الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم.
وها نحن مع الباب الثالث، باب الأخلاق، وها نحن مع [ الفصل الخامس: في خلق العدل والاعتدال] فما هو العدل وما هو الاعتدال؟ وكيف نظفر بهما ونحصل عليهما؟ وكيف نكون من أهلهما؟
ندرس ذلك لنتعلم.
اعتقاد المسلم أن العدل بمعناه العام من أوجب الواجبات وألزمها
قال المؤلف غفر الله له ولكم: [ وللعدل مظاهر كثيرة يتجلى فيها ] فهيا بنا ننظر مظاهر العدل؛ عسانا أن نجد أنفسنا فيها!
أولاً: العدل مع الله تعالى
[ منها: أولاً: العدل مع الله تعالى ] فتعدل مع ربك ولا تظلمه، ولا تأخذ حقوقه وتعطيها لغيره، ولا تؤذِ عباده وأولياءه، فاعدل مع ربك [ بأن لا يشرك معه في عبادته وصفاته غيره، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر ] هذا هو العدل مع الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ 
[النحل:90]، أن لا يشرك معه في عبادته وصفاته غيره، وصفات الله- التي هي تسع وتسعون صفة- لا يصف بها مخلوقاً من مخلوقات الله، ثانياً: أن يطيع الله ولا يعصيه. ثالثاً: أن يذكر الله ولا ينساه. رابعاً: أن يشكر الله فلا يكفره عز وجل. هذا مظهر من مظاهر العدل مع الله تعالى.
ثانياً: العدل في الحكم بين الناس
[ ثانياً: العدل في الحكم بين الناس ] من حكم بين اثنين، بين زوجتيه.. بين أولاده.. بين خصمين؛ وجب عليه العدل، وذلك [ بإعطاء كل ذي حق حقه وما يستحقه ] أبيض كان أو أسود، غنياً أو فقيراً، لا يقول: هذا ابني! ولا هذا عدوي!
ثالثاً: العدل بين الزوجات والأولاد
[ثالثاً: العدل بين الزوجات والأولاد ] من كان له زوجتان أو ثلاث أو أربع وله أولاد؛ فيجب أن يعدل بين الزوجات وبين الأولاد، فلا يحيف ولا يجور، ولا يعطي هذا أكثر من هذا [ فلا يفضل أحداً على آخر، ولا يؤثر بعضهم على بعض ] كما تعطي إبراهيم أعط لعثمان، كما تحب زينب أحب خديجة معها بالعدل، وهذا ممكن؛ لأنه لو لم يكن ممكناً لما أمر الله به ولما فرضه، فهو ممكن وسهل أيضاً!
رابعاً: العدل في القول
[رابعاً: العدل في القول، فلا يشهد زوراً، ولا يقال كذب أو باطل ] أبداً، هذا نظام حياتهم، مظاهر العدل منها: العدل في القول، فلا يُشهد زورٌ ولا يُقال كذب أو باطل أبداً.
خامساً: العدل في المعتقد
[خامساً: العدل في المعتقد ] في الذي يعتقده من الدين في قلبه [ فلا يعتقد غير الحق والصدق ] ولا يعتقد الباطل أبداً، ولا يعتقد شيئاً في العقيدة؛ حتى يعلم أن الله فرضها؛ فيؤمن بذلك ويحبه ويعتقده [ ولا يثني الصدر على غير ما هو الحقيقة والواقع ] لا يثني صدره على باطل أبداً، فظاهره كباطنه.
مثال عال للعدل في الحكم
قال: [ وهذا مثال عال للعدل في الحكم: بينما
عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس أيام حياته وحكمه في المدينة، إذ جاءه رجل من أهل مصر، فقال: يا أمير المؤمنين! ] ناداه بعنوان الإمارة، إذ هو أمير المؤمنين [ هذا مقام العائذ بك ] موقفي هذا أمامك موقف العائذ بك المتحصن من ظلم أصابه [ فقال
عمر : لقد عذت بمجير ] أي: من يجيرك من الظلم ويحفظك [ فما شأنك ] ما شأنك يا هذا؟! [ قال: سابقت على فرس ابناً لـ
عمرو بن العاص فسبقته ] في مصر، وكان
عمرو بن العاص والياً عليها، نصبه
عمر هناك، وكان لـ
عمرو ولد. يقول هذا المصري: سابقت على فرس ابناً لـ
عمرو بن العاص فسبقته [ فجعل يقمعني بسوطه ] يضربني [ ويقول: أنا ابن الأكرمين، فبلغ ذلك
عمراً -أباه- فخشي أن آتيك ] يشكوه [ فحبسني في السجن. فانطلقت منه، فهذا الحين جئتك، فكتب
عمر بن الخطاب خليفة المؤمنين إلى
عمرو بن العاص وهو أمير على
مصر ] واليه بالديار المصرية وهو أمير عليها. ماذا كتب؟ [ إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم ] أي: الحج [ أنت وولدك فلان ] هذا هو الكتاب: إذا بلغك كتابي هذا إليك فاشهد الحج أنت وولدك- وسمى الولد الظالم- [ وقال للمصري: أقم عندنا حتى يجيء. فقدم
عمرو فشهد الحج وحضره، فلما قضى
عمر الحج وهو قاعد مع الناس، و
عمرو بن العاص وابنه إلى جانبه؛ قام المصري ] الشاكي [ فرمى إليه
عمر بالدرة وضربه، فلم ينزع حتى أحب الحاضرون أن ينزع من كثرة ما ضربه. و
عمر يقول: اضرب ابن الأكرمين! فقال: يا أمير المؤمنين! قد استوفيت واشتفيت ] يكفي [ قال: ضعها على صلعة
عمرو ] على رأس أبيه [ قال: يا أمير المؤمنين! لقد ضربت الذي ضربني. قال: أما والله لو فعلت ما منعك أحد؛ حتى تكون أنت الذي تنزع من الضرب. ثم قال لـ
عمرو : يا
عمرو ! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! ] إن شاء الله نكون عادلين في القول والعمل، في البيت وخارج البيت؛ اقتداء بـ
عمر والصالحين من هذه الأمة، بل طاعة لله ورسوله.
ثمرة طيبة للعدل
وهنا ثمرة طيبة للعدل فخذوها!
قال: [ من ثمرات العدل في الحكم: إشاعة الطمأنينة في النفوس ] أهل البلاد يصبحون مطمئنين ساكني النفوس؛ لأنهم يعيشون تحت نظام العدل، فلا ظلم ولا جور ولا حيف [ روي أن قيصر ] ملك الروم [ أرسل إلى عمر بن الخطاب رسولاً؛ لينظر أحواله ويشاهد أفعاله؛ لما بلغه من العدل، فلما بلغ المدينة هذا النصراني سأل عن عمر وقال: أين ملككم؟ فقالوا: ما لنا ملك، بل لنا أمير! ] ليس لنا ملك إنما لنا أمير [ قد خرج إلى ظاهر المدينة، فخرج هذا الرومي في طلبه، فرآه نائماً فوق الرمل وقد توسد درته -وهي عصا صغيرة كانت دائماً بيده يغير بها المنكر- فلما رآه على هذه الحال وقع الخشوع في قلبه وقال: رجل يكون جميع الملوك لا يقر لهم قرار من هيبته وتكون هذه حاله؟! ولكنك يا عمر ! عدلت فنمت وملكنا يجور، فلا جرم أن لا يزال ساهراً خائفاً ] هذا عمر ! وهذه شهادة العدو له.
العدل: هو الحكم بالعدل بين اثنين أو جماعتين، فما هو الاعتدال؟
قال: [ وأما الاعتدال فهو أعم من العدل ] أوسع [ فهو ينتظم كل شيء من شئون المسلم في هذه الحياة ] يجب أن يعدل فيها [ والاعتدال هو الطريق الوسط بين الإفراط والتفريط ] بدلاً من أن تأكل (كيلو) أو تأكل ربع (كيلو) كل نصف (كيلو)، بدلاً من أن تصل إلى البيت في خمس دقائق هدئ السرعة، فتصل في نصف أو ربع ساعة، فالعدل وسط بين الشيئين وهو يتناول الأقوال والأحكام كما قدمنا، وأما الأعتدال فهو أعم من العدل فهو ينتظم كل شأن من شئون المسلم في هذه الحياة [ وهما الخلقان الذميمان ] الإفراط خلق ذميم والتفريط خلق ذميم [ فالاعتدال في العبادات أن تخلو من الغلو والتنطع والإهمال والتفريط، وفي النفقات الحسنة بين السيئتين، فلا إسراف ولا تقتير، ولكن القوام بين الإسراف والتقتير. قال تعالى:
وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا
[الفرقان:67]. وفي اللباس: حد بين الفخر والمباهاة، ولباس الخشن والمرقعات ] كالمتصوفة والذين يعدونه من الزهد [ ولا بين لباس الأغنياء بالفخر والمباهاة ] فالذي يلبس ثيابه ليفاخر بها ويباهي لا ينبغي له هذا، أو اللباس الخشن والمرقعات؛ بدعوى التقرب إلى الله والافتقار إليه [ وهو في المشي حد وسط بين الاختيال والتكبر، وبين المسكنة والتذلل ] لا مسكنة وتذلل ولا مباهاة وفخر، ولكن الاعتدال [ وهو في كل مجال وسط لا تفريط ولا شطط ] في كل حالات الإنسان الوسط الوسط، فإن الله يحب الوسط.
قال: [ والاعتدال أخو الاستقامة وهي] أي: الاستقامة [ من أشرف الفضائل وأسمى الخلائق، إذ هي التي توقف صاحبها دون حدود الله فلا يتعداها، وتنهض به إلى الفرائض فلا يقصر في أدائها، أو يفرط في جزء من أجزائها، وهي التي تعلمه العفة؛ فيكتفي بما أحل الله عما حرم الله، ويكفي صاحبها شرفاً وفخراً قول الله تعالى:
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا
[الجن:16]، وقوله:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
[الأحقاف:15-14] ].
اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم يا رب العالمين!