أما بعد:
فها نحن مع أحداث السنة التاسعة من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ورابع أحداثها] أحداث السنة التاسعة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم [قدوم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم] قدم عروة بن مسعود من الطائف إلى المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم.
[عروة بن مسعود من عظماء رجالات ثقيف] هل يوجد اليوم عظيم مثل عروة بن مسعود؟ والله لا يوجد [وهو الذي عناه وقصده المشركون في مكة بقولهم: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]] يعنون عروة بن مسعود في الطائف وأبا جهل في مكة، أي: لِم ينزل على يتيم أبي طالب ؟ وهذه نظرية هابطة [الذي حكاه القرآن عنهم في سورة الزخرف.
والرجل الثاني هلك ببدر، وهو أبو جهل الذي يكنونه بـأبي الحكم ويسمونه عمرو بن هشام ] ولعنة الله عليه وهو في جهنم. والشاهد من هذا أن عروة بن مسعود رجل من رجالات ثقيف العظماء.
قال: [وَفد عروة بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السنة سنة تسع، وفد مسلماً] أسلم في الطائف وجاء ليزور رسول الله صلى الله عليه وسلم [وذلك بعد أن رأى قريشاً قد دخلت في الإسلام بعد فتح مكة وهزيمة هوازن وثقيف] سبب إسلامه وهو من رجالات العرب العظام أنه نظر أن مكة قد سقطت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام أنارها وأهلها دخلوا في الإسلام، فما بقي هناك حاجة إلى التزمت والتعصب في الطائف، فلهذا أسلم وجاء.
[وكان رجلاً عاقلاً -حقاً- فهداه الله إلى الإسلام، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام] أبى أن يبقى في المدينة مهاجراً، وقال: أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الدخول في الإسلام [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم قاتلوك)] ولم يقل يقتلونك، ولكن قال: قاتلوك، يعني: أمر مفروغ منه [فقال عروة : إني أحب إليهم من أبكارهم] يعني كيف يقتلونني؟ والأبكار هن البنات [ورجا أن يوافقوه لمنزلته فيهم، فلما رجع إلى الطائف ديار قومه، صعد إلى علية له] أي: بناية، فوق الطابق الأول [وأشرف منها عليهم، وأظهر الإسلام ودعاهم إليه، فرموه بالنبل] أي: السهام [فأصابه سهم فقتله] وهذه آية من آيات النبوة المحمدية.
ذهب ليدعو إلى الله وفعل، فعلا على بنية مرتفعة وأعلن عن إسلامه ودعا رجالات ثقيف إلى الإسلام، فما كان منهم إلا أن سددوا إليه السهام، فقتل رضي الله عنه وأرضاه.
[وقبل وفاته قيل له: ما ترى في دمك؟] لأن الصحابة لما قال له الرسول: إنهم قاتلوك، عرفوا. فقالوا له: ما ترى في دمك الذي يهراق؟ [قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها إلي، ليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فادفنوني معهم، فلما مات متأثراً بجراحاته دفنوه معهم رضي الله عنه] مع شهداء المؤمنين الذين قتلوا في الطائف.
[ولما بلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه] لما بلغه خبر وفاة عروة [(إن مثله في قومه كمثل صاحب (يس) في قومه، إذ دعاهم إلى خير فقتلوه)] قال تعالى: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27]، وهذه يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نصح رجل قومه كما فعل صاحب يس )، فقد قتلوه من أجل أنه دعاهم إلى الله ليكملوا ويسعدوا، ولما ضرب وهو يموت تمنى على الله لو أنهم يعرفون حاله في الجنة حتى يؤمنوا، فقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27] هذا هو صاحب يس، وعروة بن مسعود كصاحب يس الذي كان في بني إسرائيل.
إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نذكرها كالآتي:
أولاً: بيان عَلَم من أعلام النبوة المحمدية في إخباره عروة بأن قومه قاتلوه، فكان كما أخبر.
ثانياً: بيان فضل الدعوة إلى الله تعالى وما تتطلبه من أذى، وما يلزم صاحبها من الصبر والتحمل.
ثالثاً: بيان فضل عروة بن مسعود رضي الله عنه، إذ ألحقه الرسول صلى الله عليه وسلم بصاحب يس وهو حبيب النجار عليه السلام].
وبعد قدوم الحبيب صلى الله عليه وسلم وفي رمضان، قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان محاصراً لهم] في الطائف [قيل له: ادع الله عليهم يا رسول الله، فقال: ( اللهم اهد ثقيفاً وأت بهم )] لما حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الطائف قرابة شهر وما استطاع أن يقتحم البلاد وقل الزاد وطالت المدة قال: نرجع، واستشار رجاله -كما تقدم- فرأوا من الحكمة أنهم يعودون إلى المدينة، فقال رجل: ( يا رسول الله! ادع الله عليهم، فقال: اللهم اهدهم وأت بهم ) واستجاب الله عز وجل، وقد جاءوا إلى المدينة.
[هذا سبب لقدومهم، وآخر: هو أنهم رأوا أن من يحيط بهم من العرب قد نصبوا لهم القتال وشنوا عليهم الغارات، وكان أشدهم في ذلك مالك بن عوف النصري ، فلا يخرج منهم مال إلا نهب ولا إنسان إلا أخذ] كانوا محاصرين من قبل العرب الذين أسلموا.
[فلما رأوا عجزهم اجتمعوا وأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير والحكم بن عمرو بن وهب وشرحبيل بن غيلان -وهؤلاء من الأحلاف- وأرسلوا من بني مالك عثمان بن أبي العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة ، فخرجوا من الطائف حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم في قبة في المسجد] قبة من صوف وشعر، ليست من ساج ولا عاج، هذا هو منزل الضيوف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبة في المسجد.
[فكان خالد بن سعيد بن العاص -أخو عمرو بن العاص - يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم] كواسطة وسفير؛ لأنهم ما زالوا مشركين كافرين، ولو كانوا اليوم معنا لقتلوهم، فالكفار الآن يقتلونهم، وهؤلاء جاءوا مشركين كافرين، وأستاذ الحكمة صلى الله عليه وسلم أنزلهم في قبة وكان يرسل إليهم الطعام: الغداء والعشاء، وقد بلغنا اليوم أن مجاهدي الجزائر قتلوا قساً مع سائقه، وهو راهب من الرهبان، فهل يأمر الإسلام بقتل الرهبان؟ أسألكم بالله أما حرّم الإسلام هذا ..؟ ولكن حتى يشوهوا الإسلام وتشمئز النفوس منه!!
[وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم ما يأكلون مع خالد ، وكانوا لا يأكلون طعاماً حتى يأكل خالد منه] خافوا أن يسمّهم، فعندما يأتيهم بالطعام يقولون له: كل أنت أولاً، فإن أكل أكلوا [حتى أسلموا] وهنيئاً لهم، فقد أصبحوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واشترط رجال وفد ثقيف لإسلامهم شروطاً وهي كالتالي] هذا الوفد قالوا: نسلم يا رسول الله على شروط، إن وافقتنا أسلمنا وإلا نعود إلى ديارنا.
وقولهم: (ألا يهدم النبي صلى الله عليه وسلم طاغيتهم) ليس معناه أنه هو الذي سيمشي إليها ليهدمها، ولكنه سيأمر بهدمها.
قال: [فأبى عليهم ذلك صلى الله عليه وسلم] رفض هذا الشرط ولم يقبله [وكان قصدهم من هذا الشرط حتى يسلموا إذا هي تركت من سخط سفهائهم ونسائهم] علة الاشتراط هذا: حتى يسلموا إذا هي تركت من سخط سفهائهم ونسائهم.
[وتنازلوا إلى شهر واحد] أي: قالوا: أبقها شهراً واحداً فقط لا ثلاث سنوات [فلم يقبل منهم ولو ساعة من نهار] وأنا أذكر لما أخذ السلطان عبد العزيز -تغمده الله برحمته- في هدم القباب هل استجاب لأهل البلاد لما قالوا له: هذه القبة لا تهدمها؟
إذاً: هذا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان يعبد من دون الله يجب ألا يوجد في الكون ولا ساعة من نهار.
قال: [فتقدم المغيرة فهدمها، وقام قومه من بني متعب دونه؛ خوفاً أن يرمى بسهم كما رمي عروة بن مسعود من قبل، ولما أخذ في هدمها خرج نساء ثقيف حسراً] مكشوفات الرؤوس [يبكين، وأخذ حُليها] ما إن شاهد النساء هذه الكعبة في الطائف هدمت حتى خرجن كاشفات الرءوس يصرخن ويبكين، وهذا يدل على ضعف عقول النساء، وأكثر الخرافات في النساء من الرجال إلى الآن.
وقوله: (وأخذ حُليها) يعني أنه كان عليها حُلي، والآن في غير ديارنا هذه الطاهرة تجد على القبر تابوتاً عليه الأزر من حرير وعليه كذا وكذا.. والذهب أيضاً، على عادة الجاهلية.
[كان للطاغية مال كثير مودع فيها، فلما هدمها المغيرة وأبو سفيان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذا مالها، اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم أبو مليح بن عروة بن مسعود ] ابن عروة بن مسعود [وطلب منه أن يقضي ديناً كان على والده عروة من مال الطاغية] والده عروة كان عليه دين، فلما حصل المال اتصل بالرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يسدد دين والده من مال الطاغية [فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك] وسدد دين والده.
[وعندها قال قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه] دين أيضاً، أي: والدي عليه دين [وعروة والأسود أخوان شقيقان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن
[فقال قارب: يا رسول الله! لكن تصل مسلماً ذا قرابة -يعني نفسه-] أي: إن أنت سمحت بهذا الفعل وصلت مسلماً ذا قرابة؛ لأن هذا الدين لا ينتفع به الميت المشرك، لكن ولده الحي هو الذي يتحمل السداد، فأنت تصل مسلماً لا كافراً [إنما الدين علي وأنا مطالب به، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود معاً من مال الطاغية ففعل].
لما أسلم وفد الطائف وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص لصفات كمال فيه، كتب لهم بذلك كتاباً] صكاً [ومن جملة ما ورد فيه: قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا
إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نوجزها كالآتي:
أولاً: بيان آية نبوية، وهي استجابة دعوته صلى الله عليه وسلم في ثقيف؛ إذ هداهم الله وأتى بهم] أما قالوا: ( ادع الله عليهم يا رسول الله! فقال: اللهم اهد ثقيفاً وأت بهم ) واستجاب الله.
[ثانياً: بيان احترام النبي صلى الله عليه وسلم للوفود وإكرامهم قبل أن يتبين إصرارهم على شركهم وكفرهم] فقد جاءوا وافدين ولم يعلنوا عن إسلامهم، فلم يحكم عليهم وأكرمهم.
[ثالثاً: مشروعية إبطال كل شرط يتنافى مع مراد الله تعالى وشرعه بين خلقه، وهكذا كل شرط يحل حراماً أو يحرم حلالاً فهو شرط باطل في أي عقد أو اتفاقية] فالاتفاقيات والعقود والعهود لها شروط، لكن يجب ألا يكون الشرط يحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله.
[رابعاً: بيان أعظم أركان الدين بعد التوحيد -الذي هو لا إله إلا الله محمد رسول الله- ألا وهو الصلاة، وأعظم أركانها الركوع والسجود] عندما قال الوفد: لا نصلي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا خير في دين لا صلاة فيه )، فقالوا: إذا لا نجبي أي: لا نركع، فقال: ( لا خير في صلاة لا ركوع فيها ).
[خامساً: بيان ضعف النساء العقلي] فلهذا لا تكون أميرة أبداً ولا وزيرة، فعقلها ضعيف -والله العظيم- ولا يتملق النساء إلا الهابطون، الذين فسدت عقولهم وقلوبهم فوظفوهن وأسندوا إليهن وظائف سامية وعالية، أو أنهم يتملقون اليهود والنصارى [وبيان مدى تعلقهن بالشرك وأسبابه لجهلهن وضعفهن] وأخذنا هذه الفائدة من نساء ثقيف، فما إن شاهدن الصنم يكسر إلا وخرجن في الشوارع يصرخن ويبكين.
[سادساً: مشروعية قضاء الديون من بيت مال المسلمين إذا رأى الإمام ذلك] تسدد ديون الناس من بيت المال إذا رأى الإمام ذلك ولا بأس، فإذا كان هناك مال متوفر وأراد ذلك فإنه يجوز، فقد سدد النبي صلى الله عليه وسلم دين ابن عروة وابن أخيه من المال الذي أصبح لبيت مال المسلمين.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر