وأصلي وأسلم على قائدي وقدوتي وقرة عيني محمد بن عبد الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أثقِّل بها الميزان، وأحقِّق الإيمان، وأفكُّ الرهان. اللهم لا تحرمنا بركتها وبرها، واجعلها من خير وآخر أعمالنا.
وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، ومن اهتدى بهديهم، واستن بسنتهم إلى يوم الدين.
أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الرجاء إلا لِمَا في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم.
اللهم تتابَع برُّك، واتصل خيرُك، وكمُل عطاؤك، وعمَّت فواضلُك، وتمَّت نوافلُك، وبرَّ قسمُك، وصدق وعدُك، وحق على أعدائك وعيدُك، ولم تبقَ حاجة لنا إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر إخواننا المجاهدين.
اللهم فك المأسورين والمسجونين من الدعاة المخلصين.
اللهم أكرم الشهداء، واجعلهم في عِلِّيِّين، وثبت الغرباء، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ونسألك لأمة محمد صلى الله عليه وسلم خليفةً ربانياً يسمع كلامَ الله ويُسمِعها، وينقاد إلى الله ويقودُها، ويحكم بكتاب الله وتحرسُه، لا يخضع للبيت الأبيض، ولا يركع للبيت الأحمر، شعاره:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا |
وإذا اعتز الناس بعروشهم وقروشهم، اعتز عليهم بدينه، وصاح:
أبي الإسلام لا أب لي سـواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ |
وإذا توعدوه وهددوه، صاح بهم صحية خبيب :
ولستُ أبالي حين أُقْتَل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشـأ يباركْ على أجزاء شلوٍ ممزعِ |
أحبتي في الله: كَثُرَت الشكوى من الأمهات على الأبناء والبنات، كثرت الشكوى من الوالدين يرفعونها إلى الله في الليل والنهار، (ثلاثة لا ترد دعوتهم: المظلوم. والمسافر. والوالد على ولده
الحديث يقول: (على ولده) وليس له، معنى هذا: إذا غضب الوالد فدعا على الولد، استجاب الله.
أم ترسل إليَّ باكية شاكية من قطيعة ولدها، تقول: لا يستمع إلى شكواي، ولا يرحم بلواي، إنما كله أذُنٌ صاغية لامرأته التي تتلون، إذا غاب عنها صبَّت جام غضبها على الأم، وأذَلَّتها الليل والنهار، وإذا جاء الولد أرخت النقاب على وجهها وتباكت وتلونت، وأخذت تسرف وتهدر الدموع، وتقول: أمك قالت .. وأمك فعلت .. حتى اشتد النقاش أمام الولد بين الزوجة والأم، فما كان من الولد إلا أن رفع عقاله وضرب أمه أمام زوجته.
وآخر هَجَر أمه ولاذ بزوجته، وقام بعض المصلحين لإصلاح ذات البين.
قالوا له: يا هذا! اتق الله، صِلْ أمك، فإن الجنة تحت أقدام الأمهات.
قال: لا. الجنة تحت أقدام الزوجات.
لماذا تقطعها يا هذا؟
قال: لكي أربيها وأؤدبها.
الولد الصغير يربي الأم ويؤدبها!
إن كنا نحن نستأخر من الله نزول المطر، وامتناع السماء، فإننا -والله- لا نستأخر منه العقوبة بأن نُرْجَم من السماء بغضبة من غضبات الرحمن للأرحام المقطوعة!
أحبتي في الله! اذهبوا إلى مأوى العجزة لكي تروا شيوخاً كم خاضوا غمار البحر أيام فقر الكويت، واستخلصوا لقمة العيش بين أمواج البحار وأنياب الأسماك المتوحشة، يغيبون ثلاثة شهور في الغوص في عز الصيف واللهيب والقيظ، وفي الشتاء ينقلون الأطعمة، ويحلون المجاعة في الخليج إلى الهند، فأصبح جزاؤهم بعد كبر سنهم مأوى العجزة، يشرف عليهم فلبيني وفليبينية، وسيلاني وسيلانية، وفلان وعلان من الموظفين الذين كثيرٌ منهم نُزِعت منهم الرحمة، فهم يتعاملون معهم كتعامل الموظف مع المنظف، يا ويله لو أخطأ أو خالف، أو وسَّخ في ثوبه أو نفسه، أو كسر كوباً، يحاسبه حساباً عسيراً، ولو سألتَ: ألك أبناء؟ قال: نعم. لي أولاد كبار تجار! ولكن القلوب قست! والأرحام تقطعت!
يقول تعالى في كتابه الكريم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36] ذكر الله أخطر قضيةٍ في الوجود، وهي توحيده، وترك الشرك، وقرن ذلك بالإحسانَ بالوالدين، فهي قرينة توحيد الله.
وقوله سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] .
أحبتي في الله! واللهُ أثنى على بعض أنبيائه في القرآن ببرهم لوالديهم:
فقال عن يحيى عليه السلام: وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيَّاً [مريم:14] .
ويقول عن عيسى: وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً [مريم:32] .
وَهْناً عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14]، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الأحقاف:15] لهذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي -بحسن معاملتي، وبحسن إكرامي وبري وإحساني-؟! قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ -في الرابعة- قال: أبوك).
والأم أخذت هذه الحقوق الثلاثة لتَعَرُّضِها إلى آلام وشدائد ثلاث:
الأولى: أنها حملتك.
والثانية: أنها وضعتك.
والثالثة: أنها أرضعتك.
أما أبوك، فقد حملك في ظهره نطفة، ووضعك في رحم الأم شهوة، وليلة حملك ما فكر فيك، إنما فكر بشهوته.
ويوم أن حملت الأم عانت من الحمل ما عانت، من اللوعة والتعب والسقم، يتخلق الجنين من عظامها ولحمها ودمها، وأعضائها، وترى نفسها تنقص يوماً بعد يوم، وتحملك، احمل في يدك قلماً من الحبر ساعة، تجد أنك تفقد أعصابك، وتضيق نفسك وترميه، فكيف بمن تحمل مخلوقاً في جوفها تسعة أشهر؟!
حملتك، ثم وضعتك، ثم أرضعتك تمص الغذاء من جسدها ومن عافيتها عامين كاملين.
أين أبوك؟!
في المستشفى مريض، ولو مات لكان أريح له وأحسن.
الله أكبر! لماذا لم يقل والدك وأنت جنين بين يديه يسهر لسهرك، ويجوع لجوعك، ويمرض لمرضك: يا ليت ابني يموت في سهره ويرتاح؟! ما قالها، بل كان يتمنى أن تكون أحسن منه.
وَقَـضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] وهذا الخطاب لمن تضيق نفسه -شيء نفساني من الداخل لا يعلم به الوالد والوالدة- لكن يُعَبَّر عنه في أقصى الحالات بـ(أُفْ)، وأما الطاغي الباغي المتجبر المتكبر، هذا الذي لا يبالي، ينهرهم في الصباح، ويزجرهم في المساء، فذكر الله أدنى الطرفين: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:23-24] وهنا يؤتى بأرحم موقفٍ يلاحظه الإنسان في الوجود، طائر في شدة القيظ تحته فراخ صغار، لم يظهر زغب الريش على أجسادها، فهو جلدٌ عارٍ أمام الشمس، فيأتي الطائر في وهج الظهيرة يفرش جناحيه على فرخيه، يحميه من وهج الشمس حتى ينكسر حرها.
فالله يريد منك أن تفعل هذا بوالديك ويشبههما بكبرهما كأنهما فرخان صغيران نحيفان عاجزان: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] وذكر الجناح هنا يفيد السرعة في الاستجابة، فالطائر يُسْرِع عندما يطير، ولا بد أن تسرع عندما ينادي الوالد، وتنادي الوالدة كأن لك جناحين تطير بهما.
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24].
وتلاحظون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نظم عقداً من العبادة:
الخرزة الأولى منه: عمود الإسلام، وهي: الصلاة.
والخرزة من الطرف الثاني: ذروة الإسلام، وهو: الجهاد.
وواسطة العقد الذي يزين الصلاة والجهاد: بر الوالدين.
جعل بر الوالدين بين الصلاة والجهاد.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولدٌ والده ...) انظر إلى التعجيز في الجزاء، لا يوجد من بيننا الآن مخلوق يستطيع أن يجازي الوالد أو الوالدة أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكاً، فيشتريه فيعتقه) حديث صحيح، إلا أن ترى والدك عبداً مملوكاً فتشتريه من المالك، وتعتقه لوجه الله، عند ذلك تكون جازيته، هذا أمرٌ لا يطيقه الناس، ولا يستطيعونه اليوم.
إذاً لا تستطيع جزاء الوالد أبداً.
وأتى رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أشتهي الجهاد، ولا أقدر عليه، فقال: (هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك، فأنت حاجٌ ومعتمرٌ ومجاهدٌ) تصور! ببر أمه ينال أجر الحاج نفلاً، والمعتمر نفلاً، والمجاهد نفلاً.
وجاء جهامة رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها، فإن الجنة عند رجلها) حديث صحيح.
وقال: (من سره أن يُمَد له في عمره، ويُزاد في رزقه, فليبر والديه، وليصل رحمه) حديث صحيح.
والقصة معروفة يتداولها كبار السن: شُهِد رجلٌ يضربه ابنه وهو هرم، ويضع أنفه في الطين والرغام، واجتمع الناس حول الابن:
ويحك، ماذا تفعل؟! إنه أبوك!
فقال الوالد: دعوه، دعوه، فإني فعلت بأبي في يوم من الأيام كما يفعل ابني بي اليوم.
وهذه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بالرغام -والرغام هو: الطين والوحل والتراب-: (رَغِم أنفه، رَغِم أنفه، رَغِم أنفه- ثلاثاً- قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه أو أحدهما، ثم لم يدخلاه الجنة). (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ -يقولها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم لخطورتها- قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).
أرأيتم؟ كما جمع بر الوالدين بين الصلاة والجهاد، جاء بعقوق الوالدين بين أكبر الكبائر: الشرك بالله، وشهادة الزور.
وكل شيء يذهب منك يُعَوَّض إلا الوالدين، الزوجة تخلفها زوجة، والولد يخلفه الولد، والمال يعوض بالمال، وإذا ماتت الأم من أين تأتي بأم؟! إذا مات الوالد من أين لك بوالد تبره، فيأتيك الثواب؟! وما ندم النادمون إلا بعد فوات الأوان، عندما يمر به حديث أو آية، فيعض أصابعه حسرةً وندماً: آه! يا ليتني بررتهما في حياتهما! هيهات .. هيهات! فات الأوان، وما بقي لك إلا أن تصل ودهما من رحمٍ وصاحبٍ، وأن تستغفر لهما، وتتصدق عنهما.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس) حديث صحيح، هذا حديث آخر، جمع النبي فيه بين الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله قتلها، كما يُفعل الآن هناك في لبنان في مخيمات الفلسطينيين، منظمة أمل -قطع الله آمالها في الدنيا والآخرة، ومن أعانها وناصرها وأيدها وسكت عنها، آمين- يُذَبِّحون المساكين، ويهتكون الأعراض، كم من عرض الآن يُهتك! وكم من أمٍّ طرحت ابنتها أمامها! ودمها يسيل بين فخذيها! وألف مليون مسلم صامت! ومائة مليون عربي، واثنان وعشرون دولة باثنين وعشرين جيشاً، وجامعة عربية، وهيئة أمم، ومجلس عَفَن، ولا يتكلم أحد! هل سمعتم في المنابر، أو في المساجد، أو في أي مكان أخباراً مقتطفة صغيرة تُنشر في الصحف؟
وينشرونها باستحياء وكُره؛ لأنها مؤامرة عالمية، حتى ما عاد هناك ذكر للفدائي، أو للمنظمة أبداً، انتهت الأمور، لا يوجد ذكر، مؤامرة عالمية على الأقصى وفلسطين، هذه الجريمة الشنعاء التي تمارَس الآن من الذبَّاحين وشركائهم جنباً إلى جنب مع عقوق الوالدين.
الشرك بالله، وعقوق والوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس، اليمين التي يقسم بها الإنسان أمام القاضي ليقتطع حق مسلم، فيشهد بها؛ فتغمسه في النار، اذهب إلى المحاكم في الدول العربية تجد شهداء الزور: أتريد شاهداً؟ وعلى رأسهم بعض المحامين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، وهي من أخطر المهن، ولا ينجو منها إلا الصالح الذي يرى سبيل المؤمنين فيتخذه سبيلاً، ويرى سبيل الغي فلا يتخذه سبيلاً، الذي يشير إلى المتهم المجرم الذي يعلم أنه أجرم بعد أن لقنه كلمات يقولها لكي يتجاوز عن القانون: إن موكلي هذا الذي ترونه أمامكم بريء مما أُلْصِق به، إنه بريء كبراءة الذئب من دم يوسف، ونقي كنقاء ماء السماء. لكي يقبض منه بعد ذلك دريهمات قليلات تغمسه في النار عند الله يوم القيامة، هذه من جنس هذه، يأتي يوم القيامة المشرك بالله وبجواره عاق والديه، وبجواره القاتل، وبجواره شاهد الزور، جنباً إلى جنب في طابور واحد، يحاسبون في وقت واحد، بئست العصابة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من الكبائر: شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟! قال: نعم. يسب أبا الرجل؛ فيسب أباه، ويسب أمه؛ فيسب أمه) وهذا يتعرض له كثيرٌ من الناس ذوي الأعصاب المتوترة، ما إن يشتم والد المخاصِم حتى يشتم أباه، فيرتكب كبيرة من الكبائر، ولو كان مظلوماً والحق معه، ولو كنتَ مظلوماً والحق معك، فتسببت بشتم الوالد أو الوالدة، فقد ارتكبت كبيرة، مهما كان الظلم، ومهما كان السبب، فلهذا يحرص الإنسان على ألا يتعرض لمثل هذه الموبقات.
رأى أبو هريرة رجلين يمشيان -كبير وصغير- فقال للصغير: [ما هذا منك؟ فقال: أبي، قال: لا تسمِّه باسمه، ولا تمشِ أمامه، ولا تجلس قبله] هذه آداب الصحابة التي فقدناها اليوم، اليوم عندنا جيل خدَّاماته هنديات، الولد يبكي على الخدامة أكثر مما يبكي على أمه، أمه تذهب في الأسواق والجمعيات وبيوت الأزياء ترصد الأسعار والموديلات والفساتين، والخادمة هي التي ترضع الطفل وتغسله وتنظفه وتحفظه وتنومه، فيخرج جيلٌ كامل، إن كانت المشكلة في أفراد، ستكون الآن في مجتمع، وفي أمة، وفي شعوب، جيلٌ كامل لا يبر والداً، ولا يحترم أماً، وإذا سافرت الخادمة بكى عليها الدم، ماذا سنفعل بجيل هذه مشاعره؟!
أبو هريرة يقول للولد: [لا تسمِّه باسمه ...] لا تقل: يا فلان! يا عبد الله! قل: يا أبي، يا والدي، هذا أدب القرآن، إبراهيم كان أبوه كافراً، واسمه آزر، كان يهدده ويقول له: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46] وإبراهيم مع أنه أطال النقاش مع أبيه إلا أنه لم يترك كلمة: يا أبت .. يا أبت .. يا أبت .. وما ناداه باسمه أبداً.
قال: [ولا تمشِ أمامه ...] تقديراً واحتراماً والآن يتدافع الأولاد أمام الآباء بلا حياء.
[ولا تجلس قبله ...] الآن الولد يجلس أمام التلفاز، ويمد رجله في بيت أبيه، وإذا قال له أبوه: قم فصلِّ، قال: ليس لك دخل بي، أما سمعتَ أنتَ التلفاز ماذا يقول؟! أما قرأت القانون؟! أما قرأت الكتاب؟! أما قرأت المنهج؟! أما قرأت الجريدة؟! الدين لله، والوطن للجميع، أنا أكره أي شخص يتدخل في صلاتي وفي ديني، ما أنا بمصلٍّ، فيسكت الوالد مقهوراً.
أب مسكين يأخذ ابنه إلى نادٍ يدربه (الكاراتيه) وبعد ذلك اختلف معه اختلافاً بسيطاً، قال الأب: ما أنا بمشترٍ لك، فقفز الولد في الهواء مثل الشيطان، وضرب والده على صدره، فبقى الأب أسبوعاً كاملاً في المستشفى، هذا بعد التدريب.
أعلمه الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني |
وكم علمته نَظْم القوافي فلما قال قافيةً هجاني |
و الفضيل بن عياض رضي الله عنه يقول عن الوالدين لما سئل عن برهما، قال: [لا تقم إلى خدمتهما وأنت كسلان، ولا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر إليهما شزراً، ولا يريا منك مخالفةً في ظاهرٍ أو باطن، وأن ترحم عليهما ما عاشا، وتدعو لهما إذا ماتا].
هذه وصية الفضيل .
وقد كان السلف الصالح يضع طعام أمه في طبق، وطعامه هو بجوارها في طبق، فقالوا: [لم لا تأكل معها في إناءٍ واحدٍ؟ قال: أخشى أن تهم بأخذ اللحم والإدام، فتسبق يدي قبلها، فآكله قبلها، فأعق الله فيها] انظر إلى حساسية الصحابة والتابعين، يخاف أن يأخذ لقمة تريد هي أن تأخذها.
ماذا نقول الآن للأبناء وللبنات؟ البنت المثقفة تحمل الكتاب وتدور في الدار، وأمها المسكينة التي تكنس وتخدم وتطبخ وتغسل، وإذا أرادت أن تسمع منها كلمة شكر، قالت لها: أنت متحجرة، وأنت رجعية، وأنت متعصبة، وأنت لا تفهمين، وأنت متأخرة، هذه هي نتيجة التربية، ومناهج التربية.
أحبتي في الله! المشكلة عمت وطمت وكثرت، وإن هناك بعض الأمهات من تخاف من ولدها أكثر من خوفها من الله، إذا دخل الولد تقول الأم: اسكتوا، لا أحد يتكلم، دخل فلان، وإذا نست أي حاجة من حاجاته أصبحت -مسكينة- ترتجف، لا تنام الليل، ولا تهنأ في النهار خوفاً من جبروته وطغيانه، وإذا مال إلى زوجته وبيته، رأيته ذليلاً خانعاً تمسح به الأرض، وهذه عقوبة من الله.
اللهم اجعلنا واصلين لآبائنا، بارين لأمهاتنا، عارفين لأرحامنا، أنت ولي ذلك والقادر عليه، نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
أقول قولي هذا.
وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن أبرَّ البرِّ صلة الولد أهل ود أبيه) أي: تصل أصحابه وأرحامه.
جاء رجل من بني سلمة، قال: (يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قـال: نعـم. الصلاة عليهـما -أي: أن تدعو لهما- والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما -يعني: الوصية- من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما
أحبتي في الله! وهذا والد يشكو ولده بقصيدة مؤلمة مبكية لما عقه، قال:
غذوتك مولوداً وعُلْتُك يـافعاً تَعُل ما أجني عليك وتنهلُ |
إذا ليلة ضامتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململُ |
كأني أنا المطروق دونك بالذي طُرِقت به دوني فعيني تهملُ |
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجلُ |
فلمَّا بلغتَ السن والغـاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤملُ |
جعلتَ جزائي غلظـةً وفضاضةً كأنك أنت المنعم المتفضلُ |
فليتك إذ لم ترع حـق أبُوَّتي فعلتَ كما الجار المصاحب يفعلُ |
فأوليتني حق الجوار ولـم تكن علي بمالٍ دون مالك تبخلُ |
ويقول صلى الله عليه وسلم لما جاء ولدٌ يشكو والده بأنه يأخذ من ماله، أمسك الولد، ودفعه إلى الوالد، وقال: (أنت ومالك لأبيك).
أحبتي في الله! إذا عدتم إلى بيوتكم، فقبِّلوا رأس الأم ويدها، وأعطها يا أخي من راتبك، ولو كانت غنية، فإنها تحب أن ترى ولدها يصلها، فوالله إن الدينار الذي يأتي منك أحب إليها من المليون الذي يأتي من غيرك، فتعاهدها بالهدية بين الحين والحين، إذا ذهبتَ إلى السوق فاشتر لها قطعة من القماش، عجباً لمن يقول لأمه: أسرفتِ بالثياب يا أماه، وزوجته يشتري لها ويتشهَّى الثوب عليها! أرأيتم! أرأيتم القلوب كيف تنقلب! لو قالت له أمه: أريد قطعة من قماش، قال: دولابك مملوء، وإذا قالت الزوجة، قال: إذا أنتِ لم تلبسيه من يلبسه؟! وأخذ يبذل الأموال.
اتقوا الله عباد الله، أكرم والديك قبل فوات الأوان، وهو دَين لك أو عليك، إن سددته الآن، جاء أولادك بعد ذلك يؤدونه لك.
فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل أولادنا بارين بنا.
اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سِلْماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك،اللهم اغفر لوالدِينا والمسلمين أجمعين،اللهم ارحمهم في قبورهم، واجعل لهم في قبورهم روضة من رياض الجنة، أمدهم بالرَّوح والريحان، والنور والإيمان، والبر والرضوان.
اللهم من أراد بنا والمسلمين سوءاً فأشغله في نفسه،اللهم إننا نسألك الشهادة في سبيلك بعد طول عمرٍ وحسن عمل،اللهم إنا نسألك العافية في الجسد، والإصلاح في الولد، والأمن في البلد.
هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان.
إن الله يأمر بالإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر