وإني أحبكم في الله -أيها الأحباب- وسعادتي وبهجتي وفرحتي أن ألتقي بكم وأن أراكم، والجلوس معكم يهون الأتعاب، ويخفف المصاب، ويدفع الغموم، ويكشف الهموم، وإلا فهموم المسلمين لا تنتهي، فالذي يستمع إلى الأخبار ويقرأ الصحف ويتابع أحوال المسلمين الذين يذبحون في كل مكان لا يقر له قرار، ولا يهنأ بطعام ولا بمنام،وعزاؤه الوحيد زيارته لإخوانه، وتناصحه معهم، وجلوسه معهم، والنظر إلى وجوههم، والشد على أيديهم وقلوبهم، والدعاء لهم في ظهر الغيب، عزاؤه الوحيد هذا المتنفس الطيب الكريم، في هذه البلدة المعطاءة المباركة، التي ما رأيت مثلها لا قبلها ولا بعدها بفضل الله، لقد سافرت كثيراً، ودعوت إلى الله في بلاد كثيرة، والتقيت بجماعات وبدعاة ما رأيت نعمةً وفضلاً أسبغه الله تبارك وتعالى كما أسبغه على الدعاة في هذه البلدة، فقد فتح الله لها خير الدنيا، وفتح الله خير الدين والآخرة، وهذه نعمة يا إخوان! احمدوا الله عليها كثيراً، احمدوا الله وحافظوا عليها.
حافظوا عليها بوحدة الصف .. بالنصيحة .. بالحكمة والموعظة الحسنة .. بالاصطلاح بينكم وبين الله وأن تكونوا قدوات، وبذكر الإحسان وأهله وتأكيده، وإنكار المنكر والابتعاد عنه، وبدرء الفتن واجتنابها وعدم إيقاظها، وبالتنازل عن كثير من الحقوق من أجل المصلحة العامة، أقصد الحقوق الخاصة والشخصية من أجل المصلحة العامة.
أيها الإخوة: إن هذه الكلمة على بساطتها التي أقولها، إلا أن فيها وما وراءها من الخير، وفيها من الفضل ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وكم من إنسان الآن يتمنى مثل هذه الجلسة، ويتمنى مثل هذا الأمن، ويتمنى من هذا الإيمان فلا يحصل له، كم؟ بالآلاف، بمئات الألوف، كم من إنسان الآن يتمنى أن يسمع شريطاً، استماعه للشريط تهمة، وصلاته في المسجد مع الجماعة تهمة، وإعفاؤه للحية تهمة، والتقاؤه مع واحد يتذاكر معه ويؤمن ساعة تهمة، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الآن أتيت من أصليبية ، شباب مثلكم كانوا جالسين، ولهم فوانيس وكذا، وأنا ألقي عليهم درساً، والآن من أصليبية إلى الخالدية ، نعمة هذه يا إخوان! كلما تفكرت فيها قلت: يا ألله! أسألك أن تحفظها وأن تديمها علينا؛ فإنها لا تقدر بثمن.
أما الموضوع الذي أحدثكم فيه، فقد اختار الإخوة موضوعاً بعنوان الاستعلاء الإيماني، والله سبحانه ذكر الاستعلاء الإيماني في كتابه الكريم، فقد قال عنه سبحانه، وقبل أن يذكره أعطى صفات أصحابه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5] فقوله: على هدى، فالهدى يحملهم وهم عليه، فإذا كانوا على هدى فهم دائماً في القمة، درجاتهم مرفوعة عند الله، ذكرهم حسن عند الناس، دائماً في مواطن الفتن والمهاوي والمنزلقات يستعلون بإيمانهم، فيحفظهم إيمانهم، ويهديهم إيمانهم؛ لأن الله قال: أُولَئِكَ عَلَى هُدىً [البقرة:5] وما دام الهدى رافعه لا يسقط في الدين، لا يسقط في الحضيض، لا يسقط بين يدي الزوجة، لا يسقط بين يدي الدنيا، لا يسقط بين يدي الجاه والوظيفة، لا يسقط بين يدي الربا وإغراء الذهب والمال، وإنما دائماً على هدى، وما دام على هدى فهو مرفوع محفوظ.
الله يقول عنه في كتابه الكريم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [يونس:9] ويرفعهم بهذه الهداية من الدنيا يمزجها بالآخرة في آية واحدة: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
الاستعلاء الإيماني -يا إخوان- ثروة وكنز لا يقدر بثمن، تجده يوم أن يفترق بك الطريق، طريقٌ إلى الخير وطريق إلى الشر، فاستعلاؤك الإيماني يدفعك إلى طريق الخير، الاستعلاء الإيماني تجده يوم أن تصبح بيدك اليمين قلة من الحلال، وبيدك الشمال كثرة من الحرام، فتؤثر الحلال المبارك على الكثير المسخوط المحارب من الله ورسوله، يرفعك استعلاؤك الإيماني.
الاستعلاء الإيماني تجده يقف بجوارك في لحظات المحن، كما وقف الاستعلاء الإيماني مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعب مكة ثلاث سنوات لم يمدوا أيديهم إلى أحد ثلاث سنوات، ولا إلى أحد من الكافرين، بل إن الكافرين مرغمون تحت ضغط العادات والتقاليد والأرحام، يدفعون بعض الإبل المحملة بالطعام وباللباس في الليل داخل شعب أبي طالب ثلاث سنوات، إذا ما جاءتهم هذه المعونة أكلوا خشاش الأرض، وأعشاب الأرض.
الاستعلاء الإيماني لم يجعلهم يمتدون إلى أبي جهل وأبي لهب وإلى الوليد بن المغيرة وإلى أمية بن خلف وهم أثرياء مكة يملكون المال؛ لأنهم يعلمون أنهم في اللحظة التي يتنازلون فيها عن الاستعلاء الإيماني سيساومونهم على دينهم وإسلامهم، وذكرهم ومبدئهم، وستضيع الآخرة من بين أيديهم؛ لأن الله يقول: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].. مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:5-6].
ثم يبين -أيها الأحباب- قيمة هذا الاستعلاء الإيماني، يوم أن أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة من بيعاته لبعض أصحابه، فقالوا: وبايعنا على ألا نسأل أحداً شيئا، يقول أحد الرواة: وإني لأرى أحدهم يسقط سوطه وهو على ظهر ناقته والناس يمرون فلا يقول لأحد المارة: ناولني سوطي، بل ينزل من على ظهر الناقة، ويأخذ سوطه ويصعد، حفاظاً على الاستعلاء الإيماني أن يخدش أو يجرح.
كان الاستعلاء الإيماني عندهم حصناً حصيناً يحفظ الكرامة الإسلامية؛ لأن الكرامة العربية قبل الإسلام كانت حمية ونخوة، وعادات وتقاليد، وأنفة، ولكنها ليست منبثقة من الدين، إنما منبثقة من الحمية الجاهلية، ومع هذا كانوا يكافحون من أجلها، فيوم أن استبدلنا الله بالاستعلاء الإيماني، والاستعلاء الإسلامي نفرط فيه! هذا الجاهلي الشاعر عمرو بن كلثوم يستضيفه ويستضيف أمه الملك/ عمرو بن هند ، ويقول عمرو بن هند ملك العرب: لأستخدمن أم عمرو بن كلثوم خادمة لأمي، فقالت لها الملكة: ناوليني هذا الطبق، فقالت: عندك خادمة سليها، فقالت: أنا الملكة آمرك، فقالت أمه: واذلاه! فقام حفاظاً على الاستعلاء الجاهلي والنخوة العربية والحمية التي كانت، أخذ عمرو بن كلثوم السيف وقطع رأس عمرو بن هند ، وقال قصيدته المعلقة التي يقول فيها:
ملأنا البر حتى ضاق منا وذاك البحر نملأه سفينا |
إذا بلغ الرضيع لنا الفطام تخر له الجبابرة ساجدينا |
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
هذا نوعٌ من الاستعلاء، يأبى الذل والمهانة والاستكانة، ولكنه من نوع آخر ليس عليه ثواب، وليس له أجر، وإنما هو محصور بعادات وأعراف وتقاليد وحمية جاهلية، وجاءنا الإسلام بالاستعلاء الإيماني والإسلامي، فأوجد من رعاة الشياه الحفاة العراة العالة الجياع أوجد منهم ملوكاً وخلفاء وأمراء.
هذا الرجل الضعيف المستضعف الذي يسميه أبو جهل رويعي مكة، وقف في نادي قريش وتلا عليهم سورة الرحمن يتحداهم: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4] فقاموا إليه وضربوه حتى أغمي عليه، فلما أفاق، قال: آتيهم من الغد فأسمعهم أكثر من ذلك، إنهم الآن أهون عليّ من قبل.
ما الذي جعله يفعل ذلك وهو الوحيد الضعيف؟ الاستعلاء الإيماني، أحس أن لهذا الدين كرامة، وأن لهذا الدين عزة، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن الداعية إلى الله إذا تكلم يجب أن ينصت إليه الجميع من هؤلاء الكافرين: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] فاعتز بهذا الاستعلاء الإيماني، فما ذل لهم ولا استكان.
يظل المسلم ناصباً رأسه، شامخاً بأنفه؛ لهذا أباح الإسلام رقصة الكبرياء والخيلاء في لحظات الحرب، واعتبرها تشريعاً، واعتبرها حلالاً وهي محرمة: (من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر كبه الله في النار) إلا بين الصفين، وإلا أمام العدو، عندما رقص أبو دجانة بالسيف، ومشى مشية الخيلاء، أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن الاستعلاء الإيماني كنز وحصن حصين، يحفظ كرامة المسلم، ويجب أن يحافظ عليه.
لما أراد النبي أن يعتمر ومنعه الكفار من العمرة بعد الحديبية ، وجاء في عمرة القضاء، أخذ الكفار يشيعون عن المؤمنين الوهن حتى يمسخوا شخصياتهم أمام المجتمع في مكة ، قالوا: إن حمى المدينة أصابت محمداً وأصحابه، فأوهنت أجسادهم، وأضعفت قواهم، فماذا قال النبي؟ قال: (إذا جئتم تطوفون فارملوا حول البيت ثلاثة أشواط، اضطبعو بإحرامكم، ثم ارملوا) هذه الركضة العسكرية التي يركضها المغاوير الآن، ركضها الرسول صلى الله عليه وسلم حول الكعبة حتى يثبت، فقال الكفار: عجباً!، كيف يقولون إن أصحابه استوخموا هواء المدينة فأصابتهم الحمى، إنا نراهم يركضون كأنهم رجالٌ أشداء.
انظر حتى يحافظ على الاستعلاء الإيماني فلا يخدش، بل إن قريشاً تطالبه بالمصارعة فيرضى على مهابته وعلى قوته، وعلى شخصيته ورزانته ورسالته التي نزلت عليه من السماء لم يرفض هذا العرض، بل أراد أن يثبت للصحابة بأن المسلم يجب دائماً أن يكون منتصراً وأن يكون غالباً، وعقدت حلبة المصارعة، وجيء بالمصارع الكافر اسمه/ ركانة وكان أصلع، فأمسكه الرسول من صلعته وكادت أن تنفجر بين يديه وثلاث مرات يصرعه، ثم بعد ذلك أسلم ركانة كما تعلمون.
كل ذلك يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم زخماً للثقة في الاستعلاء الإيماني، فيظل الإنسان شامخاً عالياً أمام أعدائه، وبين إخوانه يكون في قمة الذلة هيناً سهلاً قريباً، وهذا الفرق بين الاستعلاء الجاهلي وبين الاستعلاء الإيماني : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29].
وكان الترهيب أن أحضروا قدراً وأوقدوا فيه حتى غلى الماء، وأخذوا واحداً من جنود المسلمين وطبخوه وهو حي، فبكى عبد الله بن حذافة السهمي، فقال له: أخفت لما رأيت صاحبك؟ قال: لا. إنما بكيت لما علمت أن صاحبي سبقني إلى الجنة والشهادة وتأخرت وحرمت منها أنا، فقال الملك: تعال وقم حب رأسي، وما نال منه إلا هذه وعالجها عمر لما بلغه الخبر، قال: قوموا فقبلوا رأس عبد الله بن حذافة وأنا أولكم أقبله، وخرج بمهرجان من المدينة يستقبله احتفال خاص له، وكان أول المقبلين لرأسه حتى يحفظ الاستعلاء الإيماني له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
فقام عتبة بن ربيعة ، وقال: اتركوها لي هذه المرة، فقد سمعت منه قرآناً ما فهمته، اتركوه والعرب إن قتلوه فقد كفيتموه، وإن أظهره الله عليكم فعزه عزكم وشرفه لشرفكم، قالوا: هه يا أبا الوليد ! سحرك بكلامه، وهكذا الاستعلاء الإيماني صمام الأمان تجعل صاحبه يردد: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
وهو الذي جعل خبيب بن عدي في اللحظات الأخيرة وهو يعدم في مكة وحيداً طريداً، يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً، القتل على الإسلام منة ومنحة من أعظم المنح، إلى الله أرجع، أنتقل من عالم الظالمين إلى أرحم الرحمين، ومن دنيا المغتابين إلى رب العالمين، جنات عرضها السماوات والأرض، الموت لي مكسب، كما قال حرام بن ملحان عندما ضربه الكافر بالرمح على وجهه وفاض الدم، قال: فزت بها ورب الكعبة .
الاستعلاء الإيماني يولد عند المؤمن مثل هذا الشعور، فيرى اللذة في العذاب، والحلاوة في الابتلاء، يمزح حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فتطغى حلاوة الإيمان على مرارة العذاب كما يقول بلال، لهذا تجد المسلمين صابرين لا يذلون ولا يركعون للطاغوت في السجون وفي المعتقلات في جميع الدول العربية إلا من رحم الله وقليل ما هم.
ولولا هذا الاستعلاء الإيماني لكانوا أول المستسلمين، كما قال سبحانه في كتابه: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].في لحظات المحنة والبلاء تجدهم يستغفرون من ذنوبهم وإسرافهم في أمرهم وينتظرون النصر من الله رب العالمين.
لا يقولون: اليهود حمائم المحبة وعنوان السلام، ومالنا نجاة إلا من قرار (242) نحن واليهود أبناء أعمامنا نعيش معهم منذ دهر بسلام، لم يقولوا ذلك، وإنما هذا شعارهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:147-148].
أعظم وصية أوصاها الحسن البصري لأحد تلاميذه، قال: أوصني أيها الإمام! قال: كلمتين خفيفتين باللسان أثقل من الجبال فوق الأكتاف، قال: ما هي؟ قال: أعز الله حيثما كنت، يقول: فأخذتها منه ولما خرجت إلى الحياة وجدتها أثقل من الجبال (أعز الله حيثما كنت) كيف؟ هذا أمير، وهذا ملك، وهذا سلطان، وهذا يتهجم على الدين، وهذا يستهزئ بأهل اللحى، وأسكت، أصير شيطاناً أخرس، وعز الله لازم أدافع عن الله وعن دينه، وعن الصالحين والمؤمنين، يكرهوني، يبغضوني، يطردوني.
ولهذا كانت أثقل كلمة" أعز الله حيثما كنت" لا تجعل الله أهون الناظرين إليك عند الحرام، لا تحقرن صغير الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من تعصيه وهو الله رب العالمين.
أسمى من أن أستجدي الباطل، فقال له شيخ من شيوخ الأزهر: يا سيد! قل لا إله إلا الله قبل أن تشنق؛ فابتسم وقال: حتى أنت جاءوا بك لكي تكمل المسرحية، ما جاء بي تحت حبل المشنقة إلا لا إله إلا الله، وشنق، فكان بموته حياة الألوف، يقول: إن كلماتنا هذه باهتة باردة لا حياة فيها حتى نسقيها بدمائنا، فإذا سقيناها دبت فيها الحياة، وكان فيها العطاء والنماء.
الضباط الأحرار الذي كانوا يريدون توقيعه كلهم ماتوا ونسوا، وبصق الناس عليهم بقدر ما صفقوا لهم، وظل هو الآن شامخ الرأس مرفوع الجبين، يخط بسيرته ومؤلفاته طريق النور للدعاة إلى يوم القيامة، رحمة الله عليه، هذا عطاء الاستعلاء الإيماني لصاحبه.
يقول الله عن الاستعلاء الإيماني: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4] حتى أقصى مسلم في أقصى الصين أو أفريقيا إذا سمع اسم محمد قال: صلى الله عليه وسلم وبكى حباً له وشوقاً إليه.
الاستعلاء الإيماني لا يستغني عنه داعية من الدعاة، إن الإخوة المتدينين الملتحين الذين صبروا أمام إغراء المناخ والبورصة، وكم من الناس جاءوا إلى بعض الدعاة يغرونهم، يفتحون لهم شيكاً مفتوحاً، ليس حباً فيه، لكن حباً في إسقاطه، وأنا من هؤلاء، كم من الناس جاءوا لي في المكتب في المدرسة، وقالوا: اكتب ما تريد، أعطني شهادة الميلاد والجنسية، فقط يريد أن يثبت علي أنني دخلت في المناخ والبورصة، قلت له: اذهب، قال: أنت مجنون تعيش على ستمائة دينار! أهناك أحد يعيش على ستمائة دينار الآن؟ قلت: قليل حلال خير من كثير حرام وسترى حقيقة الآية: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] وأذكر أني خطبت ست خطب في الموضوع، ثم كان كما ذكرت وكما ذكر القرآن.
هذا هو الاستعلاء الإيماني، وإلا فما الفرق بيننا وبين الآخرين؟ عندما تأتي المحن والاختبارات من الله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31].. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ...الآية [البقرة:155] نحن غير محتاجين إلى أحد غير الله، ارتباطنا مع الله، تعاملنا مع الله ليس مع أحد، رب العرش الواحد والكرسي الواحد، واترك الآخرين حول الكراسي يدورون: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] لا إلى أحد: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
الاستعلاء الإيماني كنزك يا أخي المسلم، حافظ عليه، وعض عليه بالنواجذ، ولا تتنازل عن أدنى ذرة منه، فهو شرفك، وهو كرامتك، ومستقبلك، وحضارتك، قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10] أي: فيه مجدكم وشرفكم.
اللهم إنا نسألك عزة الإيمان، ونسألك نور اليقين، وبرد الرضا، وحلاوة الإيمان، وحسن الاعتقاد، وصلاح العمل، اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الطلب إلا منك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم، اللهم تتابع برك، واتصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، صنت وجوهنا أن تسجد لأحد سواك، وحفظت أيدينا أن تمتد لأحد غيرك، استعملنا فيما يرضيك، ولا تشغلنا فيما يباعدنا عنك، واقذف في قلوبنا رجاءك، واقطع رجاءنا عمن سواك حتى لا نرجو أحداً غيرك، واجعل الدنيا بأيدينا ولا تجعلها في قلوبنا، وارزقنا منها ما تقينا به فتنتها، واجعل حظنا الأوفر والأكبر يوم لقائك.
اللهم إنا نسألك عيشةً هنيئة، وميتةً سوية، ومرداً غير مخزٍ ولا فاضح، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] ونعوذ بك اللهم من مواقف الفتن، ومضلات الفتن، ومصارع الفتن، ونسألك اللهم يقظة منك تامة تنجينا بها من مصارع الغفلات، ونعوذ بك اللهم أن نكون وعاظاً للسلاطين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر لا نخاف في الله لومة لائم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الجواب: النصارى الذين أسلموا، الله سبحانه وتعالى بين أن فيهم قسيسين ورهباناً: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة:83] يعني: كانوا نصارى، ثم أسلموا، لذلك من أسلم من النصارى تصديقاً لهذه الآية أضعاف أضعاف من أسلم من اليهود، الذين أسلموا من اليهود قلة يعدون على الأصابع، ومنهم عبد الله بن سلام وغيره من الذين هم مذكورون في السير، لكن بالملايين الذين أسلموا من النصارى.
فلهذا يبين الله بأن النصارى أقرب مودة، ليس الصليبي الحاقد، إنما الذي يؤمن بما أنزل على محمد، وتفيض عيونه دمعاً إذا سمع معاني القرآن، وجاء وعاظ السلاطين الذين يحرفون بالفتاوي ذات البلايا انحرافات الحكام، وأخذوا يستشهدون بهذه الآية على غير وجهها، يلوون معناها وعنقها حتى يجعلوا هؤلاء الصليبي الحاقدين المستعمرين، يجعلونهم أحبابنا وأصحابنا، لكي ينهبوا الثروات ويهتكوا الأعراض ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وإن الإسلام عانى من الصليبيين كما عانى من اليهود وكما عانى من غيرهم من أعداء الدين، والصليبيون قتلوا سبعين ألفاً من المسلمين الموحدين في بيت المقدس ، حتى أن الخيول خاضت في الدماء إلى ركبها، والصليبيون والنصارى شنوا حرباً عالمية أولى وثانية وكانوا يريدون استئصال الإسلام ومن فيه، لكن الله كفانا شرهم، وأذكر القائد الفرنسي لما دخل ووصل إلى قبر صلاح الدين ركله برجله، وقال: الآن انتصر الصليبيون يا صلاح الدين .
فهذه الآية الذي تفضلت بها، أن اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا حقيقة ثابتة، وهناك عداوة شديدة، وعداوة أشد، الله سبحانه وتعالى قال: أشد العداوات هي عداوة اليهود لا شك في ذلك، ومذابح لبنان الآن يذبحون المسلم على هويته على اسمه، يعرفون أن اسمه محمد، لكن لا يصلي ولا يصوم وزوجته غير محجبة، وقد يكون إنساناً ليس من أهل السنة والجماعة ، وهم يعرفون ذلك ولا يخفى عليهم، لكن لأن اسمه محمد يذبحونه.
فكيف إذا علموا أنه متدين، وأن زوجته مستورة؟ يهتكون عرضها، ويتفننون في تعذيبه، كما قال الله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82] والنصراني هيلا سيلاسي ذبح الملايين من المسلمين في الحبشة ، وماركس الصليبي الحقير في الفليبين مع زوجته المجرمة الآن تخطط للاستئصال والقضاء على الإسلام والمسلمين هناك في إندونيسيا ، والشيطان الأكبر زعيم النصارى ريجن ذو البيت الأبيض جلله الله بالسواد، وقبله كارتر ذو الوجه الأصفر يخططون ويشكلون البحوث والدراسات ويوصون كثيراً من خبرائهم ومستشاريهم أن يقدموا بحوث ضد التجمعات والحركات الإسلامية في العالم، حتى يكافحوها ويحاربوها.
ولا أنسى تصريح مندل الذي سقط في الانتخابات الأمريكية كان يقول: لو وصلت إلى الرئاسة الأمريكية لكنت أول ما أطارد قيادات الإخوان المسلمين في العالم وأقضي عليهم، الحمد لله أنه لم يصل، ولهذا الصليبيون والنصارى حاربوا الدين ولا يزالون يحاربونه، ومن قرأ كتاب الأخ الحصين التبشير النصراني في الخليج وفي الكويت يجد حقيقة ذلك، والله أعلم.
الجواب: لا يزالون يذبحون في المسلمين، ويضربون طوقاً رهيباً جداً، تكتيم الإعلام على القرى والمدن الإسلامية، وما أصبحت الأخبار تنقل إلا بواسطة المسافرين العابرين، الذين يمرون ويرون المجازر، ومع الأسف الشديد! إن جرائدنا أخذت تنشر الفتوى المزيفة التي جاء بها علماء حتى أسماؤهم غير مسلمة، يسمونهم لجنة الفتوى في بلغاريا ، بأن هذه إشاعات وهذه أكاذيب، وإن المسلم في بلغاريا يأخذ جميع حقوقه، وهل يستأمن الذئب على الحمل؟ لا. الواقع غير ذلك، حتى هذه اللحظة يريدون طمس الحقيقة الإسلامية بكل صورها، وأذكر أن جمعية الإصلاح نشرت منشوراً في هذا الأمر، وخطبت في هذا الموضوع ولا حول ولا قوة إلا بالله! ليس لهم إلا الله سبحانه وتعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [النجم:57] نسأل الله أن يفرج عنهم.
الجواب: استالين ذبح ستة ملايين مسلم، وملة الكفر واحدة، لا يستطيع الإيمان أن يتعايش مع الكفر أبداً: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:13].
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر