وأصلي وأسلم على أفصح العرب سيد ولد آدم محمد بن عبد الله, القائل لـحسان بن ثابت : (اهجهم وروح القدس معك) وكان شعره رضي الله عنه وأرضاه أشد على الكافرين من نضح النبل, ولقاؤنا اليوم أيها الأحباب الكرام بعنوان "جمال الخواطر" وقفات تربوية مع الشعر والنثر والأمثال والحكم.
فسبحان ربي الذي أعطى الإنسان البيان! قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] الحمد لله على الهداية.
أحبابنا الكرام: يقول الشاعر -وأتمنى كل أخ وأخت أن تتمثل هذه المعاني الجميلة سلوكاً وعملا- يقول:
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه كأن به عن كل فاحشةٍ وقرا |
سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجرا |
إذا ما أتت من صاحبٍ لك زلةٌ فكن أنت محتالاً لزلته عذرا |
ما معنى هذا الكلام؟ لا يخفاكم معناه, ولكن لنا معه وقفة, الشاعر الحكيم هذا وهو سالم الأسدي، وهو فارس من شعراء عبد الملك بن مروان ، وهو تابعي وأبوه صحابي جليل رضي الله عنه, يقول: إني أحب الفتى الشاب، أيضاً والفتاة الشابة, فحكم الأخلاق واحد, نوجبه على الذكور كما نوجبه على النساء.
"أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه" وكأن السمع عنده مخلوق مستقل, يملك الإرادة على أن ينفي الفواحش, وكل عضو فيه سمعاً كان أو بصراً أو يداً أو رجلاً أو فؤاداً ينفي الفواحش.
"أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه" فتراه إذا سمع كلمة عابرة مؤذية من السباب أو اللعان أو الشتائم أو الغيبة أو النميمة، أو فحش القول أو اللغو, رأيت سمعه يتخذ موقفاً عجيباً، يأتي إلى تلك الكلمة فينفيها بعيداً هناك في المجال الغير مسموع, وكأن هذا السمع يملك تلك الحساسية وذلك الجهاز، والإنسان يسمع في اللحظة الواحدة كلمات وكلمات، يدخل السوق.. يدخل المجمعات.. يدخل الديوانيات.. يمر على المجالس.. يطوف في المنتديات.. يتنزه في السواحل.. إنسان يعيش مع الناس, وتخرج الكلمات أفواجاً؛ منها الخبيث ومنها الطيب, أما هذا الفتى فعنده مناعة وحصانة لكل كلمة فاحشة, ما إن تمر إلا ويغلق السمع عنها بابه, أي باب؟ باب الإنصات, وإلا فالسمع العام لا يستطيع إنسان أن يمتنع منه, فالكلمة الطيبة أو الرديئة تنفذ من الأذن أردت أم لم ترد, أنت تقف عند إشارة المرور وعن يمينك شخص مشغل مذياعه على أغنية يقول فيها المطرب: أحب حبيبي، وأعبد حبيبي، فما تملك أن تضع أصابعك على أذنك أو تضع كاتم صوت أو عازلاً لكي لا تسمع هذه الكلمات, فالناس تضحك عليك وتستهزئ بك, لكن هذا السمع العام لا يضرك, إنما يضرك أن تحوله من سمع عام إلى إنصات خاص, للقرآن فقط تحوله من سمع عام إلى إنصات خاص، قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
أما فحش القول فلا ينصت إليه, وإنما السمع يغلق منافذ الإنصات, فالكلمة تدخل من هنا وتخرج من هنا, وتمر كما تمر الرياح ولا يعبأ بها, فلا يتلقاها قلبه، ولا تهش لها نفسه, ولا تنفتح لها سريرته, ولا يطرب لها فؤاده, فهذه الكلمة على ما فيها من معنى كصوت السيارة الذي بجواره سواء بسواء.
فلهذا -أيها الأحباب- من وصل إلى هذا المستوى لا شك أنه يُحَب, بل أن يعلن الشاعر حبه, وأنا شخصياً أعلن حبه, لأنه نظيف, لا يحتاج تطعيماً ضد كوليرا الغيبة, وملاريا النميمة, راسخ العقيدة، ثابت الإيمان, مثله كمثل النحلة لا تأكل إلا طيباً, الغابة فيها أشكال وألوان, فيها الخبيث والطيب, فالنحلة لا تحط إلا على الورود, ولا تمتص إلا الرحيق, ولا تعطي إلا العسل, وإذا حطت لا تكسر ولا تخدش, ولا تؤذي, وسلاحها مدخر, فإذا جاء العدو، أظهرت الشوكة للدفاع عن العسل الطيب الذي تعطيه, وعن الشفاء الذي فيه, فمن حقها أن تدافع عن نفسها:
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه كأن به عن كل فاحشةٍ وقرا |
وكما تعلمون -أيها الأحباب الكرام- أن الملائكة تكتب ما تقوله وما تنصت إليه, ولهذا فالمنصت إلى القرآن له أجر الإنصات، فالملائكة تكتبه, والقارئ للحرف القرآني له عشر حسنات.
قد تكون الفواحش مزوقة, لأن الفواحش غير المزوقة تأباها النفس المفطورة السليمة الخيرة, وتتجافى عنها, لكن الفواحش المزوقة قد يخدع الإنسان بها.
أنت عندما يأتون إليك ويقولون: هذا خمر، تُحس بالاشمئزاز لأن الله حرم الخمر, وعقوبته أن يشرب شاربه إن لم يتب والعياذ بالله من ردغة الخبال، ويحرم من خمر الجنة وإن دخلها, وهي أم الخبائث وأم الجرائم, لكن ماذا تقول عندما تسمى بالمشروبات الروحية.
الربا ماذا تقول لو قيل عنه "فوائد" رجل منحل خلقياً، لكن لا تقل ذلك، وقل: متفهم منفتح عصري, وهكذا تصبح الكلمة المطرودة من السمع إذا زوقت ولونت وأضيف إليها اللحن الموسيقي, أصبح الإنسان يرددها دون أن يشعر.
لهذا أنت تستمع إلى الأبناء والإخوة والأخوات إذا ما التقطت آذانهم كلمة من الكلمات الغنائية, قد تكون في غاية الانحطاط الخلقي, لكن يرددها دون أن يفهم المعنى المقصود منه, ولا أريد أن أستعرض عليكم معاني وأنواع الكلمات والعبارات فهي من الكلمات المستهلكة يومياً في الإذاعة, فوقت الإذاعة قد يكون اثنتي عشرة ساعة؛ إحدى عشرة منها للغناء, والباقي للأخبار والأحاديث الجانبية, وإذا أدرت المذياع على إذاعات العالم العربي والإسلامي تنتقل من موجة إلى موجة تصادف منها ما لا يقل عن خمس عشرة أو ست عشرة إذاعة عشر منها تغني!
فهذا الذي يقول لمحبوبته: "حبك عن ألف حجة" عندما تدخل في اللحن تمر على الإنسان, وهذا الذي يقول: "أحب حبيبي.. أعبد حبيبي..".. إلى آخره من الكلمات والعبارات.
إذاً الشاعر يقول:
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه كأن به عن كل فاحشةٍ وقرا |
الوقر: هو الكيس الكبير الذي يملأ بالشيء الثقيل ثم يوضع على ظهر الناقة فيكسر ظهرها, وقرت الدابة أي: انكسر ظهرها من ثقل الحمل, فهذا كأن في أذنه وقراً عن الفواحش لا عن الحق, كأن في أذنه كيساً ضخماً مملوءاً بالتراب يمنع وصول هذه الفواحش.
وأنت عندما تستمع إلى كلام هذا -أيها الأخ الحبيب- قد لا تهواه على حسب معناه الكامل، لأن الدائرة التي تعيش فيها دائرة نظيفة, من العمل أو المدرسة إلى البيت.. إلى المسجد.. إلى المحاضرة.. إلى مجالس أصحابك الشرفاء.. إلى النوم, هذه هي دائرة حياتك, لكن لو خرجت خارج هذه الدائرة وخالطت نوعاً خاصاً من الناس وهم الأكثرية والأغلبية لسمعت العجب العجاب, نساءً وذكوراً يتلفظون بعبارات وكلمات يقشعر لها البدن، ويندى لها الجبين, وتبكي منها الفضيلة.
سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجرا |
صفات خلقية أهمها الأولى "سليم دواعي الصدر" صدره مخموم, نظيف لا يحقد ولا يحسد, ولا يحمل في نفسه على أحد, وإنما دائماً شعاره ودعاؤه: اللهم إني عفوت ما بيني وبين عبادك, فاعف ما بيني وبينك, فأنت أجود وأكرم, اللهم إني عفوت عمن ظلمني, وتصدقت بعرضي ومظلمتي ومن اغتابني لله, اللهم اجعلني ممن عفا وأصلح وأجره على الله, اشغلني بعيوب نفسي, ولا تشغلني بعيوب غيري, هذا سليم الصدر, بُشر بالجنة وهو على الأرض في حديث الرجل الذي مر على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: (من شاء منكم أن يرى رجلاً من أهل الجنة؟) ثم أشار إليه هذا, وقصته مع ابن عمر معروفة, ما قام الليل ولا صام النهار كثيراً، وإنما إذا جاء إلى نومه قال: اللهم إني عفوت عمن ظلمني, وينام وهو سليم الصدر على الناس.
جربوا هذا النوع من الحياة والأخلاق, أصحابه حياتهم أطيب من حياة الملوك, وألذ من حياة الأغنياء, وأجمل من حياة المرفهين بكل نعم الدنيا, الذي ينام وليس في صدره على إنسان شيء فتلك نعمة لا تقدر, وما الذي أسهر الناس وأزعجهم، وجلب لهم الأرق والقلق عند النوم حتى اضطروا إلى المخدرات والحبوب المنومة من الهموم والغموم والأحقاد، وتراكم الثارات والانتقامات التي تمتلئ بها الصدور, قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] فليعلم الله العفو في صدرك, بدلاً من أن يعلم الغل والحقد والانتقام: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
"سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى" وكأن الأذى يبسط بسطاً -والعياذ بالله- وترى الذين يبسطون الأذى يصيب الداني والقاصي, القريب والبعيد, حتى يقول أحد الصحابة: [وإنك لترى طائر الحبارى يهزل في وكره ويموت من ظلم الظالم] قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41] كله ببسط الأذى والشر والإجرام، قال تعالى: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116-117].
- "ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجراً" فهو كاف أذاه وشره, وكأن الأذى بساط، والناس يمشون عليه، كل من يدوسه يتأذى, وهذا طوى بساط الأذى وكفه عن الناس, وهناك بعض الدول لا يستطيع مسلم أن ينجو فيها من الأذى المبسوط, بل يترقبه في كل لحظة, يأتيه زوار الفجر من أصناف المخابرات، ويجرونه من رجليه ويلقونه في غياهب السجون ولا يعلم به أحد من الناس, والويل كل الويل لمن سأل عنه من أقاربه, أذىً مركب.
وهناك أذى آخر: الأذى المعنوي، من الإشاعات والتهم، وشهادات الزور والتلفيق التي تجرح وتؤذي وتقتل أكثر من السلاح.
-"ولا مانعاً خيراً" دع الخير يتدفق, وليكن يا أخي شعارك فعل الخير في كل مكان, هذا هو الشعار, قال تعالى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61] بل إن أمتنا هذا شعارها أصلا, الممدوح فيه هو هذا, قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] وقال سبحانه: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] كله خير, ومانع الخير والعياذ بالله كنود حقود, يحيا في عذاب منبوذ, تصوره سورة الهمزة تصويراً وتشخيصاً دقيقاً، فهذا الصنف من الناس الذي يمنع الخير، يقول الله فيه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة:1-9].
والله سبحانه وتعالى يتكلم عن مانع الخير: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3] يأتيه إنسان يقول: يا أخي أنا أريد أن أتصدق لله, أريد أن أعطي إخواني المسلمين في بنجلادش، في السودان، في أفغانستان، في فلسطين ، فيرد عليه مانع الخير هذا، يقول: أنت مجنون! أهلك وبيتك أولى, ادخر القرش الأبيض لليوم الأسود!! فيتفلسف في البخل والشح, فيصدقه المسكين فيحرمه خير الدنيا والآخرة, لا يعرف أن ماله هذا سيزيد لو أنفق، وأن الله يتقبلها بيمينه, ويعطيه عليها الخير في الدنيا وفي الآخرة, حرمه مانع الخير, أما صاحبنا هذا الذي نحبه:
سليم دواع الصدر لا باسطاً أذى ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجرا |
- "لا باسطاً أذى" تعال انظر الزوج في البيت مع زوجته "لا باسطاً أذى" يتحرى العبارة الرقيقة, ويمدح عملها في بيتها ولو كان قليلاً, ويشير بإصبعه إلى مواطن الجمال, لأنها كالوردة إن أهملتها ذبلت وتكسرت والتصقت بالوحل, وعندما تشير إليها بإشارات لطيفة من خلال الحركة أو الكلمة فإنما تحيي بستاناً من الزهور تشم شذاه, وتتملى ألوانه, وتعيش في ظلاله وأنت في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة, أما باسط الأذى على بيته والعياذ الله، فإنهم ينتظرون اللحظة التي يدخل بها عليهم ليعلنوا حالة الطوارئ والعزاء فيما بينهم, فلا يسمعون منه إلا الضرب والصراخ، والشتم واللعن والركل, ولا يأخذون منه -والعياذ بالله- إلا الأذى.
ومهما حاول الإنسان أن يتمثل هذه المعاني من باب التمثيل ليس الواقع والحقيقة النابعة من الضمير الإيماني الصادق, أي: يتجمل أمام الناس بهذه المعاني, من الذي يكتشفه على حقيقته؟ أهله أي: زوجته وأولاده, لهذا سلط الحديث النبوي الضوء على ثلاثة آلاف شمعة من الفم الطهور محمد صلى الله عليه وسلم, قال: (خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي) لأن الإنسان مهما حاول أن يتلطف مع الناس، في الدرس يجلس هادئاً ومؤدباً له سمع معين، وينصت ويستمع ويأتي إلى العالم ويسلم عليه باحترام, وإذا رأى أخاه معه أو ابنه الصغير مسح على رأسه ودعا له دعاءين، كل هذا تمثيل, وإذا أردت أنت تعرف أن هذا صادق، فادخل معه البيت واسمع لأحواله, يرفس ابنه، ويلعن زوجته ويضرب خادمته, إذاً (خيركم خيركم لأهله) إن صدق مع زوجته وأولاده فهو مع الناس أصدق, هذا هو (الترمومتر) والمعيار, ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأنا خيركم لأهلي).
فالذي أهله أشقى الناس به أفتريد الآخرين أن يكونوا أسعد الناس به؟ معاذ الله! (خيركم خيركم لأهله) لا نريد أن تتلطف وتجامل الناس, اجعل نفسك عادياً, لكن أعط أهلك حقوقهم أفضل لك عند الله من أن تجامل الناس وتؤذي أهلك, مع أن الشرع اعتبر الدينار المنفق على الأهل أفضل من كل الدنانير المنفقة على الصدقات, أو على الجهاد, أو على بناء المساجد, أو في سبيل الله؛ لأن الإسلام يريد أن تتماسك الأسرة تماماً, وتلتف حول معاني الإسلام، لأنها هي لبنات المجتمع, فإذا كانت اللبنة قوية كان البناء متماسكاً، وهو المجتمع, أنت عندما تأتي إلى أرض رخوة وتبني عليها قصراً، ماذا يحدث للقصر؟ مهما زوقته وجملته وزخرفته فسينهار على من فيه ويقتله, وإذا أحضرت طبقة من مواد إسمنتية قوية والخلطة جيدة ما فيها غش, وبعد ذلك أدخلتها النار وطبختها طبخاً جيداً حتى أصبحت صلبة فابن عليها وضع عليها من الضغط والحمل الثقيل ما تريد, ستظل قوية ثابتة, ويظل الصرح متماسكاً, ويظل الناس الذين هم فيه ينتفعون بمرافقه، ويستظلون به من حرارة الشمس ويتدفئون به من البرد.
اللبنة التي تجعل المجتمع متماسكاً هي الأسرة, فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) ثم أخبر عن اللبنة المكسورة عندما وضع الشيطان عرشه على الماء، وجاءت سراياه وجنوده وكل واحد منهم يبيَّن الجريمة التي فعلها, قال أحدهم: أما أنا فقد فرقت بينه وبين زوجته, قال: نِعْم أنت, هذا الذي يرشح لجائزة نوبل الشيطانية لأنه فرق بين الزوج والزوجة, وبالتفريق بين الزوج والزوجة تفرق الأولاد وانهدم البيت, وسقطت اللبنة, وأصبح المجتمع مائلاً.
فالقرآن والسنة بدون مجتمع متماسك ما لهما أثر, لهذا ما كان القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مطبوعاً على أوراق مصقولة بحروف ونقاط ومشكلاً, كان القرآن موجوداً على ألواح وجريد نخل, ولكن الفرق أن المجتمع كان متماسكاً تماماً، فكان يطبق هذا القرآن تطبيقاً دقيقاً, فجاء إلى المجتمعات الغير المتماسكة مجتمع الروم ومجتمع الفرس نفخ عليها فطيرها في معركة واحدة.
إذاً
سليم دواع الصدر لا باسطاً أذى ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجرا |
لا يتكلم إلا بالحق, ولا ينطق إلا به, وإذا استمع إلى الكلمات التي لا تناسب دينه وعقيدته وهنها وهونها وأشاح بوجهه عنها وكأنها ما قيلت.
إذا ما أتت من صاحبٍ لك زلةٌ فكن أنت محتالاً لزلته عذراً |
وأصحابك الذين تعيش بهم, وأخواتك يا أختاه, لا يتخلصون من زلاتهم أبد الدهر ما دام الإنسان إنساناً، وكل ابن آدم خطاء, فلا بد أن تأتي لحظة من اللحظات تكون فيها زلة, لأن الله بين الحين والآخر يؤدب هذا الإنسان، يذكره بأنه محتاج إلى ربه, إلى رحمته, إلى يقظة من الله تنجيه من مصارع الغفلات, فتجده في لحظة يكله إلى نفسه, فإذا بذلك الإنسان الذكي قد صار غبياً, المنتبه غافلاً, والنشيط كسلان, وذو الهمة العالية عاجزاً, كيف تحول هذه التحويلة؟! حتى يبين الله له حقيقة لا حول ولا قوة إلا بالله.
فإذا ما وقع أخوك في مثل هذه الزلة، فلا تهول ولا تزمر ولا تطبل! وتلقها بعذر مجهز منك أنت, ولتحمد الله لأنك لم تقع كما وقع هو, ولو وكلك الله إلى نفسك طرفة عين لكنت مثله أو أكثر, فالإنسان مخلوق من عجز ومن خطيئة, ومن نسيان وغفلة، ومرض وشهوة، ونوم وجوع، وحزن وهم، وعجل وطغيان.. إلخ, تتبع حقيقة الإنسان في القرآن، قال سبحانه وتعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21].
إذاً الشاعر يقول في هذا المعنى:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه |
مستحيل أن تجد مخلوقاً لا يعاتب على وجه الأرض, لأن الناس غير الملائكة, الملائكة قال الله عنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] أما الناس فلا, محمد صلى الله عليه وسلم وهو النبي المعصوم استمع ماذا يقول عن نفسه قبل أن يختم صلاته بالتسليم, ماذا يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري وخطئي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي) هو يقول: (كل ذلك عندي) فماذا نقول نحن؟! هو يعلم أمته كيف تتأدب أمام الله, يعلم أمته وإن كان هذا الذي ذكره ليس فيه، لكن هذا هو كمال الخلق:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق تلقى الذي لا تعاتبه |
فعش واحداً, انعزل عن الناس، واذهب ابحث عن صومعة في جبل أو في مغارة، وكل أعشاب الأرض، وانزو عن الخلائق حتى لا تجد من تعاتبهم، ستجد نفسك في عزلتك تعاتب البهائم والحيوانات, لأن الذي فيه هذا المرض لا ينجو منه الناس ولا البهائم, لهذا يقول الله سبحانه وتعالى للذي ينعزل ويظن أنه غير محاسب: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:10-11] ويقول: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] وهناك آية في سورة الملك يقال بأن رجلاً انزوى في غابة أو في حديقة وأخذت الخواطر ترتاده فقال: آه لو أحببت محبوبتي الآن هنا من يراني؟! وإذا بقارئ يقرأ القرآن في سورة الملك من خلف الجدار يقرأ آية تبين أن الله سبحانه وتعالى يعلم خفايا النفس البشرية سواء جهر بها أو لم يجهر، فقال سبحانه: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:13-14] فانتفض كأنه هو المعني والمراد, هو الآن لم يتكلم, وقال: تبت إلى الله وندمت عما خطر في نفسي.
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه |
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه |
هل يوجد إنسان على وجه الأرض كل يوم شرابه صافي إلى أن يموت؟ أي: أن حياته سليمة خاليه من التكدير إلى أن يموت؟ مستحيل! خير الخلق وهم الأنبياء يقولون عن أنفسهم: الأنبياء أشد الناس بلاء, والرسول صلى الله عليه وسلم ينزل عليه المرض فيتلفظ ثم يقول لمن حوله: (إني أوعك وعك الرجلين منكم) أي: لو نزل مرضي هذا على رجلين ما تحملاه.
إذاً عليك أن تتحمل الناس, وبالأخص الأصحاب والإخوان.
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه |
نعود إلى أبياتنا:
إذا ما أتت من صاحب لك زلة فكن أنت محتالاً لزلته عذرا |
محتالاً أي: تبحث عن عذر إلى أن تلقاه، بل والله هناك نوع من الناس أزيد من هذا, اسمع الشاعر ماذا يقول:
وإنك كلما أذنبت جئت إليك أعتذر |
أنت تذنب وأنا الذي أعتذر, هذه قمة سامقة من الأخلاق أيها الأحباب.
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم على سر بعض غير أني جماعها |
يمدح أصحابه بخصلة مميزة فيه, أول شيء أنهم فتيان, يعني شباباً, والشباب كما تعلمون مدعاة للاعتداء, مدعاة للظلم, مدعاة لتحقيق الشهوة الحرام, شباب فيه قوة وفيه حرارة, ومع هذا يقول: "وفتيان صدق" أفضل صفة فيهم الصدق "لست مطلع بعضهم على سر بعض" أي: أنا أعيش معهم ولا أخبر فلاناً عن سر علان, بل كأني أنا صندوق الأسرار, كل واحد منهم يودع سره عندي، ثم يكون في بئر عميق, وأكثر ما يؤذي الإنسان المحب للإشاعات قضية كتمان السر.
وأنت إذا أردت أن يفشو سرك كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه, أي: إيمان عمر بن الخطاب عز للإسلام, فكان إسلامه فريد من نوعه, وهجرته فريدة من نوعها, وجهاده فريد من نوعه, وحياته كلها وخلافته, فدائماً هو في العزم والحزم والقمة في كل شيء, لما أسلم وكانت المرحلة التي أسلم فيها هي المرحلة السرية للدعوة, كانوا مختفيين في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، فـعمر بعد أن أسلم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم المباركة: (اللهم اهد أحب الرجلين إليك) فكان أحب الرجلين إلى الله عمر وليس أبا جهل.
فماذا فعل عمر ؟ ذهب إلى رجلٍ من قريش ثرثارة كشاف للأسرار نمام، ثم قال: أعلمت ما حدث؟ قال: لا, قال: أخبرك ولا تخبر أحداً؟ قال: نعم واللات، قال: إني على دين محمد, قال: لن أخبر أحداً, وما إن توارى عمر عن الأنظار حتى وضع أصابعه في أذنيه وصاح بأعلى صوته: يا معشر قريش! لقد صبأ عمر بن الخطاب، فما بقي أحد في مكة إلا ووصله الخبر, فاعتمد إلى جدار الكعبة وأخذ يرد السيوف عنه وحده إلى أن صارت الشمس في كبد السماء وكلت سواعدهم وألقوا سلاحهم وهو يبتسم رضي الله عنه وأرضاه, لأنه كان قوياً ومصارعاً, ولم يستطع أحد أن يصل إليه ليقتله، وكان من المجاهرين بالدعوة في المرحلة السرية.
كل سر جاوز الاثنين شاع, لهذا يقول الشاعر:
وفتيان صدقٍ لست مطلع بعضهم على سر بعض غير أني جماعها |
أي: أجمع عندي هذه الأسرار ولا أكشفها.
لكل امرئ شعب من القلب فارغ وموضع نجوى لا يرام اطلاعها |
لأن كل إنسان له أسرار، ولا يحب أن يعرضها أو يطلع عليها أحد, فما من إنسان إلا وله أسرار, فإذا جاء هذا الإنسان ووثق بك وأعطاك سره وكشف أمره، فكن أنت وهو في جسد.
روحه روحي وروحي روحه |
ليس لي بالأمر حكم بعدما جال من نفسي مجال النفس |
فلهذا لا تكون أنت كشافاً لأسراره, بل كأنه لم يقل, ولا تلمح ولا تصرح ولا تلوح من بعيد أو من قريب أنك أخذت منه سراً, أو تعلم عنه أمراً, حتى لا تذكره له وهو الذي ذكره لك, هذا الكلام يؤذيه, لهذا يقول:
لكل امرئ شعب من القلب فارغ وموضع نجوى لا يرام اطلاعها |
"موضع نجوى" أي: موضع همس بينه وبين واحد يتناجون في موضوع سر.
يظلون شتى في البلاد وسرهم إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها |
يعني: أينما تفرقوا وتشتتوا فسرهم مكنون في صخرة وهذه الصخرة من الرخام متماسك, والناس من حوله كل واحد آخذ معولاً يضرب ويضرب لكي يخرج الأسرار الموجودة فيها, وهم مرتاحين أصحاب الأسرار كل واحد في شغله, متفرقين هذا في البحر وهذا في البر وهذا في الجو، وهذا في الحقل وهذا في المصنع, وأنا الصخرة التي جمعت الأسرار، هكذا الشاعر يقول عن نفسه، تصوير عجيب يا إخوان, يقول:
يظلون شتى في البلاد وسرهم إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها |
وكأن الناس كل واحد منهم آخذ معولاً وينبش لكي يخرج السر من عنده, يبحث من يمينك ومن شمالك: ماذا قال لك؟
إنه لا يوجد بيني وبينه سر، فهو يقول لي بكل أسراره، فقط أنا أريد أن أبحث وأتأكد من الموضوع.
يا بن الحلال لا تخاف، إذا أنت خائف ألا يأخذك معه في السفر فأنا أوصلك, كلمني يا بن الحلال... إلخ, فهذه هي المعاول، وقد يكون سراً يؤدي إلى القتل, فلهذا ينتبه الإنسان ويتمثل هذه الأخلاق وتلك الصفات، وكن أنت صندوق السر وبئر السر وصخرة السر, إذا جاءك السر فهو أمانة من الله ساقها إليك تسأل عنها يوم القيامة.
والدعاة إلى الله قد يعلمون أموراً وأشياءً هي أخطر والله من كل ما ذكرت, فعليهم أن يعوا حقيقة هذه المعاني, وأن يعطوا حقوق الدعوة, ومراحل الدعوة, وأن ينتبهوا فإن للجدران آذاناً, وإن للجو (أو كس) وإن لكل خافية عليماً.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا بحفظه، وألا يكلنا إلى أنفسنا، وألا يملأ أجهزة الكمبيوتر والتنصت والإنذار المبكر والأقمار الاصطناعية لليهود, بالمعلومات عن الحركات الإسلامية والدعوات الإسلامية، وأن يجعل سرها مكتوماً, وأمرها محموداً, وعاقبتها طيبة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر