اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء، اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، اللهم اجعلنا لإخواننا المسلمين هينين حبيبين سمحين قريبين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا رحمة لأرحامنا، اللهم عافنا في الجسد، وأصلح لنا في الولد، وآمنا في البلد، برحمتك يا أرحم الراحمين، واجعلنا ممن عفا وأصلح وأجره على الله.
أمسينا وأصبحنا نعفو عن الناس، لأن نلقاك بالعفو خير لنا من أن نلقاك بالخصومة، فعلمنا كيف نعفو، فإن بيننا وبينك ذنوباً لا يعلمها إلا أنت، اللهم إنا عفونا ما بيننا وبين عبادك، فاعف ما بيننا وبينك فأنت أجود وأكرم يا أرحم الراحمين، لئن نظرت إلى ذنوبنا ومعاصينا، وقديمنا وحديثنا، وسرنا وإعلاننا، وجدنا وهزلنا، وخطأنا وعمدنا؛ فإنا نستحق العقوبة، ولكن مغفرتك أوسع، ورحمتك أعم، فارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
ونسألك أن تنصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد رميهم، واجبر كسرهم، وفك أسرهم، وحقق بالصالحات آمالنا وآمالهم، واختم بالطاعات أعمالنا وأعمالهم، اللهم ثبت الغرباء، وأكرم الشهداء، وفك المأسورين من إخواننا المسلمين، اللهم إني أشهدك على حب إخواني هؤلاء، اللهم إني أسألك لي ولهم ولوالدينا الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم استعملنا فيما يرضيك، ولا تشغلنا فيما يباعدنا عنك، واقذف في قلوبنا رجاءك، واقطع رجاءنا عمن سواك.
نسألك حسن الاعتقاد، وصلاح العمل، وإخلاص النية، ونور اليقين، وبرد الرضا، وحلاوة الإيمان، وبركة الدعوة، وإجابة الدعاء، وأنس الذكر، زدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وامنحنا ولا تمتحنا، وأعطنا ولا تحرمنا.
اللهم إنا نسألك المزيد، نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، آمين. اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان.
اللهم أيما عبد حضر مجلسنا هذا يريد ذكرك فاذكره في الملأ الأعلى، وأيما عبد جاء لدنيا فأسألك اللهم أن تحشره معنا، واجعلنا ممن لا يشقى بهم جليسهم، وأيما عبد على الحق فزده حقاً، ومن كان على باطل يظن أنه على الحق فرده إلى الحق رداً جميلاً.
اللهم سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم افتح بهذه الدروس آذاناً صماً، وعيوناً عمياً، وألسنة بكماً، وقلوباً غلفاً، وانشرها في العالمين، وثقل بها الميزان، وحقق بها الإيمان، وفك بها الرهان، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الأحباب الكرام:
كل مصنوع ومخترع لا بد أن يكون له غاية، لا يوجد شيء في الوجود إلا وله عمل، هذا الكأس للشرب، وهذا الجهاز للتسجيل، وأنت عندما تنظر إلى هذه الآلة، فترى من أي مصنع تخرجت، فإذا كان المصنع من بلد حضاري فيه الصناعة والإنتاج القوي، قلت: إن هذه الآلة ماركتها ممتازة، وإذا ما حدث لها عطب، تذهب إلى الخبير الذي صنعها، فتعرضها عليه فيعرف مكان الخلل فيصلحه، وتعود إلى العمل من جديد، وكلما كبر المصنع وزادت الخبرة وكانت الآلة ذات نفع عام، قالوا: هذه آلة استراتيجية، وأخذت أهميتها من الخير الذي تنتجه، وإلا ستتحول إلى تراب وخراب ترمى مع الخردة -لا قيمة لها- وإذا ما اشتريت هذه الآلة الجديدة تجد في علبتها دليل الاستعمال، كيف تستعملها، ويبدأ يفصل لك عن جميع جزئياتها، حتى أنك لو درست هذا الكتلوج لاستطعت أن تصلحها، إذا كنت متمكناً من قراءة اللغة التي كتبت بها، وكذلك الإنسان؛ ما الغاية من خلق الإنسان وصناعته؟ من الذي يجيب؟ الله.
فالخبير الذي خلق الإنسان ماذا قال في أول مادة من الغاية في خلقه؟ قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فيبدأ كل إنسي وكل جني يعمل في الوظيفة الرئيسية والعمل الذي من أجله خلق، يركب توصيلة التيار الكهربائي، ويحتاج إلى طاقة كهربائية لكي يعمل، وهذه الطاقة الكهربائية روحية ومادية، المادية قال: ليكن مطعمك حلالاً ومشربك حلالاً، والمادة الروحية: تأخذها ممن خلق الروح ويعلم أسرارها.
يوم أن تتم التوصيلة بينك وبين المولد الكهربائي العظيم الذي بعثه الله رحمة للعالمين؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (أنا الرحمة المهداة)، يقول الله عز وجل عنه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم)، عندما تتم هذه التوصيلة تتحول إلى إشعاع نوري يبدد الظلمات، وتعمل جميع الأجهزة عندك، لا يتعطل جهاز من العقل إلى العين أو إلى الأذن أو إلى اللسان أو إلى الفؤاد والرجلين، كل يؤدي دوره بلا خلل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] إذا تعطل الفيوز في البيت تحول البيت إلى ظلام.
ساكني الأجداث أنتم مثلنا بالأمس كنتم |
ليت شعري ما صنعتم أربحتم أم خسرتم |
أما المستقيمون فماذا يقولون؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:9-10]، يقول أبو العتاهية:
ساكني الأجداث -أي القبور- أنتـم مثلنا بالأمس كنتم |
كنتم أحياء مثلنا والآن في القبور، في الأجداث:
ليت شعري ما صنعتم |
ماذا حدث لكم في القبور؟
أربحتم أم خسرتم |
فكان الجواب للرابحين ما سمعتم، وأما الخاسرون فيقول الواحد منهم: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40]، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:28]، الله أكبر! لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:29]، يا ليتني، يا ليتني، يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:38]، هذا القرين.
إذاً.. كل إنسان يعرض نفسه على المادة الأولى التي أنزلها الله؛ وهو كلام الله الذي لا إله إلا هو غير المخلوق ولكن عندما نقول المادة الأولى والمادة الثانية، هذه لتقريب الفهم، وإنما كلام الله صفة من صفات الله، لا تنطبق عليها أمثلة المواد، والله متصف بالكلام يتكلم متى يشاء وكيف شاء لمن شاء من عباده، ماذا يقول الله؟ يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فإذا حدث خلل -تعطل جهاز- مثلاً اليد خربت، وخرابها أنها تسرق، فقد قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، هذا هو الخبير، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] الله، وهكذا جعل لكل جهاز تعميراً وتصليحاً، وعملاً ووظيفة، وكل ظلم على وجه الأرض إنما هو تعطيل تلك الوظيفة، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]، عطلوا قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فظهر الفساد في البر وظهر الفساد في البحر.
ثم لنسمع هذا السؤال: ما المقصود من العبادة؟ السؤال الأول الذي طرحناه: لماذا خلقت؟ قال: لتعبدون، سؤال ثانٍ: ما المقصود بالعبادة؟ هل أجتهد وأخترع؟ لو أن كل شخص يخترع عبادة، فالأول يصلي واقفاً والثاني يصلي على رأسه ...، وتصبح اجتهادات فردية، كما يفعل اليهود والنصارى والهندوس، هذا يعبد ربه بالجلوس؛ يجلس أربعين سنة لا يمشي، حتى تقيد أرجله، وهذا يعبد ربه بالقذارة؛ لا يسبح خمسين سنة، لأن عقل الإنسان قاصر وناقص وخطاء، فإذاً الذي قال: ليعبدون، هو الذي علمنا كيف نعبد، والغاية من هذه العبادة توحيد الله، وتوحيد الله كلمة خفيفة، لكن اعلم أن كل الرسل والأنبياء من نوح عليه السلام، وقيل: من آدم، إلى محمد صلى الله عليه وسلم لا رسالة لهم إلا هذا، قال تعالى عنهم عليهم السلام: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
عرفنا الغاية من الخلق وهي: العبادة، وعرفنا معنى العبادة وهو: توحيد الله.
أنواع التوحيد ثلاثة لا رابع لها:
توحيد الربوبية.
وتوحيد الألوهية.
وتوحيد الذات والأسماء والصفات.
إذا اختلَّ أحد هذه الأركان الثلاثة للتوحيد فإن التوحيد مختل، هذه الثلاثة متلازمة لا ينفك توحيد عن توحيد.
هناك مخلوق يقول: أنا الخالق، وآخر يقول: أنا أحيي، وشخص يقول: أنا أميت، قالها النمرود مرة فكسر رأسه إبراهيم عليه السلام، وفرعون قال: أنا ربكم الأعلى، فكسر رأسه موسى عليه السلام.
فالشاهد: أن هذا التوحيد لا يكفي، يعني: أنك توحد الله بربوبيته وبأفعاله وفي خلقه، هذا لا يكفي، لهذا الذين يطوفون حول الأضرحة وينذرون للأولياء، ويذبحون للموتى، ويستغيثون بالمقبورين، هؤلاء كلهم يوحدون الله توحيد الربوبية، لكنهم في توحيد الألوهية أشركوا فأحبط دينهم وعملهم عند الله، والقرآن يشهد على ذلك، فهذا القرآن يقول عن توحيد الربوبية عند الكفار: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31]، ليس هناك جواب إلا جواب واحد: الله فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ[يونس:31]، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84-89]، أنتم مسحورون، وتعبدون تمرة فإذا أنتم جعتم أكلتم ربكم، الكفار يعبدون التمرة، يأتون بتمر ويصنعون منه تمثالاً ويعبدونه، وإذا جاع أحدهم أخذ ربه ودخل به الغرفة وأكله، وهناك أناس تعبد الأسماك، وأناس تعبد النمل، وأناس تعبد البقر، وأناس تعبد الطيور، وأناس تعبد الديدان، أشكال وألوان.
يذكر لي أحد السفراء في بلاد الهند يقول: خرجنا في رحلة صيد في البحر وصدنا سمكاً، فقلنا للطباخ: اصنع لنا الغداء، فأتى وقت الغداء ولم نشم رائحة طبخ، يقول: فنـزلنا إلى المطبخ، وإذا بالطباخ قد وضع سمكة أمامه وهو يبكي، فقلنا: ماذا بك؟ قال: أنتم أحرجتموني، هذا ربي فكيف أطبخه؟ قال: ربك السمكة! ثم قال له: اعطني ربك، يقول السفير: فجلست أسفّدها وهو يبكي، ويقول: أي ربي قصوا رأسك، أي ربي سفدوك، أي ربي ..، ثم قلت: والله أني سوف أحرمه من الغداء، قال: وآتي به وأقعده بجانبـي، وكنت أقلب رأس السمكة وآكلها، وهو يبكي ويقول: آه يا ربي، آه يا ربي، قال له السفير: انظر أنا آكله، قال: أبداً، لو تذبحني لا أترك ربي، أنا أعبده طيلة عمري، انظر كيف الإنسان يصل إلى هذا المهانة، يقول: ولما حذرناه ورأيناه ضعيفاً فقيراً ثيابه ممزقة، لا يكاد يمشي من الجوع، يقول: فبقي معنا خبز من الرحلة فأعطيناه بعضها، يقول: فرأيناه يركض ويأتي إلى النمل ويفتت الخبز كله للنمل، قلنا له: كل أنت! قال: لا لا. إذا أكل ربي فكأني أكلت، يعني: أن ربه النملة، هذا في الهند ، انظر إلى عزتك وكرامتك عندما تركع وتسجد لقيوم السماوات والأرض، وهذه النعمة يعلمها أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ[الأعراف:43]، ويعلمها المؤمنون: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس:58]، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[يوسف:39]، صيحة يوسف عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ[المؤمنون:89].
وتوحيد الألوهية يعني: توحيد أفعال العباد، قلنا توحيد الربوبية: توحيد الله بأفعال الله؛ بأنه هو الخالق الرازق المحيي المميت، كلها أفعال الله سبحانه وتعالى، لكن توحيد العبودية أفعالك أنت، من ركوع وسجود، ونذر وذبح، ودعاء وعبادة، وسؤال وطلب، واستغاثة واستعانة، وتوكل وإنابة، وخشية ورهبة ورغبة، وتفويض وتسليم وتحكيم، كل هذه أفعالي أنا، أعبد من؟ الله، هذا هو توحيد الألوهية، وهذا هو التوحيد الذي رفضه كفار قريش وقالوا: لا لا لا، عجيب تريد أن نترك هبل ونترك اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى من أجل دينك ومن أجل ربك؟ لا. والشيطان دخل عليهم مدخلاً، قال لهم: أنتم لا تعرفون أن الله عظيم، وكيف أنكم تعبدونه وحده، لا يجوز أن تعبدوه وحده، لابد أن تجعلوا بينكم وبين الله واسطة وشفاعة، أنتم ما رأيتم الملوك، هل يستطيع أحد أن يدخل على الملك بدون مدير مكتب أو مدير ديوان أو سكرتير، لا يصح، لا بد من وسيط، هل الله بهذا الشكل ولا تستطيع أن تدخل عليه فلابد أن يكون بينك وبينه واسطة؟ انظر كيف دخل عليهم الشيطان، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] لهذا سموهم شفعاء، ماذا يقول الله سبحانه وتعالى عن هذه الحقيقة العظيمة؟
لنأخذ أولاً عبادة الله بالدعاء.
قال سبحانه وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، فتبين أن: (الدعاء هو العبادة) كما قال صلى الله عليه وسلم، فلا ندعو مع الله أحداً وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وهذه العبادة وهذا الدعاء نريد به وجه الله، فلا بد من تجريد الإخلاص لله رب العالمين، وإلا فالعبادة لا تصح، وتجريد اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وإلا فإن العبادة لا تقبل، يعني: هذه العبادة قبولها عند الله يقوم على ركنين:
الركن الأول: أنني أريد بها وجه الله، والركن الثاني: أتبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [آل عمران:31].
ثم أيها الأحبة الكرام: الله سبحانه وتعالى ذكر عن رسله وأنبيائه هذه العبادة العظيمة وهذا الدور الجسيم الخطير، الذي به عادوا أعداء الله وفاصلوهم وخاصموهم، وتحملوا الأذى والضرب والطرد والعذاب والخصومة، وأوذوا في الله، ما لم يؤذ أحد على هذه القضية؛ توحيد الألوهية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، هكذا يقول الله سبحانه وتعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرعد:14].. وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14].. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62].
أما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ حساسية الصحابة فيها، أن ابن عمر إذا مر على شجرة يدور عليها بالناقة، فيقولون: ماذا تفعل يا ابن عمر! قال: هنا دار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدور بناقتي لعلَّ خف ناقتي يأتي على خف ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمر عند صخرة ويجلس يتبول، ويقول: هنا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبول، وأعظم من ذلك اتباعه في توحيده وقيادته وقدوته، وحكمه وسنته وشرعه، صلى الله عليه وسلم.
وهذا توحيد عظيم، من أين جاءت عظمته؟ لأنه يتكلم عن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وعن أفعال الله لا إله إلا هو، قال الكافرون: يا محمد! من ربك؟ اسمع الجواب، لا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يجتهد من عنده فيأتي بصفات على حسب هواه، المسألة خطيرة.
من بركة هذا اللقاء أنه يكون عليك دين لله، تحرص ألا تأتي الأسبوع القادم إلا ومعك على الأقل شخص، ما دام أن الله تفضل عليك بالفهم، وسخرني لك في الدرس وحبب إليك الإيمان وزينه في قلبك، فشكر هذا الجميل؛ بأن تمسك قريباً أو جاراً أو صديقاً لك.. موظفاً.. حبيباً، وتأتي به معك، حتى يصب في ميزانك صلاته وتسبيحه، وصيامه وحجه، وأعماله في ميزان حسناتك (فالدال على الخير كفاعله).
وهناك بعض الناس يمر عليه عام كامل لا يفكر باله، وليس له مسألة أنه يحاول، لا يفكر بباله أن يأتي شخص، نصيحته في ذاته فقط، يأتي ثم يذهب، لا، الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه في يوم من الأيام أقل من عددنا نحن في المسجد هذا، أقل بكثير، وانطلقوا ..، شخص منهم ذهب إلى المدينة وهو مصعب بن عمير وما مر عليه ستة شهور إلا وكل أهل المدينة مسلمون، ستة شهور فقط، وكان يدعوهم بالقرآن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
اللهم إنا نسألك أن تنصر إخواننا المجاهدين، وأن تثبت الغرباء، وأن تكرم الشهداء، وأن تفك المأسورين والمسجونين من إخواننا المسلمين.
اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، وخفف لوعاتنا، واغفر زلاتنا، نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وجميع سخطك وفجاءة نقمتك.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء.
اللهم إنا نسألك تحرير الأقصى، اللهم أرنا في اليهود وأعوانهم عجائب قدرتك، اللهم عليك بالنصارى وأنصارهم، والشيوعيين وأشياعهم.
اللهم اهزم الكفرة الملحدين المحاربين لأوليائك ودينك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وانصر عبادك المسلمين المؤمنين، اللهم ثبت أقدامهم وألف بين قلوبهم، اللهم سدد رميهم، واجبر كسرهم، وفك أسرهم، واغفر ذنبهم.
اللهم اجعل جمعنا هذا مرحوماً، ولا تجعل من بيننا شقياً ولا محروماً، نسألك العافية في الجسد، والإصلاح في الولد، والأمن في البلد، اللهم من أراد بنا والمسلمين سوءاً فأشغله في نفسه، ومن كادنا فكده، واجعل تدبيره في تدميره، إنك على ذلك قدير، اللهم أصلح أولادنا وأرحامنا وأزواجنا.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم لقياك، نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، واجعلنا للمسلمين هينين لينين، سمحين حبيبين قريبين.
اللهم اجعلنا مبشرين وميسرين ولا تجعلنا معسرين ومنفرين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، ونسألك الصدق والإخلاص، واليقين والمعافاة، نعوذ بك اللهم من الهم والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
اللهم إنا نعوذ بك من الشقاق والنفاق وسيئ الأخلاق، ونعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيئ الأشخاص، اللهم اجعل العافية لنا في الدنيا والآخرة، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
أيها الأحبة الكرام! إني أحبكم في الله:
ألا إننا كلنا بائد وأي بني آدم خالد |
يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35].
ألا إننا كلنا بائد وأي بني آدم خالد |
وبدؤهم كان من ربهم وكلٌ إلى ربه عائد |
فيا عجباً كيف يعصى الإلـه أم كيف يجحده الجاحد |
ولله في كل تحريكـة وفي كل تسكينة شاهد |
ولله في كل تحريكةٍ: رفرفة أوراق الشجر، انفجار الينابيع من الصخور، بزوغ الشمس عند الفجر، تدفق ضيائها المتحدر فوق قمم الجبال المنساب تتلقاه الكائنات فتأخذ الضوء والدفء والحرارة، النسيم عندما يهب على الروض فيحمل شذا الأزهار، والطيور والأنهار، والأشجار والثمار، كلها بتحريكها تشهد أن الله واحد.
ولله في كل تحريكـة وفي كل تسكينة شاهد |
وفي كل شيء لـه آية تدل على أنه الواحد |
السماء سماؤه، والأرض أرضه، والخلق عبيده، فله الخلق وله الأمر، ما دام له الخلق وله الأمر فلا يصلحهم إلا شرع الله ودين الله.
أيها الأحبة الكرام: هذا هو الدرس الثاني في التوحيد؛ أعظم العلوم وأشرفها، ومن فهمه وفقهه فهو على خير عظيم.
وقد وصلنا في الأسبوع الماضي إلى أنواع الكفر والشرك، وأذكر أننا ذكرنا أربعة أنواع وآخرها قلنا: شرك المحبة، وذكرنا قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، ثم بين الله الطائفة التي تحب الله أكثر من كل شيء: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165]، وكل حب ينفجر في قلبك تجاه مخلوق إنما هو في الله وبالله ومن الله، الأصل الأصيل أن يكون الحب كله لله، فإذا أحببت الزوجة حبها في الله؛ لأنها تعينك على طاعة الله، فإذا أعانتك على معصية الله أبغضتها وكرهتها في الله، فأصبح الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان؛ لأنه لا يوجد هناك ميثاق غليظ كالميثاق بين الزوج والزوجة في الحياة الدنيا، الله يسميه في القرآن ميثاقاً غليظاً، ولكن هذا الميثاق الغليظ يتكسر ويتفجر عندما تبدأ الزوجة تحارب الله، أو الزوج يحارب الله، ينفصم هذا الميثاق، ويظل الميثاق الأصيل، العروة الوثقى التي بينك وبين الله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256].
وحب الولد كذلك، وحب المال، وحب الوظيفة والعمل، والمباح والحلال، وكل ما في الدنيا من حب مما زينه الله ما هو إلا فرع من الحب الأكبر لله رب العالمين، فإذا تعارض حب أمر من أمور الدنيا مع حب الله ألقيناه خلف ظهورنا وتمسكنا بحب الله وحده الذي ينجي يوم القيامة؛ لأن (المرء يحشر مع من أحب) لهذا لما اعترضت الدنيا آسية زوج فرعون رضي الله عنها، وكانت ملكة، يعني: حياتنا الآن بما فيها من ترف وما فيها من ملاذ وما فيها من شهوات لا تساوي واحد بالمائة من حياة الملكة آسية رضي الله عنها، هذه الملكة كانت تملك أرض مصر ومن حولها، والذهب والصولجان، والجواري والحرير، والعربات والخدم والحشم، وتملك قلب فرعون، ولكن لما آمنت بالله وبموسى ودينه عليه السلام، نزعوا منها السلطان ونزعوا منها الحرير، ونزعوا منها الذهب والجاه ونزعوا منها الملك، وصارت عند فرعون أدنى من جارية، الجارية تكرم وهذه لا تكرم وهي الملكة، وأخذ يتهددها: لأقطعنك ولأذبحنك ولأنشرنك بالمنشار، ولأقطعن يديك وأفعل وأفعل، قالت: والله لو قطعتموني إرباً إرباً -أي: فرماً فرماً- ما ازددت في ربي إلا حباً، ثم قالت مقولة خلدها الله في كتابه العظيم: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]، فطلبت (العندية) أي: القرب من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الجار قبل الدار، وقالت: الجنة لا أجد فيها الأنس إن لم آنس بالنظر إلى وجهك يا رب العالمين، فلهذا قالت: ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11].
وهناك شرك خفي، يقول عنه الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم: (الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفاء في الليلة الظلماء) هذا النوع خطر جداً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو نوع من أنواع الشرك يسميه الرسول خفياً، ويعطينا صورة دقيقة لذلك الخفاء، ما هذه الصورة؟ الصورة أنك تأتي برخام ناعم، وهذا الرخام الناعم تأتي به في الليل المظلم حيث لا قمر ولا مصباح، ثم تأتي بنملة صغيرة -أصغر أنواع النمل- وتدعها تمشي على هذا الرخام، وبعدها تقرب الرخام والنمل عند عينك فتنظر: هل هناك أثر لخطوات هذه النملة؟ مستحيل، حتى لو وضعت المجهر الإلكتروني لكي ترى آثار النملة على هذا الرخام الأملس فإنك لن ترى شيئاً، هذا التصوير النبوي العجيب يعطينا جهاز إنذار مبكر عندما نبدأ نحس بهذا الدبيب الخفي، فنبادر سريعاً في علاجه في الحال قبل أن يكثر هذا الدبيب الخفي فيستولي على التوحيد والإخلاص ولا يبقى عندنا منه شيء.
أضرب لك مثالاً: أنت عندما تريد أن تذهب إلى المقبرة لتشييع أخيك المسلم، يأتيك فلان يقول لك: تعال يا أخي إلى المقبرة لكي نشيع أخانا المسلم رحمة الله عليه، فتبدأ تزدحم في داخل نفسك النيات، وكما تعلمون: (إنما الأعمال بالنيات) فأول ما تعقد النية تعقدها لله، لأن: (من حق المسلم على المسلم أن يمشي في جنازته) ولكن بعد لحظة تنقلب دون أن تحس، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (القلب أشد انقلاباً من القدر إذا فارت غلياناً) هذا الحديث للرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا كان يستغيث الله في الليل والنهار في هذه القضية، حتى ضجت عائشة من كثرة ما يستغيث الله في هذه المسألة، لأنه كان يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك -يستغيث- يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلبي على طاعتك فقالت
فعندما تركب السيارة لكي تذهب إلى المقبرة تنقلب النية انقلاباً أخفى من دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فيتحول إلى العائلة التي مات منهم هذا الميت يعني: أذهب إليهم لكي أعزيهم ويروني وتبدأ ترد نفسك وتقول: أنا أتيت، أنا عزيتكم، لكيلا تقولوا: إني ما أتيت، وعندما تنعقد هذه النية تنعقد نية ثانية بأني إذا وقفت عند القبر، فأقف في مكان بارز، ليعلم الناس أني أتيت ولا تدري إلا وقد دخل شيء ثالث غير هذا بحيث أني أحرص قدر المستطاع أن أكون عند الجنازة لكي يراني أرحامه وأقاربه في الصف الأول، وهكذا حتى تصل إلى المقبرة وليس لديك من النية الأولى شيء، أليس هذا أخفى من دبيب النمل؟!
والشيطان يأتيك يقول لك: الصف الأول عبادة، وأنت إنما تذهب إليهم لتجبر قلوبهم؛ لأن قلوبهم مكسورة، ولأن ميتهم عزيز عليهم، والشيطان يبدأ يحول هذه الأمور إلى طاعات وعبادات حتى لا يكون لك شيء من الأجر، فلهذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يهتمون بهذه القضايا، قال: أحدهم لأخيه: تعال بنا نشيع فلاناً، فقال له: قف، قال: لماذا؟ قال: لكي أخلص نيتي لله رب العالمين. يعقدها عقيدة، يشد عليها داخل القلب حتى لا تتحول.
وهكذا في الصلاة والصيام والزكاة والحج، أنت تتعجب حتى في الصيام، والله عز وجل يقول: (الصوم لي وأنا أجزي به) نعم حتى الصيام، يذكرون في كتب الطرائف: أن رجلاً كان يصلي خاشعاً والناس يتعجبون من خشوعه وقيامه، وقعوده وركوعه وسجوده، حتى التمَّ الناس حوله يتعلمون منه، هذا يقول: ما أخشعه، وهذا يقول: ما أخضعه، فالتفت إليهم وهو يصلي، وقال: وأنا صائم أيضاً، ما كان أحد يعلم أنه صائم إلا الله، ولكن مدح الناس أذهله حتى عن الصلاة التي يصلي فيها وظن أنه لا يصلي، والتفت إليهم وقال: وأنا صائم كذلك، فذهب المدح بكل طاعته -بصلاته وبصيامه- وهذا من الشرك الخفي، (لهذا يؤتى بهذا يوم القيامة ويقال له: علمتك.. أعطيتك.. أغنيتك، فيقول: يا رب! أنفقت مالي في سبيلك، وعلمي عملت به وعلمته، ونفسي جاهدت بها حتى قتلت، وفي كل مرة يقول له: كذبت، كذبت، كذبت، والملائكة كلهم من حوله بأصواتهم القوية: كذبت، إنما فعلت لكي يقال: جواد كريم وقد قيل، أو شجاع قوي وقد قيل، خذوه إلى النار فيأخذوه) ماذا استفاد من مدح الناس له، ولا يمدح ويحمد إلا الله رب العالمين: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور:21] إنما هو الفضل والرحمة من الله، تذكر هذا عندما يأتيك المادحون، تذكر هذا عندما توفق للطاعات والعبادات، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن كفارة هذا الشرك الخفي، ولكنك ستقول: يا شيخ إذا كانت هذه هي صورة الشرك الخفي، فقد هلكنا، ما بقي لنا من العمل شيء، القلب مثل القدر، والشرك مثل دبيب النمل على الصخرة الملساء في الليلة الظلماء، ما بقي لنا شيء، لا. الله أرحم بك، فقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءً إذا قلناه محا كل أنواع الشرك، (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه) أعوذ: ألجأ وألوذ بالله رب العالمين حتى يحمي توحيدي، (وأستغفرك لما لا أعلمه) هذا هو الشرك الخفي، ومن قرأ (الكافرون) عند نومه أعطي يوم القيامة براءة من الشرك، ولكن من يفعلها؟ قضية الشرك والتوحيد هذه من أخطر القضايا، لا بد أن تجعلها همك عند النوم وهمك عند اليقظة.
كفر لا يخرج من الملة؛ وكفر يخرج من الملة، وذلك كأن يتحول الإنسان إلى مجوسي أو يهودي أو نصراني، وهذا أنواعه خمسة:
إذا قال لك أحدهم: تعال معي أنا أوصلك بـ(الرزرايز)، فركبت بجواره بـ(الرزرايز) انظر شعورك وأنت تراكب (الرزرايز)، وبعدها انزل منه واركب (وانيت) وانظر شعورك في (الوانيت) هل تغير أم لم يتغير؟ هذه التغيرات والانقلابات النفسية التي تحدث تبين أن هناك بذوراً خبيثة موجودة، هو أنت بلحمك وشحمك الذي كنت في السيارة الفخمة وفي السيارة البسيطة ما تغيرت، ولكن الذي تغير هو الذي احتواك، فأنت تظن أن كرامتك بهذا المحتوى وذلتك به، لا. إنما الكرامة والعزة والتقديم والتأخير كما يقول الله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، لم يقل: أغناكم ولا أوجهكم، هذا ميزان حساس يا أخي فانتبه له.
وإن من العجب أن أحد الإخوة لبس بدلة جديدة وحذاءً جديداً وكان إذا دخل على إحدى الوزارات يقومون له ويحيونه وينجزون أعماله، فتعجب، ثم ذهب لهم في يوم من الأيام في لبس أفغاني ومعه كيس، فدخل على أحد المسئولين وهو يرتدي اللبس الأفغاني -السروال والقميص- قال له المسئول: اذهب إلى الخارج، قف بالخارج حتى يأتيك الدور، اذهب إلى السكرتير، اذهب إلى مدير المكتب، قال: حسناً اصبر، ففتح الكيس وأخرج المشط والغترة والحذاء ووضعها على المكتب، وقال: هذا الذي كنت تحترمه وليس أنا، احترامك بالأمس كان للحذاء.
فلهذا عليكم أن تنتبهوا لمثل هذه الأمور الحساسة الدقيقة وعالجوها، كونوا لإخوانكم المسلمين هينين لينين مساكين حبيبين متواضعين، يرفعكم الله في الدرجات العلى، وإياكم والتشبه بالجبابرة، نسأل الله العافية، فهم أهون الخلق على الله يوم القيامة، يجعلهم كهيئة الذر تحت أقدام العباد في أرض المحشر، خمسين ألف سنة يداسوا وبعد أن يداسون خمسين ألف سنة يأذن الله للنار فيخرج منها عنق له عينان وله منقار ينادي: أين الجبارون؟ فيلتقطهم من تحت أقدام العباد.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم |
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم |
في آية: سريع العقاب، وفي آية سريع الحساب، وما بين سرعة العقاب والحساب إلا طرفة عين، يقول الله عن الذين كفروا النعمة، ولها صور كثيرة من صورها: الإسراف، أنا لا أريد أن أفصل، لكن حين يسبغ الله سبحانه وتعالى عليك فضله وبره وجوده اشكر واذكر، إذا أكل الإنسان اللقمة وقال: الحمد لله، رضي الله عنه، وإذا شرب الشربة، وقال: الحمد لله، رضي الله عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم يتفنن في قضية الحمد وقضية الشكر حتى تدوم النعمة ولا تزول:
منها: الاستعاذة التي ذكرناها في أول الدرس: (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك).
ومنها: أنه عندما كان يأكل ويشبع عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم لك الحمد أطعمت وأسقيت، وكسيت وآويت، وأغنيت وأقنيت، فكم من لا كافي له ولا مئوي:)، (الحمد لله الذي أطعمنا وأسقانا وآوانا)، (أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة) كلها من حمد النعمة والشكر.
والشكر يكون بالعمل أكثر منه باللسان: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً [سبأ:13].
لهذا شكر الطبيب: أن يعمل العملية بإتقان، وشكر الغني: أن يخرج المال، فكما انفتح قلبه للصلاة للخالق ينفتح جيبه للزكاة للمخلوق، وإلا فما الشكر، لو يقول بلسانه: الحمد لله والشكر لله وهو لا يخرج الزكاة فهو كذاب، ما شكر ولا حمد، وهكذا، وشكر العالم: تعليم العلم والعمل به، وهكذا .. الشكر عمل وليس قولاً فقط، يقول الله عن كفران النعمة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ [النحل:112] انظر التعجيل في العقوبة، الفاء هذه تفيد التعقيب المباشر سريعاً، فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] بما كانوا يصنعون، أعطاه الله زوجة في الحلال فيذهب ليزني، وسع الله له الحلال والمباح فيأكل الحرام، أعطاه الله الأموال وقد كان عارياً ما عليه لا قطعة كساء ولا غذاء ولا هواء ولا ماء، ثم أصبح رجلاً يملك ويضرب في الأرض بقوته، ومع هذا يحارب الله في سبعة بالمائة وخمسة بالمائة من البنك، انظر كيف! هذه الصور من كفران النعم بلا شك في ذلك، فالأولاد دللناهم إلى أبعد حد، يقول الأب: ماذا طبخت اليوم يا امرأة؟ طبخت دجاجاً، ماذا؟ وسمك، فيقول: وماذا غير الدجاج والسمك؟ فتقول: ومقليات ومشويات، لماذا؟ لأن هذه البنت تأكل الدجاج والثانية تأكل السمك، هذه لا تأكل اللحم، ثم ترمي ويرمى الباقي كله في الزبالة، وهناك قارة كاملة في أفريقيا تموت من الجوع ويبحثون عن بيوت النمل ويحفرونها ويأخذون الشعيرة التي سحبتها النملة على بعد كيلو متر من أجل أن يأكلوها قبل أن يموتوا، ورأيت صوراً في أفريقيا أن المرأة تمشي خلف الحمار -أعزكم الله- حتى يخرج منه الروث، وبعد أن يخرج الروث تفت الروث وتخرج الشعيرة والحبة وتغسلها وتدقها وتعطيها لأولادها، وهذه النعم العظيمة التي ترمى في النفايات والزبالات -والعياذ بالله- أليست هذه صور من صوراً الإسراف وكفران النعم؟!
والولائم التي تقام تداس بالأقدام لكثرة ما يرمى من أطعمة، والنعمة زوالة تحتاج إلى حمد وتحتاج إلى شكر، الله سبحانه وتعالى ماذا يقول؟ يقول: كَانَتْ آمِنَةً [النحل:112] الأمن مضبوط ليس هناك متفجرات كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [النحل:112] الشاحنات تأتيها براً وبحراً وجواً، من كل مكان تحمل، الناس يزرعون وهم يأكلون، الناس ينسجون وهم يلبسون، الناس يصنعون وهم يستهلكون، حفنة الرز هذه التي أنت تأخذها وترميها، لما ذهبت إلى باكستان وجدت أن الفلاح والفلاحة يخرجان قبل طلوع الشمس ويخوضان في ماء إلى الركبة -ماء وطين ووحل- ويحملان بيديهما سنابل الرز، ويغرسانها في أرض مملوءة بالديدان، ومملوءة بالفيروسات والمكروبات والجراثيم وبيض البعوض، ومملوءة بالأفاعي والحيات والعقارب، ثم بعد ذلك ينتظران الموسم حتى تخرج السنبلة، ثم يقومان بعد ذلك بتشبيبها وتطهيرها وتنقيتها من الشوائب، وفي وقت الحصاد يتعب الفلاح وهو يحصد ويدرس ويجمع، ثم تأتيه الدولة وتقول له: خذ الرز البنجابي -هذا الذي يكون مثل الطين أو مثل الخلطة- والرز الممتاز البسمتي درجة أولى وثانية والبشاور والعنبر هذه نأخذها إلى الكويت والسعودية ، ونأخذها إلى كذا وكذا، فهذا المسكين الذي زرع طوال العام لم يأكل رزة واحدة، وأن الحفنة هذه البسيطة التي ترميها أنت في الزبالة يمكن أن ابنته لدغتها حية أو عقرب في الطين وماتت بسببها، وأنت بكل سهولة ترميها في الزبالة لا تحسب لها أي حساب؛ لأنك ما تعبت فيها، لكن الله فوق سبع سموات يراقب هذا الفلاح المسلم ويراقب فعلك.
وهذا الهبوط والانهيار الاقتصادي الذي تتعرض له البلاد والمنطقة ككل هو مظهر من مظاهر نقمة الله سبحانه وتعالى؛ لكثرة ما أسرفنا وأسرفنا وأسرفنا، والله لا يحب المسرفين، والذي يفقد حب الله ماذا بقي له؟!
1- نفاق اعتقادي.
وهذا أصحابه في الدرك الأسفل من النار، وهي والعياذ بالله أدنى دركات النار، يعني: عذاب ما بعده عذاب.
2- النوع الثاني: هو نوع عملي.
اعتقادي يعني: في القلب، عملي يعني: في الجوارح وفي السلوك.
1] تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
2] تكذيب بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
3] بغض الرسول صلى الله عليه وسلم.
4] بغض بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
5] المسرة والفرحة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: إذا علم ان الدين انخفض أو انهزم أو انقهر يفرح والعياذ بالله.
6] الكراهية إذا انتصر دين الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه أنواع ستة، كفانا الله شرها.
والنفاق العملي يزيد وينقص فيه صاحبه، وفي النار والعياذ بالله ينزل ويصعد على العدد هذا، يعني: إن زاد عنده صار منافقاً كاملاً، وإذا قلوا قل النفاق عنده حتى يكون مؤمن أو قريب من الإيمان.
إذاً.. عندما نسمي المسلمين لا نسمي بالأسماء الثورية، هذا كاسترو ، وهذا لينين ، حتى أن شخصاً سمى ولده: أبا لهب، يقول: هذا اسم انقرض وهو اسم قومي، هذا يعبد القومية من دون الله، قال: أنا أسمي ولدي لهباً حتى يناديني الناس: يا أبا لهباً، وسمى ولده لهب، فمكر الله به، وأصبح ولده ديِّناً ملتحياً من خيرة الشباب، والأب يستغرب ويقول: أنا أسميك لهباً وأنت تصير من الإخوان المسلمين، انظر كيف؟ مكر الله به سبحانه وتعالى، وهكذا يبين الله ورسوله، ادعوا المسلمين، لا تقل: أنا يساري مسلم، أنا شيوعي مسلم، أنا اشتراكي مسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وسموا المسلمين على ما سماهم الله عز وجل) ماذا سماهم الله؟ (المسلمين، المؤمنين، عباد الله) ما بعد هذا التفصيل تفصيل.
اللهم إنا نسألك حسن الاعتقاد، ونور اليقين، وصلاح العمل، وإخلاص النية، وحلاوة الإيمان، وبرد الرضا، وبركة الدعاء، وإجابة الدعوة، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا سوءاً إلا صرفته، ولا عيباً إلا سترته وأصلحته، ولا مسافراً إلا حفظته، ولا غائباً إلا رددته، ولا عدواً إلا قصمته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر