بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مشاهدي الكرام في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم الشهري: القطوف الدانية.
مرحباً بكم في بداية السنة الثالثة منذ انطلاقة هذا البرنامج.
مشاهدينا الأعزاء! يصطفي الله من خلقه ثلة من البشر، فيختارهم دون سواهم لينالوا شرف التوجه إليه، ويتركوا خلفهم الأحباب والأصحاب، متعبدين له سبحانه وتعالى بعبادة تمثل ركناً من أركان الإسلام، يجزل لهم على هذه العبادة الأجر والثواب متى أخلصوا له وحده النيات، واتبعوا منهج سيد البريات.
عبادة الحج على الأبواب، وكل سؤال يحتاج إلى جواب: كيف مهد النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العبادة؟ ولماذا دعا الناس ليشهدوا معه أداءها، ومن أين سار وما الأماكن التي مر بها؟ ثم ما الأحداث العظيمة التي صاحبت حجته صلى الله عليه وسلم؟
في هذه الحلقة بإذن الله تعالى تستمتعون بوصف دقيق لحجته صلى الله عليه وسلم يصفها لكم فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي خطيب مسجد قباء تحت عنوان: كيف حج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قبل أن نبدأ بجزئياتنا إذا أمكن أن نؤسس لهذه الحلقة، وطريقة عرضها.
الشيخ: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنحمد الله جل وعلا على ما كتبه لهذا البرنامج من القبول، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ونسأل الله جل وعلا أن يوعز إلينا أن رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل:19].
الذي نريد أن نقوله في هذه الحلقة: هكذا حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطواف بالبيت وحج البيت عبادة وأي عبادة، وركن وأي ركن، ولما كان لم يطف بالبيت أحد، ولم يؤد هذه العبادة أحد أكرم على الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حرياً بالمؤمن أن يعرف كيف حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نعلم أن حجه صلى الله عليه وسلم لم يكن بالأمر الخفي، فالأمة منذ أن حج صلوات الله وسلامه عليه إلى اليوم وهي تتدارس حجته وتناقلها وتكتبها.
ونحن نسهم بخير في هذا الأمر العظيم قدر الإمكان، ونحن نعترف أننا لا نستطيع أن نوفي الموضوع حقه، ولكننا سنركز على جوانب ثلاثة: الجانب الفقهي، والجانب التاريخي، والجانب الإيماني.
ونحن نعلم يقيناً أن ليس كل من يشاهدنا يريد الحج، فقد يكون حج من قبل، وقد تعيقه الظروف عن حج هذا العام، لكننا نريد أن يعيش الناس شيئاً من سيرته صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن في خلدهم الحج هذا العام، أو قد كانوا أدوا هذه الفريضة من قبل.
المقدم: إذاً نبدأ منذ خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة، وهو يقول: (أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين)، فنريد أن نبين المراد بقوله هذا صلى الله عليه وسلم هذا، وأيضاً: نبين الوقت الذي أحرم فيه صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: اختلف العلماء وأهل التاريخ في اليوم الذي خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر الأمر والعلم عند الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في مسجده أربع ركعات، ثم بعد أن صلى الظهر لم يحرم بشيء؛ لأن المسجد ليس بميقات، وإنما توجه إلى ذي الحليفة المعروف اليوم بأبيار علي، ولما أتى ذا الحليفة صلى فيها العصر ركعتين، ثم مكث فيها فصلى فيها المغرب والعشاء وفجر يوم الأحد، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من ربي فقال: صل ركعتين في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة).
الوادي المبارك هو وادي العقيق، وأصل مياهه تأتي من غرب الطائف، ثم تمر بين جبال في المدينة اسمها جبال قدس، ويقال لها بالعامية جبال اقدس يمر بينها وبين بعض الحرار، حتى يأتي ما يسمى الآن اليتمة، ويمر على النقيع.
ثم هذا الوادي لا يسمى اليوم عقيقاً، حتى يأتي إلى مصبه هاهنا في أبيار علي فيسمى عقيقاً، والعق بمعنى الشق؛ لأنه يشق الحرار، وادي العقيق قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم وادياً مباركاً، وقال: (أتاني آت من ربي فقال: صل ركعتين في هذا الوادي المبارك).
قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ظهراً، فصلى الظهر في مسجده يوم السبت، ثم صلى العصر والمغرب والعشاء والفجر في ذي الحليفة، ثم صلى الظهر ركعتين، فلما صلى الظهر ركعتين أهل صلى الله عليه وسلم قائلاً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
ثم لبى بعد أن ركب بعيره واستوى به بعيره قائماً، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كذلك لبى بعد أن استوت به راحلته على البيداء، والبيداء في اللغة الصحراء، قال المتنبي :
عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمر فيه تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيداً دونها بيد
أبيار علي فيها مسجد الميقات، وكان هذا المسجد يسمى مسجد الشجر.
إذا خرجنا وجعلنا مسجد الميقات على يسارنا فهناك فيه إشارة الآن، وإذا توجهنا جهة طريق (جدة مكة القديم) تأتي كلية المعلمين على اليمين، ثم يأتي بعد ذلك طريق يؤدي إلى طريق الهجرة عن اليسار، فإذا مضيت ولم تذهب يميناً ولا شمالاً عن وجهتك تأتيك البيداء التي ذكرناها، ثم تأتي بعدها منطقة اسمها ذات الجيش، وهي المنطقة التي فقدت فيها عائشة رضي الله عنها قلادتها في قصة مشهورة بحديث الإفك.
هذا ما وقع في أول أيام خروجه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة.
الشيخ: لاشك أن الحج معه صلى الله عليه وسلم فوز عظيم، ولهذا قال لامرأة من الأنصار لم تحج معه: (ما منعك أن تحجي معنا؟ فذكرت له عذرها، وأنه لم يكن لديهم إلا شارف واحد -أي: جمل واحد- فقال صلى الله عليه وسلم: إذا كان رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي) كما في رواية مسلم ، وهذا يبين فضل وشرف الحج معه صلى الله عليه وسلم.
أما زوجاته فإننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على إحدى عشرة امرأة، اثنتان منهن رضوان الله تعالى عليهن أجمعين متن في حياته، وهن خديجة وزينب بنت خزيمة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ومكثت معه بضعة أشهر، ثم ماتت في قرابة السنة السادسة.
فبقي معه صلى الله عليه وسلم تسع زوجات هن اللواتي توفي عنهن، هؤلاء التسع رضوان الله تعالى عليهن كن كلهن معه في حجته، ومعه بعض آل بيته كـأسامة باعتباره مولاه، والفضل بن العباس وسيأتي الحديث عنهم، وكانت معه ابنته فاطمة ، وكان علي في اليمن، ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وأهل وقال إنه أهل بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: العمرة في رمضان تعدل حجة، لكن يتأكد ذلك أكثر إذا لم يحج الإنسان في عامه.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتوخ ذا القعدة، وإنما وافق أن غزوة حنين كانت في ذي القعدة، وأنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة فاعتمر فيها، لكنه لم يتوخ شهر ذي القعدة بالعمرة.
إذاً: العمرة في ذي القعدة ليس لها فضل؛ لكنها توافق عمرة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما فضلها في رمضان فمنصوص عليه؛ لأن الذي قال للمرأة: (إذا كان رمضان فاعتمري) هو الذي اعتمر في ذي القعدة، فلو كان لذي القعدة فضل على العمرة في رمضان لبينه عليه الصلاة والسلام.
الشيخ: من أشهرها أن أسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبي طالب ، فمات عنها في مؤتة، فتزوجها الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد جعفر ، فحملت منه فنفست في ذي الحليفة -في آبار علي-، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تبقى على إحرامها وأن تغتسل، فمعنى ذلك أنه يمكن للحائض أو النفساء أن تهل بالإحرام، أي: أن تحرم وتدخل في النسك، لكنها تمنع من الطواف بالبيت حتى تطهر.
وقد أنجبت محمد بن أبي بكر وبعد أن مات الصديق رضي الله عنه وأرضاه تزوجها علي رضي الله عنه وأرضاه، فأصبح محمد بن أبي بكر ربيباً لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك جاءت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وأبوها عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجاءته وكانت شاكية وتريد أن تحرم بالحج، لكن هل هذا وقع في ذي الحليفة؟ الغالب أنه في ذي الحليفة، وموضع الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)، أي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
واختلف العلماء هنا في الاشتراط، فقال باستحبابه طائفة بناء على هذا الحديث.
وقال آخرون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به الصحابة ولم يندب إليه، إنما قاله لـضباعة .
والأقرب أن الإنسان إذا خشي الضرر وخاف شيئاً يصده عن البيت أو يمنعه من إتمام نسكه فله أن يشترط.
وقد يقول قائل وهو مصيب: إن السيارات اليوم مخيفة، فلو اشترط الإنسان فله ذلك.
فعلى ذلك لو اشترط الإنسان فقد قال فريق من العلماء بجوازه على الإطلاق، بل قال بعضهم باستحبابه.
الشيخ: في طريقه إلى مكة مر صلى الله عليه وسلم على بئر الروحاء، وهي موجودة إلى الآن، وتسمى أحياناً: بئر الراحة، وكانت عامرة بكثرة المسافرين؛ لكن لما جاء ما يسمى الآن طريق مكة السريع أو طريق الهجرة خبا ضوءها بعض الشيء، لكن الآن جاء طريق ينبع السريع فأعاد إليها شيئاً من الحيوية.
هذه البئر قابل النبي صلى الله عليه وسلم عندها ركباً، فقال: (من القوم؟ قالوا: المسلمون، ورفعت مرأة صبياً وقالت: ألهذا حج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. ولك أجر)، هذا حدث في بئر الروحاء.
ومن المواطن التي مر عليها النبي صلى الله عليه وسلم وادي عسفان، وهناك ذكر عليه الصلاة والسلام بعض أنبياء الله، فذكر شعيباً وذكر هوداً وذكر صالحاً وذكر يونس، وذكر موسى كما في بعض الروايات؛ فذكر أنهم كانوا يمرون بهذا الوادي ملبين، فمر على عسفان صلوات الله وسلامه عليه، ومر على ثنية هرشى المشهورة في التاريخ كما قال الشاعر:
إلى جانب الهرشى لهن طريق
ومر صلى الله عليه وسلم على ما يسمى الآن بخليص، وهكذا حتى أتى مكة صلوات الله وسلامه عليه.
وتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم على مرور الأنبياء بهذه الأماكن فيه إشارة إلى أن الأنبياء دينهم واحد، وهذه قضية يجب التنبه لها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163]، إلى آخر الآيات التي تدل على أن دين الأنبياء واحد.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر الصحابة الأبرار بما يرثونه من أنبياء الله ورسله، وأن دين الأنبياء وطريقهم واحد صلوات الله وسلامه عليهم.
وفيه أيضاً تنبيه على أن مصدر التلقي لهذه العبادات -ولا سيما عبادة الحج- واحد.
الشيخ: ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من أعظم الصحابة اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما أنه كان ينزل بذي طوى، فإذا نزل بذي طوى بات واغتسل ثم أتى مكة.
ومكان ذي طوى فيما يظهر هي ما يسمى بالزاهر جملة والعتيبية وشمال جرول، لأن البئر كان أقرب إلى جرول، حتى قال بعض من أدركنا من العلماء: إنه كان موجوداً إلى حد قريب، أعني البئر الذي كان يغتسل منه ابن عمر ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل منه، كما في الصحيحين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مكة بات بذي طوى، ثم إذا أصبح اغتسل صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي صلوات الله وسلامه عليه إلى المسجد، وهذا قد يتعذر الآن، لكن الإنسان إذا قدر على أن يفعلها فعلها ولا يعلق نفسه بآخرين، لكن الذي معه عائلة، أو كان قائد حملة لو فعل لفعل الناس معه وتعذر ذلك.
ولذلك أنا أقول: ينبغي على من يريد أن يقيم السنة كاملة أن يتوخى الحج وحده ولا يرتبط فيها بأحد، لكيلا يشق عليهم ولا يصبح أمره مقيداً بهم، فيحاول أن يصنع كل ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنا أقول: إن توخي السنة وفعلها قربة يجد الإنسان أثرها العظيم في قلبه، ولذلك تتبعنا بعض الصالحين، ووجدنا لإرشادهم أثراً في القلوب، فلما أراد الله أن نقف على بعض ما هم فيه وجدنا أن أكثر ما يتميزون به أنهم يحاولون أن يتبعوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأنا لا أريد أن أسمي أحداً، لكن أنا أعرف بعض الفضلاء الأحياء لم يطف يوماً بالبيت إلا ويقبل الحجر في كل شوط.
وهذه هي السنة، والإنسان لو قبله وسجد عليه فكله وارد.
ويوجد نوع آخر قد يكون حج أو اعتمر عشرات المرات ولم يلمس الحجر قط، وحجه صحيح، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وفي بعض الأحيان يتعذر الوصول للحجر، بل في كثير من الأحيان، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى عمر إذا وجد زحاماً ألا يزاحم، فهذا كله محفوظ. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركن اليماني في كل طواف، ويقبل الحجر، وتجد بعض الناس ربما يزهد فيه، مع أن الركنين يحطان الذنوب حطاً، لكن أحياناً تكون البيئة الفقهية أو التراث الفقهي عند الإنسان غير متوازن، فيشتهر في الناس أولويات لم يعن بها الشرع وإن كانت موجودة في الشرع، وتؤخر أمور عني بها الشرع، وهو لم يخطئ لكنه لم يعرف كيف يرتب فقه الأولويات.
الشيخ: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من ثنية الحجون عند مقبرة المعلاة.
والثنية في اللغة طريق بين جبلين، فدخل صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة وخرج من أسفلها، وقد قال بعض أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم: إنه لما أراد أن يدخل البيت ناسب أن يدخله من علو ليظهر التعظيم، ولما خرج من أسفله فكأنه إشعار بحزنه على فراقه.
وقال بعض الفقهاء: إن هذا كان أيسر لطريقه عليه الصلاة والسلام، وقيل: لتعم بركته صلى الله عليه وسلم الطريقين، وقيل غير هذا، لكن هذه أشهر الأقوال في المسألة.
دخل صلى الله عليه وسلم المسجد من باب بني شيبة، وهذا أقرب الأبواب فيما يغلب على الظن إلى الحجر، وكان يسمى آنذاك باب بني عبد مناف، والآن يسمى باب بني شيبة.
ولم ينقل -فيما نعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر دعاء عندما رأى الكعبة، لكن قال سعيد بن المسيب رحمة الله تعالى عليه: سمعت من عمر قولاً لم يبق أحد سمعه غيري، إنه لما رأى البيت قال: اللهم ربنا أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام.
ذكر سعيد أنه سمعه من عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعمر ممن يقتدى به رضوان الله تعالى عليه، لكن لا نحفظ شيئاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا.
بدأ صلى الله عليه وسلم بالحجر فاستلمه، ومن أخطائنا الآن أن الإنسان يأتي مما قبل الحجر بقليل، ثم إذا حاذى الحجر أشار، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى للحجر من قبل وجهه؛ هذا إذا قرب منه واستطاع أن يستلمه.
وعند الحجر إطار فضي يوجد بداخله ثمان قطع، هذه الثمان قطع أشبه بالتمرات بعضهن كبار وبعضهن صغار، وإنما تكسر بهذه الطريقة بفعل القرامطة حين أخذوه معهم وكسروه ثم رد، ثم وضعت هذه القطع بعد جمعها كما هو حالها الآن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الحجر بوجهه، بكامل بدنه صلى الله عليه وسلم ولم يعطه جانبه، ثم قبله واستلمه، وفي رواية ابن عباس أنه سجد، ثم بعد ذلك كبر صلى الله عليه وسلم ومضى، وجعل البيت عن يساره.
بدأ صلى الله عليه وسلم بالطواف فرمل ثلاثاً، والرمل أن يسرع في المشي مع تقارب الخطوات.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم مشى أربعاً كما نص عليه جابر في حديثه الشهير.
لكنه لو شق عليه مع الزحمة قرب البيت فليبتعد عن البيت؛ لأن القرب من البيت فضيلة متعلقة بالمكان، والرمل فضيلة متعلقة بذات العبادة، وإذا تنازعت فضيلتان إحداهما متعلقة بذات العبادة والأخرى بشيء منفك عن العبادة، تقدم الفضيلة التي تتعلق بذات العبادة، وإن لم يستطع لزحمة الناس كما هو الظاهر في هذه العصور فلا يشق على نفسه، فإنه سنة.
وأيضاً: فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مضطبعاً، بمعنى أنه أظهر كتفه الأيمن صلوات الله وسلامه عليه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مقام إبراهيم، فتلا قول الله جل وعلا: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] وصلى ركعتين، هاتان الركعتان سنة لو لم يفعلهما الحاج أو المعتمر أو الطائف من غير حج واعتمار فطوافه صحيح، لكن ينبغي على المؤمن أن يحرص عليها.
ومقام إبراهيم هو الحجر الذي ارتقى عليه إبراهيم ليكمل بناء البيت عندما ارتفع البناء.
وقلنا مراراً إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ألان لله قلبه فألان الله الصخر تحت قدميه، وهناك صور أربع مختلفة عن صورة المقام وعناية الناس به قديماً وحديثاً.
قال أبو طالب في لاميته:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل
عند هذا المقام تلا النبي صلى الله عليه وسلم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وصلى ركعتين قرأ فيهما بـ(قل يا أيها الكافرون) وبـ(قل هو الله أحد) إظهاراً للتوحيد.
والمشاهد اليوم عند المقام كثرة الزحام، ومع ذلك فإن البعض يضايق الناس فيصلي عند المقام، فنقول: تعارض عند هذا الرجل أمران: قضية حرصه على فعل السنة، وقضية مضرة المسلمين، فينبغي تقديم نفع المسلمين وتأخير السنة هنا، فلابد أن نؤصل أن الصلاة خلف المقام سنة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا كان ينجم عن أدائها ضرر بالناس فلا يفعلها؛ لأن السنن لا تأتي بإضرار الناس، فلو صلى في أي مكان في الحرم أجزأ حتى لو صلى في الساحات الخارجية، ولو قدر أن نسيها فصلاها في سكنه صحت.
فالأصل في الصحن أنه للطائفين، وقد نبهنا أن بعض الفضلاء من الشباب وفيهم خير عظيم وحرص على السنة، يأتون قبيل الصلوات في غير الحج والعمرة أو في الحج والعمرة أو في رمضان فيريدون أن يحافظوا على الصف الأول الذي يزعمون أنه ملاصق للكعبة، ويجعلون أيديهم في أيدي بعض، والأصل أن الصحن للطائفين، قال الله للخليل: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج:26]، فبدأ بهم، فالأصل أن الصحن للطائفين.
ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم زمزم فشرب منه، ثم عاد إلى الحجر واستلمه صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى الصفا من بابه.
الشيخ: السعي بين الصفا والمروة إحياء لما صنعته هاجر أم إسماعيل ، والصفا والمروة جبلان، وبينهما مسافة معروفة.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفا من بابه، فإن هناك باباً يؤدي الخروج منه إلى جبل الصفا.
والمسعى لم يكن يوم ذاك داخلاً في الحرم، بل لم يدخل في الحرم إلا في عهد هذه الدولة المباركة (الدولة السعودية).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رقى على الصفا يرى البيت؛ لأنه لا يوجد بين الصفا والبيت حاجز، لكن يوجد بين الصفا والمروة بيوت.
هذه البيوت كان تحتها دكاكين إلى وقت قريب، فكان الناس يسعون وأصحاب هذه البقالات يمارسون تجاراتهم؛ لأنها ليست داخلة في الحرم.
والذي حصل بعد ذلك تاريخياً في ظل عناية هذه الدولة المباركة أنه أعيد بناء المسعى بما يليق، وأدخل في الحرم يعني: أصبح ملاصقاً للحرم، فنجمت بنايات وأعمدة خرسانية تحول بين من يرتقي على الصفا فلا يرى البيت، لكن الإنسان يجتهد فيتوجه إلى البيت مستدلاً بالخطوط المرسومة لذلك.
فإذا حيل بينك وبين رؤيته فلا يحال بينك وبين التوجه إلى البيت.
وهذه الرؤية لا يتعلق عليها حكم، لكن لو كان يرى البيت فذلك أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى البيت، فكبر الله جل وعلا، فقال: (الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده).
إذاً: يتبين من هذا أن الوقوف على الصفا والدعاء على الصفا من مظنة إجابة الدعاء، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم قضية التوحيد (لا إله إلا الله وحده)، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فما من وسيلة إلى الله أعظم من وسيلة الإيمان به وتوحيده.
وقد تلا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، ثم قال: (أبدأ بما بدأ الله به).
جمهور النحاة على أن الواو لا تقتضي الترتيب، لكن فعله صلى الله عليه وسلم هنا مبين للآية، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالصفا وانتهى إلى المروة فيما يسمى الآن العلمين الأخضرين على الجوانب، وما بينهما كان يوم ذاك بطحاء يصعب تجاوزه إلا بالشد، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقطع الأبطح إلا شداً) فشد في مشيته، فأصبحت سنة له ولمن معه ولمن جاء بعده من أمته عليه الصلاة والسلام.
ثم أتى المروة واستقبل البيت، والآن ترى باباً مكتوباً عليه (باب مراد)، ومن الفأل الحسن أن الإنسان إذا جاء يدعو على المروة مستقبل البيت يأتيك باب مكتوب عليه: مراد، وفيه تفاؤل بأن الإنسان يتحقق مراده، وأنا أجزم أن الذين كتبوه ما قصدوا هذا؛ لكن هذا تفاؤل خير، وهذا من صنيعه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتفاءل بالأسماء.
وفي غالب الظن أن مراداً أحد سلاطين آل عثمان. فيقف الإنسان على المروة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو ثلاثاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة، ولم ينقل عنه دعاء مخصوص، لكن نقل عن بعض السلف، وحرر الألباني في منسكه رحمة الله عليه أنه قال: رب اغفر وارحم وأنت ألطف وتكرم، تجاوز عما تعلم، إنك تعلم ما لا نعلم، إنك أنت العزيز الأكرم. هذا نقل عن ابن عمر وغيره من الصحابة.
بعد ذلك دعا صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي أن يحل من عمرته، فهو عليه الصلاة والسلام ساق الهدي فبقي رهين إحرامه.
وهذه الدعوة والأمر من النبي صلى الله عليه وسلم هل يطبق في الوقت الحاضر؟
هذه فيها خلاف طويل بين العلماء، لكن الحقيقة أن الأنساك ثلاثة: تمتع وقران وإفراد، فبأيها أهل المؤمن فله ذلك، ولا يلزمه أن يحل من عمرته، أما فعله صلى الله عليه وسلم وحثه للصحابة فهذا رد على ما كانت قريش تزعمه أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وقد بينا في دروس سابقة أن شيخنا الأمين الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه حج مرة مفرداً، فلما وصل إلى المروة وانتهى من سعيه طالبه بعض طلبة العلم بأن يحل فرفض، حتى يبين أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان لعارض، وإن خالف في هذا بعض الفقهاء، ولكل له رأيه، والفقه أكثره خلاف، قال الشاطبي :
وواجب عند اختلاف الفهم إحسان الظن بأهل العلم
الشيخ: الذي يظهر لي والعلم عند الله أن الإنسان إذا ساق الهدي معه من دويرة أهله فالقران في حقه أفضل؛ لأن هذه هي الحجة التي اختاراها الله لنبيه.
فإن لم يسق الهدي معه وكان لم يعتمر من قبل في ذلك العام فالتمتع في حقه أفضل، وهو الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأما إن كان قد اعتمر في عامه ذاك فالإفراد في حقه أفضل.
إذاً: تختلف الأفضلية حسب الحاجة، وإن كان هذا خلاف المشهور عند الحنابلة، وهو أن التمتع أفضل.
لكن المالكية يرون الإفراد، والأحناف يرون القران، فنقول: إذا كان قد ساق الهدي معه من محله فالقران في حقه أفضل؛ لأن هذه الحجة التي اختارها الله لنبيه، وإذا كان الإنسان لم يسق الهدي معه ولم يكن قد اعتمر في عامه ذلك فالتمتع في حقه أفضل، وإن كان قد اعتمر في عامه ذاك فأرى أن الإفراد في حقه أفضل؛ وهو فعل الشيخين أبي بكر وعمر رضوان الله تعالى عنهما؛ فإنهما حجا مفردين.
الشيخ: النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى عرفة بعد طلوع الشمس، ويوجد ثلاثة أشياء: يوجد نمرة، ويوجد عرنة، ويوجد عرفة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نزل في نمرة، واستراح في نمرة، وهي قرية خربة كانت شرق عرفة، وخطب في عرنة، ووقف في عرفة، قال جابر : (فوجد القبة قد ضربت له بنمرة)، هذا مكان نزوله، ليس مكان خطبته.
والبعض يفهم أن الخطبة في نمرة، وهذا خطأ، فالخطبة لم تكن في نمرة.
ثم لما زالت الشمس أتى صلى الله عليه وسلم بطن الوادي، أي: وادي عرنة، فخطب وصلى بالناس وهو في عرنة، ثم أتى الموقف وهو عرفة، فجعل جبل الصخرات -أي: جبل الرحمة- عن يمينه واستقبل القبلة صلى الله عليه وسلم ووقف يدعو رافعاً يديه كاستطعام المسكين، وهو يوم ما رئي الشيطان في يوم أصغر ولا أدحر منه في يوم عرفة، حيث تتنزل فيه الرحمات، يعفو الله جل وعلا عن السيئات، ويقبل الله جل وعلا التوبة.
وأنا أوصي كل مؤمن ومؤمنة منَّ الله جل وعلا عليه بالوقوف في هذا المشعر العظيم أن يتضرع إلى ربه جل وعلا أعظم التضرع، وأعظم ما يمكن أن تتضرع به أن تسأل الله أن يحسن وفادتك عليه، فلا يوجد شيء يهم المؤمن أعظم من القدوم على الله، والوفادة على الله، فالإنسان إذا قدر له الوقوف في ذلك الموقف يسأل الله بإلحاح أن يحسن وفادته على ربه، ويسأل الله أن يكون منقلبه منقلب خير، ويسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).
والنبي صلى الله عليه وسلم وقف في عرفة مفطراً غير صائم بعد أن صلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، وخطب الناس، ثم بقي يدعو صلى الله عليه وسلم راكباً، فالدعاء في الباصات والسيارات سنة، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بقي يدعو حتى غاب قرص الشمس تماماً، وبعد غروب الشمس توجه صلى الله عليه وسلم إلى مزدلفة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، فمن لم يدرك عرفة فاته الحج، وتدرك عرفة بالوقوف قبيل فجر يوم العيد، فمن أدرك الوقوف ولو دقيقة واحدة قبل الفجر ناوياً الحج وأراد بالوقوف أنه ركن فقد أدرك الحج، فإذا أذن الفجر ولم يدرك الوقوف بعرفة فليس له حج، فيتحلل بعمرة.
ولو خرج من عرفة قبل الغروب فقد قال مالك رحمه الله: لا حج له، لكن قال ابن عبد البر رحمه الله: ولا أعلم أحداً وافق أبا عبد الله في هذا، لكن الصواب الذي عليه جمهور العلماء أن البقاء إلى الغروب واجب.
وقال بعضهم: إنه لو خرج قبل غروب الشمس فلا شيء عليه، لحديث عروة بن مضرس ، والحديث حجة في الباب.
هذه أقوال العلماء، فالجمهور على أنه يلزمه البقاء إلى غروب الشمس، فإن خرج من عرفة قبل غروب الشمس إلى مزدلفة فحجه صحيح ويلزمه دم عند جمهور العلماء، وقال بعض أهل التحقيق: لا شيء عليه لحديث عروة بن مضرس ، وقال مالك : لا حجة له، لكن قول مالك هذا من الأقوال التي تركها أهل العلم.
ثم أتى صلى الله عليه وسلم مزدلفة، فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين جمع تقديم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم بات ولم ينقل أنه صلى، ثم صلى الفجر في أول وقته، ثم أتى المشعر الحرام فوقف عنده، وذكر الله كثيراً ودعا، ثم أفاض إلى منى قبل طلوع الشمس، فمر على وادي محسر، وهو الوادي الذي حسر فيه الفيل وحيل بينه وبين البيت، فجاوزه صلى الله عليه وسلم سريعاً حتى أتى منى، فبدأ بجمرة العقبة فرماها بسبع حصيات صلوات الله وسلامه عليه، ورمي جمرة العقبة للحجاج بمثابة صلاة العيد لغير الحجاج.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى المنحر فنحر هديه، وكان قد أهدى مائة ناقة، فنحر ثلاثاً وستين بيده، وترك لـعلي الباقي فأكمل المائة، ثم أتى الحلاق وحلق له رأسه، وقسم شعره بين الناس، ثم أفاض إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة، ثم عاد إلى منى.
وهذا الترتيب غير واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج).
ثم إنه صلى الله عليه وسلم مكث في منى أيام وليالي التشريق، يرمي الجمرات الصغرى والوسطى والكبرى، فبدأ بالصغرى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات، ثم أخذ ذات اليمين فدعا، ثم أتى الجمرة الوسطى ورماها ثم أخذ يساراً ودعا صلى الله عليه وسلم، ثم رمى جمرة العقبة ولم يدع، وهذا كله فعله بعد الزوال في اليوم الأول من أيام التشريق، وهو اليوم الحادي عشر، ثم فعل مثل ذلك في الثاني عشر، ولم يتعجل، وفعل ذلك في اليوم الثالث عشر، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة) يعني: في محصب، ثم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة خفيفة، ثم نزل إلى المسجد الحرام قبل طلوع الفجر، ثم طاف طواف الوداع، ثم صلى بالناس الفجر، ثم توجه صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة.
واستأذنته عائشة فطلبت منه العمرة فأذن لها، وأمر أخاها أن يأخذها إلى التنعيم، ومسجد عائشة موجود الآن في التنعيم.
هذه على وجه الإجمال حجته صلى الله عليه وسلم.
وبقي من الفوائد أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو عائد بات في ذي الحليفة.
الجواب: المبيت في مزدلفة أكثر الليل واجب عند جمهور الفقهاء، وقال بعضهم بركنيته، وقال بعضهم غير ذلك.
والذي يعنينا أنه إذا داهمهم الوقت، بمعنى أن الباصات أو السيارات التي كانوا فيها لم تأت بهم إلى مزدلفة إلا آخر الليل فمروا مروراً فلا شيء عليهم، وإن كان بإمكانهم أن يبقوا وإنما اكتفوا بالمرور ولم يمكثوا شيئاً من الليل فحجهم صحيح بلا خلاف، لكن يلزمهم فدية لأنهم لم يبيتوا أكثر الليل في المزدلفة، وهذا بناء على القول بوجوب ذلك، وترك الواجب فيه فدية، وهي ذبح شاة واحدة، وهكذا كل من كان معه عليه فدية مستقلة بنفسه.
الجواب: أما الأولى: فإن الله ما بعث الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليوحد جل وعلا وحده دون سواه، قال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال جل وعلا في ذلك: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256].
وما شرع الله العبادات من الواجبات أو غيرها إلا ليعظم جل وعل ويوحد، ولا يوجد شيء حرص الدين على أن يكون قائماً في كل أمر مثل توحيده جل وعلا، لأن هذه هي الغاية الكبرى من خلق الثقلين: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
أما الإخلاص في الحج فهذا حق، وقد قلنا مراراً: ما ارتفع شيء إلى السماء أعظم من الإخلاص، والله غني عن خلقه أجمعين من أخلص منهم ومن لم يخلص.
أما الثانية وهي الحذر من الفتن، فلا ريب أن الفتن كثيرة جداً، وفتنة النساء من أعظم الفتن، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من أعظم فتن بني إسرائيل، وحذرنا منها، فعلى المسلمات أن يتقين الله في حجهن وعمرتهن وسائر أحوالهن، كما على الرجال أن يتقوا الله في النظر: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30].
الجواب: هذا يختلف، فإذا كان له زوجة في جدة فسفره الأول إلى جدة سفر على جريان عادته، ثم إذا عزم على الحج فيحرم من جدة.
أما إذا لم تكن له عادة أن يذهب إلى جدة في مثل هذه الأوقات، وإنما أراد أن تكون في طريق حجه، وكان خروجه من الرياض لأجل الحج فليس له أن يحرم من جدة، إنما يحرم من ميقات أهل الرياض، أو أي ميقات آخر يمر عليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر