ولما رأى الاستهانة وكثرة الأذى له ولأصحابه، أمر بعضهم بالهجرة إلى
الحبشة ، وخرج إلى
الطائف يدعوهم إلى الإسلام، وقابل رؤساءهم وعرض عليهم الإسلام، ورد عليه أهل
الطائف رداً قبيحاً، وأرسلوا غلمانهم وسفهاءهم يقفون في وجهه، ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلى الله عليه وسلم، ورجع عنهم ومدَّ يد الافتقار إلى العزيز الحكيم، إلى الواحد القهار، إلى ربَّ العزة والجلال، وتضرع إلى الله، أن ينصره وينصر الإسلام، فقيَّض الله له الأنصار، فبايعوه على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعوا منه نساءهم وأبناءهم، عند ذلك وفي ذلك الحين أذن الله له بالهجرة إلى
المدينة ، وخلَّف على فراشه
علياً رضي الله عنه وأرضاه، ليخرج إلى الهجرة، وقد عزمت قريش وعقدوا في
دار الندوة، على أن يجمعوا من كل قبيلة شاباً وليترصدوا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حتى يقتلوه قتلةً واحدةً، ويتفرق دمه بين القبائل، فجمعوا أمرهم، ولكن الله أبطل كيدهم، فترصدوا له عند بابه ليفتكوا به إذا خرج، فخرج من بيته يذر على رءوسهم التراب وهو يتلو هذه الآية:
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ 
[يس:9] وخرج رسول الله، ولما خرج وانتبهوا من عماهم ومن نومتهم التي أعماهم الله فيها، نظروا في البيت فإذا فيه
علي رضي الله عنه وأرضاه، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج سالماً من شرهم، فخرج هو و
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، في شهر ربيع أول , وقد اختفيا في
غار ثور ثلاثة أيام، والمشركون يطلبونهم من كل وجه، حتى كانوا يقفون على
الغار الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فيقول
أبو بكر (
يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما) الله أكبر.
استقبال أهل المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم و
أبو بكر إلى
المدينة بحفظ الله ورعايته، بعد أن خرجوا من
الغار سالمين، فلما سمع الأنصار رضي الله عنهم بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلوا يخرجون كل يومٍ إلى
حرة المدينة ليستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النور في إشراقته، فاجتمعوا إلى رسول الله وهم يرددون:
أو كما قالوا رضي الله عنهم في استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محيطين به متقلدين سيوفهم، وخرج النساء والصبيان وكل واحدٍ يأخذ بزمام ناقته يريد أن ينزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {دعوها فإنها مأمورة} حتى إذا أتت محل مسجده اليوم، وهو المسجد النبوي الشريف، فعندما وصلت ذلك المكان المبارك بركت فيه، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكن دار أبي أيوب الأنصاري حتى بني المسجد وبنُيت مساكنه.
التمكين للدين وموت الرسول صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي أيد رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، والآيات البينات، واختصه بالفضائل الكثيرة والكرامات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شريك له في الألوهية والربوبية، والأسماء والصفات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على جميع المخلوقات، المبعوث رحمةً للعالمين، وقدوة للسالكين إلى رب العالمين، إلى رب الأرض والسماوات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
معجزة القرآن الكريم
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعرفوا ما أيَّد الله به نبيكم صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات، فإن الله أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وأبلغ ما أوتيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، ففيه عبرة لمن اعتبر، فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم، اشتمل على ذكر أخبار الأولين والآخرين، واشتمل على الفصاحة والبلاغة التي عجزت عنهما مدارك الجن والإنس السابقين منهم واللاحقين.
السنة ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم
ومن أعظم ما خلَّف وورَّث لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سنته المطهرة، فإن مات رسول الله، فإن سنته حية وباقية إلى يوم القيامة؛ المشتملة على سيرته في عبادته ومعاملاته وأخلاقه، فكان صلى الله عليه وسلم من أجود الناس وأشجعهم في الجهاد، وأصبرهم عند اللقاء وعند الدعوة إلى الله، وأحسنهم مجالسة، وألطفهم مكالمة، وألينهم جانباً، وأبلغهم في جميع صفات الكمال، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، تمسكوا به واقتدوا به يا عباد الله! وعضوا عليه بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، الزموا جماعة المسلمين، وإياكم والتفرق، إياكم والانحطاط.
أمة الإسلام: إن الله عز وجل يأمركم أن تُصلُّوا على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال قولاً كريماً:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
[الأحزاب:56] اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدَّته، اللهم اجزه عن أمة الإسلام خير ما جزيت به نبياً عن أمته، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا؛ وجميع ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم قيِّض لولاة أمور المسلمين جلساء صالحين ناصحين؛ يذكرونهم إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا مغيرين، ولا مبدلين، اللهم اجمعنا ووالدينا ووالد والدينا، وجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، في جناتك؛ جنات الفردوس الأعلى، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعينٍ لنا يا رب العالمين! اللهم ارفع عن الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامةً يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.