وقال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103].
قال القرطبي : قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة؛ فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها.
قال: وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يحتمل أن يكون ثَمَّ موازين متعددة توزن فيها الأعمال، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة، والله أعلم.
وفي سياق آخر: (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة) الحديث.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود : (أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تدفعه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ممَ تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله! من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من أحد).
وقد وردت الأحاديث أيضاً: بوزن الأعمال أنفسها، كما في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان).. الحديث.
وفي الصحيحين -وهو خاتمة كتاب البخاري - قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً).
فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام، فإن الله يقلب الأعراض أجساماً كما تقدم، وكما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالموت كبشاً أغبر، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، ويقال: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح، ويقال: خلود لا موت)، ورواه البخاري بمعناه.
فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.
فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان.
ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده، فلا أحد أحب إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه؟ فتأمل قول الملائكة لما قال الله لهم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].
وقال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].
وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام القرطبي رحمه الله: أن الحوض قبل الميزان والصراط بعد الميزان، ففي الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة).
وجعل القرطبي في التذكرة هذه القنطرة صراطاً ثانياً للمؤمنين خاصة، وليس يسقط منه أحد في النار، والله تعالى أعلم ].
الجواب: الصراط لا يتجاوزه إلا المؤمنون، لكن جميع البشر يمرون على الصراط، وقد ورد في بعض النصوص أن هناك من المسلمين ومن المؤمنين من لا يمرون بالصراط، لكن هذا مرجوح، والصحيح أن جميع البشر يمرون بالصراط، لكنّ المؤمنين يتجاوزون الصراط ويقطعونه دون أن يتكردسوا في النار نسأل الله العافية، أما الكفار والمنافقون وأهل الكبائر، الذين قدر الله عليهم أن يعذبوا، فإنهم يتكردسون في جهنم بعد أن يكونون على الصراط.
وما أشار إليه القرطبي كلام مرجوح، وجه به بعض النصوص، لكن الصراط العام الذي ورد ذكره في عموم النصوص هو الذي يمر به جميع البشر، لكن لا يتجاوزه ولا يقطعه وينجو منه إلا من أراد الله له ذلك، وهم المؤمنون.
الجواب: الحديث الذي ذكر أن كل أمة تصور لها ما كانت تعبد، ثم تتبعه وتسقط في جهنم، هذا سقوط جماعي، ما فيه دلالة على نوعية السقوط في الصراط، وأيضاً ما ورد أن قوم فرعون يردون معه جهنم، وأن أهل النار يدخلونها زمراً، وأنهم يساقون من قبل الملائكة، كل هذه مشاهد لا تتناقض، بمعنى أنه لا يمنع أن يكون ذلك إما بعد الصراط مباشرة أو قبل الصراط على نحو جماعي.
والصراط هو مرحلة من المراحل وهو على متن جهنم، فلا تعارض بين النصوص؛ لأن هذه مسألة غيبية، لا يمنع أن يكون هذا وهذا، وأن هذه الأمور تعد مراحل يمر بها العباد، كما أن الحشر نفسه فيه بعث ثم وقوف ثم عرض ثم حساب ثم صحف، والصحف نوعان: منها: الصحف الخاصة التي هي أشبه بالشهادات، ومنها: الصحف التي هي السجلات، ثم وزن، وبعد ذلك يأتي تقسيم الناس إلى أصناف، وكل صنف يذهب على حدة، فالأمور التي تدل على ما يحصل للأفراد لا تتعارض مع الأمور التي تدل على ما يحصل للناس كجماعات وكأمم، فإنها مشاهد من مشاهد القيامة وحلقات من حلقاتها الله أعلم بتفاصيلها.
الجواب: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجميع سيردون، لكن كيف هذا الورود؟ هذا هو الذي لا نستطيع أن نتحكم به في أذهاننا؛ فهو ورود غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، فعلى هذا لا يمكن أن نقصر الأمور على كيفيات معينة، وربما يكون الورود وروداً عاماً وورداً خاصاً، وما ورد من أن هناك من المؤمنين من لا يحاسبون، وهم في ظل الله عز وجل، فهذا لا يمنع من أن يكون هذا نوعاً من الجزاء، وأنهم حين يمرون على الصراط على متن جهنم يمرون ولا يشعرون، فالذين يمرون كالبرق هم بمثابة من لا يمرون، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم؛ لأن لمحة البرق لا تشعر الإنسان بأنه مر على شيء، فيجمع بين النصوص على هذا النحو، أو كل نص يكون له معنى، وما دام من الأمور الغيبية فلا يجوز أن يتوهم التعارض.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر