المفاهيم الجزئية تحتاج إلى وقت طويل؛ نظراً لأهمية هذا الموضوع في عصرنا، ونظراً لاختلال مفاهيم كثير من المسلمين عن الجماعة في عصرنا، مما ترتب عليه الخوض في الكثير من المسائل التي تتعلق بحقوق الجماعة ومعانيها، وتتعلق بعدم إدراك المخاطر في الفرقة والشذوذ.
سنتحدث الآن عن المفهوم العام للجماعة، الجماعة المقصود بها القوم المجتمعون على أمر ما.
والجماعة في الشرع: هم جماعة المسلمين.
وتتحقق جماعة المسلمين العامة بعدة صور.
من صورها: الاجتماع على الحق، أي: على الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن صور الجماعة: الاجتماع على الإمام أو الوالي.
ومن صور الجماعة: الاجتماع على مصلحة من مصالح الأمة العظمى.
ومن صور الجماعة: الاجتماع على أصول الدين الظاهرة، مثل: الاجتماع على الصلاة، والاجتماع في الجمعة، والاجتماع في العيدين، والاجتماع في الحج.
من صور الجماعة: الاجتماع على الجهاد.
ومن صور الجماعة: الاجتماع على الأمر بالمعروف والنهي عنه.. ونحو ذلك من مصالح الأمة.
ومن صور الجماعة: اجتماع عامة المسلمين وخاصتهم على أي أمر من الأمور التي تجلب لهم مصلحة، أو تدفع عنهم مفسدة.
وتتمثل الجماعة أيضاً بكل زمن، وبكل حال، وبكل مكان، وكل وضع، بحسب الحال الذي عليه أمر المسلمين، فأحياناً تكون الجماعة متمثلة في الخليفة ومن معه من أهل الحل والعقد، أو الإمام أو الوالي أو السلطان ومن معه من أهل الحل والعقد، وهذا هو الأغلب في صور الجماعة العامة التي تحقق المصالح العظمى للأمة، فمن أعم المعاني أن كون الجماعة تتمثل بمن له ولاية المسلمين العامة، ومن تحت إمرتهم من العلماء والولاة والقواد والوجهاء ورؤساء العشائر والمسئولين والوزراء، ومن جرى مجراهم ممن رأيهم مؤثر في مصالح الأمة، وهذا من أجمع المعاني العامة للجماعة في مفهومها العملي العام.
فمن هنا لا اعتبار لهم من حيث النوع، إنما الاعتبار لهم من حيث العدد ومن حيث الوجود.
فإذاً: قد يعد أحياناً أهل الأهواء فيما يتعلق بالضرورات من الجماعة، في أمور ضيقة محدودة، وهذا مما ينبغي أن يفقهه كثير من الدعاة الذين لا يفرقون بين دخول أهل الأهواء في مفهوم الجماعة عند الحالات الضرورية، وبين خروج أهل الأهواء من الجماعة، حتى أهل الذمة في البلاد الإسلامية يجب عليهم أن يشاركوا في درء الخطر عن المسلمين، الدرء الذي يلزم بالجميع، فمن هنا قد يشملهم مسمى الجماعة بالتبع لا بالأصالة.
أولاً: الجماعة في اللغة: هي من الاجتماع ضد الافتراق، يقال: تجمع القوم إذا اجتمعوا من هنا وهناك، أي ائتلفوا من بعد تفرق، ويقال: جمع المتفرق، أي ضم بعضه إلى بعض، ويقال: جمع فلان القلوب إليه، أي: ألفّها.
والجماعة كذلك: هي اسم لجماعة الناس، والجمع مصدر لقولك جمعت الشيء.
وكذلك الجمع قد يطلق على المجتمعين، يقال: هذا جمع من الناس، أي: جماعة مجتمعة.
والجمع قد يجمع على جموعه كذلك، والجماعة والجميع والمجمع والجمع كلها بمعنى واحد.
والجماعة في اللغة إذا أريد بها جماعة الناس، فهم القوم المجتمعون على أمر ما.
قال الفراء : إذا أردت جمع المتفرق، قلت: فهم مجموعون، وكذلك قد تطلق الجماعة على الإجماع، وهو الاتفاق والإحكام، يقال: أجمع الأمر أي: أحكمه، فالجماعة قد تطلق على هذا المعنى، بمعنى أن أمورها محكمة، وأنها مجتمعة على ما يقتضي قوتها واجتماعها.
وفي الغالب أن الجماعة في ذهن السامع الفاهم للعربية تعني: العدد الكثير، والطائفة من الناس التي يجمعها غرض واحد، سواء اجتمعت في زمان ومكان واحد، أو لم تجتمع، فقد تطلق الجماعة على من تفرقوا في البلاد، لكن اجتمعوا على أمر ما، كجماعة أهل السنة والجماعة.
وقد تطلق الجماعة أيضاً على من كانوا على غرض واحد في أزمان متفرقة، وعلى هذا فإن الجماعة سميت جماعة؛ لأنها تعني الاجتماع، وضد ذلك الفرقة.
هذا من أجمع التعريفات لمعنى الجماعة بمعناها العام، ومع ذلك فإن إطلاق الجماعة ورد في الشرع على عدة معان، من تأمل هذه المعاني عرف فقه النصوص في الأمر بالجماعة، والنهي عن الفرقة.
يقول الشاطبي في هذا المعنى: إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين، وأرسوا كتابه، وهم الذين لم يجتمعوا على ضلالة أصلاً، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك، أي الإخلال بهذه الأصول.
ولعل الجماعة هنا هي المقصودة بما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً)، وقال: (يد الله على الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)، هذا حديث صحيح ما عدا عبارة: (فاتبعوا السواد الأعظم) فالأرجح أنها ضعيفة.
والصحابة هم جماعة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرت، وفي عهد الخلفاء الراشدين، فهم أحسن وأمثل معنى ينطبق عليه معنى الجماعة.
نحن قلنا: إن أمثل معنى وأدق إطلاق للجماعة هو عهد الصحابة رضي الله عنهم، لكن هذا إطلاق قد يختلف فيمن بعدهم، حينما ظهرت الفرق، فعلى هذا يأتي تعريف أدق لحال المسلمين بعد الصحابة، يخصص الجماعة بمعنى يصف حال المسلمين بعد الافتراق، وهو أن كون الجماعة هم أهل العلم أئمة الدين والهدى المقتدى بهم، وأتباعهم الذين هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة، الذين يعملون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعون إليها، ومن سلك نهجهم، واتبع سبيلهم، وهؤلاء هم المقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه الذين هم جماعة المسلمين الأولى، فمن كان على نهج جماعة المسلمين الأولى فهم الجماعة، وهم أهل السنة والجماعة، وكل جماعة هي امتداد لجماعة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فهي أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية التي نوه عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، في الحديث الذي رواه عوف بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما رضي الله عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتين وسبعين في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة).
وهذه هي الجماعة وإن قلَّت؛ لأنه لا اعتبار للكثرة بعد وجود الافتراق؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: إنما الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل وإن كنت وحدك.
وعلى هذا فإن الذي لم يكن على السنة لا يدخل في تعريف الجماعة مهما كثر عددهم.
وفي هذا المعنى أيضاً يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله لما سئل عن الجماعة، قال: أبو بكر وعمر ، فقيل: قد مات أبو بكر وعمر ، قال: ففلان وفلان، قيل: قد مات فلان وفلان، قال ابن المبارك : أبو حمزة السكري جماعة، وهو يشير بذلك إلى هذا الرجل الذي عرف بالفضل والاستقامة، وأبو حمزة السكري هو محمد بن ميمون المروزي المتوفى سنة (162هـ)
فقال عنه ابن المبارك : بأنه جماعة أي: أنه رجل مستقيم على السنة، وكان على منهج السلف الصالح، من المشهورين بتتبع سبيل السنة والجماعة أهل الحق.
إذاً: فالعبرة ليست بكثرة العدد بعد الصحابة، إنما باتباع السنة، وترك الابتداع.
والجماعة في هذا الحديث تعني: اجتماع أهل الحق على مصالحهم العليا، ويؤيد ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة).
وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه لما سئل عن الفتنة قال: عليك بالجماعة؛ فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ثم قال: إياك والفرقة؛ فإن الفرقة هي الضلالة.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذي تحبون في الفرقة.
وهذه قاعدة ذهبية عظيمة يجب أن يتوخاها طالب العلم، وأن يعلمها الناس، وأن يلقنها طلاب العلم؛ لأنها من أعظم القواعد التي تفيد عند الفتن والخلاف بين المسلمين، قال: (إن الذي تكرهون في الجماعة) أي: ما يحدث مما تكرهونه مما تجتمع عليه الكلمة، خير من الذي تحبون أو تميل إليه عواطفكم أو عقولكم، ما دام يؤدي إلى الفرقة، وما أحوج الناس وطلاب العلم بخاصة في هذا الوقت إلى هذه القاعدة العظيمة.
إذاً: يجب أن تحافظوا على الجماعة، ولو حدث ما تكرهون، فاصبروا على ما تكرهون تفادياً للفرقة، ولو ظننتم أن في الفرقة وصولاً إلى ما تحبون.
ليس المقصود ما تكرهون من الأمور التي لا تشتهي أنفسكم، أو ما تحبونه مما تشتهون، لا، إنما المقصود ما تحبونه في دين الله عز وجل، وما تكرهونه من الأمور التي تروا أنها ضد الدين، فيجب أن يكون هم المسلم أن تبقى الجماعة ولو على أدنى خيط من الاجتماع، فذلك خير من التهور، أو الوقوع في أمور قد تكون فاضلة ومطلوبة، وقد تكون محبوبة للنفس، لكنها لا تضمن معها الجماعة، وربما تؤدي إلى الفرقة.
وكذلك يؤيد هذا قول علي رضي الله عنه في مسألة بيع أم الولد، يخاطب الصحابة في عهده، قال: اقضوا ما كنتم تقظون؛ فإني أكره الاختلاف، حتى يكون للناس جماعة.
كأنه يقول: أنا أسلِّم لكم رغم أن لي رأياً أرى أنه هو الحق؛ لكن نظراً لأن الناس في فرقة، ويخشى عليهم الفتنة فقال: اقضوا ما كنتم تقضون، حتى يكون للناس جماعة.
وكذلك يؤيد هذا قول عبيدة بن عمرو السلماني رحمه الله، لـعلي رضي الله عنه، يقول: رأيك ورأي عمر في الجماعة، أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة.
وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض الكلام عن طريق أهل السنة والجماعة، حيث قال: وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضده الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين.. إلى آخر الكلام.
وبعض الناس يظن أن الجماعة لا تكون إلا في أمر الدين، لا، بل الدين جاء لحفظ دنيا الناس ومصالحهم، فالأمور التي تحفظ دنيا الناس، وتحفظ أعراضهم وأموالهم، وتؤمن سبلهم إذا لم يتم الاجتماع عليها أدى ذلك إلى فتنة في أعراض الناس وأموالهم ودمائهم وأنفسهم.. ونحو ذلك.
إذاً: فمصالح المسلمين الدنيوية والدينية كلها معتبرة في الجماعة، فإذا اجتمع عامة المسلمين أهل الحل والعقد على مصالحهم العظمى، وجب الخضوع لهذا الاجتماع وإن كان مرجوجاً، ووجب الاستمساك به، وعدم الفرقة عنهم في أي أمر من الأمور التي فيها مصالح، فإن الشذوذ عنهم ومخالفتهم هلكة وشقاق، وخروج عن الجماعة.
ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري في الجامع الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني)، ثم ذكر شيئاً من الفتن فقال: حذيفة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: (فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) فأوصاه أولاً بأن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم على كل حال، فإن فرض أن ليس هناك جماعة للمسلمين ولا إمام، فلا ينبغي للمسلم أن يتصدر وأن يبرز برأي تزيد به الفرقة؛ لأن الناس إذا كانوا في الفرقة، فالرأي الذي يتبناه الشخص دون أن يكون للمسلمين جماعة، يكون زيادة في الفرقة، فإذا كان للناس عشرة آراء وكان له رأي مخالف زادهم فرقة، فيكون الرأي الحادي عشر.. وهكذا.
فإذاً: لا بد أن يبقى ولو أدنى حد من جماعة المسلمين، والاجتماع على أئمتهم، وهنا يكونون الجماعة، وأن المخالفة في هذه الأمور تؤدي إلى الفرقة، فإن لم يكن هناك جماعة للمسلم ولا إمام، فالمسلم يسعه الاعتزال، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بالاعتزال في هذه الحال.
وكذلك حديث أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يد الله على الجماعة) وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى من أميره ما يكره فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، مات ميتة جاهلية).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة) مثل حديث أسامة بن شريك .
وحديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فجعل ترك الجماعة ومفارقتها مقارناً لترك الدين، وجعل حكمهما واحداً، سواءً اجتمعا أو افتراقا.
والمراد به: أن من ترك جماعة المسلمين، فإنه يعاقب معاقبة التارك لدينه.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت : (ثلاث خصال لا يغل عليهما قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم).
وقال الطبري فيما حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج من الجماعة.
فأكثر نصوص الجماعة التي وردت في السنة إنما تنصرف إلى هذه المعاني، أي: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على مصلحة من مصالحهم العظمى، كالاجتماع على أمير، أو أمر من أمور دنياهم أو من أمور دينهم، فهم ممثلون بأغلبهم، أو بعلمائهم أو بأهل الحل والعقد بمجموعهم، وأهل الحل والعقد وأهل الرأي أحياناً يكونون من عدة أصناف، قد يكون أهل الحل والعقد هم العلماء، وقد يكون أهل الرأي والمشورة من أهل العلم، وأحياناً يكون أهل الحل والعقد في الأمة من الأمراء، ورؤساء العشائر، والتجار، وأصحاب المحسوبيات.. وغيرهم.
فمعنى أهل الحل والعقد: هم الذين بأيديهم حل أمور الأمة وعقدها، في أمور دنياهم خاصة إذا ضعف الدين في الناس، فأهل الحل والعقد لا بد من اعتبار ما يجتمعون عليه؛ لأنه لا يمكن استقامة أمر الناس في دينهم ودنياهم إلا على ذلك؛ لأنه لا يمكن تحقيق الدين إلا بأمن واستقرار، ولا يمكن تحقيق الدين إلا بجماعة، ولا يمكن تحقيق الدين أيضاً إلا بطاعة على المنشط والمكره، على ما يحب الناس وما يكرهون.
إذاً: من أعظم معاني الجماعة في مصالحهم العظمى إذا ضعف الدين فيهم بعد الخلافة الراشدة الاجتماع على السلطة، وهذا ما أدركه السلف في جميع مراحل التاريخ وجهله غيرهم، ولذلك من الفوارق بين أهل السنة والجماعة وبين أهل الأهواء هذا الفهم، وهذا الإدراك في معنى الجماعة.
وفي حديث جندب بن عبد الله قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة) يعني: إذا حزبك أمر تخاف منه فافزع إلى الجماعة من حولك، جيرانك، جماعة المسجد، جماعة الجهاد، جماعة الحسبة، أو من حولك ممن يطلق عليهم السنة والجماعة في النطاق الذي أنت فيه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة، والصبر، والسكينة، إذا قاتلنا).
وكذلك قول البخاري في الصحيح: (باب اثنان فما فوقهما جماعة) قصده في الصلاة، ويقاس عليها غيرها.
إذاً: تطلق الجماعة على مجموع تلك المعاني أو بعضها أو أكثرها بحسب أحوال الأمة، لكن كما قلت: أغلب ما تنصرف ألفاظ الأمر بالجماعة والاعتصام بها إلى الجماعة الكبرى، وأغلب ما تنصرف ألفاظ النهي عن الشذوذ عن الجماعة، وأنها فرقة من الدين إلى الجماعة الكبرى، والجماعة الصغرى لا شك أن مخالفتها أحياناً تكون مكروهة، وأحياناً تكون محرمة ومن كبائر الذنوب، لكن لا تصل إلى حد الفرقة الكبرى، فمثلاً: المسلم إذا ترك جماعة المسجد، وصلى مع جماعة أخرى، يكون قد ارتكب ذنباً، أو ترك جماعة المسجد بالكلية يكون قد ارتكب كبيرة، لكن ما يعد من الفرق الضالة إلا إذا خالف في مفهومات الجماعة الكبرى، فأي مسلم يشذ عن الجماعة في مفهوم الجماعة الكبرى يكون عمله افتراقاً، لكن إذا شذ عن الجماعة في مفهوماتها الصغرى، في المصالح الجزئية، أو افترق عن جماعة المسجد يكون عمله بحسب حاله، قد يكون كبيرة من الكبائر التي يعزر عليها، لكن لا يصل إلى حد يوصف بأنه مفارق للجماعة المفارقة العقدية، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: إذا كانت الجماعات تقصد بالاستدلال بهذه الأحاديث التي تنهى عن الفرقة وعن الجماعة، تقصد أن من شذ عن جماعتها فهو شاذ عن جماعة المسلمين، فلا شك أن هذا خطأ وانحراف، وهو من البدع، إذا اعتبروا أنفسهم الجماعة العظمى، أو أوردوا الأحاديث الواردة في الجماعة العظمى عليهم، فهذا خطأ، ويعتبر انحرافاً عند كثير من الجماعات التي ترفع شعارات الولاء لها في العصر الحاضر.
فكونهم يأخذون نصوص التحذير من الفرقة، والتحذير من ترك الجماعة العظمى، ويطبقونها على أنفسهم فهذا خطأ، أما إذا كان المقصود إيراد النصوص التي تنهى عن ترك الجماعة بمعناها الذي هو دون ذلك، إذا كان اجتماعهم مشروطاً، كاجتماعهم في سفر، أو اجتماعهم على الصلاة، أو اجتماعهم على أمر من أمور الحسبة والدعوة إلى الله عز وجل، التي ليس فيها استقلالية في مناهج الدين أو شعارات أو حزبيات فهذا قد ترد فيه بعض النصوص التي تنهى عن ترك الجماعة، بمعانيها الصغرى لا بمعانيها الكبرى.
أما المعاني الكبرى للجماعة التي الشذوذ عنها بدعة، فلا يجوز صرفها إلا لجماعة المسلمين أهل السنة والجماعة، وهؤلاء ليس لهم شعارات ولا أحزاب ولا جماعات ذات مناهج، ولا أيضاً جماعات ذات رايات دعوية يستقلون بها عن مفهوم السنة والجماعة.
إذاً: فالغالب أن الجماعات التي تستدل بالأحاديث في ترك الجماعة لأنفسها أنها تخطئ بذلك، وينبغي التنبيه على هذا الأمر؛ لأنه قد يكون المخالف أحياناً لهذه الجماعات الجزئية الصغيرة الحزبية هو الذي على الحق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر