وأسألك اللهم أن تكرم الشهداء في عليين، وأن تلحقنا بهم بعد طول عمر وحسن عمل، وأن تجعل أرواحنا في حواصل طير خضر، ترتع من أنهار الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، وأسألك اللهم أن تفرج عن إخواننا المسجونين في فلسطين، والمسجونين في سجون طواغيت العرب، أسألك اللهم أن تكشف همهم، وتدفع ضيمهم، اللهم احقن دماءهم، وصن أعراضهم، واحم أموالهم، وسلم دينهم وعقولهم، وفرج عنهم يا رب العالمين! وأذقهم حلاوة الإيمان، ونور اليقين، وبرد الرضا، وأنس الذكر، إنك على ذلك قدير، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا وأكرم محمداً في أمته، إنك على ذلك قدير.
اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وأسألك اللهم تحرير فلسطين والأقصى، وارزقنا فيه صلاة طيبة مباركة، غير خائفين ولا وجلين من أعداء الدين يا رب العالمين!
وأسألك اللهم أن ترينا في اليهود عجائب قدرتك، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم عليك باليهود وأنصارهم، والنصارى وأعوانهم، والشيوعيين وأشياعهم، اللهم عليك بيهود العرب المتآمرين على الأقصى، الذابحين لمقدساته، المنتهكين لأعراض أهله، اللهم نشكو إليك ظلمهم وأنت أعلم بهم، وأنت الغني بعلمك عن إعلامنا لك، افتح بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الفاتحين برحمتك يا أرحم الراحمين!
منزل الكتاب، ومنشئ السحاب، ومجري الحساب، وهازم الأحزاب، اهزم أحزاب الباطل وانصر حزب الحق، رحماك بالأطفال اليتامى، والنساء الثكالى، والشباب الحيارى، رحماك يا رب العالمين! هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
أحبتي في الله! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من شتات المسلمين دولة، وأن يجعل من يأسهم رحمة، ومن قنوطهم رجاء، وأن يوحدهم على كلمة الحق والدين، إنه على ذلك قادر.
أحبتي! إني أحبكم في الله، إنه لشرف عظيم لي أن أجلس على هذا المكان، وهذا المنبر الذي جلس عليه شيخي وأستاذي فضيلة الشيخ : حسن أيوب، متعنا الله ببقائه سالماً غانماً، ولقد عدت بالذاكرة إلى الوراء إلى أواخر الستينات وأوائل السبعينات، يوم أن كانت بلدي هذه لا تعرف من الدعوة والداعية إلا القليل، فالشباب المسلم المتدين، رجعي متطرف متعصب ممقوت، وأما النساء فكاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، تذهب البنت خلف أبيها تجري حتى يصل بها إلى باب المسجد وقد كشفت فخذيها (بالمنجوب) و(الميكروجوب) ولا ينكر عليه أحد إذ أصبح هذا الزي متعارفاً عليه كأنه عبادة، وأخذنا نتلفت ذات اليمين وذات الشمال، وظننا أن الفساد والفسوق قد تمكن، ولم نعلم أن الله سبحانه وتعالى له في الأرض أولياء ومجددون ودعاة ربانيون! ينقلهم من أرض إلى أرض، ومن جيل إلى جيل، وأينما حلوا كانوا كالعافية للبدن، وكالمطر للصحراء المجدبة، وكالرياح الطيبة التي تأتي لقاحاً لا عقيمة، ومنهم فضيلة الشيخ: حسن أيوب، ولا نزكيه على الله.
أحبتي في الله! ذات يوم كنت جالساً في ديوان، فقال لي أحد الرواد لهذا الديوان: أما سمعت بهذا الخبر؟! قلت له: وما هو؟ قال: شيخ جاء من مصر اسمه حسن أيوب، وله محاضرة، محاضرته الأولى في مسجد العثمان، فهيا نذهب نستمع له، قلت: هيا بنا، وفي هذه الأيام كان اليسار والشيوعية تحيط بي من كل جانب، ويريدون إغوائي وتضليلي، وأبى الله إلا هدايتي، فجئت وجلست بجوار ذلك العمود، وأخذت أرمق هذا الشيخ، بعد أن صليت خلف إمامنا أبي ذر متعنا الله ببقائه، وتأثرت بقراءته وتلاوته، وكانت تتدفق من قلب قد عمر بالإيمان، فلما نظرت إليه وهلة، رأيت وجهه ليس بوجه كذاب، ورأيت له شخصية أخاذة غلابة، إذ وقف وأمسك بيمينه (المايكرفون)، وقد قربوا له كرسياً فنحَّاه وأبى أن يجلس عليه، ووقف وحمد الله وأثنى عليه، ثم أخذ يتكلم بأرواح المدافع لا بسيوف من خشب، أخذ يتكلم وكأن صوته الرعد، احمرَّ وجهُه واحمرت عيناه، وتفصد العرقُ من جبينه، فكأنه منذر جيش مصبحهم أو ممسيهم، وأخذت أنظر إليه، فأتأثر بشخصيته مرة؛ لأن الداعية بسمته دعوة، وبصوته مرة، وبإشارته مرة، وبعبارته مرة، وما إن انتهت المحاضرة إلا وأفقت إفاقة ذلك الذي كان يخوض معركة فجاء منهكاً وألقى بنفسه تحت ظل شجرة ليستريح، لقد خضت مع الشيخ من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء معركة مع نفسي، ومعركة مع الشيطان، ومعركة مع المجتمع، ومعركة مع الشبهات التي في قلبي وفي عقلي، معارك كثيرة طاحنة ما كان الشيخ يخوضها بالسنان ولا بالسيف، وإنما كان يخوضها بتقوى الله، وأحسست أن كل حرف من حروف كلماته يحفر له موقعاً في قلبي، ويثبت نفسه، وأغمضت عيني وإذا بعباراته تتداعى كالشريط المشهود المنظور في ذاكرتي، فلما فرغ من الدرس وصلينا صلاة العشاء، انطلقت إليه أصافحه لكي تلتمس يدي يده فأحس بحرارة الإيمان عن قرب، فأحسست بها ولأول مرة في حياتي أرى النور، النور الحقيقي وقد كنت في ظلمات دامسة أتخبط: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
نعم أيها الأحباب، كلنا نحتاج إلى هذه الولادة الثانية، ومن لم يذقها في حياته فليعلم أنه في عالم الأموات.
الذي لم يذق طعم هذه الولادة التي ينطلق منها انطلاقاً مباشراً إلى الله، لا يلتفت ولا يتأخر فليعد مرة ثانية، يسجد ويبكي؛ لكي يذوقها ولو مرة واحدة في حياته، إنها الحياة الحقيقية والنور الحقيقي الذي إذا ما عصفت بك الأهواء، وادلهمت عليك الخطوب واضطربت عليك الخطى، وجدت نفسك على جسر الحياة ثابت الخطى رافع الرأس، شعارك:
ركضاً إلى الله بغير زاد |
إلا التقى وطلب المعاد |
والصبر في الله على الجهاد |
وكل زاد عرضة النفاد |
إلا التقى والبر والرشاد |
وشتان بين الأولى وبين الثانية، الثانية: بدأت أحس فعلاً أن هذا الداعية الرباني لم يكن إنساناً عادياً، إنما أودع الله فيه من الخصال والمواهب ما لم يودعها إلا في قليل من المجددين لهذا الدين على رأس كل مائة عام، فقد جمع العلم من أطرافه، ففيه حكمة الحكيم، وأدب الأديب، وفقه الفقيه، فبينما أنت تستمع إليه وهو يخطب، تحس أنك تسير خلف قائد إلى معركة، وتتمنى بعد كل خطبة أن يخوض فيك غمار الحرب إلى أن تقف في محراب الأقصى، تحس بهذا الشعور وأنت تستمع إليه.
وإذا خرجت من باب المسجد اصطدمت بالحياة القاسية الأليمة ولا تملك إلا أن تتدفق العبرات من وجنتيك وعينيك، وتقول: يا لها من لحظات سعيدة كنت أعيشها في بيت من بيوت الله!
اجتمعنا كلنا لا فرق بين كويتي وغير كويتي، وبين مصري وفلسطيني، كلنا أحبة يصافح بعضنا بعضاً، ويبتسم أحدنا في وجه أخيه، ونحس بهذا القرب العجيب، من خلال العيش الجماعي الذي نحياه في هذا المسجد.
أحسسنا بآصرة ورابطة تفوق آصرة الحسب والنسب والقرابة، أحدنا يفدي أخاه بنفسه، وأحدنا يبذل ما في جيبه، فكم رجل فتح قلبه بالصلاة خلف الإمام أبي ذر للخالق، انفتح جيبه للإنفاق لإخوانه بعد تلك الصلاة مباشرة، فنراه وهو يجمع الصدقات، ونراه وهو يحث على الصدقات، فنتعجب من كرم هؤلاء الناس البسطاء؛ الذين لا يجد أحدهم في جيبه درهماً فيضع ساعته، حتى إن بعضهم يلقي مصباحه، ونجد أحياناً فيما نجمعه مصباحاً بسيطاً أراد صاحبه أن يعبر به، والذي لم يستطع أن يدفع شيئاً دفع دمعة من عينيه: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92] نعم، ورب دمعة تطيش في ميزان الحسنات فترجح على جميع السيئات.
قال: إلى مسجد العثمان، فقالوا له: الكلام يؤثر في الجرح ، الكلام سيفتح الجرح من جديد، قال: إن كان في أنفي جرح فإن أمامي آلاف القلوب المجروحة التي تنزف دماً، اذهبوا بي إلى المسجد، وجاءوا به إلى المسجد وجلس هنا، فنظرنا إلى وجهه ونرى الغرزات في أنفه، متصلة بشفته، فتعجبنا! وأخذت الخواطر والأوهام تغتال عقولنا! من هذا الذي ضربه على وجهه؟!
من هذا الذي تجرأ عليه؟! وأصبح كل واحد منا يتمنى أن تكون الضربة فيه.
ولله حكمة في أن يرينا شيخنا في هذا المظهر، حتى تتحرك العواطف في القلوب والمشاعر والأرواح، وما أن فرغ من خطبته ودرسه، حتى ثرنا إليه جميعاً نسأله عن مصابه، فابتسم وقال: إنني اصطدمت بعجلة القيادة وأنا أتدرب، فحمدنا الله على سلامته، وما مرت عليه أيام إلا وهو يقود السيارة قيادة ماهرة، وجاء بنفسه دون حراسة وموكب، وإنما ينتقل من السالمية إلى هنا، وهو الذي يحارب الأنظمة العميلة، والمنظمات التي تتاجر بالقضية، وكان لا يبالي ولا يأبه.
وبدأ الشباب المخلص يتقاطرون عليه من كل جانب.
عجيب هذا الشيخ! يأتي إلى بلد ليس بلده، ومع هذا لا يأبه ولا يخاف، خوفه محصه لله رب العالمين، ومن خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف غير الله أخافه الله من كل شيء، هذه مقدمة ونتيجة عرفها حسن أيوب معرفة عملية، وليست نظرية، ولما بدأ يجهز الشباب ويعد العدة، ويرفع راية الجهاد، أطبقت المؤامرة عليه من كل جانب، وبدأوا يسعون من وراء الكواليس، ويهددون، ويحذرون، حتى إنهم ضيقوا عليه فخنقت فيه هذه البادرة المباركة التي لو ظلت إلى أيامنا هذه لآتت ثمارها، وآتت أكلها، وأنا أعلم أن كثيراًمن الشرفاء حتى هذه اللحظة يتلفتون يبحثون عن مثل هذه القيادة ومثل تلك الفصيلة، ولكنهم لم يجدوها.
إن أبناء تل الزعتر، وأبناء صبرا وشاتيلا ، والبداري ، والنهر البارد ، وجنوب لبنان . كانوا يتمنون أن يمضوا تحت هذه الراية، ولكن لا نقول إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون!
وقد عشت لحظات التضييق على شيخي، حتى أنه كان يسهر الليل والهموم تجتاح قلبه، ويقول: يا ابني! يا أحمد! ماذا أفعل؟ التضييق في الداخل، والتضييق في الخارج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! وأجهضت هذه الفكرة الجهادية العظيمة في مهدها.
ومع هذا لم يُفل عضد الشيخ، وأخذ يواصل دعوته، حتى امتلأت المدارس والمساجد بالشبيبة الصالحة، والحجاب الإسلامي، ولأول مرة بفضل الله أصبحت المرأة المتبرجة شاذة، والمتحجبة هي الأكثرية والأغلبية: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].
أيها الأحبة الكرام! فلما رأى الشيخ أن الثورة الحماسية التي تدفقت منه إلى القلوب وصلت منتهاها وبلغت ذراها، لم يكتف عند هذا، وبدأ يؤصل منهجاً تعليمياً تدريسياً هنا في هذا المسجد، فأنشأ مدرسة العثمان، وحدد المنهج، ودرسنا على يديه: سبل السلام، والتفسير، والفقه، والنحو، والسيرة، والسلوك الاجتماعي.
ولا ننسى تلك اللحظات الجميلة التي نحياها معه، وهو يفسر كتاب الله، وهو يتحدث عن قصة الإفك وسورة النور، وبينما هو يتدفق في حديثه الهادر، نراه يعرج مرة ثانية بعبارات رشيقة وكلمات أنيقة، يمزج اللهجة العامية المصرية باللغة العربية، فتتحول الأفواه المشدودة والحواجب المعقدة إلى سرائر مبتسمة ومبتهجة، هكذا كان يحرك المشاعر بالكلمات والعبارات.
ولا يتمالك السامع عندما يستمع إلى الشيخ وهو يستدل بهذه الآية على ذلك الموقف الرباني إلا أن يشارك بقلبه ودموعه تلك الأخت المسلمة، التي بينه وبينها آلاف السنين.
أحبتي في الله! فضيلة الشيخ حسن أيوب، كنت أستمع إليه وهو يضرب على هذه المنضدة بيمينه ضربة تزلزل قواعد الشيطان، وتنسف أركان الباطل، وتقذف بالحق فإذا الباطل زاهق، ولا أنسى إشارته بإصبعه التي يرفعها إلى السماء عندما يشتد في خطابه، لا أنسى عينيه الثاقبتين الحادتين وهو يوجههما بعد صمت يقطع صوته في خطبته لكي يستجمع نقاط خطبته أو محاضرته من جديد، ثم ينطلق من جديد بمعركة ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة، في الخطبة الواحدة، والدرس الواحد.
فأخذت أتعلم منه، فإذا بلغ الأمر عنده منتهاه نظر نظرته الحادة، فقلت: اللهم استر سينفجر البركان لا محالة، فإذا انفجر كان انفجار الحليم، الذي لا يبقي ولا يذر.
أحبتي في الله! تشرفت بغسل أطباق غذائه، تشرفت بصحبته وجواره، وأخذت منه علماً وفيراً، علم السلوك، فإن العلم النظري لا يكفي إذا لم تأخذ علم السلوك والتطبيق العملي.
فقلت له: يا شيخي كيف استطعت أن تجمع هذه الطاقة؟! فقال: بدعاء كنت أدعو به ربي يوم أن كنت في السجن، لقد كان يبلغني ما كان يكتبه سيد قطب -رحمة الله عليه- على حواشي المصحف (في ظلال القرآن) وكانت تأتيني أقرؤها فأتعجب من فهمه للقرآن، فكنت أبكي في سجودي وأنا في السجن، وأقول: اللهم فهمني القرآن كما فهمته، أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك لا علم لي إلا ما علمتني إنك أنت العليم الحكيم، يا معلم آدم وإبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، ويا مؤتي لقمان الحكمة آتني الحكمة وفصل الخطاب.
يقول: وبينما أنا كذلك في إحدى ليالي السجن، إذ أحسست أن الله قد فتح عليّ فتوحاً عظيمةً، ففررت إلى كتاب الله أتلوه من جديد، وإذا بالفهم والعلم يتفتح عليّ في كل حرف، وكل كلمة، وكل آية.
أحبتي! إنه الدعاء والصدق والإخلاص، والإلحاح باللجوء إلى الله الذي بيده خزائن السماوات والأرض: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طـه:114].
وكان إذا حمد الله لا يحمد عن نفسه بل يحمد عن كل إنسان موجود على وجه الأرض، فيقول: (اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر).
فهو يحمد عن جميع الخلق، إنه القلب الكبير الواسع، رأيت هذا في شيخي، إذ التقينا به في هذه المؤتمرات فوجدته يحاضر، وبعد المحاضرة يحيط به الشباب الغرباء هناك في أرض الكفر فيعصرونه بالأسئلة عصراً، لا يتركونه يتنفس؛ لأن كل واحد منهم عنده مخزون من الشبهات والأسئلة، كيف لا وهو يعيش في أرض كافرة ماجنة، شعارها: تدمير الدين والأخلاق؟!
ثم رأيته بعد المحاضرة يقيم حلقة فقهية، ثم درساً، ثم يشارك في إعداد السمر الختامي، ثم يشارك في الندوة، ثم رأيته يشارك في الزيارات، وفي اجتماعات لجان المؤتمر لكي يخطط معهم للمؤتمر القادم، ورأيته يشارك في النكتة، وفي التمثيلية، وفي الأنشودة، وفي الموقف المحرج بروح شابة فتية تدخل السرور على القلوب، فقلت: سبحان الله! هذا من الله، وهذا فضل الله! وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور:21] .. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
وأخذت أتعلم منه ذلك، نعم، أصبر على أذى الناس وعلى كثرة أسئلتهم، وذهبت إلى عشرات المؤتمرات بعده، وفي كل مؤتمر إذا ضاقت نفسي وأحسست بالشوق إلى أهلي تذكرت حسن أيوب ، فكانت صورته في المؤتمرات بفضل الله ومواقفه تثبتني، وتعيد إليَّ حلاوة الإيمان وأنس الطاعة، واستشعار الثواب، فأصبر وأصبر.
نعم، فوالله لولا أن الله أرسل مثل هذا ومثل إخوانه من العلماء العاملين، لكانت حالة المنطقة أمام هذه الشعارات المرفوعة البراقة في زخرف القول، التي يتأثر بها كل زاعق وناعق حالة غير حميدة.
أحبتي في الله! حسن أيوب لا يزال يدعو وهو يتطلع شوقاً إلى أرض مصر كلما التقيت به قال: يا ليتني أعود إلى قريتي! يا ليتني أستقر فيها! فلها عليَّ معروف أريد أن أسدده قبل أن أموت؛ فإن فيها تعلمت، ومنها تخرجت، ويبدأ يتكلم، إنها الأصالة، إن حسن العهد من الإيمان، إنها المروءة التي تجعله يشعر هذا الشعور، ولكن الواجب الذي هو فيه، وحاجة الصحوة الإسلامية إليه هي التي جعلته يضحي بتلك العواطف وتلك المشاعر.
ماذا كان يقول؟ استمعوا إليه، فهذه هي الرسالة الثامنة من رسائل المسجد: فقد آثرت أن أجعلها في مواضيع الجهاد والفدائية في الإسلام، بعد أن كنت مجمعاً أن أجعلها في موضوع المرأة المسلمة وما لها من حقوق وما عليها من واجبات، والسبب في ذلك: أن القتال في بيروت بين المسلمين من جهة وبين الصليبيين والصهيونيين من جهة أخرى كان على أشده أثناء البدء في هذه الرسالة، وكانت موجات التشكيك والتثبيط قد طغت على الفكر الإسلامي والعربي في المنطقة، حتى كنا نسمع أن الدولة الفلانية من الدول العربية تمد الكتائبيين بالأسلحة والمعونة والنصرة، وأن الفئات الإسلامية عديدة، ترى أن هذه الحرب اللبنانية حرب جاهلية لا صلة لها بالإسلام، ولا تمت إليه بصلة من قريب ولا من بعيد، بينما رأينا بأعيننا مسلمي لبنان بعد إحساسهم بالخطر يتحركون في البلاد العربية، ويتصلون بالأفراد والجماعات والأغنياء لكي يمدوهم بالمال، ويساعدوهم بالرجال؛ حتى يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم ضد الخطر الزاحف عليهم، والذي لا يريد إلا إذلالهم أو استئصالهم، ووصل الأمر ببعض المتزعمين من المسلمين أن يقول: إن الذين يقتلون من المسلمين في لبنان دفاعاً عن أنفسهم ليسوا بشهداء، وبدأ الشيخ يشن حملة عجيبة يحارب فيها عبارات التشكيك في جهاد أرض لبنان وأرض فلسطين ، وإن هذا التشكيك كان يخدم اليهود، ويخدم الصليبيين وأعداء هذا الدين، فكان هنا بالكلمة والعبارة ينافح عن فلسطين وعن الأقصى.
ونراه يشن حملة شعواء على بعض الأحزاب الحاكمة ولا يبالي، يقول: أمامي جريدة السياسة الصادرة بتاريخ (7/8/86م) وفيها العناوين الآتية عن معارك لبنان :
مذابح انعزالية في حي النبعة.
ذبح واستحلال المدنيين وهدم البيوت.
شاهد من تل الزعتر يقول: الكلاب نهشت جثث الضحايا.
والعدس أنقذنا من الموت جوعاً ..
ترحيل جرحى تل الزعتر تحت طلقات القناصة ..
خمس مائة قتيل وجريح في لبنان في يوم وقف إطلاق النار ..
ثم يعلق الشيخ: وتقرأ تحت هذه العناوين الأعمال الوحشية التي يرتكبها نصارى المارون بـلبنان ضد المسلمين.
إلى أن يقول: فإذا تصورت أن في المعسكر من الأطفال والشيوخ ما يزيد عن عشرين ألفاً، أدركت قسوة هؤلاء الصليبيين ووحشيتهم، وحقدهم الأسود ضد المسلمين، وأدركت أن الذين يأملون الخير منهم ليسوا إلا حمقى مستغلين أو مستغفلين.
ثم يقول: ويستوي في تعذيب المسلمين وتشتيتهم من كان في بلاد المآذن والمساجد ومن كان في بلاد الصلبان والكنائس، ومن كان في بلاد داس حكامها المسجد والكنيسة معاً، وهدموا جميع معابد الله تعالى، هناك مذابح حدثت للمسلمين في أثيوبيا وأريتيريا والصومال ، وبدأ يعدد الدول العربية دولة دولة ولا يبالي.
ثم يقول: وهناك اضطهاد فكري وحركي لكل جماعة إسلامية، ثم ينتقل ويصيح بأعلى صوته يضرب بكلماته كما تضرب قنابل النابال وجوه الأطفال الأبرياء: كثيرون منهم يشنون الحرب على إخوان لهم في العروبة والإسلام حتى حرقوهم بقنابل النابال، وهدموا قراهم بالدبابات، وداسوا أطفالهم بالأحذية، وأمسكوا بالمصحف فرموا به في الأرض وداسوه بالأقدام، وأحرقوا عشرات الآلاف من الكتب الإسلامية، وسحبوا المسلمين على وجوههم مربوطين بالسيارات حتى مزقوهم شر ممزق، وفجروا بالفتيات العذارى، وأبادوا الوطنيين بالمئات، وجعلوا من الوطنِ سجناً كبيراً فيه ملايين المعذبين والمضطهدين والمكممين.
أما كبار الموظفين فآلهة متربعون على عرش من البغي والكبر، والغرور والحمق، والخبل والجهل، وقذارة النفوس.
ونراه يصرخ بأعلى صوته وهو يفصل أولئك الحكام على طبقات وأنواع الحيوانات: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55] ثم يصرخ صرخته: وهي الأصل في الإنسان سواء تحرك في صورة ذئب، أو ثعلب، أو أسد أو لبوة، أو حمار، أو خنزير، إلا في حالة واحدة وهي أن يقول: ربي الله، ثم يستقيم على دينه، عند ذلك يكون إنساناً حقيقياً.
أحبتي في الله! أرأيتم تلك العبارات، وسمعتم تلك الإشارات؟ إنها الروح الفياضة التي استقينا من نبعها الصافي سنين طويلة، وأياماً كثيرة عشناها.
فنسأل الله أن يمتعنا ببقائه سالماً غانماً، وأن يعيد حرارة الإيمان إلى قلوبنا والمسلمين، وأن ينفعنا بعلمه، وأن يحفظنا ويحفظه بعنايته ورعايته وكفايته هو ولي ذلك والقادر عليه، وأن يمده بالعافية، وأن يزيده قوة على قوة، وأن يجعلنا ممن يعرفون حقه، فندعو له بظهر الغيب أن يشفيه ربنا من كل مرض، وأن يحفظ له كل جنب، وأن يغفر له كل ذنب، وأن يجعله ووالديه ووالدينا في عليين هو ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا سوءاً إلا صرفته، ولا عيباً إلا سترته وأصلحته.
اللهم إنا نسألك العافية، ودوام العافية، والشكر على العافية في الدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، والصدق واليقين والمعافاة، اللهم اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر، نسألك رحمة من رحماتك المغنيات المنجيات، يا أرحم الراحمين!
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تغنينا بها عن رحمة من سواك، استعملنا فيما يرضيك، ولا تشغلنا فيما يباعدنا عنك، واقذف في قلوبنا رجاءك، واقطع رجاءنا عمن سواك حتى لا نرجو أحداً غيرك، أصلح أولادنا وبناتنا وأزواجنا وأرحامنا.
اللهم اجبر قلوبنا المكسورة، وأرواحنا الحائرة، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل يا أرحم الراحمين!
هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر