هذا الأمر ليس بمشروع، إذا مات كافراً وخاض الناس هل هو من أهل النار أو لا؟ أصلاً غير مشروع، إذا مات يهودي فقل: اليهود من أهل النار ولا داعي أن نحكم على المعين.
ولذلك لما هلك أحد زعماء اليهود منذ أشهر خاض الناس في المسألة خوضاً يدل على أن الناس بدءوا يجهلون البدهيات، ولا يجدون من يعلمهم، فبدءوا يتجادلون ويتعادون أحياناً، فبعضهم يقول: لا نشهد له بالنار، وبعضهم يقول: نشهد له بذلك جزماً! وهو يهودي، واليهود من أهل النار، لكن بعينه لا نتكلم فيه، فما أمرنا بهذا، وليس هذا من الأمور التي كلف بها العباد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر