الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد ..
أيها الأبناء! والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة السبت من يوم الجمعة المبارك ندرس السيرة النبوية العطرة من كتاب هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب، وقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة (بناء المسجد النبوي وفضله وشرف المدينة وأهلها).
قال: [ إنه ما إن بركت الناقة وضربت بجرانها من مساء يوم الجمعة من شهر ربيع الأول، حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المربد الذي بركت فيه الناقة لمن هو؟ وقال: ( يا معشر الأنصار ثامنوني بحائطكم هذا؛ لأتخذه مسجداً ) وقال معاذ بن عفراء : هو ليتيمين لي، هما سهل وسهيل ابني عمرو وسأرضيهما، فاتخذه مسجداً.
وأمر أصحابه بالشروع في العمل، وتقدمهم لذلك؛ تشجيعاً لهم واندفعوا -مهاجرين وأنصاراً- يعملون حتى قال قائلهم:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
وكان بالمربد قبور مشركين ونخل وخرب، فأمر بالنخل فقطع، وبالخرب فسوي، وبالقبور فنبشت، وأخذوا ينقلون الحجارة وهم يرتجزون:
اللهم لا خير إلا خير الآخـرة فارحم الأنصار والمهاجرة
والرسول صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة ويقول: ( لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار ) وارتجز علي قائلاً:
لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيه قائماً وقاعدا] لأن هذه الأراجيز تتناسب مع الشغل، فهم لا يأكلون بقلاوة ورز بين أيديهم حتى يقولون شعراً، ولكنهم يشتغلون، فلا بد من نغم خاص يشجع على الحركة والعمل.
قال: [ومن يرى عن الغبار حائداً] وبعض المرضى من المنافقين ما دخلوا في هذا العمل، فرمز إليهم علي بهذا البيت؛ لأن الرسول لما أخذ يشتغل اندفع المؤمنون معه، بينما تقزز المنافقون، كيف أنهم يحملون الطين والتراب على رءوسهم. ومعنى حائداً: أنه لا يريد أن يمسه الغبار لكبريائه وجهله وعدم إيمانه.
[فأخذ عمار بن ياسر يرتجزها] حفظها وأخذ يغني بها هو أيضاً [فظن أحد الأصحاب أنه يعنيه بها تعريضاً به، فقال لـعمار : يا ابن سمية ! والله إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك] واحد من الأصحاب ظن أنه يقصده؛ لأنه أخذها من علي وأصبح يتغنى بها. وسمية أمه أول شهيدة في العالم الإسلامي، استشهدت في مكة قبل الهجرة، واستشهد زوجها ياسر ، واستشهد عمار في حرب الفتنة [فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب] كيف والصاحب يقول لصاحبه هذا؟ [وقال: ( ما لهم ولـعمار !! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار )] وهذا وسام شرف، لا تساويه أوسمة العالم اليوم، حتى وإن كان الراتب مليون ريال في اليوم، فقد فاز بها ابن سمية .
قال: [وتم بناء المسجد بالحجارة وكان سقفه جريد النخل، وبني بإزائه حجرات نسائه صلى الله عليه وسلم] وما زالت كما هي، محاطة بسياج من حديد، وأما التربة والمكان فهو هو، ولهذا يأتيني بعض الغافلين ويقول: كيف تقولون: إنه لا تجوز الصلاة في مساجد فيها قبور، وها هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فيه قبور؟
الجواب: والله! ما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، بل دفن في بيت عائشة ، ودفن معه والصديق والفاروق كذلك باستئذان، فنقول: والله لقد بني المسجد قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمسجد بني ولا قبور، بناه وهو حي، فهذه الشبهة باطلة، فلا المسجد بني على قبر، ولا الرسول دفن في المسجد، لا هذا ولا ذاك، وإذا نفوا وجود البيت فهذا البيت موجود، بدليل: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ).
قال: [وكان هذا المسجد المبارك أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها] وقد يقول قائل: اليوم ليس هناك رحال، فنحن نطير بالطائرة أو السيارة، فنقول: إن الرحل والرحال هو ما يرحل عليه، سواء كان جنياً أو عفريتاً أو دابة أو طائرة، فكل ما يُرتحل عليه رحل [وذلك لفضلها واستواء سائر المساجد في الفضل دونها] كل المساجد في العالم مطلقاً متساوية في الثواب والأجر والمنزلة في الشرق أو الغرب إلا هذه الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، فلا كربلاء ولا بغداد ولا عبد الحميد .. فكل المساجد سواء إلا هذه الثلاثة [فقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى )].
الشيخ الطيب العقبي .. حبه للمدينة وبعض سيرته
وهنا لطيفة -كررناها-: الشيخ
الطيب العقبي خريج المسجد النبوي جيء به من مدينة عقبة بن نافع في جنوب الجزائر رضيعاً مع أسرته وتربى في طيبة، فكان بحراً من بحور العلم، وما كنا نرى عالماً سواه -وهو كذلك- فهو الذي أنشأ جريدة القبلة في مكة، وبعدها حولها إلى جريدة أم القرى، وقد أعطاني بطاقته وزرته في مكتبه في مكة، وقال لنا: كنت أقسم الدخل للجريدة ثلاثة أقسام: قسم أعطيه لطلبة العلم في المسجد، وقسم للجريدة، وقسم لأسرتنا. هذا هو
الطيب العقبي .
يقول: كنا نخرج في أمسيات من المسجد النبوي إلى أُحد بعد العصر -على أرجلهم- فنعود بخمسين أو بسبعين بيتاً من أجود الشعر. هذا وهم طلبة.
وثارت الحرب العالمية الأولى، ورحل إلى تركيا في اسطنبول وإلى الشام خوف المجاعة قبل الدولة الإسلامية السعودية، ثم دخل الجزائر، فأنشأ جريدة الإصلاح قبل أن تعرف تلك الديار جريدة واحدة بالعربية، والتف حوله بعض المصلحين المؤمنين، فذبح أحدهم كالكبش وهو يتوضأ في الساقية، وما عرف هناك إلا بالوهابي، الذي ينشر الوهابية، وكل من ينتسب إليه وهابي أيضاً. أمة هابطة إلى الحضيض.
والشاهد عندنا من قصته: أنه شاء الله بعد الحرب العالمية الثانية وهدوئها أن يأتي أحد المستشرقين إلى النادي ليسمع الدروس، فقال للشيخ: الفرصة متاحة لأن تزور فلسطين وتزور المدينة على حسابنا، وكان ذلك بعد أن سقطت فلسطين في يد اليهود، فزارها.
وكان يحب المدينة وأهلها، وقد كنت أستاذاً في مدرسة خيرية تابعة له، وأبطلنا حفلات الأعراس الباطلة، فكنا نأتي بالتلاميذ ينشدون الأناشيد وبعض الكلمات والسلام، ثم يقدمون لنا الكسكسون والعنب، وفي مجلس وأنا إلى جنبه قال لي: أمهاتنا في المدينة يقلن: ابدءوا بالعنب الصغير، أي: بالحبة الصغيرة، وكان يأخذ الحبة الصغير أولاً. فكان شوقه إلى المدينة باقٍ.
وقد جاء يوماً وألقى كلمة في الروضة الشريفة بعدما اعتمر وقال: فتح الله علي، فقلت: إن هذا المسجد مذكور في القرآن الكريم، بالإيماء والإشارة، أما قال تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى
[الإسراء:1] إذاً: لا بد وأن يوجد مسجد قصي ليأتي بعده الأقصى، فسورة الإسراء نزلت في مكة، أما المدينة كانت يثرب. إذاً أين القصي؟ فلا بد وأن يوجد، فالقصي هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والأقصى ما كان أبعد منه وهو مسجد فلسطين. إذاً: المسجد النبوي مذكور في القرآن بالإشارة والإيماء.
وحصل أن أحد المؤمنين العقبيين لما مات العقبي أراد أن يبني مسجد ويسميه بـ(مسجد العقبي)، فبناه وكتب عليه ذلك، فجاء وزير الأوقاف ورجاله ومحوا ذلك الاسم، وما رضوا أن يكون المسجد باسم العقبي ، وهذا فقط لأنه من أهل التوحيد، من أهل لا إله إلا الله، والعقبي إن شاء الله في دار السلام.
ومن شدة توحيده رحمه الله أنه قال: لا تدفنوني مع هؤلاء المشركين. ولكن ادفنوني لوحدي؛ لأنه كان هناك قبور تعبد من دون الله، وبالفعل أخذوه إلى ساحل البحر ودفنوه وحده، وقد زرناه بعدما عدنا، ووقفنا على قبره. هذا هو الطيب العقبي رحمة الله عليه.
فضل المسجد النبوي
شرف المدينة وأهلها
قال: [نتائج وعبر] نأخذ ما يسر الله لنا من عبارات إلى ساحة السلامة[إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نذكرها فيما يأتي:
أولاً: بيان تاريخ بناء المسجد النبوي الشريف، وبناؤه أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة] كان هذا في أيامه الأولى للهجرة، فلو سألت عن تاريخ المسجد فقل: ألف وأربعمائة وخمس عشرة، لأنه كان أول ما دخل المدينة، والهجرة بدأت من دخول الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، والمفروض أنها من ربيع الأول لكن عمر جعلها من أول السنة، فالفرق شهرين أو ثلاثة فقط.
[ثانياً: بيان فضل المسجد النبوي الشريف.
ثالثاً: بيان فضل المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام] والله لا توجد بلدة مثلها إلا مكة، فلهذا من استطاع أن يموت بها فليمت.
[رابعاً: بيان فضل الأنصار، وهم سكان المدينة الذين آووا ونصروا] الرسول وأصحابه من المهاجرين.
[خامساً: بيان فضل العيش في المدينة والوفاة فيها] لقوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليمت بها؛ فإني أكون له شاهداً أو شفيعاً يوم القيامة ).
اللهم اجعلنا جميعاً من أهل المدينة، وتوفنا في المدينة، وابعثنا مع نبينا فيها، اللهم آمين.